موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ١٦ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢١
رسالة المطران جورج ابو خازن لميلاد 2021: ميلاد لكنيسة متجدّدة
المطران جورج ابو خازن، النائب الرسولي للاتين في سورية

المطران جورج ابو خازن، النائب الرسولي للاتين في سورية

أبونا :

 

يطلّ ميلاد هذه السنة علينا مع حدثٍ تتحضّر له الكنيسة الكاثوليكيّة: التحضير لسينودس الكنيسة الكاثوليكيّة الجامعة. إنّه لحضور جديدٍ للكنيسة في عالم اليوم. ومع عيد الميلاد في هذه السنة، لا يسعنا سوى أن نصلّي كي يلهم الروح القدس كنيسته لتدرك دورها في العالم، ورسالتها التي يريد الربّ أن تؤدّيها، ونصلّي أيضًا لتتحلّى بشجاعة التغيير.

 

إنّ المواضيع المقترحة للدراسة تشير إلى الرغبة بنموذج جديد للكنيسة. بالحقيقة، هذا النموذج ليس جديدًا. إنّه نموذج الكنائس الأولى في المسيحيّة.كنيسة مجمعيّة يشارك فيها العلمانيّون الكاثوليك الكهنة والأساقفة في المسؤوليّة المشتركة للرسالة المستقبليّة. لن يكون الأمر سهلًا، لكنّني أثق بروح الله الذي يقود كنيسته ويذلّل من أمامها الصعوبات.

 

الأمر ليس سهلًا، تمامًا كما أنّ العيش اليوميّ في هذا البلد الحبيب سورية ليس سهلًا في الظروف الاقتصاديّة الصعبة التي نعيشها، والتي تزداد صعوبة يومًا بعد يوم. لكنّ رجائي ينبع من عشرات، بل مئات، بل أقول آلاف العلمانيّين الّذين لم يقفوا مكتوفيّ الأيدي، ولم يعتبروا أنّ مسؤوليّة تنشيط دور كنائسهم الاجتماعيّ والروحيّ يقع على عاتق كهنتهم أو أساقفتهم، بل شمّروا عن سواعدهم وعمِلوا، في أيّام الحرب، وفي الأزمة الاقتصاديّة الخانقة التي نمرّ بها، كي يخفّفوا عن غيرهم ألمهم، ويعيدوا البسمة إلى وجوه الناس.

 

لقد أدرك هؤلاء أنّ الظروف الصعبة لا تبرّر أن ينكفئ الإنسان على نفسه، وينسى واجبه تجاه غيره. أظنّ أنّ مَن اختاروا الانكفاء على ذواتهم اختبروا كيف أنّ تقوقعهم جلب لهم الحزن والكآبة؟ لذلك أريد في رسالتي الميلاديّة هذه أن أدعو الجميع للصلاة والتفكير في مشروع السينودس الذي أطلقه البابا فرنسيس، وعدم تبنّي موقف اللامبالاة بحجّة صعوبات الحياة التي  يمرّ بها كلّ واحدٍ منّا.

 

يقول البابا فرنسيس، لم يعد بإمكان كنيسة اليوم أن تبقى "محتميةً وراء متاريس أفكارها"، وأن تستكين إلى "النماذج الرعائيّة البالية"،إذا أرادت أن تجدّد نفسها، وتجد خريطة طريقٍ لحضورها وعملها في القرن الحادي والعشرين. لم يعد بإمكانها الاستمرار بعقليّة قرونٍ مضت؛ عقليّة قوامها التنافس حتّى التناحر، وإقصاء الآخر المختلف، والفوقيّة، والانغلاق، والفئويّة...

 

ففي عيد الميلاد نحتفل بقدوم المسيح، كلمة االله الذي أتى وسكن بيننا. أجل، أتى وسكن بيننا. إنّه لم يفتح بابه ويقول: "مَن أراد فليأتِ إلى هنا، أمّا أنا فلا أتحرّك من مكاني"، بل قام ونزل من السماء للقاء الآخر، للقاء البشر. وعلى مثاله، قامت العذراء مريم، بعد أن بشّرها الملاك جبرائيل بأنّها ستحبل وتلد ابنًا بدون زرع رجل، وذهبت إلى نسيبتها أليصابات في الجبال لتخدمها، لأنّ أليصابات حبلت بيوحنّا المعمدان وهي طاعنة في السنّ، وتحتاج إلى مَن يقف بجانبها.

 

على كنيسة اليوم أن تخرج من الأسوار، وتذهب للقاء الآخر، كما خرج الراعي ليفتّش عن غنمه. عليها أن "تتعلّم فنّ اللقاء بالآخر المختلف" كي لا يكون هذا اللقاء تحدّيًا بل أخويًّا؛ كي لا ينجم عنه نزاع بل تآلف قلوب. عليها أن تذهب للقاء الآخر بدون أحكامٍ مسبقة ولا تصوّرات لتلتقيه كما هو، وتعرفه على حقيقته، تمامًا كما فعل ملوك المجوس الّذين أتوا يبحثون عن الملك المولود الذي رأو نجمه يشعّ في المشرق. لقد توقّعوا أن يجدوه في القصور، وإلى القصور ذهبوا أوّلًا ليسألوا عنه فلم يجدوه. وإذ كانت رغبتهم بلقاء الاخر أقوى من تصوّراتهم، استطاعوا أن يجدوا الطفل الإلهيّ في مذودٍ متواضع، بين أشخاصٍ متواضعين.

 

لن يكون سينودس الكنيسة الكاثوليكيّة مجموعة دراساتٍ وتصريحات، بل هو سيكون بحثًا، بروح تمييزٍ حقيقيّ، عن مسارٍ تتناغم فيه أفعالنا مع روح الإنجيل، لا بشكلٍ نظريّ، بل بانخراطٍ في خضمّ متغيّرات عالمنا المعاصر المتسارعة. يقول البابا: "فلنسعَ كي لا نصمّ قلوبنا، ولا نحتمي وراء متاريس أفكارنا". فقناعاتنا التي لا نعيد النظر فيها لنعمّقها ولننقّيها من شوائب الذاتيّة ورواسب التاريخ ستجعلنا منغلقين، ولن نشهد العالم الجديد الذي دشّنه المسيح يُخرج براعمه الواعدة بربيعٍ إنسانيٍّ جديد. علينا، كما يقول البابا، أن "نصغي إلى بعضنا بعضًا".

 

إنّ ميلاد هذه السنة، الذي نحتفل به في مسار السينودس، يذكّرنا بأنّ الله لا يأتي إلينا في استقرارنا بل في مسيرتنا: "الشعب السالك في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا". فلا نتركنّ الظروف تشلّنا وتُقعِدُنا، وتمنعنا من المسير ومن البحث. لقد قلتُ إنّني أعي، كما يعي كثيرون منكم، أنّ المسيرة إلى كنيسة سينودسيّة تواجه عقبات عدّة بما في ذلك اللامبالاة، والمقاومة، والمعارضة. فهل هذا يعني أن نستسلم؟ هل هذا مبرّر لعدم السعي نحو المزيد ونحو الأفضل؟ هل هذا يعني أن نكون مثل الشابّ الغنيّ، نكتفي بحفظ الوصايا؟

 

كلّ تجديدٍ صعب. لأنّه يتطلّب تخلٍّ عن استقرار وراحة. ولكنّ عدم التجديد يعني الموت.

 

الشجرة التي لا تجدّد أوراقها تموت. مفهومنا للرسالة يجب أن يتجدّد، موقفنا من الآخر المختلف يجب أن يتجدّد، "نماذجنا الرعائيّة صارت بالية من الداخل ومن الخارج"، كما يقول البابا، يجب أن تتجدّد. علينا أن نجرؤ على إغلاق نشاطاتٍ وإبداع أخرى. ولكن، قبل هذا كلّه، علينا "أن نسأل عمّا يريد الله أن يقوله لنا".

 

التجديد فعل إيمان. فالإيمان، كما يقول البابا، "لا يمكنه أن يكون تجارةً أو عمليّةً آليّة: إذا فعلتُ كذا يعطيني الله كذا. الإيمان هو أن نقول لله«نعم» بدون «ولكن»". إنّه إيمان مريم العذراء التي قالت نعم بدون تردّد.

 

إخوتي وأخواتي، في هذا العيد المبارك، أسأل الله أن يعصف روحه، روح التجديد، في قلوبكم، فيجعلكم في الشدّة صابرين، وفي الإيمان راسخين، وفي الرجاء ثابتين، وفي المحبّة يقظين منتبهين، تصلّون وتفكّرون مع الكنيسة في سينودسها لاكتشاف الطريق الذي يجعلنا نساعد سكّان سورية كلّها على السير فيه ليتمجّد بنا وبهم اسم الله الأعظم. وكل عام وأنتم بخير.