مُقدّمة

 

بغضّ النّظر– مبدئيًّا– عن أمر تناول وتفسير القضايا الدّينيّة (والجنسيّة أيضًا) من قِبل العقليّة الغربيّة والعقليّة الشّرقيّة، أو العقليّة المسيحيّة والعقليّة المسلمة، أو العقليّة الكاثوليكيّة والعقليّة الأرثوذكسيّة، وبالرغم من تابين المواقف والأراء والتّعليقات في جميع أنحاء العالم كلّه بشأن "المثليّة الجنسيّة" بوجه عامّ، أتناول أوّلًا الخبرَ الزّائف والمنتشر المتعلّق "بمباركة زواج المثليّين" من قبل"بابا الكاثوليك" على إثر صدور إعلان "الثّقة المتوسِّلة" أو "الثّقة المترجّيّة"، الصّادر من قِبل "دائرة عقيدة الإيمان"، في الـ18 من ديسمبر/ كانون الأوّل 2023. وبعد ذلك، أقدّم ملخّصًا وتعليقًا حول البيان الصّحفيّ الفاتيكانيّ الجديد الصّادر أيضًا عن "دائرة عقيدة الإيمان" (4 يناير/ كانون الثّاني 2024).

 

 

أوّلًا: الخبرُ الزّائف المتعلّق "بمباركة زواج المثليّين"

 

دون عرض وتحليل لوثيقة "الثّقة المتوسّلة" من حيث محتواها ومغزاها، أقدّم هذه النّقاط العامّة والهامّة الموجزة كتعليق على الخبر الزّائف القائل بأنّ "بابا الكاثوليك" قد صرّح "بمباركة زواج المثليّين"، والتي قد تمثّل بدورها مدخلًا مبسّطًا لفهم الوثيقة الفاتيكانيّة.

 

1) إنّ موقف الكنيسة الكاثوليكيّة بشأن "الأفعال المثليّة" صريحٌ وواضحٌ جدًّا ومسجّل في جميع وثائقها الأخلاقيّة، ولا سيّما في كتاب "التّعْليم المسِيحيّ للكِنيسة الكاثوليكيّة": «اللواط يعني العلائق بين رجال أو نساء يحسّون انجذابًا جنسيًّا، حصريًّا أو غالبًا، إلى أشخاصٍ من الجنس نفسه. وله أشكالٌ متنوّعة جدًّا على مدى العصور والثقافات. تكوينه النّفسي لا يزال في معظمه غير واضح. والتقليد، استنادًا إلى الكتاب المقدس الذي يعتبره بمثابة فسادٍ خطير، أعلن دائمًا أنّ "الأفعال اللواطيّة هي منحرفةٌ في حدّ ذاتها". إنّها تتعارض والشريعة الطبيعية. إنها تُغلق الفعل الجنسيّ على عطاء الحياة. فهي لا تتأتّى من تكاملٍ حقيقيّ في الحبّ والجنس. ولا يمكن الموافقة عليها في أيّ حالٍ من الأحوال» (البند 2357).

 

2) "التّصريح" أو "الإعلان" الصادر عن دائرة عقيدة الإيمان تحت عنوان "الثّقة المتوسِّلة" أو "الثّقة المترجّيّة" (وحتّى الآن لم تصدر التّرجمة العربيّة الرّسميّة لهذة الوثيقة)، في الـ18 من ديسمبر/ كانون الأوّل 2023، موضوعه المحوريّ هو قضيّة "البركات". وبكلمات أوضح، هو يقدّم شرحًا متّسعًا وموسّعًا عن هذه البركات ببعديها "التّنازليّ" (من لدن الله)، و"التّصاعديّ" (من قِبل البشر)؛ وتتعمّق الوثيقة الفاتيكانيّة (التي وافق عليها البابا فرنسيس) في أمر "البركات الرّعويّة" على نحو خاصّ. ومن ثَمَّ وجب التّميز بين البركات "اللّيتورجيّة-الطّقسيّة" من ناحية، والبركات المتعلّقة "بالتّقويّات الشّعبيّة" من ناحية أخرى.

 

3) لا تقتصر "البركات"، التي تتحدّث عنها هذه الوثيقة الأخيرة، على "الأشخاص المثليّين" فقط، وإنّما تشمل أيضًا على الأشخاص الذين هم في أوضاع غير قانونيّة كنسيًّا، أي في حالات مغايرة للزواج الكنسيّ السّرائريّ والنّظاميّ (مثلًا: المنفصلين المتزوّجين مرَّة أخرى، والممارسين للاتّحاد الحرّ أو المساكنة). وأتناول هنا– بإيجازٍ– البركات الخاصّة بالأشخاص المثليّين فقط.

 

4) لا الكنيسة ولا البابا فرنسيس قد سمحا بزواج المثليّين، ولا حتّى استخدما إطلاقًا لفظة "زواج" على العلاقات المثليّة.

 

5) من خلال وثيقة "الثّقة المتوسّلة" لم تغيّر الكنيسة الكاثوليكيّة معتقدها وتعاليمها بشأن الزّواج (القائم بين رجل وامرأة) كسرّ من أسرار الكنيسة السّبعة.

 

6) "البركات" التي يمكن أنْ تُمنح للأشخاص المثليّين ليست طقسًا ليتورجيًّا، ولا تُمنح في نطاق اللّيتورجيا (القُدّاس أو صلاة الإكليل)، ولا هي بمثابة سرّ الزّيجة المقدّس، ولا حتّى تشرّع وتقنّن العلاقات المثليّة كزواج من أيّ نوع.

 

7) تشير "البركات" الممنوحة "بعفويّة وحرّيّة" للأشخاص المثليّين إلى حكمة وأمومة الكنيسة الكاثوليكيّة في تسهيلها على الأشخاص المثليّين (المحتاجين إلى "حضور الله الخلاصيّ" في حياتهم) أمر تقرُّبهم من الله، ومن رحمته الواسعة والفيّاضة (راجع كتاب "التّعْليم المسِيحيّ للكِنيسة الكاثوليكيّة"، البنود 2358-2359).

 

8) إنَّ "الكنيسة" التي تصفها الوثيقة هي كنيسة حاضنة وشاملة، تبحث كمؤسّسها ومعلّمها (السّيّد المسيح) عن الجميع، في أوضاعهم وأحوالهم كلّها، وتحتضنهم وتحتويهم كما تحتوي الأمّ صغارها أيًّا كانت ظروفهم وميولهم. فتدّل الوثيقة الفاتيكانيّة على قبول الكنيسة وترحيبها واحتضانها للأشخاص المثليّين والأزواج والزّوجات غير النّظاميّين.

 

9) ماذا تبارك الكنيسةُ إذًا؟ إنّها لا تبارك المثليّة كعلاقة مشروعة، وكسرّ زيجة؛ وإنّما تطلب البركة للأشخاص المثليّين، لكونهم مشمولين هم أيضًا (وليس الأبرار فقط) بمحبّة الله ورحمته وعنايته، بغض النّظر عن أحوالهم وميولهم وأفعالهم. أليست محبّةُ الله ورحمته تسبقان برّنا وصلاحنا، وليس خطايانا فحسب؟

 

10) إنّ الكنيسة لم تخضع ولم تضعف إطلاقًا حيال الدّينويّات الخاطئة والطّاغية، ولا تزال تشهد للحقّ (الذي هو عريسها ومؤسّسها وفاديها) بمحبّة ورحمة، فما من حقيقة إلَّا تلك المقترنة بالمحبّة والرّحمة؛ لأنّ الحقيقة والمحبّة والرّحمة هُنَّ الأمر عينه في ذات الله الأحد-الواحد-الثَّالوث، وهُنَّ محور حياة السّيد المسيح وأفعاله وأقواله أيضًا. 

 

 

ثانيًا: ملخّصٌ وتعليقٌ حول البيان الصّحفيّ الفاتيكانيّ التّوضيحيّ الجديد الصّادر عن "دائرة عقيدة الإيمان"

 

نقدّم هنا بضعة نقاط موجزة مأخوذة من البيان الصّحفيّ الصّادر اليوم عن "دائرة عقيدة الإيمان" (4 يناير/ كانون الثّاني 2024) حول ردات الفعل الخاصّة بالوثيقة الصّادرة عن الدّائرة عينها تحت عنوان "الثّقة المتوسِّلة" أو "الثّقة المترجّيّة"، في الـ18 من ديسمبر/ كانون الأوّل 2023، والتي يكمن موضوعها المحوريّ في قضيّة "البركات". وجدير بالذّكر أنّ هذا البيان الصّحفيّ الأخير يتكوّن من ست فقرات، وهي التي سنلخّصها في بضعة نقاط هامّة. إنّ كليهما (وثيقة "الثّقة المتوسِّلة" و"البيان الصّحفيّ") يؤكّدان على عدم مباركة "الخطيئة"، وعلى عدم الاعتراف، وعدم إضفاء أيّة صيغة شريعيّة أو قانونيّة (الشّرعنة والقوننة)، للزيجات والاتّحادات والعلاقات والمعاشرات والممارسات الجنسيّة المثليّة، وللزيجات غير السّرائريّة (الأسراريّة) والنّظاميّة والمستمرّة. ومن جهة أخرى، يؤكّدان على عدم رفض الكنيسة للأشخاص ذي الميول الجنسيّة المثليّة، وللأزواج والزّوجات غير النّظاميّين، لتمييزها بين الشّخص من ناحية، وحالته وأوضاعه من ناحية أخرى، وإن كانت تقبل "الشّخص" على مثال معلّمها الإلهيّ (السّيد المسيح) لا يمكنها بأيّ حال من الأحوال قبول "الخطيئة" أو مباركتها.

 

 

1) التّعليم الرّسميّ الكاثوليكيّ بشأن "الأفعال الجنسيّة المثليّة"

 

يصرّح البيانُ الصّحفيّ أنّ وثيقة "الثّقة المتوسِّلة" «واضحة وكلاسيكيّة في ما يتعلّق بالزّواج والحياة الجنسيّة»، أي أنّ الكنيسة الكاثوليكيّة لم تغيّر إطلاقًا معتقدها وتعاليمها بشأن الزّواج السّرائريّ (القائم بين رجل وامرأة كسرّ من أسرار الكنيسة السّبعة). وكما يؤكّد البيانُ عينه، «لا تملك الكنيسةُ القدرة على مباركة الاتّحادات [الزّواج والعلاقات] بين أشخاص من نفس الجنس». وبناءً عليه، لا يمكن اعتبار إعلان "الثّقة المتوسِّلة" هُرطقيًّا، أو مناقضًا لتقليد الكنيسة، أو تجديفًا.

 

 

2) البعد العمليّ المتعلّق باحتماليّة منح البركة للأشخاص المثليّين جنسيًّا، وللأزواج والزّوجات غير النّظاميّين (أي الذين هم في أوضاع غير قانونيّة كنسيًّا)

 

يشير البيانُ الصّحفيّ إلى أنّ «الإعلان ["الثّقة المتوسِّلة"] يحتوي على اقتراح بركات رعويّة (ليست ليتورجيّة أو طقسيّة) مختصرة وبسيطة للأزواج غير النّظاميّين (ليست للاتّحادات)، مع الأخذ في الاعتبار أنّها بركات بدون شكل طقسيّ، ولا توافق ولا تبرّر الوضع الذي يعيشونه هؤلاء الأشخاص».

 

 

3) الوضعُ الحسّاس لبعض الدّول بشأن مواقفهم حيال "المثليّة الجنسيّة"

 

وفقًا لكلّ منطقة ودولة، «يجب فهم حالة بعض المجالس الأسقفيّة في سياقها».

 

 

4) الأمر الجديد الحقيقيّ الذي جاءت به وثيقة "الثّقة المتوسِّلة"

 

لا يكمن في "إمكانيّة منح البركة للأزواج غير النّظاميّين"؛ وإنّما في «الدّعوة للتمييز بين شكلين مختلفين من البركات: "اللّيتورجيّة أو الطّقسيّة" و"العفويّة أو الرّعويّة"». بكلمات أخرى، وثيقة "الثّقة المتوسِّلة" و"البيان الصّحفيّ" يقدّمان تنميطًا لثلاثة أنواع من "البركات" تتمايز إحدها عن الأخرى في جوهرها ومضمونها ومغزاها: البركات الأسراريّة الممنوحة في إطار الأسرار المقدّسة، والبركات الطّقسيّة (أشباه الأسرار)، والبركات الرّعويّة.

إنّ الموضوع المحوريّ، المتعلّق بالممارسات الرّعويّة، «هو الفهم الأوسع للبركات، واقتراح زيادة البركات الرّعويّة، التي لا تتطلّب الشّروط عينها الخاصّة بالبركات في سياق ليتورجيّ أو طقسيّ».

 

 

5) ما هي هذه "البركات الرّعويّة" بشكل عمليّ وملموس؟

 

لتمييز "البركات الرّعويّة" بوضوح عن "البركات اللّيتورجيّة أو الطّقسيّة"، «يجب قبل كلّ شيء أن تكون مختصرة جدًّا». هذا الشّكل من البركة غير الطّقسيّة، ببساطته وإيجازه، «لا يزعم تبرير شيء غير مقبول أخلاقيًّا. ومن الواضح أنّه ليس زواجًا، ولا حتى "موافقة" أو تصديقًا على أيّ شيء. إنّه مجرّد استجابة الرّاعي لشخصَيْن يطلبان مساعدة الله».

 

يقدّم البيانُ مثالًا ملموسًا لهذه البركة: «انظر، يا ربّ، إلى أبنائك هؤلاء، وامنحهم الصّحة، والعمل، والسّلام، والمساعدة المتبادلة. وحرّرهم من كلّ ما يتعارض مع إنجيلك [المقدّس]، وامنحهم أن يعيشوا حسب إرادتك. آمين». وصلاةُ البركة هذه، التي لا تتعدّى ثوانٍ معدودة، لا يُسمَح بها بأيّ حال من الأحوال في سياق ليتورجيّ أو طقسيّ، أو حتى في سياق أيّ احتفال مدنيّ، أو أمام مذبح الكنيسة، أو باستخدام ملابس طقسيّة، لتجنّب أيّ تشويش وإلتباس. 

 

 

6) دورُ التّعليم المسيحيّ في توضيح قضيّة "البركات الرّعويّة"

 

«ربّما يكون التّعليمُ المسيحيّ ضروريًّا في بعض الأماكن، للمساهمة في فهم أنّ هذا النّوع من البركات ليس تصديقًا على الحياة التي يعيشها أولئك الذين يطلبونها». فيتعلّق الأمر، إذًا، بشعور وتدبير رعويَّيْن من قِبل الكنيسة، لتوصيل محبّة الله ورحمته للذين يرزحون تحت وطأة معاناتهم وانقسامهم الدّاخليّ.