موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
أيها الإخوة والأخوات، ليكن سلام الرب معكم!
ها نحن نبلغ هذا العام أيضًا هذا المكان المقدّس، عند قبر المسيح الفارغ، لنحيي معًا ختام أسبوع الآلام، الذي يشكّل جوهر حياة الكنيسة وركيزة إيماننا. فهو يقيننا الثابت والأساس الذي يقوم عليه وجودنا: المسيح قام! ولا يسعنا إلا أن نتساءل عن معنى هذا الاحتفال وهذا اليوم، في السياق التاريخي المأساوي الذي نعيشه. ماذا يعني اليوم، لكنيسة القدس أن تلتقي القائم من بين الأموات وتشهد له؟
يتحدّث الإنجيل عن ليلٍ وظلمة، لم يعودا يُثيران الخوف، إذ إنّهما على وشك أن يُفسحا المجال لنور الفجر الوشيك. ويتحدث عن حجر كبير قد دُحرج ولم يعد يحبس شيئًا. عن تلاميذ يركضون. عن لفائف -رموز للموت- لم تعد تقيد أحدًا. عن عيون ترى، وقلوب تؤمن، وعن الكتاب المقدس الذي ينكشف لفهمٍ كامل. إنه إنجيل مفعم بالاندفاع والحياة. وهو يتحدث عنا!
يدعونا الإنجيل إلى ألّا ننغلق في علّيّتنا، وألّا نَزِن دعوتنا بميزان المخاوف، شخصية كانت أو جماعية، بل أن نقرأ واقع كنيستنا في ضوء اللقاء مع القائم من بين الأموات، حتى اليوم، بل بالأحرى: اليوم أكثر من أي وقت مضى.
نحن كنيسة الجلجلة، نعم، ولكن المسيح المصلوب ليس رمزًا للألم فقط، بل أولاً وقبل كل شيء، هو رمز للمحبّة والغفران. إذًا فنحن كنيسة المحبّة، تلك التي لا تنام أبدًا، تلك التي تسهر على الدوام، والتي تعرف أن تغفر وتبذل حياتها دون شروط.
نحن كنيسة العلّية، لكن ليس تلك التي أُغلقت أبوابها وجمّد الخوف تلاميذها، بل تلك التي خرج منها بطرس ويوحنا مسرعين للقاء القائم من بين الأموات. العلّية هي موضع حضور المسيح القائم، الذي يتجاوز الأبواب المغلقة، ويهب الروح، ويقول أول ما يقول: "السلام لكم!" ويدعونا بالتالي إلى أن نكون كنيسة تتجاوز الجدران والأبواب المغلقة، أن نتجاوز الحواجز الجسدية والبشرية. كنيسة تؤمن، وتبشّر، وتبني السلام، ولكن "ليس كما يعطيه العالم" (يوحنا 14: 27).
لقد رأينا كيف يفكّر العالم، وكيف يُقيِّم ويحكم، وكم هي ضحلة فكرة السلام في نظره، بل لا أبالغ إن قلت: مهينة أحيانًا! كم من مرّة شهدنا وعودًا بالسلام خُدعت وأُهدرت. على الكنيسة أن تبني سلامًا آخر، سلامًا هو ثمرة الروح، ينبض بالحياة، ويمنح الثقة، مرارًا وتكرارًا، دون أن يتعب. سلامًا يواجه منطق السلطة والعنف والحرب، بمنطق الحياة والعدالة والغفران.
إن إعلان القيامة ليس إعلانًا عن الخلود، فهو لا يعد بأننا لن نختبر الموت بأشكاله المتعددة. فإننا سنُلبَس الخلود (راجع 1 قورنتوس 15: 54) عند مجيء المسيح الثاني، حين يأتي ليدين العالم. أما القيامة التي نعلنها اليوم، فهي أولاً بشارة بحياة جديدة، مشرقة، تنبع من رماد الموت ومرارته؛ موتٌ لا يتهرّب من بؤس العالم، بل يتجاوزه. القيامة هي "نعم" الله، في وجه "لا" العالم. ورغم كل "لا" في هذا الزمن، في عالم يغرق أكثر فأكثر في دوامة الخوف والانتقام، في منطق السيطرة والإقصاء، نريد أن نكون "نعم" الله: شهودًا يعلنون بحياتهم وأعمالهم أنهم ينتمون إلى العالم الذي أراده الله وخلقه، حيث "الرحمة والحق تلاقيا، العدل والسلام تعانقا" (مزمور 85: 11). وهم الذين يعرفون كيف يشهدون لسلام العلّية، لأنهم قد التقوه.
القيامة إذًا، ليست فقط فرحًا، وإعلانًا، وعطية، وتجربة. إنها أيضًا مسؤولية!
إذا كنا مسيحيين، مؤمنين بالمسيح، فهذا يعني أننا قد التقيّنا بالقائم من بين الأموات، وإذا كنا قد قمنا معه، واختبرنا الخلاص والحياة الجديدة، فإن إعلان القيامة يصبح فرضًا علينا، لا أمرًا اختياريًا. ومسؤوليتنا هي أن نعلنها، ليس فقط عندما يحيط بنا الموت، بل بالأخص عندما يحيط بنا. هنا والآن، في سياقنا الخاص، نحن مدعوون لإعلان من نحن ولمن ننتمي. أن نعلن بقوة وحسم أننا لا نخاف، وأننا سنبقى البقية القليلة التي تُحدث الفرق: نبني العلاقات، ونفتح الأبواب المغلقة، وندمر جدران الانقسام. فالقائم من بين الأموات "هو سلامنا، فقد جعل من الاثنين واحدًا، وهدم بجسده الحاجز الفاصل... أي العداوة" (أفسس 2: 14).
نحن هنا أمام قبر المسيح الفارغ، الذي يمثل علامة وإعلانًا قويًا. يذكرنا بأن تجاربنا، مهما كانت قاسية، لا تقتصر على الألم فقط، وأنه رغم الذل الذي نشعر به عند الوقوف على الجلجلة، ورغم ثقل وألم الصليب، فإن قبر المسيح الفارغ هو علامة ودليل على أننا سنشهد تحقيق العدالة، وسيتحقق الرجاء، وسيسود السلام.
نحن لا نعيش في وهم. نحن مدركون تمامًا لما يحدث بيننا وفي العالم، وليس لدينا الكثير من الأمل في قدرة الحكّام على إيجاد حلول، التي للأسف تبدو بعيدة المنال. ولا يسعنا سوى التعبير عن قلقنا العميق إزاء التدهور المحتمل في الوضع السياسي وتفاقم الكارثة الإنسانية، خاصة في غزة. أفكر بشكل خاص في جماعتنا الصغيرة التي أصبحت، على مر الأشهر، رمزًا وعلامة للتضامن والرجاء، قاربًا صغيرًا راسيًا على الحياة، في بحر من الألم والمعاناة.
يبدو لنا أننا نسير على درب آلام لا ينتهي، مليء بالتجارب المتواصلة. ولكنني أعلم أيضًا أنه على درب الآلام هناك نساء القدس اللواتي يبكين بصمت على يسوع، وهناك سمعان القيرواني الذي مدد يد المساعدة ليسوع في حمل صليبه، وهناك فيرونيكا التي مسحت وجهه. درب الألم ليس دربًا وحيدًا أبدًا، لأنه على هذا الطريق تستيقظ الرحمة، ويأخذ الحب شكلاً ملموسًا. لنتذكر إذًا إخوتنا وأخواتنا في غزة وكل المتألمين بسبب الحرب، ولنسعَ أن نكون لهم، ولمن هم في حاجة: أمهات، وفيرونيكا، وسمعان القيرواني، فنساعدهم في حمل أعبائهم. ولنقدم لهم أعمال رحمة ورعاية، فذلك هو أسلوبنا في إعلان بشرى القيامة والحياة.
ليس في الأمر تهوّر ولا وهم، بل هو إيمان راسخ بأن الله هو من يقود مسيرة التاريخ. ورغم صِغَر شأننا، لن يسمح الله بأن يضيع هذا العالم، فقد قال: "ما جئت لأدين العالم، بل لأخلّص العالم" (يوحنا 12: 47). وحتى إن بدا لنا أننا ما زلنا نسير على درب الآلام، فإننا نعلم أن النهاية تُستَعلن هنا، عند قبر المسيح الفارغ. وهذه القناعة العميقة تظل ترافقنا وتمنحنا الثبات والرجاء.
اتباع يسوع، حتى وسط هذه التجارب القاسية التي نعيشها، هو من أعمق وأقوى أشكال الاتباع في الحياة. فلا ننسى أبدًا أن الإنجيل يتحدث عن حجر دُحرج. وحتى إن كثرت المشاكل وتراكمت الشدائد التي تثقل كاهلنا، فإننا نريد أن نعلن، بثقة هادئة وعزم لا يتزعزع، أن لا شيء يمكنه أن يُبْقينا في قبورنا. نحن كنيسة حيّة، لا تستسلم أمام الصخور الموضوعة في طريقها.
يدعونا الإنجيل إلى الانفتاح، إلى رفع أنظارنا نحو الأفق الأبعد، وإلى الركض – كما فعلت نساء الإنجيل والتلاميذ – لإعلان البشرى السارة: أنه لا يوجد ما هو أجمل من أن نعيش مع المسيح القائم، هنا والآن، في كل مكان، ورغم كل شيء. في القدس، وبيت لحم، والناصرة، وعمّان، ونيقوسيا، وحتى في غزة.
لنُلْقِ اتكالنا على العذراء مريم، السيدة القوية والطاهرة، التي وقفت بثبات عند أقدام الصليب، والتي استقبلت بفرح قيامة ابنها. معها، وبالاقتداء بها، نستطيع أن نثبت في وجه المحن، وأن نعيش، بقوة الروح القدس، فرح الذين يعلمون بأنهم محبوبون من الله، في كل حين وإلى الأبد.