موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الثلاثاء، ٢٣ فبراير / شباط ٢٠٢١
كتب المطران يوسف توما: صمت الله، لماذا أنت صامت يا رب؟

المطران يوسف توما، رئيس أساقفة كركوك والسليمانية للكلدان :

 

عندما تحدث كارثة أو حرب أو ينتشر وباء وتشتد معاناة الإنسان وينظر إلى الفظائع العديدة أمامه، يرفع رأسه إلى السماء ويطرح السؤال: "لماذا؟". هذا سؤال قديم قِدَم الانسان، وغالبا ما يزعجه صمت الله ويدفعه للتساؤل عمّا إذا كان الله تخلى عن البشر.

 

صمت الله مزعج. وهو موضوع يتكرر بحسب الأزمنة ويأتي في الكثير من الأعمال الفكرية والأدبية، بل جاء في الكتب المقدسة. وأذكر، أني بعد زيارتي معتقل أوشفيتز، حيث قضى مئات الآلاف على يد النازيين في الحرب العالمية الثانية قرأت أن البابا بندكتس السادس عشر كان قد زاره أيضًا في نيسان 2010، وهتف أمام البشاعة: "لماذا، يا رب، هل كنت التزمتَ الصمت؟ كيف يمكنك السماح بهذا؟ أين كنتَ في ذلك الوقت؟".

 

بقيت هذه الصرخة ترنّ فيّ وتذكرتُ كل الذين تناولوا صمت الله في عصرنا من مختلف الناس، لعل أشهرهم هو الفيلسوف الوجودي ألبير كامو Camus (1913-1960) الذي ربط إلحاده بهذه المسألة، قال: "إن كان الله كليّ القدرة ويقبل بالشر فهو سيء، أو أنه صالح لكنّه عاجز!". هذا الموضوع محيّر للكثيرين، ويجعل كل واحد يجيب بطريقته الخاصة، ليس بحدّية ألبير كامو وبقية فلاسفة الشك، لكن واقعيًا، يشكل صمت الله، ثقلا حتى لدى المؤمن الذي يشعر أن الرب حرم البشرية من ميراثه عندما لم يتحرك أمام البشاعات التي حدثت وتحدث. فما عدا معتقلات أوشفيتز هناك ضحايا القنبلتين في هيروشيما ونكازاكي (قرأت في شبابي كتاب "أجراس ناغازاكي" للطبيب الياباني المسيحي بول ناغاي الذي فقد فيها زوجته)؛ وأنواع الابادات الجماعية للسكان الأصليين في كل مكان، وما أحدثته عصابات داعش في سوريا والعراق خصوصًا مع الايزيديين المسالمين؛ والآن جاء استخدام طائرات الدرون بدون طيار التي تسبّب الدمار والموت في الشرق الأوسط حتى في مستشفيات المنظمات الإنسانية. وماذا نقول عن جحافل المهاجرين وغرق الآلاف منهم في البحار سعيًا لحياة أفضل نحو أوهام الدول المتقدّمة التي تغلق حدودها وقلوبها فنسأل: "أين أنت يا رب؟".

 

هل الله صامت في عالمنا منذ أكثر من سنة مع جائحة كورونا؟ حيث تعرضت حياة الملايين للخطر والرعب في أنحاء العالم، الفيروس لم يفرق بين مؤمن وغير مؤمن، غني وفقير قوي وضعيف (راهبة فرنسية عمرها 114 سنة شفيت ورياضيون أبطال قضوا بالمرض!). أليست هذه الأسئلة هي التي دفعت الألماني نيتشه (1844-1900) أن يدعو الجميع أن يتجاهلوا الله باعتباره وهمًا يحاول في حياة ما بعد الموت، تعويضهم عن المعاناة التي لا يمكن لأحد في هذا الوجود أن يفسّرها؟

 

كيف يمكن لله أن يكون موجودًا حين يرى هذا العدد من الأطفال يحكم عليهم بالجوع، أو الأمراض المستعصية، أو يكونون ضحايا قسوة الكبار وشرورهم. المفكرون منذ القدم يسألون هذه الأسئلة، بل قال بعضهم: هل الذين يؤمنون بالله أكثر أخلاقًا وعدلاً من الملحدين؟ كم ارتكب من يدّعون الإيمان من فظائع عبر التاريخ، وفي أيامنا بالأخص من جميع الأديان، لا يمكن أن نستثني أحدًا منذ محاكم التفتيش والعبودية (القرن 16) والاستعمار (القرن 18-19) والنازية والحرب العالمية الثانية (1933-1945)، كلها تمّت على يد دول اعتبرت نفسها ذات أغلبية مسيحية. على الجميع إذن أن يكنس أمام بيته ويقرأ تاريخه بتمعن ولا يلقي الحجارة على الآخرين، الكل بيته من زجاج أمام هذا التساؤل!

 

الجميع إذًا سواسية، في الماضي والحاضر، كم من "مؤمن" يحلف يوميًا باسم الله ويذكره بلا توقف لكنه يملأ بفضله جيوبه، ما عدا امتلاء قلبه بالكراهية والانتقام والتحيّز ضد الآخرين وحتى ضد أبناء جلدته بسبب اختلافات طفيفة! كم منهم يستغل ثقة القطيع المخلص ويبتزّ ويفسد ويضاعف مكاسبه مقرّرا الجحيم وبئس المصير لمن ينكره أو يختلف عنه!

 

لعل أشهر من اختبر صمت الله هو يسوع المسيح نفسه، ألم يصلّ قائلا: "أبي، أبي، لماذا تتخلى عني؟" (مرقس 34:15). مثله مثل أي واحد منا مرّة ومرّتين أو ثلاثًا في حياتنا، خصوصا عندما ندخل تحت "حادلات" الزمان والبشر في سجون الديكتاتوريات المدنيّة والعسكرية وحتى الدينية منها، من حقنا أيضًا أن نتساءل: "أين كنتَ يا الله، لماذا تصمت؟".

 

إن الاعتقاد بوجود الله لم يكن المسألة التي تهمّ المسيح. فالإيمان عطيّة يتلقاها البعض ولا يعرفها آخرون كثيرون. لا يهم، لكن المهم لدى المسيح هو: على الرغم من عدم الإيمان عند البعض، إلا أنه يكفي لأن يحيا قيمًا إنسانية تتوافق مع إنجيله، مثل: محبة القريب، العدل للمظلوم، التضامن، التسامح والرحمة. ومن يسلك هكذا فهو يفعل ما يتوقع الله من كل واحد منا!

 

لقد أوضح المسيح، بالكفاية أن كثيرين قد لا يؤمنون بالله ظاهريًا لأنهم قد لا يعرفونه، لكنّهم يتبنّون القيم العليا، من هو مثلهم سيتفاجأ يوم القيامة عندما يُسأل في الجانب الآخر من جدار الحياة: "متى رأيناك جائعًا وأطعمناك؟...". وسيجيبهم: "كلما فعلتم هذا بأحد إخوتي الصغار فبي فعلتموه" (متى 25: 37-40).

 

الحقيقة هي: أن علينا قبول أمر صعب على من هو فقط "متديّن"، إذ لم يأت المسيح كي يؤسس مجرد ديانة بديلة عن اليهودية أو مؤسّسة فقط. جاء ليقترح خارطة طريق جديدة لقيام حضارة مبنيّة على المحبة والعدل، فهو أوّل من فكّر بعولمة التضامن البشري بلا تفاوت أو تفرقة تبعا للجنس واللون والعرق والمذهب. البابا فرنسيس منذ قدومه في 2013 يكرّر هذا في كل مداخلة، لأنه بالضبط ما حدث في عهد قيصر، حين دفع المسيح حياته ثمنًا لإعلان ملكوت آخر، "عالم يختلف عن مملكة قيصر وأمثاله"، عالم الله، ليس حتى كما اعتقد كثيرون حتى من أتباع المسيح، بل عالم لا يكون على الجانب الآخر البعيد من الحياة، بعد الموت بل هنا، والآن يمكن تحقيقه. فأعطى يسوع المسيح النموذج الأوّل حين بذل جسده ودمه وحتى روحه الذي نفخه في تلاميذه وعلمهم أن يقولوا: "ليأتِ ملكوتك، كما في السماء كذلك على الأرض".

 

الإيمان إذن ليس في وجود الله بمثابة "فكرة" بل في كيفية فهمنا إياه ضمن الحياة والتعامل مع ما عندنا، هذا واضح منذ العهد القديم بشكل رائع في قصّة أيوب، الذي لم يكن منتميًا إلى اليهود أو إسرائيل، بل كان إيدوميًا (مملكة Edom في البتراء وخليج العقبة، حاليًا جنوب الأردن)، حاربوا شعب إسرائيل، لكن سفر أيوب عميق يشبه اهتداء أهل نينوى على يد يونان الذي لم يفهم شيئا عن حنان الله لنينوى! كان أيوب حائرا بأصدقائه "المتفلسفين" عبّاد التكرار الفكري الجاف، لكن أيوب لم يرضخ لضغطهم عليه، بل بقي مصرا على إيمانه الذي لم يفهموه، هو رفض أن يحمّل الله سبب المعاناة، برّأ الله، فسمّي "أيوب البار"!

 

خلال دراستي في فرنسا، كان في ديرنا أب دومنيكي معروف، برنار برو  Bro(1925-2018) واعظ الصوم الكبير في كنيسة نوتردام بباريس، حكى قصة لرجل كان غاضبًا من صمت الله أمام الظلم والشرور، دخل كنيسة فارغة، واقترب من المذبح وصرخ: "هناك الكثير من الخبث في العالم وأنتَ لا تفعل شيئًا حيال ذلك؟ ألا يهمّك كل هذا العنف والعوَز ومعاناة شعبك؟". قال الراوي: "في هذه المرّة كسر الله الصمت وقال: "طبعا يهمّني الأمر، ولهذا فعلتُ...". صاح الرجل بغضب: "ماذا تعني، ماذا فعلتَ؟". قال الله: "خَلقتُكَ أنتَ"!