موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
لمطران بشار وردة، رئيس أبرشيّة إربيل الكلدانيّة
المقدّمة
وقعَ اختيار الله على موسى، وأعطاه له الوقت الكافي ليتأمل في واقع شعبهِ المُستَعبَد في مصر ودعاه ليُشاركه مهمّة التحرير، ومنحه الفرصة ليُقدِّم اعتراضاته على هذه المهمّة الخطيرة. ناداه باسمه ودعاه وجعله في مُقدمة مسيرة التحرير، ليُمثِّل حضور الله وسطَ شعبهِ، من دون أن يُلغي حُريته، بل سيحتفِظ بفرصة محاورة الله وحتّى مجادلتهُ ومُعاتبتهِ، كما سنرى لاحقاً، لكن يبقى القرار الأخير لله الذي يرى في موسى ما لا يراه موسى في نفسه.
فعلُ الله يتطلّب التزاماً مسؤولاً من قِبل الإنسان: "فَالآنَ هَلُمَّ فَارْسِلُكَ إلى فِرْعَوْنَ وَتُخْرِجُ شَعْبِي بَنِي إسرائيل مِنْ مِصْرَ" (خر 3: 10)، قصدُ الله (مشيئتهُ) صارَ مسؤولية الإنسان، بل مطلباً مُلزِماً ودعوةً تُنادي موسى، وكلَّ إنسانٍ، ليتحمّل مسؤوليته الشخصية والأخلاقية تجاه ما يختبره الآخر. فموسى هو الذي سيُدير مسيرة التحرير التي يقودها الله، وبهذا يربط الله مصيرَ السماءِ بالأرض، وعلى موسى أن يستعدَّ لمواجهةِ فرعون مصرَ ويُخرِجَ الشّعب ويُمثّلَ الله، الله الذي يرضى بأن يعهد باسمه إلى إنسان ضعيفٍ مثل موسى الذي تردَّد طويلاً قبل أن يقبلَ مثلَ هذه المهمّة، لأنه يعرِف جيّدا أن حظوظَ نجاحهِ في مصرَ باتت شبهَ معدومةٍ. فهو ليس إنساناً ضعيفاً فحسب، بل هو إنسان مُشكِّكٌ كلّهُ اعتراضاتٌ على تدبير الله، واعتراضاتهُ تُرينا إبداعاتِ الله، كما تُشير أيضاً إلى اعتراضاتِ فرعون مصرَ.
عودة موسى إلى مصرَ
"فَمَضَى مُوسَى وَرَجَعَ إلى يَثْرُونَ حَمِيهِ وَقَالَ لَهُ: "أنَا اذْهَبُ وَأرْجِعُ إلى إخْوَتِي الَّذِينَ فِي مِصْرَ لأرَى هَلْ هُمْ بَعْدُ أحْيَاءٌ". فَقَالَ يَثْرُونُ لِمُوسَى: "اِذْهَبْ بِسَلامٍ". اِستأذن موسى حماه يثرون بالعودةِ إلى مصر ليرى أوضاع بني قومهِ، فهو زوج ابنتهِ وقريبا منه مثلما سنرى لاحقاً (خر 4: 18)، ولكنَّ موسى لم يُخبره بلقاء الله معه على جبل حوريب، ولا عن الغرض من هذه الزيارة، لربما خوفاً من عدم تصديق يثرون له، فيمنعه من التوجه إلى مصر في رحلة خطيرة مثل هذه.
باركهُ يثرون: "اِذهب بسلامٍ"، فهو يعرِف متانة الروابط العشائرية وقوّتها وتأثيرها في حياة الإنسان، فسمحَ له بالعودة إلى مصرَ، برفقة العائلة، بخلافِ ما حصل مع يعقوب ولابان، حيث اضطرّ يعقوب إلى الهرب من خالهِ لابان والذي لم يدعه يرحل بسلامٍ لولا تدخل الله لصالحِ يعقوب (تك 31). وعادَ الربُّ ليُطمئنَ موسى أن الرحلة آمنةٌ، فلا داعيَ للخوف على حياتهِ: "وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى فِي مِدْيَانَ: "اِذْهَبِ إرْجِعْ إلى مِصْرَ لانَّهُ قَدْ مَاتَ جَمِيعُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَانُوا يَطْلُبُونَ نَفْسَكَ". فَاخَذَ مُوسَى امْرَاتَهُ وَبَنِيهِ وَارْكَبَهُمْ عَلَى الْحَمِيرِ وَرَجَعَ إلى أرض مِصْرَ. أربعةُ أشخاص، موسى وامرأته وابنيهِ الذين أركبهم على الحمار في رحلة نحو مصر. يُذكرنا المشهد بمشهدِ إبراهيم وخادميه وإسحاق، وهو الذي بكّرَ وأسرجَ حمارهُ وسارَ إلى الموضع الذي دلَّه الله عليه (تك 22: 3- 4). تُرى في مشهد موسى، مَن الذي سيقدَّم ذبيحةً للرّبِ؟
"أخَذَ مُوسَى عَصَا اللهِ فِي يَدِهِ. وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: "عِنْدَمَا تَذْهَبُ لِتَرْجِعَ إلى مِصْرَ انْظُرْ جَمِيعَ الْعَجَائِبِ الَّتِي جَعَلْتُهَا فِي يَدِكَ وَاصْنَعْهَا قُدَّامَ فِرْعَوْنَ. وَلَكِنِّي أشَدِّدُ قَلْبَهُ حَتَّى لا يُطْلِقَ الشّعب" (خر 4: 20- 21). عادَ الله وأملى على موسى التعليمات، فليس مطلوباً منه أن يُكلِّمَ فرعون فحسب، بل جعل في يده جميعَ المُعجزات التي أرادَ الله أن يصنعها موسى قدّام فرعون، من دون أن يُخبره بطبيعة هذه المعجزات، كما بيّن له أنّه سيُقسي قلبَ فرعون حتَّى لا يُطلِق الشّعب، موقف يجعلنا نتساءل: هل يحقُّ لله أن يُعاقِب فرعون، بعدما قسّى قلبهُ؟ وإذا كان الله قد قرَّر قتل بكرَ فرعون، فلماذا انتظر ليضرِبَ مصر عشر مراتٍ قبل أن يقتل أبكارها؟
تُشيرُ قراءتنا للقصّة إلى أن فرعون هو الذي بدأ بإنزال العنف بالعبرانيين، فجعلَ عَلَيْهِمْ رُؤَسَاءَ تَسْخِيرٍ لِكَيْ يُذِلُّوهُمْ بِأثْقَالِهِمْ، ثم أمرَ القابلتين شفرة وفوعة بقتل ذكور العبرانيين، وأمرَ شعبهُ بأن يقتلوا كل مولودٍ ذكر عبرانيّ، لذا، فقسوة قلب فرعون كانت قراره الشخصي أولاً، ويستحقُّ العقاب هو وشعبهُ الذي نفّذ قرارتهِ، واستعبدَ العبرانيين وأذلّهم. وبقي فرعون مُعانداً ومُتكبراً في مواجهةِ الله، وسنتوقّف مطولاً عند هذه الموضوع لدى حديثنا عن الضربات العشر.
"فَتَقُولُ لِفِرْعَوْنَ: هَكَذَا يَقُولُ الرَّبُّ: إسرائيل ابْنِي الْبِكْرُ. فَقُلْتُ لَكَ: أطْلِقِ ابْنِي لِيَعْبُدَنِي فأابَيْتَ أنْ تُطْلِقَهُ. هَا أنَا أقْتُلُ ابْنَكَ الْبِكْرَ" (خر 4: 22- 23). إلهنا هو إلهُ البشر جميعاً، وهم أبناؤه، ولكنّه كشفَ عن نفسه أولاً للعبرانيين، الابن البِكر، ليشملنا جميعاً بالعهدِ معهُ، فهو (إسرائيل) الابنُ البِكر، ولكنّه ليس الوحيد. فأعطى الله هويةً جديدة للشعب: "اِبني البكر"، بعد أن كان يُخاطبهُ دوماً باسم: "شعبي". فاللّه يُعلنُ أن بني إسرائيل هم شعبٌ أحبّه الله ووثقَ به جداً، وقرّبهم إلى نفسه وتعلّق قلبهُ بهم بكل ما تفرضهُ هذه العلاقة من حُبٍ وألمٍ، ليُخبِرَ فرعونَ أن ظلمهُ أمرٌ خطيرٌ وجديّ وعليه أن يحذر من أن يُعذّبَّ الشّعب، فهو بذلك يعذّب الله نفسه الذي ربطَ ألوهيتهُ بهذا الشّعب، والله يرعى شعبهُ ساهراً عليه، مثلما يرعى فرعون ابنهُ البكر: واحدة بواحدةٍ يا فرعون لأنّك لا تعرِف أن هذا الشّعب الذي يُعاني مظالِمَ سُلطتكِ هو شعبي، بل ابني البكر. وتحذير الله يكمُن هنا حول عظمة وجسامة الطلب، مثلما سنفرأ لاحقاً: "عينٌ بعين وسنَّ بسن" (تث 19: 21).
موسى والختان
"وَحَدَثَ فِي الطَّرِيقِ فِي الْمَنْزِلِ انَّ الرَّبَّ الْتَقَاهُ وَطَلَبَ أنْ يَقْتُلَهُ. فَأخَذَتْ صَفُّورَةُ صَوَّانَةً وَقَطَعَتْ غُرْلَةَ ابْنِهَا وَمَسَّتْ رِجْلَيْهِ. فَقَالَتْ: "إنَّكَ عَرِيسُ دَمٍ لِي". فَانْفَكَّ عَنْهُ. حِينَئِذٍ قَالَتْ: "عَرِيسُ دَمٍ مِنْ أجْلِ الْخِتَانِ" (خر 4: 24- 26). حادثةٌ غريبةٌ جداً لا سيما بعد تأكيد الله لموسى: "اِذْهَبِ ارْجِعْ إلى مِصْرَ لانَّهُ قَدْ مَاتَ جَمِيعُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَانُوا يَطْلُبُونَ نَفْسَكَ"، فيبدو أن هناكَ مُشكلة ما بين اللّه وبين موسى لم تسوَّ بعدُ، ولا نعرف ما هو قصدُ الله من هذه المواجهة؟
علينا أن نتذكّر مكان رواية هذه القصّة، ففي خضمِّ النقاش الحاصل بين الشّعب المُستعبَد في مصر، وفي بابل ونينوى لاحقاً، حول منفعةِ التعبّد لله، إلهِ إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وحول الطقوس، لاسيّما السبت والختان، ومع محاولة السلطات محو الهوية الدينية للأسرى، تأتي هذه القصّة لتؤكد على أنَّ الختان هو علامةُ عهدِ الله مع شعبهِ، فلم ينسَ الله ما قالهُ لإبراهيم، فكان لزاماً على مَن اختاره الله ليُحرِّر شعبه أن يكون أميناً للعهد، إذ لم يُخبرنا الراوي أن موسى قام بختان ابنيه بعد ثمانية أيام من ولادتهما كما أوصى الله، ويبدو أنّه لم يفعَل ذلك، فكيف يُمكن لمَن سيقود الشّعب ويُوجههم لحفظ الوصايا أن لا يحفَظ الوصايا؟
لذا، عادَ بنا الراوي إلى خيمةِ إبراهيم ووصيّة الله له: "هَذَا هُوَ عَهْدِي الَّذِي تَحْفَظُونَهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَبَيْنَ نَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ: يُخْتَنُ مِنْكُمْ كُلُّ ذَكَرٍ فَتُخْتَنُونَ فِي لَحْمِ غُرْلَتِكُمْ فَيَكُونُ عَلامَةَ عَهْدٍ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ. اِبْنَ ثَمَانِيَةِ أيَّامٍ يُخْتَنُ مِنْكُمْ كُلُّ ذَكَرٍ فِي أجْيَالِكُمْ: وَلِيدُ الْبَيْتِ وَالْمُبْتَاعُ بِفِضَّةٍ مِنْ كُلِّ ابْنِ غَرِيبٍ لَيْسَ مِنْ نَسْلِكَ. يُخْتَنُ خِتَانا وَلِيدُ بَيْتِكَ وَالْمُبْتَاعُ بِفِضَّتِكَ فَيَكُونُ عَهْدِي فِي لَحْمِكُمْ عَهْداً ابَدِيّاً. وَأمَّا الذَّكَرُ الأغْلَفُ الَّذِي لا يُخْتَنُ فِي لَحْمِ غُرْلَتِهِ فَتُقْطَعُ تِلْكَ النَّفْسُ مِنْ شَعْبِهَا. إنَّهُ قَدْ نَكَثَ عَهْدِي" (تك 17: 10-14). كما أنّ الرواي يُذكرنا بلقاء يعقوب مع الملاك الذي صارعهُ طوال الليل وخرجَ من الصراع مُباركاً، بعد أن اُصيبَ بالعوق (تك 32)، ليقول لنا: إن المهمّة التي كُلِفَ بها موسى هي خطيرة للغاية، فعلى مُختار الله أن يتهيأ للمُغامرة بحياتهِ من أجل إنقاذ حياة الآخرين.
إضافةٍ إلى أن الختان يتضمّن اقتطاعَ جزءٍ من الجسد مما يعني سفكَ الدم، كرمزٍ، مثلما يحصل عند تقديم الذبيحةِ، فهناك حياة في الدم: "لأنَّ نَفْسَ الْجَسَدِ هِيَ فِي الدَّمِ فَأنَا أعْطَيْتُكُمْ إيَّاهُ عَلَى الْمَذْبَحِ لِلتَّكْفِيرِ عَنْ نُفُوسِكُمْ لانَّ الدَّمَ يُكَفِّرُ عَنِ النَّفْسِ." (لا 17: 11)، وسيكون الدم وسماً للعهد الذي يربط الله بالشّعب: "وَأخَذَ مُوسَى الدَّمَ وَرَشَّ عَلَى الشّعب وَقَالَ: "هُوَذَا دَمُ الْعَهْدِ الَّذِي قَطَعَهُ الرَّبُّ مَعَكُمْ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الأقْوَالِ." (خر 24: 8). وهكذا تنضمُّ صفّورةَ إلى النسوة المختارات في سفر الخروج واللواتي حفظنّ لموسى الحياة، أمه وأخته وباتيا، أنقذتاه من فرعون، فيما أنقذتهُ صفّورة من يد الله ليُنفِّذَ تدبيره الخلاصي، فكانت وسيطاً بين الله وموسى، مثلما سيُصبحُ موسى نفسه وسيطاً ما بين الله والشّعب لاحقاً مثلما سنقرأ في الفصول اللاحقة (خر 32- 34)، وصارَ موسى لها عريساً، خَتَناً، أي حامياً لها، يربطهما عهدُ الدم معاً لا سيّما وهي تسير نحو أرض ومجتمعٍ غريبين عنها، فكانت بحاجةٍ لتُذكّرَ موسى زوجها بأنه حارسها وحاميها.
الأمرُ الأهم في هذه المرحلة، وقد سمعنا لقول الله في موسى: "إسرائيل ابْنِي الْبِكْرُ. فَقُلْتُ لَكَ: أطْلِقِ ابْنِي لِيَعْبُدَنِي فَأبَيْتَ أنْ تُطْلِقَهُ. هَا أنَا أقْتُلُ أبْنَكَ الْبِكْرَ"، أن تحذير الله وقصده سيتغيّر في حالِ تغيَّر موقف الإنسان، فتدخل صفورة غيّر من حالةِ موسى وعائلتهِ، لأن الله يأخذ موقف الإنسان على محملِ الجد، ويُغيّر موقفه بناءً على ذلك، مثلما حصل مع يونان الذي تمنّى الموت لأهل نينوى، فجاء جوابُ الله ليونان بعد توبة نينوى: "أَفَلاَ أشْفِقُ أَنَا عَلَى نِينَوَى الْمَدِينَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي يُوجَدُ فِيهَا أَكْثَرُ مِنِ اثْنَتَيْ عَشَرَةَ رَبْوَةً مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ لاَ يَعْرِفُونَ يَمِينَهُمْ مِنْ شِمَالِهِمْ وَبَهَائِمُ كَثِيرَةٌ!" (يو 4: 11)، فلا يوجد ما هو مُقدَّر ومُقررٌ مُسبقاً. علاقةُ الله بالإنسان علاقةٌ حيّة.
لقاء هارون
طلب الله من هارون لقاء أخيه في المكان نفسه الذي شهدَ لقاءه بموسى: "وَقَالَ الرَّبُّ لِهَارُونَ: "اِذْهَبْ إلى الْبَرِّيَّةِ لاسْتِقْبَالِ مُوسَى". فَذَهَبَ وَالْتَقَاهُ فِي جَبَلِ اللهِ وَقَبَّلَهُ" (خر 4: 27)، وأخبرهُ بتوجيهات الله له، وبالعلامات التي أوصاه الله بها، وذهبَ كلاهما وأعلما شيوخ الشّعب بما قاله الربّ لموسى، وَصَنَعَ الآيَاتِ أمَامَ عُيُونِ الشّعب. فَآمَنَ الشّعب. وَلَمَّا سَمِعُوا أنَّ الرَّبَّ افْتَقَدَ بَنِي إسرائيل وَانَّهُ نَظَرَ مَذَلَّتَهُمْ خَرُّوا وَسَجَدُوا"، فصدقَ كلامُ الربّ لموسى أنّ الشيوخ سيصدقُوك، وهاهم يقدمون السجود طاعةً لكلمة الله، بخلاف ما توقّع موسى وما فعلَ فرعون لاحقاً.
لقاء موسى بفرعون
"وَبَعْدَ ذَلِكَ دَخَلَ مُوسَى وَهَارُونُ وَقَالا لِفِرْعَوْنَ: "هَكَذَا يَقُولُ الرَّبُّ إلَهُ إسرائيل: أطْلِقْ شَعْبِي لِيُعَيِّدُوا لِي فِي الْبَرِّيَّةِ" (خر 5: 1). لم يخف موسى وهارون من مواجهة فرعون، بخلاف شيوخ الشّعب الذين إنسحبوا من هذه المواجهةِ فغابوا عن هذا اللقاء لأسباب لا يذكرها الراوي لنا.
طلب موسى وهارون من فرعون أن يُطلقِ الشّعب ليعبدوا الرّب إله إسرائيل، في حين أن الربّ وجّه موسى قائلا: "الرَّبُّ إلَهُ الْعِبْرَانِيِّينَ الْتَقَانَا فَالآنَ نَمْضِي سَفَرَ ثَلاثَةِ أيَّامٍ فِي الْبَرِّيَّةِ وَنَذْبَحُ لِلرَّبِّ إلَهِنَا". فلم يطلبا بإسم إلهُ العبرانيين، ولم يُحدِّدا مدة ثلاثة أيام، مثلما أمر الربّ، ولم تكن هذه أولَ ولا آخر مرّة لا ينقل فيها موسى كلمة الرب حرفياً، بل نجدهما قد طلباً الانعتاق للشعب وعلى نحو فظ.
أثارَ طلب موسى وهارون غضبَ فرعون فقال لهم: "مَنْ هُوَ الرَّبُّ حَتَّى أسْمَعَ لِقَوْلِهِ فَأطْلِقَ إسرائيل؟ لا أعْرِفُ الرَّبَّ وَإسرائيل لا أطْلِقُهُ" (خر 5: 2)، جوابُ مَن يرى نفسهُ أعظمَ من جميع البشر، ويفترِض لنفسه سلطة إلهية، فهو ابن الالهةِ، وجوابهُ: "مَن هو الربّ" تعبير عن تكبّره وعجرفته، بخلاف موسى المتواضع الذي إستجابَ لتكليف الربّ له قائلا: "مَنْ أنَا حَتَّى اذْهَبَ إلى فِرْعَوْنَ وَحَتَّى أُخْرِجَ بَنِي إسرائيل مِنْ مِصْرَ؟" (خر 3: 11) هذا التعجرف سيقوده إلى إصدار قرارات تعسفيّة بحق شعبه، فلقد شعرَ فرعون أن طلبَ موسى وهارون هو تهديدٌ مُباشرٌ لسلطتهِ، هو الذي يبحث عن ولاء العبرانيين المُطلّق له حصرياً، فرفض الطلب من خلال رفضهِ الاعتراف بالربّ: "مَنْ هُوَ الرَّبُّ حَتَّى اسْمَعَ لِقَوْلِهِ فَاطْلِقَ إسرائيل"؟
شعرَ موسى وهارون أنهما لم ينفِّذا حرفياً ما طلبهُ الله منهما، فعادا وإستخدما التعابير نفسهل التي قالها الله في لقائه مع موسى، لعلّهم يُقنعونَ فرعون: "إلَهُ الْعِبْرَانِيِّينَ قَدِ الْتَقَانَا فَنَذْهَبُ سَفَرَ ثَلاثَةِ أيَّامٍ فِي الْبَرِّيَّةِ وَنَذْبَحُ لِلرَّبِّ الَهِنَا لِئَلا يُصِيبَنَا بِالْوَبَا اوْ بِالسَّيْفِ" (خر 5: 3)، فطلبوا بإسم إله العبرانيين أن يُطلِق سراح العمال، وهم عبيدٌ وأسرى لديه، وذكروا أن طلبَ الربّ أمرٌ خطير لأنه سيُعاقبهم بالوباء أو السيف، وفي ذلك تهديدٌ ضمني لفرعون أنّك ستخسرُ اليد العاملة إن هلكَ الشّعب بعقابِ الرّب لعصيانهم.
فجاء جواب فرعون بالرفض، ومُحمِّلاً موسى وهارون تبعات إثارة الشّعب للعصيان، كما حملها مسؤولية العقاب الذي سيفرضه على الشّعب، ويُهيّجَهم ضدّ موسى وهارون: "لِمَاذَا يَا مُوسَى وَهَارُونُ تُبَطِّلانِ الشّعب مِنْ أعْمَالِهِ؟ اِذْهَبَا إلى أثْقَالِكُمَا. وَقَالَ فِرْعَوْنُ: "هُوَذَا الآنَ شَعْبُ الأرض كَثِيرٌ وَأنْتُمَا تُرِيحَانِهِمْ مِنْ أثْقَالِهِمْ". فَأمَرَ فِرْعَوْنُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مُسَخِّرِي الشّعب وَمُدَبِّرِيهِ قَائِلا: لا تَعُودُوا تُعْطُونَ الشّعب تِبْنا لِصُنْعِ اللِّبْنِ كَامْسِ وَاوَّلَ مِنْ امْسِ. لِيَذْهَبُوا هُمْ وَيَجْمَعُوا تِبْنا لانْفُسِهِمْ" (خر 5: 4-7)، لتبدأ مأساة الشّعب تتعاظّم أكثر، فلم يرَ فرعون أي سلوك عدائي من جانبه تجاه العبرانيين، بل رأى أن المُشكلة تكمنُ فيهم، فهم قومٌ كسإلى فأمرَ مسخريهم، وهم مصريونَ موالون له، ومدبري الشّعب، وهم جماعة اختارهم مسخرو الشّعب من العبرانيين ليكونوا مُشرفي عمل على العبيد العبرانيين، أمروهم بعدم منح العبيد التبنَ لصُنعِ اللِّبنِ، على أن يُنتجوا نفس الكميّة منه، فكان على العبيد التجوال في الأرض والبحث عن التبن وجمعهُ، مما يعني زيادة ساعات العمل الذي يُصبح مُرهقاً أكثر، كما أن المهمّة مُستحيلةٌ، وتحمّل المدبرين العبرانيون الضرب من المُسخرين المصريين.
"فَأتَى مُدَبِّرُو بَنِي إسرائيل وَصَرَخُوا إلى فِرْعَوْنَ قَائِلِينَ: "لِمَاذَا تَفْعَلُ هَكَذَا بِعَبِيدِكَ؟ التِّبْنُ لَيْسَ يُعْطَى لِعَبِيدِكَ وَاللِّبْنُ يَقُولُونَ لَنَا اصْنَعُوهُ وَهُوَذَا عَبِيدُكَ مَضْرُوبُونَ وَقَدْ اخْطَا شَعْبُكَ". فَقَالَ: "مُتَكَاسِلُونَ أنْتُمْ مُتَكَاسِلُونَ. لِذَلِكَ تَقُولُونَ: نَذْهَبُ وَنَذْبَحُ لِلرَّبِّ. فَالانَ اذْهَبُوا اعْمَلُوا. وَتِبْنٌ لا يُعْطَى لَكُمْ وَمِقْدَارَ اللِّبْنِ تُقَدِّمُونَ" (خر 5: 15- 18). إتهمهم بالكسل، الأمرُ الذي قادهم إلى التفكير في ترك العمل والتعبّد للَّه، لذا، سيُضحّي فرعون بحريّة العبرانيين وكرامتهم، من أجل الحصول على الإنتاجيّة مفسها، والأهم إبقاؤهم مشغولين ومنشغلين بالعمل لكي لا يستمعوا إلى أصواتٍ نشاز تدعوهم إلى تغيير النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي المفروض عليهم.
لم ينجح المدبرون في إقناع فرعون بعدول عن موقفهِ، لذا، صبّوا جام غضبهم على موسى وهارون عوضا عن الإشارة إلى الظالِم، فقالوا: "يَنْظُرُ الرَّبُّ الَيْكُمَا وَيَقْضِي لأنَّكُمَا أنْتَنْتُمَا رَائِحَتَنَا فِي عَيْنَيْ فِرْعَوْنَ وَفِي عُيُونِ عَبِيدِهِ حَتَّى تُعْطِيَا سَيْفا فِي ايْدِيهِمْ لِيَقْتُلُونَا"، فعليهم الآن أن يواجهوا سيفَ فرعون وليس سيف الله.
إزاء رفض فرعون، ورؤية عذاب الشّعب صرخَ موسى إلى الربّ غضباً قائلاً: "يَا سَيِّدُ لِمَاذَا أسَاتَ إلى هَذَا الشّعب؟ لِمَاذَا أرْسَلْتَنِي؟ فَانَّهُ مُنْذُ دَخَلْتُ إلى فِرْعَوْنَ لأتَكَلَّمَ بِاسْمِكَ أسَاءَ إلى هَذَا الشّعب. وَأنْتَ لَمْ تُخَلِّصْ شَعْبَكَ" (خر 5: 22- 23). فنحن نعرِف أن موسى لا يتحمّل رؤية الظلم من دون أن يتقدّم ليُوقِفَه أو يُحجّمهُ، فما بالك لو كان هو السبب وراء هذا الظلم؟ فهو ليس الإنسان الذي يتهرّب من مسؤوليته عن الظلم الحاصِل على الآخرين.
تفهمَّ الله غضبَ موسى، فهو يعرِف أنه من الصعب على الإنسان أن يثقَ به في أوقات الألم والعذاب غير المُبرَّرين، ليس بمعنى أن موسى لا يؤمِن بالله، بل لا يثق بأن الله سيخلّص شعبه، كما أن وجود الشر لا يعني عدم وجود الله، فمثل هذا المنطق يعني أن الخير هو بُرهان على وجود الله الصالح، إضف إلى ذلك، إن الله قد سبقَ وعرَّفه بأن فرعون سيرفض الطلب: "وَلَكِنِّي أعْلَمُ انَّ مَلِكَ مِصْرَ لا يَدَعُكُمْ تَمْضُونَ وَلا بِيَدٍ قَوِيَّةٍ" (خر 3: 19)، وفرعون هو الذي بدأ المواجهةَ أولاً عندما رأى في كثرة الشّعب خطراً على مصرَ، وأمر مساعديه باستعبادهم، ثم قتلِ المولودين الذكور عند الولادة وأوصى الشّعب: "كُلُّ ابْنٍ يُولَدُ تَطْرَحُونَهُ فِي النَّهْرِ" (خر 1: 22).
في غضب موسى واعتراضه اتهامٌ موجَّهٌ إلى الله: "كنتَ تعرِف يا الله عجرفةَ فرعون وقساوة قلبه، فلماذا اخترَتَ هذا الطريق؟ أنت مسؤول عن حياة هذا الشّعب المظلوم، فجاء الجواب من الله: "َقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: "الآنَ تَنْظُرُ مَا أنَا أفْعَلُ بِفِرْعَوْنَ. فَإنَّهُ بِيَدٍ قَوِيَّةٍ يُطْلِقُهُمْ وَبِيَدٍ قَوِيَّةٍ يَطْرُدُهُمْ مِنْ أرضهِ" (خر 6: 1).