موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الإثنين، ٢٩ يوليو / تموز ٢٠٢٤
رجاء كمقدار حبة الخردل

رافي سايغ - القامشلي :

 

وقال: بِماذا نُشَبِّهُ مَلَكوتَ الله، أَو بِأَيِّ مَثَلٍ نُمَثِّلُه؟ إِنَّه مِثلُ حَبَّةِ خَردَل: فهِيَ، حينَ تُزرَعُ في الأَرض، أَصغَرُ سائرِ البُزورِ الَّتي في الأَرض. فإِذا زُرِعَت، اِرتَفَعَت وصارَت أَكبَرَ البُقولِ كُلِّها، وأَرسَلَت أَغْصانًا كَبيرة، حتَّى إِنَّ طُيورَ السَّماءِ تَستَطيعُ أَن تُعَشِّشَ في ظِلِّها.

 

رجاء ما بعده رجاء، رجاء لا ينتهي فكيف نجد ونفهم هذا الرجاء؟

 

حبة الخردل الصغيرة!

 

كثيرا ما تقرأ على مسامعنا نصوص من الإنجيل عن حبة الخردل، ولو لنا إيمان كمقدار حبة الخردل لفعلنا المستحيل؟

 

ولكن نص إنجيل اليوم (مرقس) هو فريد من نوعه، ويمنحنا مفهوماً آخر عن معنى وقيمة حياتنا المسيحية على الأرض.

 

استخدم المسيح مثل بزرة الخردل ليقول لنا، وبعد مرور كل هذه السنوات على انطلاق رسالة المحبة أن بدايات المسيحية لم تكن سهلة، ووسط الصعوبات والتحديات الكبيرة كانت المسيحية تكبر وتنمو لتصبح مجتمعاً من المؤمنين؛ ومن ثم رسالة تشمل الأرض كلها. ومن هنا يكبر إيماننا الثابت بمشروع الله لنا وهو بناء ملكوت يشمل العالم كله ونحن خميرة هذا الملكوت على الأرض، وذلك من خلال المحبة التي نبنيها على الأرض في كل مكان نوجد فيه.

 

نولد في مجتمعات، ونشعر تارة أننا مهمشون غير مرغوب بنا مضطهدين، ويصل الأمر لبعض الأحيان إلى حد الشهادة في بلدان عديدة من أجل معتقدنا.

 

وهذا الشعور أو الخوف قد ينبع من ضعف إيماننا وعدم عيشينا لحقيقة رسالتنا كمسيحيين وخوفنا من أن نفقد حياتنا ولكن!

 

"أصغر سائر البذور التي في الأرض." كم ينطبق هذا المقطع على ما نشعر به في ظروفنا الراهنة، كأننا لا نملك أي قيمة في هذه الحروب والصعوبات، ولكن لقصة حبة الخردل بقية.

 

"فإِذا زُرِعَت، اِرتَفَعَت وصارَت أَكبَرَ البُقولِ كُلِّها وأَرسَلَت أَغْصانًا كَبيرة." كم علينا أن نثق بالزارع، لأنه هو من زرعنا في هذه الأرض لنكون رسله وعلامة نوره في وسط دائرة الحروب هذه وبذلك برسالتنا نعطي الآخرين معنى وجود وقيمة حياة الإنسان الحقيقة، فنحن نكبر ونرتفع برسالة المحبة التي تميزنا، ونصبح الأغصان الكثيرة التي تنمو وتنمو.

 

"حتَّى إِنَّ طُيورَ السَّماءِ تَستَطيعُ أَن تُعَشِّشَ في ظِلِّها" أن الإنسان المسيحي يخرج من فكرة الانعزال والتقوقع في مجتمعه. فالذي نعيشه اليوم يعطينا عمقاً جديداً لفكرة حياتنا المسيحية. حياتنا ليست فقط مقتصرة بداخل مجتمعنا الصغير (الرعية) بل تمتد وتكبر لتشمل المدينة والوطن وشركاءنا في هذا الوطن. فنحن نفخر بأننا في كل بقعة نقطنها تكون الحياة المتطورة والمتقدمة لنا ولمن نعيش معه، وهذا ليس بفضل لنا على الآخرين، بل واجب علينا. لأننا عندما نبني وننتج ونصنع ليس من أجل طوائفنا. بل إيمان مننا بأوطان نعتز ونفتخر بها، وأننا نبني مع شركائنا، لأن المحبة ورسالتنا تفرض علينا هذا الواقع. وبهذا الفكر الذي نعتمده يعيش الآخرين في ظل رسالة المحبة التي شملنا الوطن بها وبظل هذه الرسالة يعيش بقية الناس معنا نعمة التعايش والأخوة الإنسانية.

 

وبهذا الرجاء الكبير نقرأ اليوم إنجيل مرقس البشير، وهذا الرجاء ببساطة هو القدرة التي بها نتوق دائما لنعمل على هدفنا الحقيقي الذي من أجله تكون شهادتنا وهو تمجيد وخدمة الله وخدمة الآخر لنصل إلى سعادتنا الحقيقة، وهي تكون في أن نجد في الله امتلاءنا، فالرجاء المسيحي هو قريب من الواقع الإنساني وبالرجاء الذي نستمده من كلمات الإنجيل نستمد الطاقة للعيش بطريقة متجددة بالمحبة التي تبني وتكسر كل الحواجز والمخاوف، بالرجاء نسير بمسيرة حج ديناميكية فيها التجدد الدائم عنوان للأيام كلها التي نحيا فيها كمسيحين. يقول القديس أغوسطينوس "الرجاء هو الإيمان بمغامرة الحب، وبالثقة بالآخرين، والوثوب في المجهول، والاتكال كلياً على الله".

 

لذلك لا تقلق كثيراً من أجل معرفة متى سيُعطي البذار ثماره، ومتى سيكون أوان الحصاد. ارفع عينيك وسترى الحقول وقد ابيضّت للحصاد. وبدلاً من أن تدَع الضغوطات والإحباطات تشلُّ حركتكَ، أقطُف ثمر كلّ يوم. "أزهِر حيث تزرع!". ولتكن لديك الثقة التامة بحضور الله الخفيّ وملكوته. أعمل، هنا واليوم، بالإمكانيات كلها الّتي لديك. فالله شاء أن تكون حبة الخردل التي في بدايتها صغيرة، ولكن كتب لها أن تنمو وسط الحروب، وترتفع مع المخاوف، وتكون الظل الذي أسفله يرتاح بني البشر من شمس الحروب والأحقاد البغيضة.