موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأحد، ٢٦ يونيو / حزيران ٢٠٢٢
عظة البطريرك بييرباتيستا بيتسابالا: الأحد الثالث عشر من الزمن العادي، السنة ج 2022

بطريرك القدس للاتين :

 

(لوقا ٩: ٥١– ٦٢)

 

إنّ المقطع الإنجيلي الّذي نستمع إليه هذا الأحد هو بداية الجزء الثاني من إنجيل لوقا، ويتميز بالرحلة الّتي يقوم بها يسوع أثناء صعوده من الجليل إلى أورشليم.

 

كما سبق وقلنا، يقدم لوقا حياة يسوع –ومن ثم حياة التلميذ– على أنها رحلة: ليست رحلة منظورة، ولا حتى انتقالا بسيطا من مكان إلى آخر، بقدر كونها رحلة حج داخلي، للوصول إلى مكان الإتمام، حيث تُبذَل الحياة وتُهدر، إيمانا بالذي لا يترك أبناءه في قبضة الموت.

 

 إنّ الحياة هي عبارة عن رحلة هدفها الأوّل بلوغ أورشليم، والوصول والارتقاء إلى الآب كهدف نهائي (٩: ٥١): منه أتينا وإليه نعود.

 

في المقطع الذي نتأمل فيه اليوم، تبدأ الرحلة باتجاه أورشليم: وليس من قبيل الصدفة أن تتكرر عبارة “المسيرة” ٤ مرات.

 

هناك كلمة أخرى مهمّة، تتكرر عدة مرات، ولكنها تفقد بعضا من معناها في الترجمة من اليونانية: يسوع يقسّي وجهه (آية ٥١)، يرسل رسلًا أمام وجهه (آية ٥٢)، ويرفضه السامريون لأنه كان مُتوجّهاً نحو أورشليم.

 

وبالتالي، يمكننا القول إن الكلمة الرئيسية في هذه المسيرة وبطلها هو الوجه.

 

إنه وجه الرب الذي ينطلق في مسيرة: في بعض الآيات السابقة، ظهر هذا الوجه على جبل التجلي، ظهر متجلّياً، وأصبح وجهاً “آخر“. وأكثر من ذلك، سيكون وجهاً “آخر” في نهاية المسيرة، حيث سيتشوه بفعل الآلام، وسيشرق مرة أخرى في صباح الفصح.

 

لكن لا يتم اعتبار أية رحلة أمرا مفروغا منه: يجب على الإنسان أن يقرر الانطلاق، وهذا هو بالضبط ما يفعله يسوع اليوم.

 

لقد أتمّ العديد من الآيات والمعجزات، لكنه لم يبق هناك، ولا يتوقف، ولا يكتفي بشفاء شخص ما، أو بإعلان بشرى محبة الآب السارة لشخص ما.

 

في بداية حياته العلنية (لوقا ٤: ١٦ وتابع)، في مجمع الناصرة، كان يسوع قد بدأ خدمته بكلمة تعلن الحرّية للجميع؛ ومن ثم بدأ المسيرة (لوقا ٤، ٣٠). الآن يسير يسوع في العمق، مُتحملاً مسؤولية البقاء في رحلة ستقوده إلى الموت، لأنه يعلم أنه بهذه الطريقة فقط سيكشف عن وجه الأب بالتمام.

 

هذا هو سبب تحويل وجهته (حرفيا = تحويل اتجاه وجهه)، متحلّيا بصلابة لا تتراجع، وقد عقد العزم على المضي قدماً حتى آخر الطريق، استكمالا للمسيرة، وإتماما للساعة. إنها قوة الحب. هي ليست قوة عنيفة، بل ناعمة ولا تُقهر.

 

في المقطع الإنجيلي، هناك صلابة أخرى مختلفة تمامًا عن تلك التي نقرأها على وجه يسوع: إنها صلابة التلميذين يعقوب ويوحنا. أمام لغز الشر وأمام الرفض والعداء من طرف السامريين الذين رفضوا استقبال يسوع وتلاميذه، قررا الرد بعنف. الإشارة هنا إلى النبي إيليا (٢ ملوك ١: ١٠– ١٥)، الذي يُنزل النار على جميع أعداء الرب، ظانّاً أنه يدافع عنه، وظانًاً أنّهً يستطيع حلّ مشكلة عبادة الأوثان بالقضاء على عبّاد الأوثان.

 

ولكن هذه الصلابة لا تخلّص. ليست هي صلابة الوجه، بل صلابة القلب، صلابة القلوب المتحجرة، التي يتحدث عنها الأنبياء (انظر حزقيال ٣٦: ٢٦): والرب يخلّصنا عن طريق استبدال قلب الحجر بقلب من لحم. وهذا يعني تبديل القلوب، في مواجهة سر الشر، كي تمارس الرحمة، وتحمل مسؤولية مصير الآخرين.

 

إنّ صلابة التلاميذ تستثني، تدمّر، تقتل، تُقصي وترفض…

 

بينما صلابة يسوع تشمل الجميع، تغفر، تُرحب، وتتولى المسؤولية …

 

في الواقع، ستنزل النار فعلاً على السامريين، لكنها ستكون نار الروح (أعمال الرسل ٨: ١٧–١٨). بالفعل سينطلق يوحنا بالتحديد، يرافقه بطرس، في مسيرة من أورشليم إلى السامرة. ذهبا لوضع الأيدي واستنزال نار الروح القدس على السامريين بعد أن قبلوا كلمة الله.

 

إن رحلتنا، رحلة التلميذ، هي رحلة يجب أن تقودنا إلى معرفة هذا الوجه الصالح. هو ليس وجه إله نتخيله ، إله مترفع، قوي وعنيف …، ولكنه وجه الربّ وهو في طريقه إلى أورشليم.

 

للقيام بهذه المسيرة، هناك حاجة إلى عملية قطع: وهذا هو ما يطلبه يسوع من الأشخاص الثلاثة الذين يلتقي بهم على الطريق.

 

هناك ثلاث حالات أو ثلاثة مواقف مختلفة. في بعض الحالات، يسوع هو الذي يدعو، وفي حالات أخرى، هم الذين يعرضون أنفسهم.

 

لكن ما يوحّد هذه الشخصيات الثلاثة هو أن كلّ فرد منهم، إذا أراد أن يتبع الرب، يجب أن يقفز قفزة.

 

يجب أن يخلق فراغًا، حيّزاً، ويجب أن يتخلّى عن قلبه الحجريّ كي يتقبّل قلبا من لحم.

 

هذا يعني الدخول في منطق مختلف، لا نرضى بموجبه أن نضع موضع الصدارة لا أنفسنا ولا التزاماتنا، ولا شيئا مما يمنحنا الأمن والقوة والمجد، ولا شيئا يمكننا التشبث به لاحتواء الحياة بين أيدينا بشكل أناني.

 

يجب ترك الوجه المزيف الذي نظنه عن الله، والالتقاء بوجه يسوع.

 

هكذا تبدأ المسيرة.

 

وإلا فإننا نتبع الرب، لكن قلبنا لا يتغير، ولا يتحوّل منطقنا، الذي يظل دنيويًا.

 

قد يكون لدينا الكثير من النوايا الحسنة، ولكن مسيرتنا لا توصلنا إلى أورشليم، إن لم نعد إلى الآب، إن لم نتحوّل إلى وجه يسوع، إلى الوجه الذي قسا عليه الألم بفعل رقة الحب.