موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
عقد بطريرك القدس للاتين الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا، وبطريرك القدس للروم الأرثوذكس ثيوفيلوس الثالث، اليوم الثلاثاء، مؤتمرًا صحفيًّا عقب عودتهما من زيارة تفقديّة وتضامنيّة إلى قطاع غزة، وذلك في أعقاب استهداف كنيسة العائلة المقدّسة.
وخلال المؤتمر الذي عُقد في مركز نوتردام بمدينة القدس، قال الكاردينال بيتسابالا أنّه عاد والبطريرك ثيوفيلوس من غزة "وقلوبنا مكسورة لما شهدناه هناك"، لكنهما وجدا "عزاءً كبيرًا في الشهادات المؤثّرة التي قدّمها لنا العديد ممن التقيناهم".
وأضاف الكاردينال بيتسابالا: "دخلنا أرضًا يكسوها الدمار، فوجدنا في عمق ركامها ملامح إنسانيّة نادرة. سرنا بين أنقاض الأبنية المتهدّمة، ووسط خيام انتشرت في الساحات والأزقة، وعلى الطرقات والشاطئ؛ خيام تحوّلت إلى مأوى لمن فقدوا كلّ شيء. وقفنا إلى جانب عائلات أنهكها المنفى الطويل، حتى غاب عنها الإحساس بالزمن، إذ لا تلوح في الأفق ملامح عودة. رأينا أطفالًا يتحدثون ويلعبون دون تردّد أو خوف، وقد صار دويّ القصف جزءًا من يومياتهم".
ورغم "قساوة هذا الواقع"، أكد غبطته أنّه لمس "ما هو أعمق من الدمار: كرامة الإنسان التي تأبى أن تنطفئ". وقال: "رأينا أمهات يُحضّرن الطعام للغير، وممرضات يضمدن الجراح بلطف، وأشخاصًا من ديانات مختلفة ما زالوا يرفعون الصلوات إلى الله الذي يرى ولا ينسى".
وشدّد على أنّ "المسيح لم يغادر غزة؛ هو حاضر فيها، مصلوب في أجساد الجرحى، مدفون تحت الركام، لكنه يسطع في كلّ عمل رحمة، وفي كلّ شمعة تُبدّد الظلام، وفي كلّ يد تُمدّ إلى من يتألّم". وأوضح بأنّ الزيارة لم تأتي "كسياسيين ولا كمبعوثين دبلوماسيين، بل كخدام للرب، كرعاة شعب الله"، مؤكدًا أنّ "الكنيسة، بكلّ مكوّناتها، لن تتخلى عنهم أبدًا".
وأكد أنّ رسالة الكنيسة "لا تستثني أحدًا"، وهي "موجّهة إلى الجميع دون تمييز".
وقال: "مستشفياتنا، وملاجئنا، ومدارسنا، ورعايانا، من كنيسة القديس برفيريوس إلى كنيسة العائلة المقدّسة، ومن مستشفى الأهلي العربي إلى خدمات الكاريتاس، هي أماكن مفتوحة للقاء والخدمة والمشاركة، تحتضن المسيحيين والمسلمين، المؤمنين والمشكّكين، اللاجئين والأطفال، وكلّ من أنهكته الحاجة".
وشدّد على أنّ "المعونات الإنسانيّة ليست خيارًا، بل ضرورة وجودية؛ إنّها الفارق بين الحياة والموت. إن تأخيرها لا يُعدّ مجرد تقاعس، بل بمثابة حكم بالموت على الأبرياء. فكل ساعة تمضي بلا طعام أو ماء أو دواء أو مأوى تُخلّف ألمًا عميقًا لا يمكن تجاهله".
وتابع: "شهدنا بأُمّ أعيننا رجالًا واقفين تحت الشمس لساعات طوال، فقط على أمل الحصول على وجبة تسدّ جوعهم"، لافتًا إلى أنّه "مشهد يحمل من الذلّ ما لا يُطاق، ومن الألم ما لا يُنسى. وهو وضع لا يُمكن تبريره أخلاقيًّا، ولا يُقبل إنسانيًّا".
وفي هذا السياق، ثمّن غبطته "الجهود الجبّارة التي يبذلها جميع العاملين في المجال الإنسانيّ، محليين ودوليين، مسيحيين ومسلمين، متدينين وعلمانيين، وأولئك الذين يُجازفون بكلّ شيء ليُعيدوا الحياة إلى هذه البقعة الغارقة في الدمار والبؤس".
وجدّد الكاردينال بيتسابالا نداءه "إلى قادة هذه المنطقة والعالم بأسره"، قائلاً: "لا يمكن بناء مستقبل على أساس الأسر، أو تهجير الفلسطينيين، أو الانتقام. لا بد من أن نسلك طريق يُعيد الحياة إلى موضعها، ويُرجع الكرامة إلى أصحابها، ويستعيد إنسانية فُقدت تحت وطأة العنف".
كما ضمّ صوته إلى صوت قداسة البابا لاون الرابع عشر، في صلاة التبشير الملائكي يوم الأحد الماضي، إذ قال: "أوجه إلى الجماعة الدولية نداءً من أجل ضمان القانون الإنساني وحماية المدنيين ومنع العقاب الجماعي واللجوء العشوائي إلى القوة والتهجير القسري للسكان".
وقال: "آن الأوان لوضع حدّ لهذا الجنون، وإنهاء آلة الحرب، وجعل الخير العام للإنسان فوق كلّ اعتبار".
وجدّد بطريرك القدس للاتين في كلمته خلال المؤتمر الصحفي، الصلاة والنداء "من أجل إطلاق سراح كلّ من حُرموا من حريتهم، ومن أجل عودة المفقودين والمحتجزين، ومن أجل شفاء العائلات الجريحة التي أنهكتها المعاناة، على جميع الجبهات".
وقال الكاردينال بيتسابالا: "حين تضع هذه الحرب أوزارها، سيكون أمامنا درب طويل وشاق، لبدء مسيرة الشفاء والمصالحة، بين الشعب الفلسطيني والشعب الإسرائيلي، من الجراح العميقة التي خلّفتها في حياة عدد لا يُحصى من الأبرياء".
وأوضح بأنّ هذه المصالحة "لا تقوم على النسيان، بل على الغفران؛ لا تهدف إلى طمس الجراح، بل إلى تحويل الألم إلى حكمة، والمعاناة إلى بصيرة"، مؤكدًا بأنّ "وحده هذا الطريق، بما فيه من صدق وألم وشجاعة، قادر أن يصنع سلامًا حقيقيًّا، لا سياسيًّا فحسب، بل إنسانيًا أيضًا".
وختم بالقول: "بصفتنا رعاة الكنيسة في الأرض المقدّسة، نُجدّد عهدنا بالتمسّك بالسلام القائم على العدالة، وبالكرامة التي لا تُشترط، وبمحبّة لا تعترف بحدود أو حواجز. فلنحرص على ألّا يتحوّل السلام إلى مجرّد شعار يتردّد، فيما الحرب تظلّ الخبز اليوميّ للمحرومين".