موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٣١ مارس / آذار ٢٠٢١
رسالة المطران جورج أبوخازن، النائب الرسولي للاتين في سورية، لمناسبة عيد الفصح 2021
في الأزمات، يدعو الله المؤمنين به إلى الذكرى
المطران أبوخازن مترئسًا قداس تبريك الزيوت في كنيسة اللاتين بمدينة حلب، 30 آذار 2021

المطران أبوخازن مترئسًا قداس تبريك الزيوت في كنيسة اللاتين بمدينة حلب، 30 آذار 2021

المطران جورج ابو خازن :

 

بقلبٍ يعصره الحزن أكتب إليكم رسالتي الفصحيّة هذه. إنّي أعرف الألم الذي تعانونه. فبعد ويلات الحرب، وأزمات جائحة الكورونا، سقطنا اليوم بين براثن العوَز والجوع الذي يزداد قسوةً يومًا بعد يوم، ولا أمل يلوح في الأفق.

 

لقد صارت الحياة لا تُطاق. أعرف ذلك! كثيرون منكم يعملون ولا يكاد ما يكسبونه يكفيهم ليعيشوا أسبوعًا واحدًا بكرامة. فسورية تعاني أزمات اقتصاديّة حادّة، والموادّ الأساسيّة للعيش نادرة. إنّكم في ضيق شديد، وحزن، ويأس، ولا تتحمّلون أيّ خطابٍ يدعوكم إلى الثبات والصبر والتحمّل. فأيّ كلمةٍ يمكنني أن أوجّهها إليكم في عيد القيامة، عيد انتصار الخير على الشرّ، وأنتم ترون في كلّ يومٍ الخير يُهزَم والشرّ يحمل راية الظفر؟

 

في الأزمات، يدعو الله المؤمنين به إلى الذكرى. إنّها كلمةٌ مفتاح في الكتاب المقدَّس والحياة المسيحيّة. حين كان الشعب يمرّ في ضيق، يرسل الله نبيًّا ليقول للشعب: «تذكّر». وفي القدّاس نكرّر قول يسوع: «اصنعوا هذا لذِكري».

 

الذكرى في الكتاب المقدّس ليست استرجاعًا لماضي. فحضاراتنا الساميّة تختلف عن الحضارات الهنديّة-الأوروبّيّة. المستقبل في حضاراتنا هو وراءنا. لأنّنا لا نراه؛ والماضي أمامنا لأنّنا نراه. وحين يقول يسوع تذكّروا، يعني انظروا إلى هذا الماضي الذي أمامكم. فإذا كنتم في ضيق، حدّقوا في كلّ ما هو إيجابيّ فيه لتمتلئوا رجاءً، ولا تحدّقوا في ما هو سلبيّ فتمتلؤوا كآبةً. «سِراجُ جَسَدِكَ هُو عَينُكَ. فإِذا كانَت عَينُكَ سَليمة، كانَ جَسدُكَ كُلُّه نَيِّرًا. وأَمَّا إِذا كانَت مَريضة، فجَسَدُكَ كُلُّه يَكونُ مُظلِمًا» (لوقا 11: 34).

 

ما الذي علينا أن نتذكَّره ونحدّق فيه؟ أوّلاً نتذكّر قصص المِحَن التي مرّ بها الأجداد والشهداء المسييحيّون. كانت مِحَنُهم أقسى ممّا نعانيه، والرسالة إلى العبرانيّين تصفهم بهذه الكلمات: «رُجِموا ونُشِروا وماتوا قَتْلاً بِالسَّيف وهاموا على وُجوهِهِم، لِباسُهُم جُلُودُ الغَنَم وشَعْرُ المَعِز. مَحْرومينَ مُضايَقينَ مَظْلومين» (عبرانيّين 11: 37)، ومع ذلك ثبتوا في الرجاء.

 

نتذكّر ثانيًا تاريخ الله معنا في حياتنا الشخصيّة. هذا يعني أن أتذكّر المِحَن التي عشتُها وساندتني النعمة الإلهيّة لأتخطّاها. أتذكّر كيف أنّ المحنة تضع على عينيّ حاجب الرؤية الذي نضعه للحصان كي لا يرى إلاّ من زاويةٍ معيّنة، وكيف أنّ نعمة الربّ تزيل عنّي حاجب الرؤية هذا لأرى أوسع وأعمق. بحاجب الرؤية لا أرى الشرّ إلاّ في عجزي عن الحصول على الطعام، مع أنّ الربّ يقول لي: «ليسَ بِالخُبزِ وَحدَه يَحيْا الإِنْسان بل بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخرُجُ مِن فَمِ الله» (متّى 4: 4).

 

بحاجب الرؤية أختزل حياتي في حاجاتي المادّيّة، ولا أرى كرامتي المهدورة؛ أحصر معنى وجودي في بقائي على قيد الحياة، ولا أرى معنى التضحية. أحدِّد علامة حضور الله معي في الخيرات الدنيويّة، ولا أراه في القوى الروحيّة. بحاجب الرؤية لا أرى الله يسعى جاهدًا لكي أتعزّى، وأنهض، وأواجه كلّ التحدّيات التي تعترضني غير آبهٍ لكلفة هذه المواجهة.

 

أتذكّر ثالثًا معنى انتصار القيامة الذي نحتفل به في هذه الأزمنة من السنة. كان لتلاميذ يسوع حاجب رؤية، لا يرون في المسيح المنتظَر إلاّ قائدًا عسكريًّا سيشنّ حروبًا، ويدحر الأعداء، وينتصر، ويعيد المُلك. مسيحًا يستعمل أدوات الشرّ من عنفٍ، وقتلٍ، وقمعٍ للحرّيّات، وضغطٍ مادّيٍّ ومعنويّ ليجبر الآخر على الرضوخ والاستسلام.

 

كان هذا هو المسيح الذي ينتظره تلميذَي عمّاوس حين تركا أورشليم خائبّيّ الأمل. كانا في يأس، لأنّ «أَعيُنَهُما حُجِبَت عن مَعرِفَتِه» (لوقا 24: 16). كان حاجب الرؤية على عيونهما، لذلك قالا في خيبة الأمل هذه: «كُنَّا نَحنُ نَرجو أَنَّه هو الَّذي سيَفتَدي إِسرائيل» (لوقا 24: 21). وبعد أن شرح لهما المسيح القائم من بين الأموات الكتب، أزال حاجب الرؤية عن عيونهما، فعرفاه. وانقلب حزنهما فرحًا، وكآبتهما ابتهاجًا، ويأسهما رجاءً. ظروفهما لم تتغيّر. ما تغيّر هو موقفهما من الظروف. فالمسيح القائم من بين الأموات يقول لنا: «لا تخافوا. أنا معكم في السرّاء والضرّاء حتّى نهاية العالم» (راجع متّى 28: 20).

 

إخوتي وأخواتي. هذا ما أرجوه للجميع في زمن القيامة. أن ننال من القائم من بين الأموات تعزيةً داخليّة تخرجنا من قوقعة الألم والمعاناة التي نحن فيها. لقد سيطر اليأس على تلميذَي عمّاوس، فتركا الجماعة في أورشليم ورحلا. وحين غيّرت قيامة المسيح قلبَيهما، عادا إلى الجماعة.

 

لقد تحدّثتُ في رسالتي لعيد الميلاد الماضي عن المؤازرة. واليوم، أعيد وأكرّر، نحنا بحاجةٍ إلى أن نكون معًا أكثر من أيّ وقتٍ مضى. فلا نتركنّ المجاعة التي نحن فيها تعزلنا في ظلمة بؤسنا، ولا ندعنّ الظروف القاسية تضع حاجب الرؤية على عيوننا. فالمسيح قام. وبعد قيامته عانت الجماعة المسيحيّة شتّى أنواع الاضطهاد، ولكن هيهات أن تنال من قلوبهم. وكما يقول القدّيس غريغوريوس النيصيّ:«إنّ حياتنا هي سلسلة من البدايات الّتي تُعطى لنا من عند الرب». فلنستقبل هبة الله، ولنستقبل نعمة القيامة، فهي بداية تُعطى لنا، ولنتركها تقلب حزننا فرحًا، ولنصرخ مع القدّيس بولس:

 

«إِذا كانَ اللّهُ معَنا، فمَن يَكونُ علَينا؟ إِنَّ الَّذي لم يَضَنَّ بابْنِه نَفسِه، بل أَسلَمَه إِلى المَوتِ مِن أَجْلِنا جَميعًا، كَيفَ لا يَهَبُ لَنا معَه كُلَّ شَيء؟ [...]فمَن يَفصِلُنا عن مَحبَّةِ المسيح؟ أَشِدَّةٌ أَم ضِيقٌ أَمِ اضْطِهادٌ أَم جُوعٌ أَم عُرْيٌ أَم خَطَرٌ أَم سَيْف؟ [...]وإِنِّي واثِقٌ بِأَنَّه لا مَوتٌ ولا حَياة، ولا مَلائِكَةٌ ولا أَصحابُ رِئاسة، ولا حاضِرٌ ولا مُستَقبَل، ولا قُوَّاتٌ، ولا عُلُوٌّ ولا عُمْق، ولا خَليقَةٌ أُخْرى، بِوُسعِها أَن تَفصِلَنا عن مَحبَّةِ اللهِ الَّتي في المَسيحِ يَسوعَ رَبِّنا» (8: 31-39).

 

كلّي رجاء بأن تسمحوا لنعمة قيامة المسيح بأن تغيّر قلوبَكم، فتعتمدو عليها في ضيقكم، وأن تثقوا في إيمانٍ راسخٍ بأنّ الله معنا في محنتنا، وتتمسّكوا بالرجاء الذي من الله لا الأمل الذي يمنحه سلاطين هذا العالم، لأنّ الرجاء بالله لا يخيّب صاحبه (رومة 5: 5)، وأن نجتمع جماعةً لتتضافر جهودنا في مساندة بعضنا بعضًا، وفي السعي للخروج من هذا الوضع الكارثيّ، فنرفع لله آيات الشكر والحمد، ونعلن بملئ أفواهنا: المسيح قام، ونحن شهود على ذلك.

 

المسيح قام... حقًّا قام.