موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٤ يوليو / تموز ٢٠٢٤
تأمل الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا:  الأحد الرابع عشر من الزمن العادي ب، 2024

بطريرك القدس للاتين :

 

تأملنا في إنجيل الأحد الماضي (مرقس 5: 21-43) حول حقيقة مهمة جدًا في إيماننا: في حين أوجد التدين البشري، بشرائعه وتعاليمه، التباعد والانقسامات، جلب يسوع، ما هو العكس، التقبل والتقارب.

 

لاحظنا في قصة المرأتين أن كلاً منهن لم تستطعن الاقتراب من الرب يسوع لأسباب مختلفة نظرًا للقوانين المتعلقة بالطهارة.

 

كانت المرأة المنزوفة تعتبر نجسة، وبالتالي لم يكن مسموحاً لمسها لأنها تنجّس كل من يلمسها.

 

وأيضاً، كان لمس جثة ميت، كجثة ابنة يائيرس، يتطلب الخضوع لطقوس تطهير متعددة.

 

سيطر هذا النظام المعقد من الانقسامات على العلاقة مع الله، وحدّد بوضوح الأفعال المسموح بها وغير المسموح بها. لكنه فشل في التغلب على معاناة أولئك الذين يعيشون في ظل ظروف "غير اعتيادية". إذ كان الحل الوحيد المطروح هو بإبعادهم عن المجتمع.

 

رفض يسوع أن يكون مقيدًا بطريقة العيش هذه في اختبار العلاقة مع الله والبشرية. فبالنسبة له، الفرد ومعاناته هما دائمًا محور كل شيء. فلا يُستبعد قط أحد من لقائه، ولا يُعتبر أحد غير مستحق لذلك. على العكس من ذلك، فإن أولئك الذين يتألمون هم بأمس الحاجة إليه: "لَيسَ الأصِحَّاءُ بِمُحتاجينَ إِلى طَبيب، بَلِ المَرْضى." (متى 9: 12). ولذلك، يتيح للآخرين المجال بلمسه، وبدوره يمد يده ليلمسهم (مرقس 5: 27، 41).

 

تمهد لنا هذه المقدمة الطويلة الطريق لقراءة إنجيل اليوم (مرقس 6: 1-6).

 

يعود يسوع مع تلاميذه إلى المدينة التي ترعرع فيها (مرقس 6: 1)، حيث يلتقي بأهل مدينته وعائلته. وهم الأقرب إليه، حيث كانوا على علاقة وثيقة معه أكثر من أي شخص آخر.

 

لكن أكثر من كانوا يعرفونه هم ذاتهم الذين لم يرحبوا به. إلى درجة أن يسوع لم يشفِ إلا عددًا قليلًا في وسطهم (مرقس 6: 5): إذ أصبح مكان الألفة الأعمق مكان الجفاء الأكبر.

 

لعل المفتاح لفهم هذه الظاهرة يكمن في كلمة "الإيمان". فقد وردت هذه الكلمة مرتين يوم الأحد الماضي (مرقس 5: 34، 36): إذ اختبر كلّ من المرأة المنزوفة ويائيرس الخلاص لأنهما آمنا.

 

ما كان ينقص الناس في مدينة يسوع هو الإيمان. ذُكرت هذه الكلمة مرة واحدة فقط، عند النهاية، ولكن في سياق سلبي حيث تعجب يسوع من قلة إيمانهم (مرقس 6: 6). وهكذا، فإن أولئك الذين كانوا الأقرب إليه هم أبعد ما يكونون عنه.

 

فيسوع كان مصدر شك بالنسبة لهم (مرقس 6: 3) لمجرد أنه لم يتأقلم مع تصوراتهم المسبقة، وأنماطهم المألوفة، وما كانوا يؤمنون به ويعتقدونه عن الله.

 

إنه سبب للشك لأنه كان من الصعب عليهم أن يستوعبوا الطابع الاستثنائي عن يسوع وما اعتادوا على عيشه ورؤيته.

 

فهم نشأوا على طريقة تفكير تفصل وتفرق وتستبعد.

 

وعلى عكس المرأة المنزوفة وابنة يائيرس، في حين يبدو أولئك الأشخاص أصحاء، إلا أنهم يغفلون عن مرضهم، وهذه هي مأساتهم.

 

إنهم يعانون من أخطر الأمراض، ألا وهو ضعف إيمانهم، الذي يقودهم إلى عزلة تامة، منغلقين داخل حدود تفكيرهم الضيقة.

 

أما الإيمان فهو العكس تمامًا: إنه يقودنا إلى الانفتاح لقبول ما لم يسبق له مثيل، ما يفوق إدراكنا، وهو ذات الأمر الذي يثبت حضور الله في وسطنا.

 

لذلك، يشكّل الإيمان دومًا مخاطرة، فهو يتطلب منا أن نعيد النظر في أنفسنا من خلال اللقاءات التي نختبرها، وأن نمتنع عن التمسك بأساليب العيش المعتادة.

 

إنه يمثل عبورًا مستمرًا إلى الشاطئ المقابل (مرقس 5: 1، 21): إذا بقينا دائمًا في نفس الجانب، فلن تنمو علاقتنا مع الرب أبدًا.