موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٢٨ يونيو / حزيران ٢٠٢٤
تأمل الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا:  الأحد الثالث عشر من الزمن العادي ب، 2024
مرقس 5: 21-43

بطريرك القدس للاتين :

 

تكمن الرسالة الأساسية لفهم مقطع إنجيل اليوم (مرقس 5: 21-43) في الآية 33 التي تتحدث عن المرأة المنزوفة. إذ بعد أن نالت الشفاء من يسوع بخفية، تُدعى إلى إظهار نفسها (مرقس 5: 30). فتستجيب، لكنها تفعل ذلك بخوف (مرقس 5: 33).

 

هاتان ليستا صفتين عشوائيتين. إذ وردا في الرسالة إلى العبرانيين (12: 18)، وتحديدًا في الفصل الذي يتحدث فيه الكاتب عن العهدين: العهد الذي قطعه الله في سيناء (سفر الخروج 19) والعهد الذي تجدد في فصح يسوع.

 

يتوجه كاتب الرسالة إلى قرّائه، موضحًا أن الشعب لم يشهد قط حدثًا هائلًا كتجلّي الله على جبل سيناء. ففي تلك اللحظة، كان المشهد مرعبًا جدًا لدرجة أن موسى قال: "أَنا مَرْعوبٌ مُرتَعِد." (العبرانيين 12: 21).

 

فموسى، كالمرأة المنزوفة، ارتجف في رهبة أمام التجلّي الإلهي في سيناء. إذ كان كلّ منهما خائفًا ومرتعدًا أمام يسوع.

 

ولكن لماذا امتلأ موسى بالخوف؟ من المؤكد أن التجلّي الإلهي كان مرعبًا، مع البرق والرعد والزلازل والنار. ولكنه لم يكن السبب الوحيد. فقد كان من الحتمي أن تُحدَّد مسافة وفصل واضح بين الشعب وحضور الله. وكان من غير المسموح الإقتراب منه. فكل من يقترب من جبل التجلي أو يدنس المكان المقدس "يُقتَلُ قَتْلاً" (سفر الخروج 19: 12)! وفي وقت لاحق، حتى في الهيكل، أُقيم فصل تام بين قدّس الأقداس والشعب، ولم يكن بإمكان سوى عدد قليل من الناس الوصول إليه وفي أوقات محددة.

 

إذًا، نجد أنفسنا أمام طريقتين مختلفتين للنظر إلى الله: ففي حالة موسى، الاقتراب من الله مباشرةً ممنوع، بينما في حالة المرأة المنزوفة، العكس صحيح – فأولئك الذين يلمسون الله ينالون الحياة. لا يأتي الموت لمن يلمسونه بل لمن لا يلمسونه. فقد تمحور كامل رجاء المرأة، عند سماعها عن يسوع، حول احتمال لمسه: "إِن لَمَسْتُ ولَو ثِيابَه بَرِئْتُ." (مرقس 5: 28).

 

ترتجف المرأة من الخوف، لأنها تحمل في أعماقها فكرة عن الله شائعة لدى الكثيرين: إله يجب أن ينتزع الخلاص منه، إله يوحي بالخوف. ولكن يسوع يدعوها إلى التقدم إلى الأمام، ليس لتعزيز هذه الصورة، بل لتغييرها. يفعل ذلك بكلمات تشفي القلب: "يا ٱبنَتي، إِيمانُكِ خَلَّصَكِ، فَٱذهَبي بِسَلام" (مرقس 5: 34).

 

لأول مرة يذكر في إنجيل مرقس أن يسوع يدعو شخصًا ما بصفة " الابنة". هذه المرأة، التي تجرأت على لمس الله، عمانوئيل، قد وجدت هويتها وحقيقتها بالكامل كابنة للآب.

 

يمكن لهذه الابنة الآن أن تذهب بسلام، لأن عهد الخوف قد انتهى وبزغ عهد الثقة والمحبة. فلم يعد محظورًا لمس يسوع الذي هو حضور الله الدائم بيننا، أو السماح للذات بأن تُمسّ به أو أن تلتقي به. لقد زال الحاجز الفاصل بين المُقدَّس والمقدِّس.

 

في بداية مقطع اليوم، نرى أن أحد رؤساء المجمع، لا يستطيع أن يفعل شيئا لابنته المريضة، فيأتي إلى يسوع. يمضي نحو يسوع، إلا أن المرأة المنزوفة تعيق وصوله، وفور وصوله إلى بيت يائيرس، كان قد فات الأوان بالفعل، فقد فارقت الطفلة الحياة (مرقس 5: 35).

 

في تلك اللحظة بالذات، عندما يبدو وكأن الأمل قد فُقد، يتشدد رجاء اللقاء بين الله والإنسان.

 

كانت الفتاة في الثانية عشرة من عمرها، وهو السن التقليدي للزواج. أخرج يسوع الجميع من الغرفة باستثناء الأب والأم والذين كانوا معه ودخل إلى حيث كانت الفتاة.

 

تغيرت هذه الغرفة التي تشهد موت الابنة إلى قاعة عرس. أخذ يسوع بيدها (مرقس 5: 41)، كما يأخذ العريس عروسه، فأعطى الوالدان العروس أمام الشهود.

 

وهكذا اكتمل العرس.

 

تفتح الكلمة اليوم الباب أمامنا لزمن جديد نتخلى فيه عن الشعور بعدم الاستحقاق وعن جميع مخاوفنا، وعن كل فكرة لا إرادية تقودنا إلى الاعتقاد بأن علينا أن نكسب الخلاص بجهدنا، لنؤمن بأن المسيح هو طريق علاقتنا مع الله دون مقابل. ولا يتطلب منا سوى أن نفتح قلوبنا له، وأن نسلم له كل رغبة في الخلاص والحياة.