موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الخميس، ٧ يناير / كانون الثاني ٢٠٢١
الإيمان: خبرة ماضٍ، التزام حاضِر وشهادة مستقبل
المطران يوسف توما، رئيس أساقفة كركوك والسليمانية للكلدان - العراق

المطران يوسف توما، رئيس أساقفة كركوك والسليمانية للكلدان - العراق

المطران يوسف توما :

 

في هذه الأيام، أيام أعياد الميلاد ورأس السنة الجديدة، نحتاج إلى مراجعات كثيرة لحياتنا، وهذا تمليه علينا السنة العجيبة المحيرة 2020 مع وباء كورونا، وما جرّته من متغيّرات سيكون لها شأن في السنوات المقبلة. الدول التجارية خصوصا، ترى كل شيء من منظار اقتصادي ومالي بحت، تقلق من الكساد وتراجع مواردها. والأرقام التي ترد إلينا من كل الجوانب تدوّخهم فيغرقون في التفاصيل. الأعجب من كورونا: يقولون إن 70% من "كماليات عيد الميلاد" مثلا، التي تباع في العالم مصنوعة في الصين، بل في مدينة واحدة تقع في وسط شرق الصين، هي ييفوو (Yiwu) متخصصة في "الميلاديات" تسوّقها لأنحاء العالم. ونصف ما يصدَر يتم بوسائل النقل الجديد أي الإنترنت والأرقام هائلة، ألمانيا لوحدها في عام 2019 أنفقت في أعياد الميلاد 543.7 مليار يورو، وهذا لن يتراجع في الأعوام المقبلة بل سيزداد بنسبة 16%.

 

في أيام الميلاد هذه ومع انتقالنا إلى سنة جديدة، لا ينبغي البقاء على إيمان حنين وذكريات الطفولة، ولا نتعزَى بأمور كالتجارة والطعام الزائد والفولكلور الذي غزا العالم من باب حضارة التسلية وهي مجرد تعويض، ففي كل ذلك تحدث مبالغات بحيث طالت البيئة، لنأخذ مثلا: حتى أشجار الصنوبر التي في جورجيا في منطقة القفقاس لم تسلم من هذه "الإبادة البيئية"، في حين لا يربح العمال الجيورجيون الذين يعرضون حياتهم للخطر بتسلق أعالي الأشجار، هؤلاء لا يربحون سوى الفتات بحيث تباع الشجرة في أوربا 40 ضعف سعر شرائها من البلد الأصلي.

 

أين عيد ميلاد يسوع المسيح من كل هذا؟ المؤمن يطرح السؤال، ألم يفرغ هذا العيد من رمزيّته المسيحية، من يستفيد من هذا الخيال المفرَغ من معانيه الإيمانية والروحية غير التجار؟ لكن المسألة أبعد من ذلك عندما يتعوّد الجميع أن هناك أشخاصًا يذهبون إلى الكنيسة كتقليد لكن عادي أن يتصرّفوا عكس قيم الإنجيل: تعامل الرؤساء مع المرؤوسين بعدم الاحترام، عدم دفع مستحقات العمال، والتمييز ضد الآخرين بطرق عرقية أو جنسية ... الخ.

 

إنه زمن كورونا، ومراجعة للذات بخصوص ما تسلمنا من الماضي، ما أكثر الذين يتحدثون عن الله، بل يُقسِمون باسمه تعالى على كل شاردة وواردة، لكن قلوبهم ممتلئة غضبًا وحسدًا وغطرسة ولا مبالاة بحقوق الفقراء، متجاهلين وبعيدين في مواقفهم بشكل خطير مما يتطلب التضامن. نحن محاطون أيضًا بدائرة أناس يقولون إنهم ابتعدوا عن الإيمان أو إنهم "لا إدريين" agnostics، أو لا أبالين، هؤلاء من خلال مواقفهم، يمارسون كل ما ينتقده الإنجيل ممّا يرتكب ضد القيم السامية، لا يبالون بمحبّة القريب، ولا بالعدل للمستبعَدين والمستضعَفين، ولا بالتضامن مع المحتاجين أو المشاركة في الخيرات التي منحنا إياها الرب...

 

التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، يعرّف الإيمان أنه "فضيلة إلهية، حيث يسلم الإنسان أمره كله لله"، "لذلك يسعى المؤمن إلى معرفة إرادة الله وإلى فعلها، والإيمان الحي يعمل بالمحبة" (فقرة 1814). إي إنه التزام شخصي بين الله والإنسان.

 

لكن ما قد حدثت لدى الكثيرين هو فصل بين كلمات الإيمان والحياة الواقعية. وقد أظهر استطلاع في فرنسا سعى لكشف الفرق بين رجل أعمال غير متديّن ورجل أعمال متديّن، معظم الذين تم استفتاؤهم أشاروا إلى جزيئة واحدة فقط قالوا: المتدين يذهب إلى القداس بين الحين والآخر فقط. وإلا فهما لا يختلفان عن بعضهما في أمور أخرى... هذا يكشف تحجيما وتضييقا للإيمان ويختلف عمّا أراده يسوع المسيح.

 

من لديه إيمان إذن بحسب يسوع المسيح؟ الجواب ليس سهلا. في إنجيل متى، يقول يسوع إن الذي قابله وكان الأكثر إيمانا هو غريب، مسؤول روماني، قائد مئة (متى 8: 10). والحال، كيف يمكن ليسوع أن يمتدح إيمان مسؤول وثني بين شعب متدين بقوة؟ تُظهر هذه الحادثة أن الإيمان، بالنسبة إلى يسوع، لا يقوم أساسًا على ما يعتقد المرء أو يتصوّر عن الله، ولكن كل شيء كامن في توجّهه وسلوكه، ذلك الوثني كان إنسانا حساسًا ومتضامنًا يهتمّ ويتألم من معاناة خادمه!

 

يتكرّر موقف يسوع مع حالة المرأة الكنعانية، كانت وثنية هي أيضًا. طلبت من يسوع أن يعالج ابنتَها. وعندما نظر إليها يسوع قال: "يا امرأة، عظيم إيمانُك" (متى 15: 28). عظيم، ليس لأنها تتصوّر الله، لكن بسبب عملها المحبّ تجاه ابنتها. هذا عينه حدث مع الأبرص السامري الذي شُفي مع تسعة يهود آخرين (لوقا 17: 11-19). اليهود، بحسب معتقداتهم "الدينية" عليهم أن يعرضوا أنفسهم على الكهنة كما اقترح يسوع عليهم. لكن السامري لا يستطيع أن يتبع تلك التعليمات اليهودية (كونه خارج الجماعة)، هو وحده عاد ليشكر يسوع الذي امتدح إيمانه وقال: "إيمانُك خلصك" (لوقا 17: 19). بالنسبة ليسوع إذن، الإيمان، وليس مجموعة المعتقدات، مرتبط بأسلوب حياة وطريقة تصرف. لذلك يشكك يسوع أحيانًا كثيرة بإيمان أقرب الناس إليه (مرقس 4: 40). بل اعتبر تلاميذه ورسله "قليلي الإيمان" (متى 8: 26). والأقوى، عندما قال مؤكدا بشكل مقلق بأن العشارين والبغايا ستكون لهم أسبقية في ملكوت الله، وليس "للمثاليين" في تصوّرهم لأنفسهم (متى 21: 31).

 

تظهر هذه المواقف بوضوح من هم الذين يعرّفهم يسوع أنهم مؤمنين. لم يكونوا أولئك الذين قبلوا بالدين أو بشّروا به، بل كانوا أولئك الذين تصرّفوا بمحبّة وتضامن وعدل، مثل السامري الحنون الطيّب (لوقا 10: 29-37). فلئن يكون لديك إيمان، قبل كل شيء، هو أن تعيش وفقًا للقيم التي عاش يسوع المسيح نفسه بحسبها. من هذا المنظور يمكن أن نفهم ونحلل الأزمة التي في عالم اليوم، وفي الكنائس عمومًا. السلطات فيها قد تلقي باللوم على التيارات العلمانية والنسبوية relativism وأتباع مذهب المتعة hedonism. لكن إذا ما عدنا إلى روح الإنجيل سنرى: أن مسؤولية جميع السلطات الدينية، أيا كانت أن تنزل في الإيمان حتى اللبّ، فالدين بمثابة ثمرة فيها قشرة وفيها بذرة تحمل طاقة الخصوبة للمستقبل، ما يغلفها من الظاهر كالحقائق المعلنة التي تبلورت على شكل معتقدات تناقلتها الناس وحفظتها وكرّرتها وردّدتها كالمحفوظات أو كأجوبة جاهزة وأحيانا مثل الشعارات الحزبيّة المملة أيام زمان، لكن إن لم يتمّ التعبير عن الإيمان في قلب تساؤلات الحياة اليومية، ولم تجرِ نحو محاسبة الذات في ضوء التساؤل الحياتي كل يوم، عندئذ سيفقد الملح ملوحته، وإن حدث ذلك يتساءل يسوع ويحيّرنا كعادته فيقول: "فإذا فسد الملح بماذا نملح الملح"!؟ (متى 5: 13).