موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ١٠ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٤
المسيحيُّون في غزَّة: وحدةُ المصيرِ من البشارةِ إلى التحدِّياتِ الحديثةِ

بقلم: سند ساحلية :

 

تعودُ جذورُ المسيحيَّةِ في غزَّةَ، كما هو الحالُ في فلسطينَ عامَّةً، إلى عصورِها الأولى، حيثُ انطلقتِ البشارةُ المسيحيَّةُ من مهدِها في فلسطينَ إلى جميعِ الأممِ. يُعتقَدُ أنَّ المسيحيَّةَ وصلتْ إلى غزَّةَ في القرنِ الأوَّلِ الميلاديِّ، وكانتْ واحدةً من المدنِ التي زارَها الرسلُ الأوائلُ.

 

في الفترةِ البيزنطيَّةِ، أصبحتْ غزَّةُ مركزًا هامًّا للمسيحيَّةِ، حيثُ بُنيتْ العديدُ من الكنائسِ والأديرةِ. كان لها دورٌ فريدٌ وأهميَّةٌ خاصَّةٌ في تطوُّرِ الإيمانِ وتاريخِ الحركة الرهبانيَّةِ المسيحيَّةِ. في القرنِ الرابعِ الميلاديِّ، كان القدِّيسُ هيلاريون الكبيرُ من أوائلِ الرهبانِ الذين أسَّسوا حياةَ الرهبنةِ في غزَّةَ وفلسطينَ. تأثَّرَ هيلاريون بالقدِّيسِ أنطونيوس الكبيرِ، الذي يُعتبَرُ مؤسِّسَ الرهبانيَّةِ المسيحيَّةِ في مصرَ، وبدأَ حياةَ الزهدِ والتقشُّفِ في غزَّةَ، ممَّا ساهمَ في نشرِ الرهبانيَّةِ في المنطقةِ.

 

تأسَّستْ أوَّلُ كنيسةٍ في غزَّةَ حوالي عامِ 250 ميلاديٍّ، وشهدتْ نموًّا وتوسُّعًا كبيرًا في القرنِ الرابعِ بفضلِ القدِّيسِ برفيريوس. ولا تزالُ الكنيسةُ التي تحملُ اسمَهُ اليومَ، كنيسةُ القدِّيسِ برفيريوس للرومِ الأرثوذكسِ، تحتفظُ بقبرِه.

 

تعرَّضتِ الكنيسةُ للقصفِ من قبلِ سلاحِ الجوِّ الإسرائيليِّ في 19 تشرينَ الأوَّلِ/أكتوبر 2023 خلالَ معركةِ طوفانِ الأقصى. كان مجمَّعُ الكنيسةِ يؤوي مئاتِ النازحينَ الفلسطينيِّينَ وقتَ الغارةِ الجويَّةِ، حيثُ أصبحَ ملجأً للعديدِ من السكَّانِ المسيحيِّينَ والمسلمينَ في غزَّةَ خلالَ الحربِ. وقد أدَّى القصفُ إلى استشهادِ 18 شخصًا من المسيحيِّينَ.

 

ومع دخولِ المسلمينَ إلى فلسطينَ في القرنِ السابعِ الميلاديِّ، استمرَّ المسيحيُّونَ في العيشِ في غزَّةَ، لكنْ أعدادُهم بدأتْ في التراجعِ، وعلى مرِّ العصورِ، شهدتْ غزَّةُ تغيُّراتٍ سياسيَّةً واجتماعيَّةً عديدةً أثَّرتْ على هذا الوجودِ.

 

في العصرِ الحديثِ، يواجهُ المسيحيُّونَ في فلسطينَ تحدِّياتٍ كبيرةً، بما في ذلكَ الصراعاتُ المستمرَّةُ والضغوطُ الاقتصاديَّةُ والاجتماعيَّةُ. بعدَ النكبةِ الفلسطينيَّةِ الأولى سنةَ 1948، ثمَّ الاحتلالِ الإسرائيليِّ للضفَّةِ الغربيَّةِ والقدسِ وغزَّةَ عامَ 1967، انخفضتْ أعدادُهم إلى ما دونَ الـ 35%.

 

اليومَ، تشيرُ التقديراتُ إلى أنَّ عددَ المسيحيِّينَ في الضفَّةِ الغربيَّةِ والقدسِ وغزَّةَ لا يتجاوزُ الـ 50 ألفًا، يتوزَّعونَ على القدسِ، وبيتِ لحمَ، وبيتِ جالا، وبيتِ ساحورَ، ورامَ اللهَ، وعلى بلداتٍ وقرىً مثلَ بيرزيتَ، والطيبةِ، وجفنا والزبابدةِ.

 

يبلغُ عددُ المسيحيِّينَ في قطاعِ غزَّةَ الآنَ نحوَ 600 شخصٍ، بعدَ أنْ كانوا حوالي 1200 قبلَ بدءِ حربِ الاحتلالِ الإسرائيليِّ المستمرَّةِ على غزَّةَ منذُ أكتوبر 2023. منذُ أنْ بدأَ الحصارُ الإسرائيليُّ على غزَّةَ في عامِ 2007، أُجبِرَ الكثيرُ منهم على الهجرةِ، حيثُ كان عددُهم قبلَ الحصارِ حوالي 3,000 شخصٍ. في منتصفِ ستينيَّاتِ القرنِ الماضي، كان عددُ المسيحيِّينَ في غزَّةَ يتراوحُ بين 6 و7 آلافِ شخصٍ.

 

على الرغمِ من كلِّ هذهِ التحدِّياتِ، لا تزالُ هناكَ جماعةٌ مسيحيَّةٌ صغيرةٌ ولكنَّها نشطةٌ تسعى جاهدًةً للحفاظِ على حضورِها وتراثِها وثقافتِها في غزَّةَ. تعملُ بجدٍّ للحفاظِ على خصوصيَّتِها ضمنَ الإطارِ الأوسعِ للثقافةِ والتراثِ الفلسطينيِّ الجامعِ. من خلالِ مشاركتِهم في الحياةِ اليوميَّةِ والمناسباتِ الثقافيَّةِ والدينيَّةِ، يساهمُ المسيحيُّونَ في غزَّةَ في الحفاظِ على التنوُّعِ الذي طالما تميَّزتْ بهِ فلسطينُ، مؤكِّدينَ على أهميَّةِ الوحدةِ والعيشِ المشتركِ والتناغمِ بينَ جميعِ مكوِّناتِ المجتمعِ الفلسطينيِّ.

 

وفي هذا السياقِ، لا بدَّ من الإشارةِ إلى الدورِ الحيويِّ الذي تلعبُهُ البطريركيَّةُ اللاتينيَّةُ في القدسِ في دعمِ صمودِ الجماعةِ المسيحيَّةِ في غزَّةَ خلالَ الحربِ. تقدِّمُ البطريركيَّةُ مساعداتٍ إنسانيَّةً وإغاثيَّةً لمواجهةِ الظروفِ الصعبةِ التي يمرُّ بها سكَّانُ غزَّةَ بشكلٍ عامٍّ، ممَّا يساهمُ في تعزيزِ الأملِ والسلامِ والكرامةِ الإنسانيَّةِ في المجتمعِ، ويزيدُ من قدرتِها على مواجهةِ التحدِّياتِ.

 

مع استمرارِ الحربِ الإسرائيليَّةِ على غزَّةَ التي ما زالتْ تخلِّفُ آثارًا مدمِّرةً على مختلفِ نواحي الحياةِ في القطاعِ، يعاني المسيحيُّونَ الفلسطينيُّونَ شأنَهم شأنَ باقي أبناءِ شعبِهم من تبعاتِ هذهِ الحربِ واحتلالِ إسرائيلَ لوطنِهم. ورغمَ خصوصيَّةِ هذا الحضورِ والوجودِ المسيحيِّ بسببِ تناقصِ أعدادِهم المستمرِّ حتى حدِّ الانقراضِ، إلا أنَّ مستقبلَهم هو مستقبلُ المشرقِ عامَّةً وفلسطينَ خاصَّةً، كما قالَ البطريركُ ميشيل صباح، البطريركُ السابقُ للاتينَ في القدسِ، في حديثٍ سابقٍ لـ "نبضِ الحياةِ".

 

يرى البطريركُ صباح أنَّ المسيحيِّينَ ليسوا مميَّزينَ عن غيرِهم، وأنَّ "الألمَ واحدٌ، ولا يوجدُ ألمٌ مسلمٌ وألمٌ مسيحيٌّ، ولا يوجدُ تضحيةٌ مسيحيَّةٌ وتضحيةٌ مسلمةٌ؛ يوجدُ تضحيةٌ فلسطينيَّةٌ مسيحيَّةٌ ومسلمةٌ… ومستقبلُنا هو مستقبلُ كلِّ فلسطينَ".

 

إنَّ الحربَ المستمرَّةَ والقصفَ العشوائيَّ يضعانِ السكَّانَ في حالةِ خوفٍ وتوتُّرٍ دائمٍ، ممَّا يجعلُهم يشعرونَ بعدمِ الأمانِ. وقد يكونُ المسيحيُّونَ مستهدفينَ بشكلٍ خاصٍّ أحيانًا بسببِ هويَّتِهم الدينيَّةِ، بالإضافةِ إلى سعي بعضِ الجهاتِ الصهيونيَّةِ والمتطرِّفةِ إلى تحويلِ الصراعِ الفلسطينيِّ الإسرائيليِّ إلى صراعٍ دينيٍّ.

 

مع تناقصِ أعدادِ المسيحيِّينَ، يصبحُ من الصعبِ الحفاظُ على الترابطِ المجتمعيِّ، ممَّا يزيدُ من عزلةِ الأفرادِ المتبقِّينَ. بالإضافةِ إلى ذلكَ، يشكِّلُ الحفاظُ على الهويَّةِ الثقافيَّةِ والدينيَّةِ تحدِّيًا كبيرًا في بيئةٍ غالبيَّةُ سكَّانِها من دينٍ آخرَ، حيثُ قد يواجهُ الأفرادُ ضغوطاتٍ لتغييرِ الدينِ أو تهميشِ التقاليدِ المسيحيَّةِ. كما أنَّ الوضعَ الاقتصاديَّ الصعبَ يجعلُ من العسيرِ على المسيحيِّينَ الوصولُ إلى مواردِهم الأساسيَّةِ، ممَّا يعمِّقُ من التخوُّفاتِ بشأنِ بقاءِ هذهِ الجماعةِ الصغيرةِ.

 

إنَّ الحفاظَ على الحضورِ والوجودِ المسيحيِّ في فلسطينَ والمشرقِ بشكلٍ عامٍّ يتطلَّبُ مواجهةَ التحدِّياتِ التي تفرضُها السياساتُ، وخاصَّةً الصهيونيَّةُ والمتطرِّفةُ. هذهِ السياساتُ تسعى إلى تغييرِ التركيبةِ السكَّانيَّةِ والثقافيَّةِ في المنطقةِ، ممَّا يهدِّدُ الوجودَ المسيحيَّ التاريخيَّ والأقليَّاتِ العدديَّةَ التي تشكِّلُ جزءًا من الفسيفساءِ الثقافيَّةِ للمنطقةِ.

 

من خلالِ تعزيزِ الدعمِ المحلِّيِّ والدوليِّ للجماعةِ المسيحيَّةِ، يمكنُ مواجهةُ هذهِ السياساتِ والحفاظُ على الهويَّةِ الثقافيَّةِ والدينيَّةِ للمسيحيِّينَ. بالإضافةِ إلى ذلكَ، تقويةُ الروابطِ مع المسيحيَّةِ حولَ العالمِ يمكنُ أن يعزِّزَ التضامنَ ويزيدَ الوعيَ العالميَّ حولَ التحدِّياتِ التي تواجهُها هذهِ الجماعةُ. بالتالي، فإنَّ هذهِ المواجهةَ تتطلَّبُ جهودًا مشتركةً للحفاظِ على التنوُّعِ الدينيِّ والثقافيِّ في المنطقةِ، وضمانَ بقاءِ المسيحيِّينَ كجزءٍ لا يتجزَّأُ من النسيجِ الاجتماعيِّ في فلسطينَ والمشرقِ.

 

أوَّلًا، يجبُ تعزيزُ الدعمِ المحلِّيِّ من خلالِ توفيرِ الدعمِ الاقتصاديِّ عبرَ المنظَّماتِ غيرِ الحكوميَّةِ والتبرُّعاتِ الدوليَّةِ، ممَّا يخفِّفُ من ضغوطِ الحياةِ اليوميَّةِ على المسيحيِّينَ.

 

ثانيًا، تقويةُ الروابطِ الدوليَّةِ عبرَ التواصلِ مع المسيحيِّينَ حولَ العالمِ للتضامنِ وتقديمِ المساعداتِ، ممَّا يعزِّزُ شعورَ المسيحيِّينَ بأنَّهم ليسوا وحيدينَ.

 

ثالثًا، دعمُ التعليمِ من خلالِ الاستثمارِ في توفيرِ فرصٍ جديدةٍ للشبابِ المسيحيِّينَ، ممَّا يساعدُ في بناءِ مستقبلٍ مستدامٍ لهم داخلَ غزَّةَ خاصة. يمكنُ أن يشملَ ذلكَ تقديمَ منحٍ دراسيَّةٍ وفرصٍ للتعليمِ العالي.

 

رابعًا، الحفاظُ على التراثِ عبرَ دعمِ الكنائسِ والمؤسَّساتِ الثقافيَّةِ والدينيَّةِ لضمانِ استمرارِ الممارساتِ الدينيَّةِ والثقافيَّةِ، بما في ذلكَ تنظيمُ فعاليَّاتٍ ثقافيَّةٍ ودينيَّةٍ لرفعِ مستوى الوعي والاعتزازِ بالهويَّةِ المسيحيَّةِ.

 

وأخيرًا، يجبُ تعزيزُ مبدأ الانفتاحِ وقبولِ الآخرِ الشريكِ في الوطنِ والتاريخِ والثقافةِ والمعاناةِ. يمكنُ تحقيقُ ذلكَ من خلالِ التناغمِ والحوارِ بينَ المجتمعاتِ المختلفةِ لبناءِ بيئةٍ أكثرَ تسامحًا وتفاهمًا، ممَّا يسهمُ في الحفاظِ على وجودِ الأقليَّاتِ العدديَّةِ، بما في ذلكَ المسيحيِّينَ.

 

وفيما يلي حصيلةُ الكلفةِ الإنسانيَّةِ التي تكبَّدَها المواطنونَ بعدَ عامٍ من الحربِ التي تشنُّها قوَّاتُ الاحتلالِ الإسرائيليِّ على غزَّةَ: حتى 6 أكتوبر 2024، بلغَ عددُ الشهداءِ في قطاعِ غزَّةَ أكثرَ من 41,870 شخصًا، فيما وصلَ عددُ الإصاباتِ إلى 97,166، معظمُهم من الأطفالِ والنساءِ. أشارَ رئيسُ لجنةِ التوثيقِ والمتابعةِ بالدفاعِ المدنيِّ في غزَّةَ إلى أنَّ أكثرَ من 500 أسرةٍ مُحيتْ تمامًا من السجلاتِ المدنيَّةِ بعدَ استشهادِ جميعِ أفرادِها. نزحَ 1.9 مليون شخصٍ عن ديارِهم، حيثُ نزحَ 90% من سكَّانِ غزَّةَ مرَّةً واحدةً على الأقلِّ، وبعضُهم نزحوا عشرَ مرَّاتٍ. كما أفادَ مكتبُ الأممِ المتَّحدةِ لتنسيقِ الشؤونِ الإنسانيَّةِ بأنَّ 84% من مساحةِ قطاعِ غزَّةَ خضعتْ لأوامرِ إخلاءٍ صادرةٍ عن جيشِ الاحتلالِ الإسرائيليِّ.

 

الوضعُ الإنسانيُّ في غزَّةَ أصبحَ كارثيًّا، حيثُ وصفَ المفوَّضُ العامُّ للأونروا القطاعَ بأنَّه "غيرُ صالحٍ للعيشِ"، مع انتشارِ الأمراضِ والجوعِ، وامتلاءِ الشوارعِ بالقمامةِ ومياهِ الصرفِ الصحيِّ. تضرَّرَ 66% من المباني في غزَّةَ، بما في ذلكَ 52,564 مبنى تمَّ تدميرُهُ بالكاملِ. يعاني القطاعُ الصحيُّ بشكلٍ كبيرٍ، حيثُ خرجتْ غالبيَّةُ المستشفياتِ عن الخدمةِ، وما تبقَّى يعملُ بقدراتٍ محدودةٍ. أوضحَ وكيلُ الأمينِ العامِّ للأممِ المتَّحدةِ للشؤونِ الإنسانيَّةِ أنَّ القصفَ الإسرائيليَّ حولَ غزَّةَ إلى "جحيمٍ على الأرضِ"، مع استمرارِ تدفُّقِ الأسلحةِ إلى إسرائيلَ. تقدِّرُ الأممُ المتَّحدةُ أنَّ إعادةَ إعمارِ غزَّةَ قد تتطلَّبُ عقودًا من الزمنِ وعشراتِ ملياراتِ الدولاراتِ، لاستعادةِ جميعِ وحداتِ الإسكانِ المدمَّرةِ.

 

ارتفعَ عددُ الشهداءِ من الصحفيِّينَ إلى 175 منذُ اندلاعِ الحربِ في 7 أكتوبر 2023. هذهِ الأرقامُ تعكسُ حجمَ المعاناةِ والدمارِ الذي يعاني منهُ سكَّانُ قطاعِ غزَّةَ.