موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ١٤ يونيو / حزيران ٢٠٢٤
تأمل الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا: الأحد الحادي عشر من الزمن العادي ب، 2024

بطريرك القدس للاتين :

 

انتهى مقطع إنجيل الأحد الماضي بنظرة يسوع إلى من حوله (مرقس 3: 34). تتجاوز نظرته مجرد المظاهر، فيرى يسوع أولئك الذين يصغون إليه كإخوة وأخوات وأمهات.

 

إنه ينظر إلى الأفراد ويدرك النسيج المتشابك لعلاقاتهم، ويميز الرابطة العميقة التي توحدهم.

 

تمثل هذه الرابطة الثمرة الناضجة للإيمان. فالإيمان لا يقتصر على مجرد قبول الحقائق الموحى بها فحسب، بل يستلزم بناء علاقة قادرة على صقل كيان الإنسان لتشكل هوية جديدة لا تنفصل عن العلاقة مع الرب والآخرين.

 

يتضمن إنجيل اليوم (مرقس 4: 26-34) مثلين، كلاهما مستمد من الوسط الزراعي، حيث يتحدث الرب من خلالهما عن الملكوت، أي العلاقة التي تحدثنا عنها سابقًا. إذ يجسّد ملكوت السماوات رباط المحبة الذي يجمع الأفراد في الحياة الأبدية.

 

تخبرنا أمثال اليوم كيف يحدث هذا، وما هي الخطوات اللازمة لكي تنضج البذرة وتُثمر.

 

أول ما يبرز هو أن المبادرة تنبع دائمًا من الله (مرقس 4: 27).

 

يتردد صدى هذه الحقيقة على مرّ تاريخ الخلاص، فالله هو الذي يبادر دومًا إلى قطع عهد مع البشرية. لا يمكن للبشرية وحدها أن تتصور هذا العهد، هذه العلاقة العميقة من المحبة. وبالتالي، فإن الله هو الذي يتعهد بزرع نسيج التاريخ ببذور العهد والمحبة.

 

إن بداية الملكوت تتسم ببذرة ليست من صنعنا، وإنما تُمنح للأرض بنعمة مطلقة.

 

فالإنسان بكل قوته لا يأتي بالثمر، بل الله هو الذي يأخذ زمام المبادرة في غرس بذرة حياته في الأرض.

 

لذا، فإن البذرة ليست من الله فحسب، بل إنها تجسد جوهره أيضًا.

 

اختار الله أن يجعل حياته بذرة مغروسة في الأرض حتى تزدهر وتُثمر. فهي ليست مجرد ثمرة الحياة البشرية، بل هي ثمرة الحياة الإلهية.

 

إن البذرة التي تزرع في باطن الأرض فتنبت الحياة ليست سوى يسوع بموته وقيامته.

 

لذا، فإن البذرة القادرة على وهب الحياة للعالم هي الفصح: إنه أرض الخلاص حيث تنغرس حياة الله في الخليقة.

 

للبذرة بعض السمات المميزة: فهي صغيرة جدًا (مرقس 4: 32)، وبالتالي تبدو وكأنها غير ذي شأن ولا تتمتع بالقوة. وهذا هو الطريق الذي اختاره الله، لأنه عندما يختار أن يغرس حياته في البذرة، فإن المسيرة لن تتسم أبدًا بالقوة أو الشهرة. سيكون درب الملكوت دائمًا درب التواضع، لأن المحبة لن تتجلى إلا بهذه الطريقة.

 

ولكن ما الذي يمد البذرة بهذه القوة؟

 

على الرغم من صغر حجمها إلا أنها تنبض بالحياة، وهنا تكمن قوتها.

 

إنها حية وقد اجتازت الموت، وبموتها في الأرض ستخرج ثمرًا.

 

فمن جهة توجد البذرة، ومن جهة أخرى التربة (مرقس 4: 31)، فكما أن التربة وحدها لن تعطي ثمر، هكذا أيضًا تعتمد البذرة على التربة، كما هو الحال في علاقة الله والإنسان.

 

ولكن، ما هو دور التربة؟

 

يتمثل واجب التربة، أي بالأحرى واجب الإنسان، في قبول البذرة ورعايتها.

 

قد تبدو هذه مهمة ثانوية، لكنها ليست كذلك: إن القبول مهمة نشطة وديناميكية، لأنها تنطوي بطريقة ما على إتاحة الفرصة لتغيير حياة المرء.

 

أن نعتز بالآخرين هو أن نسمح لهم بالسكن في ذواتنا، وهو انعكاس عميق للحب: فقط من خلال محبة البذرة يمكن أن تزهر في أعماقنا.

 

وأخيرًا، هناك الثمرة الناضجة (مرقس 4: 28): والتي هي كسنابل القمح التي تحوي بذورًا أخرى. إن الثمرة الناضجة تمثّل الأفراد الذين يجسدون جوهر الله في حياهم، ويكونون بمثابة بذرة حياته وفصحه، والتي تصبح هبة للآخرين.

 

وفي المثل الثاني، تُشبَّه الثمرة الناضجة بشجرة قادرة على استقبال حياة الآخرين ورعايتها (مرقس 4: 32).

 

لذلك فإن ثقة الله بالبشرية لا تتزعزع. وعندما ينظر إلينا يرى ثمرة المحبة الناضجة والروابط الأقوى من روابط الدم التي تجعلنا إخوة وأخوات وأمهات.