موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
عيسى أبوجابر - طالب دراسات دينية، تعليم مسيحي في جامعة بيت لحم
مشيئة الله! هل مشيئة الله لا تعطي اهتمامًا لحريتنا البشرية؟ هل الله يقرر عنا ما الذي نريد أن نكونه في المستقبل؟ تخلق هذه الأسئلة وغيرها في بعض الأحيان الخوف في قلوب الشبيبة والمؤمنين عما إذا كانت مشيئة الله لا تتوافق مع طموحنا وأحلامنا المستقبلية.
إن الإنسان في حياته إن لم يكن لديه أحلام وطموح، فهو كما لو ليس لديه هدف أو سبب يعيش من أجله، إلا أن الإيمان المسيحي يعلّمنا أن الله يدعو الأشخاص لخدمة الكنيسة والمجتمع، وهذا لبنيان الكنيسة ولخير المجتمع وأيضاً من أجل سعادتنا وخلاص نفوسنا وأخوتنا الآخرين.
نعم، من الصعب أحياناً أن نفهم مشيئة الله في حياتنا لأنه وبحسب ما يقول القديس بولس "ما أبعد غور غنى الله وحكمته وعلمه! وما أعسر إدراك أحكامه وتبين طرقه! (( فمن الذي عرف فكر الرب أو من الذي كان له مشيرا؟))" (رو ١١: ٣٣-٣٤) فلذلك يجب على المرء أن يتحلى بالصبر وأن يتخذ التواضع طريقًا في حياته أمام الرب حتى "يتم الزمان" (غلا٤: ٤أ).
من خبرتي الروحية في بحثي عن مشيئة الله في حياتي، استخلص أن مشيئته لا تتناقض مع أشواقنا وما نحب حقاً أن نكونه، لأن هناك تماهيًا وعلاقة مترابطة بين شوقنا الحقيقي وبين إرادة الله لنا، فالرب نفسه يزرع هذا الشوق فينا، فيقودنا إلى عيش مشيئته في حياتنا. يجب أن نعلم أيضاً، كما أن ربنا غير محدود، فأيضاً طريقة الإلهامات لنا في معرفة مشيئته غير محدودة، فمن الممكن أن يخاطبنا من خلال قراءة ما في كتاب أدبي، أو عن طريق حديث مع شخص ما، أو موقف ما، فليس من الضروري أن يكشف عن مشيئته عن طريق رياضة روحية، أو صلاة معمقة، أو عمل صلاة ربية. كما يمكنه أن يقوم بذلك في حياتنا بشكل متسلسل ومسيرة حياة، أو من خلال مخاطبة مباشرة وواضحة ومفاجئة؛ لكن من المهم أن نفهم دائمًا أن الله، ومنذ أن كنا في أحشاء أمهاتنا، دعانا لخدمة ما في الكنيسة والمجتمع، ويقول الرب: "قبل أن أصورك في البطن عرفتك وقبل أن تخرج من الرحم قدستك" (إر ١: ٥).
"فلما تم الزمان، أرسل الله ابنه مولودا لامرأة" (غلا٤: ٤)، ابن الله أتى إلى العالم فقط ليتمم مشية أبيه السماوي، فيسوع ربنا بفم لسانه المقدس قال لتلاميذه الأطهار "طعامي أن أعمل بمشيئة الذي أرسلني وأن أتم عمله" (يو٤: ٣٤). كما لا يمكننا أن ننسى صلاة يسوع للآب قبل القبض عليه في بستان الزيتون حين قال للآب العلي: "يا أبت، إن شئت فاصرف عني هذه الكأس… ولكن لا مشيئتي، بل مشيئتك!" (لو٢٢: ٢٤) وبالرغم من الألم، إلا أن يسوع كان في أعماقه يعلَم أن هذا هو دوره وعمله الذي وهبه إياه الله من أجل خير العالم أجمع. إن ربنا بالرغم من الألم والصليب أحب مشيئة الآب وأطاعها، فإن قيامة يسوع من بين الأموات هي نتيجة طاعته الكاملة للآب وثقته به، وإيمانه الكامل أن أبيه يحبه، ونحن إذا أردنا أن نقوم وننتصر يجب أن نطيع مشيئة الله في حياتنا.
هناك أمنا مريم العذراء أيضًا، فهي لولا طاعتها لله وعملها بكل محبة لمشيئته والتي قالت للملاك بكل تواضع ومحبة: "أنا أمة الرب فليكن لي بحسب قولك" (لو١: ٣٨) لما انتقلت مريم بالجسد والنفس إلى السماء، ولما كانت الآن مكللة بالمجد عن يمين ابنها القدير. إن طاعتنا لمشيئة الله هي سبب خيرنا وسلامنا وسعادتنا وامتلاء قلبنا وعدم حاجته لأمور أخرى كي تملأه، فالله كُلي الحكمة والمعرفة، يعلم بنيه وبناته، ويرعاهم بالحب والسلام والحكمة.
إسأل نفسكَ...
ما الدعوة التي تجذبني لأن أكونها؟
ما الدعوة التي تتوق لأن تكونها؟
ما الصوت الذي يدوي في أعماقك، ويملأ قلبك بالسلام حين تفكر فيه حتى لو كنت معارضًا له؟
ما الدعوة التي أشعر أنها هويتي ورسالتي في الكنيسة والمجتمع إذا عشتها؟
ما الدعوة التي إن عشتها سيمتلئ قلبك بالسلام والسكينة؟
ما هي مواهبك وثمارك، وصفاتك الإنسانية؟
كل ذلك سيساعد أن تعرف مشيئة الله في حياتك، ولا تصغي لأي خوف أو أي شيء آخر يحاول أن يشكك في ذاتك إذا كانت الإجابة نعم على كل تلك الأسئلة.
ختاماً، أريد أن أذكركم بما قاله الرب يسوع حول العمل بمشيئة الله حسب إنجيل متى الفصل السابع، فليس من يقول يا رب يدخل الملكوت السماوي بل من يعمل بمشيئة الآب القدير، وقد شبه الذي يعمل بتلك المشيئة بالرجل الذي بنى بيته على الصخر، أما الذي لا يعمل حسب مشيئة الآب يكون كالرجل الذي بنى بيته على الرمل؛ الله لا يغضب علينا إن لم نعمل بحسب دعوته لنا، لأنه يحترم حريتنا وقراراتنا إن كانت قرارات صالحة، لكن من الأفضل أن نعمل بمشيئة الله لأن بعملنا لتلك المشيئة المُقدسة سنجد سلامنا وسعادتنا والهدف الذي خُلقنا من أجله، وسنكون مشاركين للرب يسوع بأكبر عدد ممكن في خلاص النفوس.
إن الله أبونا، وهو ككل أب في أُسَرنا، يملك في قلبه الأبوي الحنون، حلم لكل واحد منا، وهذا الحلم هو الشيء المناسب لكل شخص كي يعيش في الكنيسة والمجتمع في الخدمة التي خُلق من أجلها، إن كانت في الحياة الزوجية أو الكهنوتية أو الحياة المُكرسة.
تقول القديسة ماري دو لا باسيون:
"الله هو أبي. إنه دائماً معي،... سأكون دائماً معه."
صلوا معي صلاة القديس أغناطيوس دي لويولا لطلب محبة الله:
"خذ، يا رب، وأقبل حريتي كلّها، وذاكرتي وعقلي، وإرادتي كلّها، كل ما هو لي، وكل ما هو عندي. أنت أعطيتني ذلك، فإليكَ أعيده، يا رب. كل شيء لك، فتصرّف فيه بكامل مشيئتك. أعطني أن أحبّك، أعطني نعمتك، فهذا يكفيني. آمين."