موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
اعتلى البطريرك لويس برلسينا (Luigi Barlassina) العرش البطريركي في 8 آذار عام 1920. وكانت الأبرشيّة حينذاك تمرّ في أوقات حرجة؛ إذ كانت فلسطين ترزح تحت وزر الحرب، وما نتج عنها من فقر وجوع وأمراض في كل مكان. وكانت الرعايا في حالة يُرثى لها، لما حدق فيها من سلب ونهب على يد الجنود الأتراك، خاصة في شرق الأردن.
وكانت مالية البطريركيّة في الحضيض، والخراب عظيم، ولا بدّ من إجراء إصلاحات كثيرة ومشاريع عديدة.
وأراد بمناسبة دخوله الاحتقالي الأول إلى كاتدرائيته، كنيسة القيامة، في 15 تموز 1920، أن يُكرّس أبرشيته لله بشفاعة العذراء. فألّف وتلا بنفسه تلك الصلاة الجميلة التي يعرفها اليوم كلّ المؤمنين وهي "صلاة سيدة فلسطين"، مستمدًا شفاعة العذراء القديرة لأعماله الرسوليّة.
لويس برلسينا (1920-1947)، البطريرك الخامس على البطريركية اللاتينية منذ إعادة تأسيسها عام 1847
كان البطريرك لويس برلسينا أوّل من أطلق لقب سيدة أو سلطانة فلسطين العذب على العذراء مريم وذلك استعطافًا لحماية العذراء للديار الفلسطينيّة في ذلك العصر. وأمر لذلك بنشر رسالة رسميّة موجّهة لكافة المؤمنين والجمعيات الرهبانيّة في أنحاء أبرشيته، كي تُتلى الصلاة لسيدة فلسطين على الدوام لدى منح البركة بالقربان الأقدس، في كافة كنائس الأبرشية وكنائس الأديار الرهبانيّة، وكان ذلك في 20 تموز 1920.
لم يكتفِ البطريرك بهذه الصلاة، بل أبرز نذرًا لله أن يُشيّد، إكرامًا لمريم العذراء، كنيسة جميلة تحمل اسم "سيدة فلسطين"، وقد أوفى بنذره هذا سنة 1927، إذ قام ببناء مزار دير رافات الذي يضم كنيسة وإلى جانبها دير وميتم للأطفال.
استمدّ البطريرك برلسينا من روما الترخيص اللازم لإنشاء عيد خاص بسيّدة فلسطين، في الأحد الواقع في ثمانيّة انتقال العذراء إلى السماء، أي بعد الخامس عشر من آب. وقد نال من ثمّ موافقة السلطات المختصّة على نصّ القداس الخاصّ بهذا العيد.
أمام دير رافات، ويظهر في الصورة البطريرك برلسينا وإلى يمينه الأب ألبينو غورلا
في آب عام 1918، انتخب البابا بندكتس الخامس عشر الأب لويس برلسينا أسقفًا مع لقب أسقف أبرشية كفرناحوم، ليكون مساعدًا للبطريرك اللاتيني فيليب كماسّي، في القدس. وقد حملته محبته لمريم العذراء، منذ صغره، أن يختار يوم ميلادها ليكون يوم سيامته الكهنوتيّة.
وصل الأسقف برلسينا إلى فلسطين يوم 8 تشرين الأول من عام 1918. وقابل البطريرك كماسّي في حيفا، حيث كان هذا الأخير منفيًا من قبل السلطات العسكريّة. وبعد بضعة أشهر، انتقل البطريرك كماسّي إلى روما، حيث عُيّن كاردينالاً، وبقي هناك. فاستلم الأسقف برلسينا سدّة البطريركيّة، كمدبّرٍ رسولي، ابتداءً من شهر كانون الأوّل 1919، حتى تم ترفيعه إلى العرش البطريركيّ يوم 8 آذار 1920، وتمّ دخوله الاحتفالي إلى كنيسة القيامة في 15 تموز 1920.
باشر البطريرك برلسينا بهمّة ونشاط في إصلاح وإنقاذ وضع الإرساليات من كافة النواحي. فهمّ بإصلاح وترميم الكنائس والأديرة والمدارس، وتعيين الكهنة والراهبات في الرعايا الخالية أو المهجّرة، وبادر إلى تأسيس رعايا جديدة، أهمّها رعية عمّان، وناعور وصافوط وشطنا وجنين والوهادنة وطولكرم واللد والمفرق. وبنى أديرة جديدة في الرامة وبيسان وبرقة وعجلون. وأجرى تصليحات في أبنية كنيسة ودير رام الله وبيرزيت والسماكيّة. ومن اهتماماته الأخرى أيضًا: المعهد الإكليريكيّ والمدارس والتعليم المسيحي والحركات الرعويّة، إضافة إلى إعادة إنعاش وتنظيم جمعيّة فرسان القبر المقدّس.
أمّا من الناحية الليتورجية، فقد عمل البطريرك الجديد منذ عام 1933 (في 9 نيسان) على إعادة إحياء تطواف أحد الشعانين التقليدي الّذي بدأ يقام في القدس منذ القرن الرابع، إلى أن انقطع عقب هزيمة الصليبيين. وينطلق هذا التطواف من بيت فاجي وصولاً إلى المدينة المقدّسة.
أول مسيرة للشعانين في 9 نيسان 1933، ويظهر في الصورة البطريرك برلسينا
منذ طفولته نشأ البطريرك برلسينا على محبة الأمّ البتول وذلك في مدينته «تورينو» الواقعة في شمال إيطاليا، وحيث توجد كنيستين شهيرتين مكرستين للعذراء، الأولى هي «كنيسة العذراء معزّية الحزانى» والثانية «كنيسة البتول معونة المسيحيين». منذ بداية حياته الكهنوتية كان الأب برلسينا يقود الجماهير للحج إلى مزار مريم العذراء سيدة لورد في جنوب فرنسا، إضافة إلى كنائس أخرى شهيرة للعذراء في مختلف أنحاء إيطاليا.
أمّا في روما، وبعد تعيينه رئيسًا لخورنيّة بازيليكا اللاتران، فقد بذل الأب برلسينا جهدًا حثيثًا في نشر تكريم مريم العذراء البريئة من الخطيئة الأصليّة. وبعد انتخابه أسقفًا اختار لسيامته يوم 8 أيلول، كونه عيد ميلاد العذراء. اختار لشعاره الأسقفي آية الرسول بولس الشهيرة: «إنّ محبة المسيح تحثّنا» (Caritas Christi urget nos) دلالة على محبته وتعلقه بالمسيح، كما واختار صورة تمثّل جبليّ صهيون والكرمل يطلان على بحيرة طبريا لعلاقتهما بالعذراء، يعلوهما نجم ساطع يرمز أيضًا للبتول القديسة.
منذ يوم ارتقائه إلى منصب بطريرك المدينة المقدّسة كان يُقدِّم القداديس اليوميّة لنيّة واحدة وهي إكرام مريم العذراء، تاركًا لها بثقة بنويّة أن تتو هي تدبير أمور النفوس والأبرشيّة وتعيين استحقاقات هذه القداديس غير المتناهيّة لخيرها الحقيقي.
البطريرك برلسينا مع الأب فيليبو تالفاكيا في أراضي دير رفات
ومن أعماله الليتورجيّة الأخرى التي تدلّ على إكرامه لمريم العذراء ما يلي:
• نشر عادة إكرام مريم العذراء على طريقة القديس لويس دي منفور بتكريس الذات للعذراء.
• تعريب كتاب القديس لويس دي منفور، المعروف بعنوان «عبادة الوفاء لسلطانة الأرض والسماء». وقد عيّن دير راهبات الناصرة في مدينة الناصرة مزارًا مريميًا لنشر هذا الإكرام المريمي.
• نشر إكرام العذراء سيدة الكرمل والتشجيع على الانضواء تحت لواء الرهبنة الكرمليّة الثالثة.
• سعى إلى تشجيع الشعب على إكرام قلب مريم الطاهر لكونه ملجأ المسيحيين في هذه الأوقات العصيبة.
• شجّع على نشر المؤسّسة الجديدة التي نشأت في إيرلندا تحت اسم «فرقة الجيش المريمي» (الليجيو)، وقد تشكّلت فرق كثيرة في العديد من المدن الفلسطينيّة آنذاك.
• كانت المسبحة لا تبرح أنامله أينما ذهب، وكان يتلوها بتقوى شديدة.
• كان يُذيِّل رسائله الرسميّة دائمًا باسم العذراء مريم والقديس يوسف.
توفى البطريرك برلسينا في 27 أيلول عام 1947، وقبر في الكنيسة البطريركيّة في القدس، وقد كانت وصيّته أن يدفن بجانب هيكل العذراء مريم البريئة من الدنس، محبةً لها.
صورة أرشيفية تبيّن دير العذراء مريم سلطانة فلسطين، في بلدة رافات، شمال غرب مدينة القدس
1865-1866 بداية الإجراءات لشراء أراضي رافات.
1869-1870 قرار مجلس الإدارة لتسجيل الأراضي في الطابو باسم فرنسيس بطاطو.
1874 البيع الرسمي للبطريرك براكو من قبل السيد فرنسيس بطاطو.
نهاية 1920 إجراءات البطريرك برلسينا لجلب رهبان العناية الإلهيّة (دون أوريونه).
20 تشرين الأول 1921 وصول أول مجموعة من رهبان "دون أوريونه"، حتى رحيلهم في عام 1927.
أيار 1925 وضع حجر الأساس للكنيسة.
5 أيار 1927 وصول أول مجموعة من راهبات القلبين الأقدسين (القديسة دوروتيا) إلى رافات، وكان المونسنيور أنطونيو فرغّلي مديرًا للمزار.
21 تشرين الثاني 1927 بناء ميتم الأطفال مع 45 طفل.
18 آذار 1928 تركيب لوحة العذراء فوق المذبح الرئيسي. رسمت هذه اللوحة الأخت ماريا-جوفّانينا الفرنسيسكانيّة. كما قام فنان فلسطيني من القدس، يدعى مبارك سعد، برسم أولى كلمات السلام الملائكي بمائتين وثمانين لغة مختلفة، تعلوا اليوم سقف الكنيسة في رافات.
كنيسة مزار الدير المريمي في رافات، من الداخل
21 آذار 1928 مباركة الكنيسة.
1928-1938 استلم الأب فيليبو تالفكيا إدارة المزار.
10 آذار 1929 نصب تمثال البرونز الكبير لسلطانة فلسطين فوق واجهة الكنيسة.
15 آب 1929 أول احتفال وحجّ لعيد سلطانة فلسطين.
7 كانون الأول 1929 تأسيس المدرسة الحرفيّة والمطبعة ومصنع الجبنة.
آب 1933 بركة أجراس الكنيسة.
16 آب 1933 الموافقة الرسميّة من مجمع الليتورجيا على نصّ قداس سيدة فلسطين، ومن ثمّ في 25 أيار 1940 الموافقة على النص الجديد للقداس.
1936-1939 الثورة الفلسطينية ضد الانتداب البريطاني واغتيال الكاهن السالزياني مرشد الراهبات في مدخل المزار.
تمثال البرونز الكبير لسلطانة فلسطين، وقد رفع فوق واجهة الكنيسة في 10 آذار 1929
10 حزيران 1940، لغاية شهر كانون الأول، حوّل البريطانيون دير رافات إلى مخيم اعتقال للكهنة والإكليريكيين والراهبات الإيطاليين.
نيسان وأيار 1948 تهجير أهالي قرية رافات من قبل اليهود.
17 تموز 1948 الاحتلال الإسرائيلي لمنطقة رافات، وتدمير القرية من قبل العصابات الصهيونيّة.
1948-1972 استقرار الكهنة والراهبات في المزار، والمحافظة عليه‘ مع الاستمرار بالاحتفال بعيد سلطانة فلسطين. ومن الكهنة الذين أداروا المزار: ألبينو غورلا، يعقوب كابرا، دومينيكو فيليو ولويس فافرو.
1972 بدأ أعمال ترميم المدرسة.
تشرين الأول 1975 فتح مدرسة البنات مع 14 تلميذة.
بعد سنوات من إغلاق المدرسة، وترك راهبات القديسة دوروتيا للمزار (2008)، عهدت البطريركية اللاتينية بأمر المزار، في عام 2009، إلى راهبات "عائلة بيت لحم وانتقال العذراء والقديس برونو" المعروفات باسم "راهبات بيت لحم" الناسكات.
انتقل الاحتفال بعيد مريم سلطانة فلسطين اليوم إلى 25 تشرين الأول. ويُقام الاحتفال الرئيسي السنوي في دير رافات، في أوّل أحد بعد هذا التاريخ، بمشاركة كافة رعايا الأبرشية، إضافة إلى العديد من الرهبانيات والحجّاج. وهي الشفيعة الرئيسيّة لجمعية فرسان القبر المقدّس في العالم.
مؤمنون يشاركون في الاحتفال الرئيسي السنوي في دير رافات
يا مريمُ البريئةُ من كل عيب، يا سلطانةَ السماء والأرض البهيّة، ها نحن جاثون أمام عرشكِ السّامي، وواثقون كلّ الثقة، بجودتِكِ وقدرتِكِ غير المحدودة، فنلتمسُ منك نظرةً عطوفة، على هذه البلاد الفلسطينية، التي تخُصكِ أكثرَ من سائرِ البلاد، لانَّكِ باركتِها بميلادِكِ فيها، وبفضائِلكِ وأوجاعِكِ، ومن هذه البلاد، منحتِ الفادي العالم.
أذكري أنَّك هنا، أقمتِ لنا أُمًّا شفيقة، وموزَّعةَ للنعم، فاسهري إذًا بعناية فريدة على وطنك الأرضي هذا، وبدَّدي عنه ظلُماتِ الضلال، بعد أن سطَعَت فيه شمسُ البرِّ الأبدي، واجعلي أن يتَمَّ سريعًا، الوعدُ الصادر من فم ابِنكِ الإلهي، بأن تكونَ رعية واحدة وراعٍ واحد.
استمدِّي لنا أجمعين، أن نخدُمَهُ تعالى، بالقداسة والبرارة، مُدِّةَ أيامِ حياتِنا، حتى نستطيعَ أخيرًا، باستحقاقاتِ سيدنا يسوع المسيح، وبعوِنكِ الوالدي، أن ننتقِلَ من أورشليم هذه الأرضية، إلى أفراحِ أورشليم السماوية. آمين.