موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ٧ ابريل / نيسان ٢٠٢٥
الطيبة تحيي إرثها المسيحي: قداس مهيب في ذكرى لجوء المسيح للطيبة وتأسيس الرعيّة

سند ساحلية :

 

في أجواء روحية مهيبة، احتفلت رعية المسيح الفادي للاتين في بلدة الطيبة، اليوم الأحد الخامس من الزمن الأربعيني، بقداس إلهي ترأسه الأب برنارد بوجي، رئيس المعهد الإكليريكي في بيت جالا، بمشاركة الأب بشار فواضلة، كاهن الرعيّة، والأب يعقوب الكاهن المساعد، إلى جانب عدد من كهنة وطلاب الإكليريكية، والرهبانيات العاملة في البلدة، وحشد من أبناء الرعية، وذلك في مناسبة مزدوجة: بذكرى لجوء السيد المسيح إلى بلدة "أفرام" – الطيبة، وبمرور 165 عامًا على تأسيس رعية المسيح الفادي.

 

جمعت المناسبة بين عمق التاريخ وقداسة اللحظة، حيث تحتفظ الطيبة، هذه القرية الفلسطينية المسيحية ذات الجذور الكنعانية - بمكانة فريدة في الوجدان المسيحي. وقد أشار الإنجيل إلى الطيبة باسم "أفرام"، التي لجأ إليها يسوع مع تلاميذه هربًا من اضطهاد اليهود بعد إحيائه لعازر، وذلك بحسب ما ورد في إنجيل يوحنا  (11: 54)  "فكف يسوع عن الجولان بين اليهود علانية، فذهب من هناك إلى الناحية المتاخمة للبرية إلى مدينة يقال لها أفرام، فأقام فيها مع تلاميذه."

 

أدوات رحمة

 

في عظته خلال القداس، وجّه الأب برنارد بوجي رسالة روحية عميقة إلى أبناء الرعية والحضور، مؤكدًا أن هذه الأيام ليست مجرد ذكرى لأحداث مضت، بل هي واقع إيماني حيّ يُعاش اليوم بكل تفاصيله.

 

وتحدث الأب بوجي عن واقعنا المعاصر، مشيرًا إلى أن ما عاشه يسوع من إهانة وألم لا يزال يتكرر حتى اليوم. وقال: "نؤكد لكم أن الحال في بلادنا اليوم لا يختلف كثيرًا عمّا كان في أيام يسوع. فقد شتموه، وها هم يشتموننا. بصقوا عليه، ولا يزالون يبصقون علينا. صلبوه، ولو استطاعوا، لصلبونا أيضًا. الأيام مرّت، لكن القلوب والعقول بقيت على حالها"، داعيًا في هذا السياق إلى أن نكون شهودًا لرحمة الله في هذا الزمن، لا أدوات للانتقام أو الإدانة، مشددًا على أن رسالة المسيح لا تزال حيّة، وتدعونا لنعيشها في كل يوم.

 

استهل الأب برنارد بوجي كلمته بتوجيه تحية للأب بشار فواضله، كاهن الرعية، وللأخوات الراهبات والطلاب الإكليريكيين، ولأهالي بلدة الطيبة، مؤكدًا أن أسبوع الآلام ليس مجرد طقس احتفالي تقليدي، بل هو مسيرة خلاص حقيقية انطلقت من هذه الأرض، تمامًا كما فعل يسوع عندما لجأ إلى بلدة "إفرام" – أي الطيبة – قبل أن يتجه إلى القدس ليتمم رسالته.

 

وركّز الأب بوجي على أن العدالة والرحمة يجب أن تسيرا معًا، مستشهدًا بقول القديس توما الأكويني: "العدالة بدون رحمة قساوة، والرحمة دون عدالة فساد". وبيّن أن يسوع لم يلغِ العدالة، بل حملها على الصليب، مسددًا ثمن خطايا البشرية، ليصالح العالم مع الآب.

 

ودعا الأب بوجي المؤمنين إلى أن يعيشوا أسبوع الآلام بروح صادقة لا طقسية فقط، قائلًا: "كيف نقول المسيح قام، ونحن لم نتصالح بعد مع إخوتنا؟". وحثّ الجميع على أن يمحوا من قلوبهم أسماء من جرحوهم، وأن يستعيدوا معنى الفصح كفرصة للحياة الجديدة والمصالحة.

 

وفي ختام كلمته، أكّد على أهمية الطيبة كبلدة إيمان ووفاء للمسيح، قائلًا: "منذ 165 عامًا وهذه الرعية تفتح قلبها ليسوع، وتبقى شاهدة لحضوره الحي في الأرض المقدسة". ودعا إلى الصلاة من أجل أن تبقى هذه الرسالة نابضة في القلوب، وأن يواصل الرب دعوته للرجال والنساء لخدمته من هذه الأرض التي أحبها ومات من أجلها.

نصلي من أجل الطيبة، حاضنة الدعوات الكهنوتية

 

وكان الأب بشار فواضلة قد توجه بكلمة مؤثرة في مستهلّ القداس، قال فيها: "نرحب بالأب برنارد بوجي، رئيس المعهد الإكليريكي في بيت جالا، والكهنة الأفاضل وطلاب المعهد، وكل الحاضرين من أبناء هذه البلدة الطيبة، شبابها وشيوخها، رجالها ونسائها. نلتقي اليوم في هذا الصباح المبارك، في الأحد الخامس من الزمن الأربعيني، لنحيي معًا ذكرى لجوء السيد المسيح إلى الطيبة، بحسب ما ورد في إنجيل القديس يوحنا، الفصل الحادي عشر، حيث أقام يسوع في أفرام مع تلاميذه بعد إقامته للعازر من بين الأموات. ونحتفل أيضًا بمرور 165 عامًا على تأسيس هذه الرعية العزيزة، التي ما تزال تحمل أمانة الإيمان وتُثمر في قلوب أبنائها."

 

وأضاف: "كنيستنا هنا متجذرة بمحبة أبناء هذا البلد الطيب الذين حافظوا على إيمانهم وكنيستهم عبر السنين، في الداخل والخارج. واليوم، نحن مدعوون للاستمرار في هذه المسيرة، لنكون شهودًا للرجاء في أرضٍ تحتاج إلى صلاة وصمود."

 

وتابع قائلاً: "يسعدنا أن يكون بيننا اليوم طلاب المعهد الإكليريكي، الذين جاؤوا ليقيموا في الطيبة على مثال السيد المسيح، في وقت يستعد فيه المعهد لإعادة فتح المرحلة الصغرى. وكأن الطيبة تعود لتكون منطلقًا جديدًا للدعوات الكهنوتية، تمامًا كما كانت في الماضي."

 

وختم الأب فواضلة كلمته بالقول: "نصلي اليوم من أجل الدعوات الكهنوتية والرهبانية، ومن أجل جميع المؤسسات التي تعمل تحت مظلة البطريركية، كمدرسة الطيبة، وبيت أفرام للمسنين، وكاريتاس، وإذاعة نبض الحياة. كما نرفع صلاتنا من أجل المغتربين وأبناء الطيبة في كل مكان، ونطلب من الرب أن يمنح بلادنا العدالة والسلام في ظل الظروف الصعبة التي نمر بها."

تراث حيّ وهوية متجددة

 

الطيبة، التي ترتفع 850 مترًا فوق سطح البحر، وتضم نحو 1,400 نسمة، لا تزال شاهدة على التاريخ الفلسطيني المسيحي، بما تحتويه من كنائس بيزنطية وآثار صليبية. واليوم، تواصل الرعية بقيادة الأب بشار فواضلة مسيرتها الروحية والإنمائية، حريصة على صون الهوية المسيحية وتعزيز الحضور الكنسي في قلب الأرض المقدسة.

 

ومن قلب التاريخ، تُطلّ الطيبة برؤية مستقبلية تحملها رعية المسيح الفادي، حيث تتلاقى جذور الماضي مع تطلعات الحاضر والمستقبل، ويُستكمل المشوار الإيماني بثبات عبر مبادرات روحية، ثقافية، وتربوية تعزّز حضور الكنيسة وتُعمّق معاني العيش المشترك والانتماء.