موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٣١ يوليو / تموز ٢٠١٥
البطريرك الطوال من "أم الجمال": الأردن موطن القداسة والشهداء
فيما يلي النص الكامل للعظة التي ألقاها البطريرك فؤاد الطوال، بطريرك القدس للاتين، في قداس الحج الثاني المسيحي في أقدم كنيسة بمنطقة أم الجمال الأثرية، بالقرب من مدينة المفرق، والذي أقامته مطرانية اللاتين في عمّان بالتعاون مع وزارة السياحة والآثار:

أبونا :

 

الإخوة الأساقفة، والكهنة، والرهبان والراهبات،

أيها المؤمنون الكرام، القادمين من كل أنحاء المملكة، ومن سورية والعراق.

شكراً جزيلاً لكلِّ مَن هيَّأ لمثل هذا الاحتفال؛ وزارة السياحة، ولجميع السلطات المدنية والأمنيّة في المفرق.

 

كلنا نعرف فلسطين الأرض المقدسة، التي نسمع أسماء مُدنها وضواحيها في الكتاب المقدس كلَّما قرأنا من العهد القديم أو الجديد. إلا أننا لا نستطيع أن ننسى ذكر الأردن أيضاً، فالعهد القديم مليءٌ بالأحداث التي نسجت تاريخ الخلاص، نذكر منها إيليا النبي الذي ولد وعاش في الأردن، وانطلق بعربة نارية من الأردن إلى السماء. في العهد الجديد أيضاً، نرى يوحنا المعمدان سابق السيد المسيح يعيش على ضفاف نهر الأردن قبل أن يسجن ويستشهد دفاعاً عن الحق في قلعة مكاور جنوب الأردن قرب محافظة مأدبا.

 

لا ننسى أيضاً دماء الشهداء الأبرار الذين استخفوا بالجلد والحرق وأنواع العذاب والموت ليُحافظوا على إيمانهم، فهذه الدماء هي بذار المسيحية في بلادنا. كذلك عشرات الآلاف من الرهبان الذين افترشوا الصحراء وسكنوها ناسكين، فقدسوها بصلواتهم وتقدسوا بها. ونذكر في فيلادلفيا "عمان" القديسين الشهداء كيرلس وأكويلا وبطرس وروفس، والشماس زكريا في طبقة فحل "بيلا" زمن الاضطهاد الروماني. وزينون الذي رفض أن يعبد صنماً حين طلب منه الإمبراطور ذلك، فقال قبل استشهاده: يا رب يا إله خلاصي إليك أرفع صلاتي، أنت قلت من خسر نفسه في سبيلي يربحها، وانا أصغيت إليك وآمنت بك.

 

إن هذه الصبغة المُقدسة التي تصطبغ بها أرضنا، ترتبط بتاريخ الخلاص ارتباطاً يزيدنا فخراً وتمسكاً بوطننا الأردن ويزيدنا حافزاً لطلب القداسة.

 

دافع أجدادنا عن إيمانهم، بل ودافعوا عن أرضهم مُقدَّسة، وتنافسوا في بناء الكنائس والأديرة خاصّة في الفترة التي تلت فترة الاضطهاد، فازداد عدد سكان هذه المنطقة بنسبة كبيرة جداً، وما هي الحجارة الأثرية الكثيرة هنا، إلّا دليلٌ على كثرةِ عددِ الحجارةِ الحيّة، أي المؤمنين الذين كان حلمهم العيش في الاراضي المقدسة. النقوش الفسيفسائية التي تزين كنائسنا القديمة، تحفظ أسماء العديد من الأساقفة ورجال الدين والفنانين والمُحسنين، وتدل هذه الأسماء على أن أصحابها ليسوا من أصل يوناني، بل محلي، أي أصول سامية عربية.

 

أما بالنسبة لموقع أم جمال:

 

سنة 557 ميلادية، جرى حدث تاريخي في مدينة أم الجمال، ألا هو تدشين كاتدرائية المدينة، فجاءت الوفود المشاركة من مختلف الأبرشيات المجاورة في الأردن وسوريا فلسطين كما هي حالنا اليوم. وكانت أم الجمال آنذاك في أوج عزها ومجدِها. ولا بدّ أن خريطة مادبا الفسيفسائية التي تعود إلى حوالي سنة 565، أي ثماني سنين بعد تدشين الكاتدرائية، قد ذكرت ورسمت مدينة أم الجمال وكاتدرائيتها والمدن والمراكز الأخرى التي تتمتع بشيء من الأهمية في الصحراء الأردنية. ومما يؤكد لنا ذلك، بنوع خاص، أن فناني الخريطة راحوا يملأون الفراغ، في الأجزاء الصحراوية الخاوية، ببعض صور الحيوانات التي كانت تعيش في الصحراء، فكيف لا يملأونها بمدنها العامرة؟. ولكن من المؤسف حقاً، ألا تصل إلينا خريطة مادبا سالمة من كل شائبة، فقد عبث بها الزمان ودمّرت أجزاء كبيرة منها بأيدي الإنسان.

 

لقد عثر في مدينة أم الجمال على خمس عشرة كنيسة، وهي إن دلت على شيء، فإنما تدل على ازدهار المسيحية وأصولها العريقة، وعلى تقوى أهلها وحبهم للمسيح. ولا غرابة في ذلك، فالمدينة محط ترحال عشرات الألوف من البشر والقوافل، فكان لا بدّ للسلطة الكنسية من أن تهتم اهتماماً روحياً موصولاً بالمسيحيين الوافدين إلى المدينة مع القوافل من كل فجّ وصوب. أما أقدم كنيسة، فهي كنيسة يوليانوس التي تعود إلى سنة 345، وقد يكون هذا الاسم اسم المهندس المعماري الذي بناها. كما هي الحال كنيستي كلوديانوس وماسيشوس، أو اسم المحسن الذي تبرع ببنائها.

 

وفي العصر البيزنطي، تحوّلت الثكنة العسكرية في مدينة أم الجمال إلى دير، وهي تسمى اليوم (الدير)، وتشير إلى ذلك الكتابة التي عثر عليها على دائر البرج في الزاوية الجنوبية الشرقية منه. وللبرج ستة أدوار، ويبلغ ارتفاعه ستة عشر متراً، وتبرز منه شرفة فوق كل جهة من جهاته الأربع، كتب عليها أسماء رؤساء الملائكة: جبرائيل وميخائيل وروفائيل، إذا سمح لنا الوقت لزيارة الموقع، فسوف نرى أن الثكنة هي بناء مستطيل فيه كنيسة من ثلاثة أروقة، وحول الكنيسة باحة مفتوحة ومحاطة بصف أو صفين من الغرف.

 

ومن أبرز كنائس أم الجمال، الكنيسة الغربية ويبلغ طول مدخلها الرئيسي حوالي أربعة وعشرين متراً، ويبلغ صحنها حوالي اثنين وعشرين متراً، وعرضه ستة عشر متراً. وأما بقية الكنائس، فبعضها يتخذ شكل قاعة كبيرة، وبعضها يحوي صحناً في الوسط، تفصله عن الأروقة الجانبية أقواس قائمة على قواعد.

 

عوامل طبيعية وتجارية كانت سبباً في دمار أم الجمال، وفي هجر سكانها لها. فالزلزال الرهيب الذي حدث سنة 746 والتغيير الجذري الذي طرأ على طرق التجارة، كانا سببين رئيسيين في زوال أم الجمال اقتصادياً ومعمارياً، وفي دفنها في قبر النسيان. فقد راحت القوافل تمر بعيدة عنها ولم يعد يسأل عن مدينة أم الجمال سوى بعض البدو والمفتشين عن الذهب والكنوز. لقد رضيت أم الجمال مرغمة بأن تُنسى، وأن تُهمل، وأن تُنشأ غيرها من المدن وتزدهر، ولكنها بقيت وفيّة، تتحدث لمن يقرأ لغة الآثار عن مجدها المندثر وعزّها الغابر. إنها جميلة، وجمالها على ما تقول أخبارها وآثارها في مسيحيتها.

 

أم الجمال، مسؤوليتنا اليوم، بالتعاون مع وزارة السياحة والسلطات المدنية والدينية في المفرق، أن نعيد لأم الجمال دورها في التاريخ، وأن نجذب إليها السياحة الدينية والمحليّة، فأُم الجمال كأكثر مدن الأردن، هي أرض مُقدّسة وهي الأصل والجذور.

 

"اللهُمَّ، يا مُحبَّ البشر، لقد أنعمتَ على شهداء الأردن، أن يسيروا على دربِ القداسة والشهادة، أنعمْ علينا أن نقتدي بتقواهم الصادقة وبسالتهم القوية وصمتهم الداخلي، وأن نحظى بسلامِهم الروحي، فنَشْهَدَ في أرضِنا المقدسة والعالم لموت ابنك وقيامته، هو الإله الحي، المالك معك ومع الروح القدس، الى ابد الدهور".