موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الإثنين، ٢٤ فبراير / شباط ٢٠٢٥
الصوم الكبير

أشخين ديمرجيان :

 

"ليس بالخبز وحده يحيا الانسان بل بكلّ كلمة تخرج من فم الله" (متّى 4 : 4) قالها السيّد المسيح، وهو لا ينفي أهمّيّة الخبز لاستمراريّة الحياة، بل يؤكّد ضرورة الاهتمام بإثراء مسار الروح بالصلاة والصوم لتقوية إرادتنا وتحسين حياتنا الدنيويّة. الصوم والتوبة دواء النفس والجسد ومفتاح السماوات فالصيام يشفي الانسان من المرض والوهن والضيق.

 

وأبدع المصريّون بالفصاحة والبلاغة بلفظة "العيش" بدلاً من الخبز قوتًا للانسان يوميًّا، وعبثًا ننشغل بالغذاء والكساء فقط فالحياة أكثر من الطعام والشراب، نفسنا بحاجة إلى كلمة الله، وروحنا إلى التواصل معه بالصلاة والإحسان الى القريب، وإلاّ فقد الإنسان توازنه الصحّي والنفسي، ورويدًا رويدًا صار بالنفس والجسد عليلا.

 

قبل مجيء السيّد المسيح، كان الناس يلبسون المسوح ويذرون الرماد على رؤوسهم ويجلسون عليه، ويمزّقون ثيابهم وينتفون شعرهم، للتعبير عن عميق الحزن والندم والتقشف والتذلّل، وهي عادات لدى بعض الشعوب إلى يومنا، ورد ذكر بعضها في العهد القديم  (إر 6: 26 ؛ أي 2: 8 2 و42 : 6 ؛ يون 3:  5-6 ؛ صم 13: 19 ؛ أش 4: 2 - 3 ؛  مرا 3: 16 ؛ مت 11: 21).

 

ورد ذكر الرماد في العهد القديم من الكتاب المقدّس، يقول تعالى للنائحين على خطاياهم: "لأعزّي كلّ النائحين، لأعطيهم جمالاً عوضًا عن الرماد، ودهن فرح عوضًا عن النوح، ورداءَ تسبيح عوضًا عن الروح اليائسة، فيُدعَون أشجار البرّ، غرس الرب للتمجيد" (أشعيا 61 : 2-3).

 

ومن الأمثلة على ذكر الرماد: خاطب إرميا النبي ابنة شعبه قائلاً: "تنطقّي بمسح وتمرّغي في الرماد" حزنًا على خطيئتها وما سيأتي عليها من خراب عقاباً على شرّها" (إرميا 6: 26).

 

والنبي داوود يقول في مزاميره: "وأنا  لبستُ المسوح حين حلّ بهم الداء، وجعلتُ نفسي من الصوم في عناء، وإلى صدري عاد منّي الدعاء" (مز 35: 13).

 

"جعلت تامار بنت داوود الملك رمادًا على رأسها ومزّقت الثوب الملوّن الذي كان عليها وكانت تذهب صارخة".

 

"كما جلس أيّوب في وسط الرماد عندما أُصيب بالقروح" (أيوب 2: 8)، وقال: "لذلك أرفض وأندم في  التراب والرماد" (أيوب 42: 6).

 

أخذت الكنيسة الصيام من العهد القديم للكتاب المقدّس، واقتدت بالسيّد المسيح نفسه الذي صام أربعين يومًا وأربعين ليلة بقرب اريحا على جبل، يؤكّد التقليد أنّه "جبل الأربعين" أو "القرنطل" وهي لفظة معرّبة عن اللاتينيّة "قوارانتينا" أي "الأربعين" (متّى 4 ولوقا 4). ومارسه الرسل (أعمال الرسل 13 و14) وبعدهم ومثلهم المؤمنون الأوائل يوم الجمعة العظيمة وسبت النور الذي يسبق عيد الفصح متمّمين النبوّة السيّديّة أن "أهل العرس يصومون في الأيام التي يُرفع فيها عنهم" قبل  قيامته  المجيدة من بين الأموات .

 

لا يحدّد الانجيل الطاهر الصوم كفريضة، ولكنّ السيّد المسيح يركّز على أهمّيّته بمثاله الصالح أولاً، وبتعليماته أنّ الصوم يجب أن ترافقه الوداعة وعدم حب الظهور أي بتواضع وصدق. ولا نجد في الانجيل الطاهر تحديدًا لعدد أيام الصوم، لكن بما أنّ المسيح صام أربعين يومًا على جبل التجربة، وضعت الكنيسة فيما بعد صيام الأربعين يومًا في الفترة التي تسبق عيد الفصح المجيد.

 

وينصح السيّد المسيح الصائم أن يكون فرحًا مبتهجًا، من غير أن يتفاخر بصومه أو بعمل الخير: "عندما تصوم، ادهن رأسك واغسل وجهك، لكيلا يظهر للناس أنّك صائم، بل للرب الذي يرى في الخفية ويجازيك" (متى 6 : 16 وتابع).

 

                                     

خاتمة

 

أبدع الشّاعر العربي الفلسطيني سليمان الغزّي (القرن 10-11 م) في قصيدة له عن الصيام وممّا جاء فيها: "ليس الصيام عذاب الجسم بالجـوع ***  ولا كلامـاً لذي جهـلٍ بمسمـوع *** لكن صيامـك ترك الشـر، فاتركـه *** وأوصل الخير وصلاً غير مقطوع *** الصوم صون حواس النفس من ضرر ***  وليـس ما كان من ضَرٍّ بمنفـوع".