موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ٤ مارس / آذار ٢٠٢٥
رسالة الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا للصوم الأربعيني 2025

بطريرك القدس للاتين :

 

أحبّائي، في هذه السّنةِ اليوبيليةِ، نبدأُ مسيرةَ الصومِ بالإصغاءِ مجدّدًا إلى البشارةِ التي، على لسانِ الرسولِ بولس، تملأُ الرجاء هذا الزمنَ المقدّسَ وكلَّ الأزمنة: "ذٰلِكَ بِأَنَّ اللهَ كانَ في المَسيحِ مُصالِحًا لِلعالَمِ وغَيْرَ مُحاسِبٍ لَهُمْ على زَلَّاتِهِم، وَمُستَوْدِعًا إِيَّانَا كَلِمَةَ المُصالَحَةِ" (٢ قُورِنتس ٥: ١٩، القراءةُ الثانيةُ من قداسِ أربعاءِ الرمادِ).

 

اسمحوا لي أن أشاركَكم بعضَ التأمّلاتِ.

 

1. صليب المسيح

 

هذا هو قلب الفصح، ومنه يولد ويتشكّلُ رجاءُ الكنيسةِ والعالمِ: الكلماتُ العنيفةُ والمليئةُ بالحقدِ والكراهيةِ، والخطاباتُ المتعجرفةُ والتي تقودُ إلى الصراعِ والتذمّرِ، لا يمكنها أن تمنعَ اللهَ من أن ينطقَ في المسيحِ بكلمةِ المصالحةِ: "سلامٌ عليك أيُّها الصليبِ، رجاؤنا الوحيد!".

 

إنَّ الصومَ، على اعتبارهِ سرًّا من أسرارِ المصالحةِ، يمنحُنا فرصةً جديدةً، وهبةً متجدّدةً من الروحِ الذي يقودُنا مع المسيحِ إلى البريةِ، لكي نُصغي مجدّدًا إلى كلمةِ النعمةِ والمغفرةِ. فالفصحُ، الذي سنحتفلُ بهِ بعد أربعينَ يومًا، ليس مجردَ ذكرى لحدثٍ ماضٍ، بل هو تذكارٌ حيٌّ وفعليٌّ لنعمةِ اللهِ، التي تصالحنا معهُ في صليبِ المسيحِ وتجعلُ منا خليقةً جديدةً.

 

بنعمةِ اللهِ، نرى في صليبِ المسيحِ انقلابًا لمقاييسِ البشرِ: من الانتقامِ إلى المغفرةِ. إنه التحوّلُ الفصحيّ من الموتِ إلى الحياةِ، وهو تجاوزٌ إنجيليٌّ للإدانةِ بالمغفرةِ "وَمِن أَجْلِهِم جَميعًا ماتَ، كَيلا يَحْيا الأَحياءُ مِن بَعدُ لِأَنْفُسِهِم، بل لِلَّذي ماتَ وقامَ مِن أَجْلِهِم (...) فإِذا كانَ أَحَدٌ في المسيحِ، فإِنَّهُ خَلْقٌ جَديدٌ. قد زالتِ الأَشياءُ القَديمةُ وها قد جاءَتْ أَشياءٌ جَديدةٌ". (٢ قُورِنتس ٥: ١٥، ١٧).

 

نحن في حاجةٍ إلى هذه الكلمةِ الجديدةِ، كلمةِ الصليبِ، التي قد تبدو حماقةً في نظرِ عظماءِ وحكماءِ هذا العالمِ، لكن وحدها، بقلبِها لمقاييسِ العالمِ، قادرةٌ على إعادةِ فتحِ طرقِ الرجاءِ والسلامِ. إنَّ طريقَ الصليبِ، دربَ الآلامِ، هو دعوةٌ لتعلّمِ منطقِ العطاءِ والمغفرةِ الجديدين، رغم ما يحملهُ من مشقّةٍ، ومن فرح. إنه يتطلبُ رجالًا ونساءً، شبابًا وشيوخًا، وعائلاتٍ وأطفالًا مستعدين للانطلاقِ في هذا الطريقِ بتجديدِ أفكارهم ومواقفهم. ومن خلالِ هذا التغييرِ الداخليّ فقط، يمكننا أن نأملَ في مستقبلٍ يعمّهُ السلامُ.

 

لذلك، أتمنى أن نجدَ جميعًا، أفرادًا وجماعاتٍ، في هذه الأيامِ المقدّسةِ، الوقتَ والمساحةَ لنتأمّلَ في صليبِ المسيحِ، عبر إعادةِ قراءةٍ وتأمّلٍ نصوصِ الآلامِ، والمشاركةِ التقويةِ في رياضةِ دربِ الصليبِ، وزيارةِ - لمن تسنح لهم الفرصة - الأماكنِ المقدّسةِ التي مرّ بها الربُّ حتى الجلجلةِ والقبرِ المقدسِ: ليضئ المصلوبُ أمامَ أعينِنا بنورٍ جديدٍ، هو الذي حملَ خطايانا، "ذاكَ الَّذي لم يَعرِفِ الخَطيئَةَ جَعَلَهُ اللهُ خَطيئَةً مِن أَجْلِنا كَيما نَصيرَ فيهِ بِرَّ اللهِ" (٢ قُورِنتس ٥: ٢١).

 

 

2. سرّ المصالحة

 

"وهٰذا كُلُّه مِنَ اللهِ الَّذي صالَحَنا بِالمسيحِ وأَعْطانا خِدمَةَ المُصالَحَةِ" (٢ قُورِنتس ٥: ١٨)

 

لتصبحَ المصالحةُ فعّالةً، لا بدَّ أن تتحوّلَ إلى خدمةٍ، أي أن تصبحَ التزامًا وعملًا حقيقيًا من الأفرادِ والجماعاتِ. فالنعمةُ ليست أمرًا سحريًا، بل تتطلبُ أن تُستقبَلَ، ويُشهد لها، وتُعاشَ، وتُشاركَ. لذلك، لنشعرْ جميعًا بأننا معنيون ومسؤولون معًا، رعاةً وعلمانيين، رهبانًا وراهباتٍ، في حملِ كلمةِ المصالحةِ وخدمتها إلى العالم: "فنَحنُ سُفَراءُ في سَبيلِ المَسيحِ، وكَأَنَّ اللهَ يَعِظُ بِأَلسِنَتِنا. فنَسأَلُكُم بِٱسمِ المسيحِ أَن تَدَعوا اللهَ يُصالِحُكُم" (٢ قُورِنتس ٥: ٢٠).

 

إنَّ نعمةَ المصالحةِ بحاجةٍ إلى كلمتنا وخدمتنا وشهادتنا، التي تصبحُ علامةً وأداةً للمصالحةِ. قد لا يكونُ من الضروري أن أكرّرَ ما تردّدتُ في قولهِ مرارًا خلال الأشهرِ الصعبةِ التي عشناها، ولكننا لا يمكننا أن نغضَّ الطرفَ عن تلك الرغبةِ، بل الصرخةِ التي تنبعُ من قلوبِ الكثيرينَ ومن أوضاعٍ جُرِحَتْ وأُهِينَتْ وتألمتْ جراء العنفِ والشرِّ الذي طالَنا جميعًا. إلى جانبِ الدمارِ الذي لحقَ بالأرضِ، هناك جراحٌ عميقةٌ أصابتِ القلوبَ والعلاقاتِ والأشخاصَ، تتطلبُ منا جهدًا كبيرًا لإعادةِ بنائها.

 

نحن المسيحيينَ، المفتخرين بصليبِ المسيحِ وقد تصالحنا مع اللهِ، مدعوون إلى أن نتصالحَ فيما بيننا، لكي ننشرَ ونشجّعَ ثقافةَ المصالحةِ من خلال كلماتنا، وأفعالنا، وأسلوبِ حياتنا.

 

وفي هذا السياقِ، أودُّ أن أدعوَ الجميعَ، رعاةً ومؤمنين، إلى احتفالٍ حقيقيٍ، مفعمٍ بالإيمانِ، ومتكرّرٍ بسرّ التوبةِ، حيث تصبحُ خبرةُ نعمةِ المغفرةِ حيّةً وملموسةً، وقادرةً على إلهامِ الحياةِ وإضاءةِ مسيرتنا.

 

إنَّ الاعترافَ بخطايانا، وبالشرِّ الذي نستسلمُ لهُ والذي يبعدُنا عن طريقِ الربِّ، وقبول نعمةِ السرِّ الذي يحرّرُنا من العداوةِ ويحوّلُنا من أعداءٍ إلى أصدقاءٍ، ومن خطأةٍ إلى أبرارٍ، وإن اكتشافَ المغفرة وحقيقة أننا مقبولون ومحبوبون، سيساهمُ في تحضيرنا لقبولِ الآخرِ، ومحبةِ الجميعِ، بل وحتى المغفرةِ لأعدائنا.

 

 

3. الصوم والصلاة والصدقة

 

"فَإِنَّنَا لا نَجْعَلُ لِأَحَدٍ سَبَبَ زَلَّةٍ، لِئَلَّا يَنَالَ خِدْمَتَنا لَوْمٌ، بَل نُوَصِّي بِأَنفُسِنا فِي كُلِّ شَيْءٍ عَلَى أَنَّنَا خَدَمُ اللهِ بِثَباتِنا العَظِيمِ فِي الشَّدَائِدِ وَالمَضَايِقِ وَالمَشَقَّاتِ وَالجَلْدِ وَالسِّجْنِ وَالفِتَنِ وَالتَّعَبِ وَالسَّهَرِ وَالصَّوْمِ، بِالعَفَافِ وَالمَعْرِفَةِ وَالصَّبْرِ وَاللُّطْفِ، بِالرُّوحِ القُدُسِ وَالمَحَبَّةِ بِلا رِيَاءٍ وَكَلمَةِ الحَقِّ وَقُدْرَةِ اللهِ، بِسِلاحِ البِرِّ، سِلاحِ الهُجُومِ وَسِلاحِ الدِّفَاعِ" (٢ قُورِنْتس ٧: ٣-٧).

 

إنَّ السَّلاَمَ، وهو العطيةُ الفصحيةُ التي قدّمها القائمُ من بين الأمواتِ لتلاميذه وللعالمِ، ينبعُ من جراحِه المجيدةِ، ومن حياتِه التي بذلها حبًّا بنا حتى النِّهايةِ. لذلك، لا يجوز أن نخافَ من  دَفْعِ الثمن" عبر تقديمِ ذواتِنا من أجل قيامةِ جماعاتِنا وعلاقاتِنا وروابطِنا، المصالَحةِ والأخوةِ، وسط عالمٍ مَلأَهُ الموتُ والحقدُ. إن إعادةَ بناءٍ وفتحِ المساحاتِ، الداخليةِ والخارجيةِ، حيث يمكنُ لصوتِ اللهِ ولتطلعاتِ إخوتِنا وأخواتِنا أن تُسمَعَ مجدّدًا، قد يتطلّبُ - وأحيانًا يتطلّبُ بالفعل - التخلي عن بعضِ ما نملكه، بل حتى عن بعضِ حقوقِنا. سوف نصبحُ أشخاصًا يعيشون المصالحةَ والسلامَ بقدر استعدادِنا ليس فقط للتخلي، بل للعطاء، حتى لما هو حقٌّ لنا، ليصبحَ الحبُّ والمغفرةُ أسلوبَ حياتنا وتجسيدًا حقيقيًا لقيمنا.

 

لذلك، أدعو الجميعَ إلى ممارسةِ التضحيةِ التي تتحوّلُ إلى عطاءٍ، عبر العودةِ بقناعةٍ وحزمٍ إلى الصومِ، مصحوبًا بلحظاتٍ من الصلاةِ العائليةِ، ومدعومًا بعنايةٍ خاصةٍ تجاه الفقراءِ في مجتمعنا. إنَّ الامتناعَ عن الطعامِ وكلِّ ما يُثقِلُ الذهنَ والقلبَ، وخلقَ بيئةٍ روحيةٍ مليئةٍ بالصلاةِ، والاهتمامِ بالمحتاجين، كلُّها ركائزُ أساسيةٍ لعلاقتِنا مع اللهِ ومع إخوتِنا. وهي أيضًا الشرطُ الجوهريُّ لكي تزدهرَ من جديدٍ روحُ العطاءِ والمشاركةِ. وحين نحتفلُ بسرورٍ بالإفخارستيا الفصحيةِ بعد أربعينَ يومًا، سنشعرُ بطعمِ الحبِّ الذي ينتصرُ على الموتِ.

 

أحبّائي، لا يذهب سَدًى هذا الزمنَ الذي يمنحنا إياه اللهُ برحمته. إنها ليست مجرّدَ "فترةِ صومٍ أخرى"، بل يمكنُ أن تصبحَ "صومًا جديدًا ومختلفًا"! يمكنُ لهذا الزمنِ المقدّسِ أن يكونَ حقًا يوبيلًا، أي وقتَ تعزيةٍ ومصالحةٍ لأرضنا. نعم، إنَّ تجربةَ اليأسِ قويةٌ أمام هشاشةِ التوازناتِ الاجتماعيةِ والسياسيةِ، وأحيانًا حتى الكنسيةِ، كما أمام صعوبةِ تخيّلِ المستقبلِ. لكننا نريدُ أن نتحلّى بالشجاعةِ لنعيشَ الرجاءَ ثمرةَ الإيمانِ.

 

بعد مرور ١٧٠٠ عامٍ على مجمعِ نيقيةِ، نؤكّدُ بقوةٍ أن يسوعَ هو حقًّا الابنُ الأزليُّ للهِ، الذي صارَ إنسانًا من أجلنا، وأنه بموتهِ وقيامتهِ زرعَ في تاريخِ البشريةِ بذرةً خالدةً للحياةِ والخلاصِ. وفي الصراعِ بين الموتِ والحياةِ، انتصرَ ربُّ الحياةِ، وحبّه الظافرُ يسودُ. لذلك، نريدُ أن نُجاهد معهُ "الجهادَ الحسنَ" في الإيمانِ، واثقينَ بأن شهادتَنا المسيحيةَ وخدمتَنا للمصالحةِ ستثمرُ ثمارًا مباركةً!

 

صومٌ مباركٌ!