موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الخميس، ١٩ مايو / أيار ٢٠٢٢
محاضرات في العهد القديم (سفر الخروج) مع المطران بشار وردة - اللقاء الثاني عشر
"فَأجْعَلَكَ أُمَّةً عَظِيمَةً وَأُبَارِكَكَ وَأُعَظِّمَ اسْمَكَ وَتَكُونَ بَرَكَةً" (تك 12: 2)

أبرشيّة أربيل الكلدانية :

 

المُقدمة

 

ختمَ نشيد الانتصار (خر 15: 1-21)، فصلاً من حياة الشّعب تعرّفنا من خلالهِ على سمات تدخّل الله في التاريخ البشري، إذ يرفعُ الإنسان تضرّعه للَّه شاكياً واقعهُ المُزري (خر 2: 23- 25)، ثم تأتي كلمةُ الله لتعترِف بواقع الإنسان المُتضرِّع فيُعطي الله توجيهاً وتعليماً (خر 3: 1- 7: 7)، ثم يتدخّل الله مخلِّصاً وفادياً (خر 7: 18- 25)، فيُحفّز في الإنسان عبارات الشّكر والعرفان (خر 15: 1- 21). فلولا تدخّل الله لما كان للإنسان أن ينعمَ بالحياة الكريمة، فهذا الشّعب لم يكن يحظى بأبسط مقومات العيش الكريم، وكانت حياته مُهدّدة بالزوال في أي لحظة بسبب قرار حاكم طاغية، فتدخّل الله ومنحهم حياةً من العدم. في تدخّل الله هذا، يبقى الإنسان مسؤولاً عن اختياراتهِ، فليس هناك قَدَرٌ إلهي يوجّه الأحداث، بل يتطلّع الله دوماً إلى تعاون الإنسان معه، فيتمجّد اسم الله (خر 14: 18)، ويعرِف العالم أنَّ للشّعب إلهاً قديراً (خر 15: 14- 16)، وينعمُ الإنسان بالفرح.

 

هكذا، احتفلَ موسى وأختهُ مريم بالانتصار الذي صارَ لهم نعمةً من الله الذي سمِعَ إلى تنهّدِ الشّعب وتضامن معه في معاناته وأنقذهِ من الإضطهاد وإختيارهِ لهم ليكونوا مسكناً له ومَقدِساً ليملُكَ عليهم إلى الأبدِ، فرتّلَ موسى: "الرَّبُّ قُوَّتِي وَنَشِيدِي وَقَدْ صَارَ خَلاصِي. هَذَا إلَهِي فَامَجِّدُهُ الَهُ أبِي فَارَفِّعُهُ" (خر 15: 2). هذا الانتصارٌ دفعَ مريم إلى الرقص، وهي حركةٌ عفويةٌ تحت قيادةِ روحِ الفرحِ والغبطة الذي يملأ الإنسان، عندما يفقد القُدرة على أن يعبّر عن الفرح الذي يختبرهُ بوسائل أخرى.

 

هذا الفرح اختبرتهُ الكنيسة الأولى عندما أقامَ الله رّبنا يسوع المسيح من بين الأموات، فمع المسيح صارت للإنسانية حياةً جديدة: "ثُمَّ رَأَيْتُ سَمَاءً جَدِيدَةً وَأرضاً جَدِيدَةً، لأَنَّ السَّمَاءَ الأُولَى وَالأرض الأُولَى مَضَتَا، وَالْبَحْرُ لاَ يُوجَدُ فِي مَا بَعْدُ. ... هَا أَنَا أَصْنَعُ كُلَّ شَيْءٍ جَدِيداً". وَقَالَ لِيَ: "اكْتُبْ، فَإِنَّ هَذِهِ الأَقْوَالَ صَادِقَةٌ وَأَمِينَةٌ". (رؤ 21: 1، 5) وهو غرض الله من تدخلّه في التاريخ البشري، أن يفدي خليقتهُ من اللاظم والخطيئة، ليمنحها صباحاً جديداً، حياة جديدة وغفراناً أكيداً.

 

 

بدء رحلة البرية

 

عبرَ الشّعب البحر الأحمر من دون استخدام السلاح الذي كان لديهم عندما خرجوا من مصرَ: "وَصَعِدَ بَنُو إسرائيل مُتَجَهِّزِينَ مِنْ أرض مِصْرَ" (خر 13: 18). وقبلَ أن نواصل رحلتنا مع الشّعب العبراني، لابدّ لنا من التأكيد على فكرة النص التي باتت واضحةً الآن، وهي أن عبودية مصرَ ليست حادثةً تاريخيةً فحسب، بل حادثةً واقعيةً نختبرها يومياً. مصرُ ليست موقعاً جغرافياً فحسب، بل حالةً نعيشها يومياً. تعوّد الإنسان على التعايش مع حالةِ الظلمِ والاستعباد سواء كان ضحية الظلمِ أو مُسبّبهُ. وهكذا، يقرأ المؤمن حالتهُ بنظرةٍ لاهوتية، بعيون الله، ليقولَ لنا إن تجربةَ عبودية مصر موجودةٌ فينا دوماً، إنها حالةُ التنافس القاتل الذي يعيشهُ الناس يومياً، التهافت على السلطة والحطّ من كرامة الآخرين في سبيلها، بل يسعى الإنسان لإهلاكِ الآخر وتدميره ليبلغ غاياتهِ. فمصرُ تعني كل حالات الاستغلال والظلم وجبروت المُتسلِّط ذي النفوذ القوي.

 

أما أرض الميعاد فهي أرض الأخوَّةِ والبر والعدالة والتضامن الإنساني. أرض يُسمع فيها لصوتِ البُكاء، مثلما يُسمعَ فيها لتراتيل الفرحِ. أرض نتلمّسُ فيها تضامن الأخوة في العملِ معاً من أجل عيشٍ حسن، مثلما نرى فيها تجمّع إخوةٍ يرقصونَ فرحين ببشارة التحرير التي صارت لهم من قِبلِ الله الذي يُناديهم ويدعوهم إلى أن يعترفوا به إلهاً وحيداً، فلا يُقّدمونَ ذبائح، مادية أو معنوية، لأي سُلطةٍ بشرية كانت، كما لا يتحسّرون على ماضٍ مُلطّخ بدم الأبرياء، وفي وسعنا القول إننا جميعاً نتأرجحُ في حياتنا ما بين مصرَ وأرض الميعاد.

 

ولكن بين مصرَ وأرض الميعاد هناك البرية، حيث لا يلحظُ الشّعب طرقاً ممهَّدة، وهم عُرضة لقُطاّع الطرق وعصابات السّلب، وعليهم أن يُظهروا إيماناً بالله الآب الذي سيُوجههم ليصلوا أرض الميعادِ، وهكذا ستكون البرية مكانَ اختبار أمانةِ الشّعب وثباتهِ، وتكون الوسط الذي يقف بين أقصيين: العبودية أم الحرية، التنافس أم التضامن، الظلم أم الأخوّة، آلهة مصر أم إلهُ العهد الآمين.

 

 

صعوبات في الطريق

 

وجَد الشّعب نفسهُ في البرية التي لم تكن تحت سيطرةِ فرعونَ، ولكنها حملت مغامرةً، بل مجازفةً كبيرة كونها لا تُؤمّن مقومات الحياة: الماء، الغذاء والأمان. وهذا يعني أن على الشّعب مواجهة الموت في كلّ لحظةٍ، والاتكال على تدبير الله فمنهُ وفيه الحياة، وهي دعوة تحمل معها تحديّات جمّة، وعلى الشّعب الاختيار ما بين العيش عبيداً مُطمئنين في مصر، ففيها مقّومات العيش، حتّى لو كان بأقل المستويات الممكنة، أو العيش أحراراً مسؤولين عن اختياراتهم الحياتية.

 

هناكَ حاجةٌ ماسةٌ إلى الماء الصالح للشرب والذي لا يُمكن أن يُخلَق أو يُصنّعَ في البرية، بل يُوهَب من قبل الله ويُقبَل بعرفان بالجميل. أمام هذه الأزمةِ، وهي الأولى من أربع أزمات واجهها الشّعب في البرية، بيّن الشّعب كم أن إيمانه هش، وكم أن الله صبورٌ ووفيٌّ للعهدِ، بل سخيّ في العطاء، فلم يهبهم عينَ ماء واحدة فحسب، بل إثنتا عشرة: "ثُمَّ جَاءُوا إلى ايلِيمَ وَهُنَاكَ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنَ مَاءٍ وَسَبْعُونَ نَخْلَةً. فَنَزَلُوا هُنَاكَ عِنْدَ الْمَاءِ." (خر 15: 27)

 

خلقت هذه الحالة أزمةَ قيادةٍ، إذ بدأ الشّعب يتذمّر على موسى: "فَجَاءُوا إلى مَارَّةَ. وَلَمْ يَقْدِرُوا أنْ يَشْرَبُوا مَاءً مِنْ مَارَّةَ لأنَّهُ مُرٌّ. لِذَلِكَ دُعِيَ اسمهَا "مَارَّةَ". فَتَذَمَّرَ الشّعب عَلَى مُوسَى قَائِلِينَ: "مَاذَا نَشْرَبُ؟" فَصَرَخَ إلى الرَّبِّ. فَأرَاهُ الرَّبُّ شَجَرَةً فَطَرَحَهَا فِي الْمَاءِ فَصَارَ الْمَاءُ عَذْباً. هُنَاكَ وَضَعَ لَهُ فَرِيضَةً وَحُكْماً وَهُنَاكَ امْتَحَنَهُ" (خر 15: 23- 25). فبعد ثلاثة أيامٍ فقط نسي الشّعب العملَ العظيمَ الذي صنعه الرّب، وتخلّوا عن إيمانهم بالرب وموسى (خر 14: 31)، وهذا هو حال الناس إذ تنسى بسرعة الخير الذي اختبرته مع كل أزمةٍ تواجههم بتحدياتها.

 

لم يغضب الله من طلب الشّعب، فهو طلبٌ مُستَحَق: "فَأرَاهُ الرَّبُّ شَجَرَةً فَطَرَحَهَا فِي الْمَاءِ فَصَارَ الْمَاءُ عَذْباً" (خر 15: 25). صحيحٌ أن خشبة صغيرة الحجم جعلت المياه صالحة للشرب، إلاّ أن الله وجّه انتقاداً مُبطَّناً لهم: "إنْ كُنْتَ تَسْمَعُ لِصَوْتِ الرَّبِّ إلَهِكَ وَتَصْنَعُ الْحَقَّ فِي عَيْنَيْهِ وَتَصْغَي إلى وَصَايَاهُ وَتَحْفَظُ جَمِيعَ فَرَائِضِهِ فَمَرَضاً مَا مِمَّا وَضَعْتُهُ عَلَى الْمِصْرِيِّينَ لا أضَعُ عَلَيْكَ. فَإنِّي أنَا الرَّبُّ شَافِيكَ" (خر 15: 26)، فلا يكفي أن يُرنِّم الإنسان ويرقص فرحاً بخلاص الله، بل عليه أن يسمع لصوتِ الربّ، ويصنعَ الحقَّ ويحفظ وصاياهُ، فمع بدء الرحلة في البرية، يُعلِن الله للشعب أنّه حررهم من عبودية فرعون، ليكونوا في خدمةِ تدبيره، ووضعَ أحكاماً وفرائِضَ وينتظرُ عبرها من الإنسان أن يسمعَ وأن يسيرَ باستقامةٍ ويُصغي إلى وصاياهُ، فهذه هي التي تقودُ إلى حياةٍ آمنةٍ لا ظُلمَ فيها فلن تعودَ مصرُ بفرعونها لتفتِكَ بحياة شعبِ الله. وهكذا، عبر السّماعِ والإصغاء والسير باستقامةٍ، يجد الشّعب الحياةَ الهانئةَ: إثنتي عشرَة عينَ ماءٍ، كما ويتجنّب عُنفَ مصرَ وضرباتها. فعلى الشّعب أن يسمعوا له ويطيعوهُ ليُظهروا صِدقَ إيمانهم، ويشهد الشعب في حياتهِ اليومية على هذا الإيمان: "وَبِهَذَا نَعْرِفُ أَنَّنَا قَدْ عَرَفْنَاهُ: إِنْ حَفِظْنَا وَصَايَاهُ. مَنْ قَالَ قَدْ عَرَفْتُهُ وَهُوَ لاَ يَحْفَظُ وَصَايَاهُ، فَهُوَ كَاذِبٌ وَلَيْسَ الْحَقُّ فِيهِ" (1 يو 2: 3-4).

 

هذا لا يعني أن كلّ الذين يسمعون لصوت الرب ويحفظون الوصايا لن يعانوا من الأمراض، فحفظ الوصايا نفسه يهبُ الإنسان صحّةَ الروح، وتكريس يوم للربّ، على سبيل المثال، والابتعاد عن همومِ العمل ومشكلاته، وقضاءُ وقت هادئ مع العائلة والأصدقاء وتقديم الشّكر للَّه، يُنعِشُ الجسد ويُبعد الإنسان عن التوتّر والقلق مؤمناً أن الله الآب دبّر له عيشاً كريماً، وهو شريكٌ مسؤول عن إدامةِ هذه النعمةِ، كما، ويؤمِن أن الله سيهب له الحياة الأبدية كما علّم ربّنا يسوع: "وَفِيمَا هُوَ خَارِجٌ إلى الطَّرِيقِ رَكَضَ وَاحِدٌ وَجَثَا لَهُ وَسَأَلَهُ: "أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ؟" فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: "لِمَاذَا تَدْعُونِي صَالِحاً؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحاً إلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ الله. أَنْتَ تَعْرِفُ الْوَصَايَا: لاَ تَزْنِ. لاَ تَقْتُلْ. لاَ تَسْرِقْ. لاَ تَشْهَدْ بِالزُّورِ. لاَ تَسْلِبْ. أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ". فَأَجَابَ: "يَا مُعَلِّمُ هَذِهِ كُلُّهَا حَفِظْتُهَا مُنْذُ حَدَاثَتِي". فَنَظَرَ إِلَيْهِ يَسُوعُ وَأَحَبَّهُ وَقَالَ لَهُ: "يُعْوِزُكَ شَيْءٌ وَاحِدٌ. اذْهَبْ بِعْ كُلَّ مَا لَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ وَتَعَالَ اتْبَعْنِي حَامِلاً الصَّلِيبَ" (مر 10: 17- 21).

 

 

نُريدُ خُبزاً

 

السالِكُ في البرية لا يبحث فيها عادةً عن التّرف وعيش حياة مرفهّة، بل يُريد أن يبقى حيّاً مُعتمداً على أبسط مقومات الحياة: الماء والطعام فقط، متناسياً البيوت أو القصور التي يُفكّر فيها أهلُ المدينة. وأمام عوز الطعام والماء في البرية صارت مصرُ أرض الحياةِ التي كانت فيها قدورُ اللحم: "لَيْتَنَا مُتْنَا بِيَدِ الرَّبِّ فِي أرض مِصْرَ إذْ كُنَّا جَالِسِينَ عِنْدَ قُدُورِ اللَّحْمِ نَأكُلُ خُبْزاً لِلشَّبَعِ! فَانَّكُمَا أخْرَجْتُمَانَا إلى هَذَا الْقَفْرِ لِتُمِيتَا كُلَّ هَذَا الْجُمْهُورِ بِالْجُوعِ" (خر 16: 3). صحيح أننا متعوّدون على سماع معلوماتٍ مُبالغٍ فيها تصدر عن المُتذمرين، ولكن كيف يُمكن لعاقلٍ أن يُفكّر في أن الله وموسى أخرجا الشّعب من مصرَ ليقتلاهم؟

 

فبعد شهرٍ واحدٍ من فرح التحرُّر من مصر، الشّعب مرّة أخرى إذلال المصريين لهم وكيف صرخوا للَّه ليُنقذهم، وكيف خذلَ الربّ جيش فرعون، ووهبَ لهم المياه العذبة في الصحراء، وكان الأجدر بالشّعب أن يتكّل على الله ويتذكّرهُ شاكرينَ نعمةَ التحرّر، وأمّا الباقي فيُعطى ويُزادُ: "لاَ تَهْتَمُّوا قَائِلِينَ: مَاذَا نَأْكُلُ أَوْ مَاذَا نَشْرَبُ أَوْ مَاذَا نَلْبَسُ؟ فَإِنَّ هَذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا الأُمَمُ. لأَنَّ أَبَاكُمُ السَّمَاوِيَّ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إلى هَذِهِ كُلِّهَا. لَكِنِ اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ الله وَبِرَّهُ وَهَذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ. فَلاَ تَهْتَمُّوا لِلْغَدِ لأَنَّ الْغَدَ يَهْتَمُّ بِمَا لِنَفْسِهِ. يَكْفِي ليَوْمَ شَرُّهُ" (متّى 6: 31- 34). هنا، نود أن نُشير إلى حقيقة أن المُعجزات لا تُعطي للإنسان هبة الإيمان، فالإيمان المؤسَّس على المعجزات سُرعان ما يبطُل مع زوال المعجزة، وعلينا أن نرى في كلّ ما من حولنا مُعجزة نشكر الله عليها.

 

سمِعَ الله تذمّرَ الشّعب من أجل الخبز وتعاملَ مع الحالةِ على نحوٍ مُباشرٍ قبل أن يرفع إله موسى تذمّرَ الشّعب، وأكّدَ ذلك موسى وهارون في خطبتها أمام الشّعب، فحوّلَ البريةَ إلى مكان حياةٍ لا موتٍ كما ادّعى الشّعب: "هَا أنَا أمْطِرُ لَكُمْ خُبْزاً مِنَ السَّمَاءِ! فَيَخْرُجُ الشّعب وَيَلْتَقِطُونَ حَاجَةَ الْيَوْمِ بِيَوْمِهَا. لأمْتَحِنَهُمْ أيَسْلُكُونَ فِي نَامُوسِي أمْ لا؟ (خر 16: 4)، والاختبار سيكون: هل يثق الشّعب بكلمة الله ويتلقط كلٌّ حسب حاجاته من دون أن يُفكّر بالغد؟ هل سيخرج الشّعب يومَ السبت لإلتقاط لحم السلوى والمنِّ وينتهِك شريعة السبت والتي شرّعها الله لأولِ مرّة؟ هل سيعرف الشّعب أن يشكر الله في أوقات العوز (الفقر)، كما يشكره في أوقات الشَّبع (الغنى)؟ والأهم: هل يؤمن الشّعب بكلمةِ الله وبتدبيرهِ؟ لذلك، ذكّر موسى الشّعب، بأن تذمّرهم ليس موجهاً إليه، بل إلى الله فهو الذي سمِع أنينهم وحرَّرهم، وهو الذي سيُدبّرهم في البرية: "فِي الْمَسَاءِ تَعْلَمُونَ أنَّ الرَّبَّ أخْرَجَكُمْ مِنْ أرض مِصْرَ. وَفِي الصَّبَاحِ تَرُونَ مَجْدَ الرَّبِّ لاسْتِمَاعِهِ تَذَمُّرَكُمْ عَلَى الرَّبِّ. وَأمَّا نَحْنُ فَمَاذَا حَتَّى تَتَذَمَّرُوا عَلَيْنَا؟" (خر 16: 6- 7)

 

حصل الشّعب على الطعام من وفرة سخاءِ الله خيراً من طعام عبودية فرعونَ، وطيرُ السلوى سيكون لحماً يأكلونهُ، والمنَّ خبزاً. وفي هذا التدبير الإلهي لا ينسى الرّاوي ذكرَ حفظِ يومِ السبتِ بتكريسهِ للَّه، من دونِ قلقٍ، عبر تقديم صلاةِ الشكرِ فرحين ببركةِ التحرير، بخلافِ خبزِ مصرَ الذي كانوا يقبلونهُ بقلقٍ وخوفٍ وعبوديةٍ قاسيةٍ.

 

 

كيف نتلقى خُبزَ الله؟

 

وضعَ موسى شرطَين لنتلقّى هذا الخُبزَ: القناعة، فلا يُمكن حصدُ أكثر من حاجةِ النهارِ فلا يكون هناك مَن حصدَ الكثير وغيره ينامُ جائعاً، وأن يلتقطوا في اليوم السادس ما يكفي ليومي الجمعة والسبت. وهكذا تتعلّم جماعةُ العهدِ معنى التوزيعِ العادلِ للخيراتِ فلا تنافسَ يُذكَر، لأن الطمعَ والجشعَ مُفسدان لحياةِ الإنسان، هكذا أمّنت هذه المعجزة السِّلم الاجتماعي بين الشّعب فلم يُعادِ أحدهم الآخر بسبب شحّة الطعام، مع أن تجربة الجشع قائمةٌ دوماً: "لَكِنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا لِمُوسَى، بَلْ أبْقَى مِنْهُ أنَاسٌ إلى الصَّبَاحِ فَتَوَلَّدَ فِيهِ دُودٌ وَانْتَنَ. فَسَخَطَ عَلَيْهِمْ مُوسَى" (خر 16: 20)، "وَحَدَثَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ أنَّ بَعْضَ الشّعب خَرَجُوا لِيَلْتَقِطُوا فَلَمْ يَجِدُوا. فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: "إلى مَتَى تَابُونَ أنْ تَحْفَظُوا وَصَايَايَ وَشَرَائِعِي؟" (خر 16: 27 -28)، فصارَ هذا الخبزُ علامةَ إيمانِ الشّعب بكلام الله ووعده، وإشارةً لمدى تضامنِ هذا الشّعب وأحدهم مع الآخر، وهكذا يؤمن الشعب بالمُساواةِ والعدالةِ والطاعة لكلمة الله، كما أوصى في معجزة الماء: "إنْ كُنْتَ تَسْمَعُ لِصَوْتِ الرَّبِّ إلَهِكَ وَتَصْنَعُ الْحَقَّ فِي عَيْنَيْهِ وَتَصْغَي إلى وَصَايَاهُ وَتَحْفَظُ جَمِيعَ فَرَائِضِهِ فَمَرَضا مَا مِمَّا وَضَعْتُهُ عَلَى الْمِصْرِيِّينَ لا اضَعُ عَلَيْكَ. فَإنِّي أنَا الرَّبُّ شَافِيكَ" (خر 15: 26)، وأي نظامٍ غيرُ هذا سيكون علامةً لرغبةِ الإنسان في تأمين حياته بنفسه: "وَأَقُولُ لِنَفْسِي: يَا نَفْسُ لَكِ خَيْرَاتٌ كَثِيرَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِسِنِينَ كَثِيرَةٍ. اِسْتَرِيحِي وَكُلِي وَاشْرَبِي وَافْرَحِي" (لو 12: 19).

 

غضِب موسى لأن بعض الشّعب لم يثق بالله، بل حاولَ إعادةَ نُظمِ مصرَ وعاداتها فقام بتخزين المنِّ قلقاً على الغدِ، فمثل هذا الخبزِ، خبزِ القلقِ والغمِ والجشعِ ليس له قيمةَ حياة تُذكَر، وليست له مُستقبل، لأنه خُبزُ التمرّدِ والعصيانِ. ولكن هناكَ مَن هو جاهلٌ ولا يُريد أن يسمعَ، فلم يُصدِق أن الله لن يُمطِر لهم المنَّ يومَ السبتِ، "وَحَدَثَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ انَّ بَعْضَ الشّعب خَرَجُوا لِيَلْتَقِطُوا فَلَمْ يَجِدُوا. فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: "إلى مَتَى تَابُونَ أنْ تَحْفَظُوا وَصَايَايَ وَشَرَائِعِي؟" (خر 16: 27-28)

 

ربطَ الرّاوي قصّةَ المنِّ بوصية السبت ليُبرِزَ الخلافَ ما بين خبزِ العبودية الذي يُعطى في مصرَ وخبز الله المُحرِّر. فخبزُ مصر كان يُقدَم أجراً لعملٍ واستحقاقاً لساعاتِ أشغالٍ شاقّةٍ مع ما يُصاحبُها من مهانةٍ ومذلّةٍ وخوفٍ وقلقٍ من غدٍ قد لا يتوفّر فيه الخبزُ. قد كان خبزاً لقاء إنتاجٍ. أما خُبزُ السّبت، فهو خبزُ السماء، خبزُ النّعمةِ، خبزُ التّحرّرِ من الخوفِ والقلقِ، خبزُ الإيمانِ بالله الذي تضامنَ مع شعبهِ وقدّم لهم خلاصاً، بل حقيقةً للحياة تُعطي الحياة للجميع، وبوفرةٍ. وهكذا صارَت للشعبِ فرصةُ للراحةِ من العملِ: "فَاسْتَرَاحَ الشّعب فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ." (خر 16: 30)، على مثال خالقه الذي "اسْتَرَاحَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ مِنْ جَمِيعِ عَمَلِهِ الَّذِي عَمِلَ" (تك 2: 2). 

 

ولأنَّ الإنسان سُرعانَ ما ينسى بركاتهِ، لذا أمرَ الله موسى وهارون ليحتفظا بجرّة فيها منٌّ تُوضعُ أمام الرب لتُحفَظ للأجيالِ كتذكار أمانةُ الله لشعبه الذي جعلَ حياتهم ممكنةً في البريةِ القاحلة: "هَذَا هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي أمَرَ بِهِ الرَّبُّ. مِلْءُ الْعُمِرِ مِنْهُ يَكُونُ لِلْحِفْظِ فِي أجْيَالِكُمْ. لِيَرُوا الْخُبْزَ الَّذِي أطْعَمْتُكُمْ فِي الْبَرِّيَّةِ حِينَ أخْرَجْتُكُمْ مِنْ أرض مِصْرَ". وَقَالَ مُوسَى لِهَارُونَ: خُذْ قِسْطاً وَاحِداً وَاجْعَلْ فِيهِ مِلْءَ الْعُمِرِ مَنّا وَضَعْهُ أمَامَ الرَّبِّ لِلْحِفْظِ فِي أجْيَالِكُمْ" (خر 16: 32- 33)، وقد حفظا هذه الجرّة في تابوت العهد مع لوحي الوصايا وعصا موسى.