موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الأحد، ٤ ابريل / نيسان ٢٠٢١
الأب سليمان شوباش يكتب: ألم الله وألم البشر
الأب سليمان شوباش، راعي كنيسة القديس جورج الشهيد، اربد - الأردن

الأب سليمان شوباش، راعي كنيسة القديس جورج الشهيد، اربد - الأردن

الأب سليمان شوباش :

 

مقدمة

 

يُعتبر الألم مِن احدى اقوى واعمق المشاعر الإنسانية التي يمر بها أي انسان سواء أكان مؤمناً بالله او لا، فمَن منا لما يختبر في حياته أحد اشكال الألم خلال حياته؟ ألم الموت او المرض او الخيانة او الفراق او الخذلان او الفشل او الخطيئة...الخ. وتُقدِّم لنا نصوص الكتاب المُقدّس مُقاربات شتى لأنواع الآلام هذه التي قد يتعرّض لها الله والإنسان على حد سواء. وتُعلمنا النصوص المُقدسة كيف يجب ان نتعامل معها على ضوء المحبة الإلهية التي تجلّت في سرّ الصلب والقيامة المجيدة. هذا وغيره مِن المواضيع سأحاول أن اتطرّق لها ما امكن انطلاقا من تعاليم الكنيسة والخبرات الشخصية.

 

 

الألم، سؤآل صعب؟

 

انتشرت على مدى العصور فلسفات كثيرة حاولتْ فهم الألم الإنساني بأنواعه ودرجاته. البعض منهم ذهب ليرى بالألم طريق للتحرير من قيود الجسد المادي للوصول للقداسة او السمو او الإرتقاء بالحواس أو إستغلال مرارة الوجع لتحويله لفرصة للذة، او للتدرُّب على الصبر والتحمُّل. وأذكر هنا على سبيل الذكر لا الحصر الفلسفة الرواقية مع الفيلسوف زينون في القرن  3ق.م وفي العصر الحديث فلسفة رينيه ديكارت في الألم  وفلسفة  فريدرك نيتشه الذي قال جملته الشهيرة "ما لا يقتلني يجعلني أقوى". أمّا في الفلسفة المسيحية وعلم الكتاب المقدس فقد ازدهرت المدارس والأبحاث اللاهوتية في هذا الشأن وظهرت المدارس والنظريات المسيحية مثلا للقديس توما الأكويني واغوسطينوس والبابا بندكتوس السادس عشر في يومنا الحالي وغيرهم الذين حاولوا أن يفهموا معنى الألم في ضوء سّر الحب الذي عاشه سيدنا يسوع المسيح ومن بعده قافلة الرسل والقديسين والمُبشّرين والشهداء مُنذ اسطفانس وحتى يومنا هذا. وتعليم الكنيسة الكاثوليكي ثابت في هذا الشأن إذ يقف مع الكرامة البشرية ويرفض أي شكل من أشكال التعذيب الجسدي او النفسي لأيٍّ كان. وعلى الرغم من كل هذا يبقى هناك سرّ وبُعد صعب الفهم والقبول أثناء لحظة الوجع، قد تقود في حينها الشخص لأخذ موقف مُتدَرِّج ما بين الإيمان المُطلق والتسليم الكلي لله وبين الكُفر والإلحاد.

 

 

هل الله يتألم؟

 

نعم، إلهنا يتألم ويحزن ويُصاب بخيبة الأمل. ألم الله لا ينبع من كونه ضعيف او عاجز –حاشى- ولكنه رد فعل قوى وتعبير صادق عن عمق محبته لنا. الله ليس جماد او حجر او صنم، بل هو حاضر وقريب من شعبه ويُحسّ بحزنهم ويشاركهم به كما في فرحهم، وبما أننا مخلوقين على صورته ومثاله فنحن مثله نُحّس ونتحرك ونحيا ونوجد.كثيراً ما نسمع الكتاب المقدس يصف الله بأوصاف بشرية كان يقول أن الله يندم ويتأسف ويغضب (تك6:6، خر32: 10، 12) هذا كله لأنه يحبنا ويهتم لأمرنا ويَشعر بأن خطايانا قاسية وتجرح حبه لنا. وفي العهد القديم ظهرت صورة الله الأب الذي يُحب الإنسان بقلب الأم، ورغم غضبه اللحظي يبقى حنون ورحيم للأبد، مثلاً كأن يَعِدُ آدم وحواء بالخلاص الآتي، ويحمى بالعلامة قائين قاتل أخيه من الموت، ويُنبّه نوح لبناء الفُلك من الطوفان الآتي، ويرّق قلبه لصوت شعبه المظلوم في مصر مُنقذاً اياه من فرعون وجيشه، ورغم العصيان والتمرد يُطعمه من السماء ويسقيه من الحجر ويشفيه من الحيات. ويمكن أيضاً لمن يريد ان يستزيد أن يقرأ سفر نشيد الأناشيد ليرى صورة الله الحبيب المُتألم من خيانه عروسه وهجرانها له ورغم ذلك لا يقطع الأمل في البحث عنها ومسامحتها.

 

وإصطلاحاً إذا ابتغينا الدقة والأمر الأصح، فيجب أن لا نقول "أن الله يُحبنا" وكأنه انسان أحياناً يُحب كثيرا واحياناً قليلاً أي بدرجات، ولكن وجب القول "انّ الله محبه" اي ان جوهره هو المحبة، فهو خالقها وكمالها مِن الأبد وإلى الأبد، ولا يستطيع ان يتصرف او يكون بعكس ذلك. والأمر نفسه ينطبق على سائر الصفات الحميدة كذلك، فهو إذن ليس بصادق وليس بأمين...إلخ بل هو الصِدق بحد ذاته والأمانة بعيناها...الخ.

 

ونرى كيف ان الله يمزج بين عدله ورحمته وبين غضبه وحبه، في قصة ابينا ابراهيم مثلاً (تك 22: 2) عندما طلبَ الله منه أن يُقدّم إسحق ليس فقط ابنه ولكن "وحيده وحبيبه" ولمّا بلغ الوقت مُنتهاه، رَحم الله ابراهيم وعفاه من الطلب واستبدله عدلاً بالكبش كذبيحة اخرى عن ابنه ليعفيه من هذا الألم المرير. في هذه القصة ومع مقارنتها بذبيحة الصليب نرى حب ورحمة الله للبشر وقسوة قلب الإنسان على الله، فها هيأتت ساعة مُشابه، سنرى فيها ابناء ابراهيم لا يرحمون ابن الله وحيده وحبيبه يسوع المسيح، بل سيقدمونه ذبيحه على هيكل الصليب بعدل أن يستبدلوه بالقاتل بارأباس. فما لم يقبله الله لإبراهيم، قبله لنفسه مِن أجل أن يحيا العالم. وطمعاً بهذا البحر مِن المحبة الإلهية رفع كل مظلوم ومتألم في العهد القديم شكواه لحنان الله ورحمته (مثل: أشعياء وحزقيال ودانيال يونان وأيوب وأستير، وطوبيا...الخ) ونحن نعلم يقيناً مع صاحب المزامير "أن الرب حنّان رحيم طويل الأناه" (مز145: 8) ونُصلي في القداس الإلهي: لا تعاملنا بحسب خطايانا الكثيرة ولكن بحسب رحمتك الواسعة.

 

 

هل يسوع المسيح تألم حقاً؟

 

نعم بالتأكيد، أولا لأنه تجسّد واصبح مثلنا شبيهاً بنا في كل شيء ما عدا الخطيئة. وثانياً لان له قلباً حساساً يُحبنا به كثيراً ويظهر ذلك في صلاة يسوع الأخيرة في بستان الزيتون. فهو تجسّد ليختبر حقاً أطوار حياتنا ويُشاركنا أياها، ولم يكن يخدعنا ويُمثِّلُ علينا. لم يُشاهِد يسوع في حياته أي ألم دون أن يتفاعل معه بعمق، فبكى على أليعازر الذي احبه وعلى اورشليم التي ستصبح خراباً وبكى في بستان الزيتون عندما تركه الجميع ونام عنه تلاميذه. يسوع تألم حقاً في جسده حينما صام وجاع وسار طويلا من قرية لأخرى وحين كان راكعاً ساهراً الليالي مُصلياً وعندما كام حاملاً للصليب الذي سيُسقِطُه تحته مُتعباً عدة مرات. يسوع تألم بقلبه وبروحه أيضاً من شر العالم وتجارب ابليس، من قلة إيمان التلاميذ وهروبهم وخيانة يهوذا ونكران بطرس، من رؤية المرضى والبُرص والشاب الميّت. وهنا نقول، أن يسوع لم يبحث عن الألم والصليب ويستمتع به، لم تكن له مُيول سادية او انتحارية، ولكن الجَلْد والصليب فُرض عليه قسراً وقَبِلَهُ حراً مُطيعاً لمخطط الآب كما يظهر في قوله له في بستان الزيتون:"أبعد عني هذه الكأس ولكن لتكن مشيئتك لا مشيئتي". وهنا يجب أن نقول أن يسوع لم يُخلصنا بالألم وحده، ولكن بالحب الذي قبل به هذا الألم والصليب. فنحن اذن أبناء الحُب والتضحية وليس الألم والعذاب. وحبُّ يسوع للآب ولنا اعطى لهذا الألم بُعد خلاصي جعل يسوع يقبله بحُب. ويسوع يؤكّد ذلك عنه وعن الآب حينما يقول أنه إله أحياء وليس إله أموات (لوقا20: 38) ومرضاته وفرحه في خلاص الإنسان وسعادته الأبدية، وأنه تجسَّد وتألم لتكون لنا الحياة الوافرة (يوحنا 10:10) كما تنبأ من قبل أشعيا حين قال انه سيحمل آلامنا واوجاعنا ويُطعن لأجل معاصينا لننال الشفاء والخلاص (أشعيا 53: 4).

 

 

هل يجب علي أن اتألم لأنال الخلاص؟

 

لا، فالخلاص نعمة مجانية مِن الله أداها عنا يسوع المسيح ودفع ثمنها. ولكن، يسوع لم يأتي للعالم لينتزع منه الألم والموت ولكن "ليكسر شوكته" (عب3: 14) أي لا يعود هو الفائز والمُنتصر النهائي. وبما أننا نعيش في الزمان وفي الطبيعة البشرية المُتقلّبة سنختبر كل يوم هذه الآلام ونقبلها مُشاركةً مع المسيح في آلامه لأننا نؤمن أن من بعدها ستُشرق شمس القيامة للأبد. وبالتأكيد ان الألم والعذاب شرّ لا يستحقه أحد، ولكن الخطيئة والظلم وعدم العدل الموجود في هذا العالم وسؤء استخدام الطبيعه يجعله باباً ضيقاً على الجميع المرور منه كالحروب والموت والجوع والكورونا والتلوث...الح. وقد يكون الألم للبعض عن استحقاق بسبب شرّ صنعوه، او تجربة شيطانية يمر بها الإنسان كما حدث مع أيوب البار. وقد يكون أخيراً طريق للفداء والتكفير والخلاص إذا ما وُضع في إطار الإيمان والثقة بمحبة وحنان الله الذي لا يجربنا فوق طاقتنا ولا يبخل علينا بنعمته لنعبر الألم، موقنين بأن هذا الألم سيقود في النهاية لمجد الله وتقديس الإنسان (راجع اشعيا40: 2، تكوين 22، أيوب 1: 11، 2: 5، طوبيا 12: 13، خروج 17: 11، ارميا 8: 18). وبما أننا أبناء المسيح القائم فقد أصبحنا اليوم أبناء لعهد جديد لا نتألم فيه بدون معنى (على الفاضي) بل نتألم مع المسيح وهو الذي يحيى فينا ويُقوينا (غلاطية 2: 20) رافعياً يده ليشفي كل متألم ويمسح دمعة كل باكي (رؤيا7: 17، 21: 4) في الوقت المناسب والطريقة المناسبة له ليُظهر مجده ونشاركه به (لوقا24: 26، يوحنا 15: 20، متى 10: 24).

 

ويُضيف البابا بندكتوس في كتابه "يسوع المسيح"، أن الألم فرصة للإستيقاظ والعودة عن الخطيئة. فالكتبة والفريسيين لم يستيقظوا من شرّهم وظلام قلوبهم إلا متى رأوا يسوع مشوهاً على الصليب وعرفوا إلى أي درجة يمكن أن يكونوا قساةً ظالمين، فانسحبوا خجلا واحداً وراء الأخر يتقدمهم الأكبر سناً أي الأكبر عاراً. ونحن أيضاً إذ نتمادى أحياناً في خطيئتنا ونسير فيها إلى أن نضيع ونغرق ونؤذي من هم حولنا، وفي النهاية نستيقظ ومُتفاجئيين مِن انفسننا مُتسائيلين كيف وصلنا إلى هذه المرحلة واستطعنا ان نعمل كذا وكذا! ونحن نعرف من خبرتنا أن أصدق الصلوات التي رفعناها وأحرّها كانت تلك التي عدنا فيها إلى حضن الآب بعد ألم او سقطة لنلتمس منه القوة والرحمة ويتحول ألمنا إلى أمل وحياة، على عكس صلاتنا الفاترة في وقت الراحة والرخاء.

 

 

الصوم والألم؟

 

في زمن الصوم هذا تتعدد أشكال الصوم وطُرقه، والكنيسة أمنا تُعطي الحرية لأبنائها لعيش الصوم بالطريقة التي يراها كل شخص مناسبه له، ولكن يبقى الأساس والهدف منه هو واحد: التوبة والتكفير عن الخطايا استعداداً لعيد الفصح المجيد. لا تتم التوبة بدون ألم وتعب لأنها أصلاً فعل تعويض. ولا قيمة لعطائك إذا لم يكن جزء من ذاتك تقبله بحرية كما قبل يسوع الصليب وتُعطيه بمحبة. فالصوم عن الطعام والصدقة والصلاة هم واجبات إجبارية على كل مؤمن أن يعيشها ويُعطيها حتى يوجع العطاء، فحينها فقط نعرف أن ما نقدمه مِن هذه الأمور هو جزء مهم ولصيق مِن ذاتنا يصعب التخلي عنه. فإذا كان صيامك أيها المسيحي جميلا وسهلا وعادياً فهو ليس بصوم حتى لو كان كما تشترطه قوانين الكنيسة في الصوم والإنقطاع. واذا كُنت لا تآكل أصلا اللحوم والألبان والأجبان او كنت تتبع حمية وريجيم للتنحيف فما ذلك أيضاً بصوم. واذا كان صومك دون صلاة إضافية أو كانت صلاتك وقُدّاسك ومسبُحتك الوردية ودرب صليبك هُم هُم تكراراً وحفظاً دون انتباه وتركيز مُضاعف، فما هم بصلاة. وصدقتُك اذا كانت عطاءاً مِن الفائض ونقطة مِن بحر فليست عطاء بل بُخل وتوفير.

 

في الختام نقول مع صاحب المزامير 90: يا رب علمنا أن نُعِدُّ أيامنا ونستغلها في عمل الخير، فكل صعوبات وتجارب الحياة وشقائها تمرُّ سريعاً. أعطنا حكمة قلبكَ لنعرف مشيئتك ونراها في أعمالنا وآلامنا، ونتمسك ونثق بعدلك وحقِك ورحمتك لأننا بائسين خاطئين. عزّينا وقوينا ربِّ حتى نستحق ان ننعم معك بمجدك في السماء، هناك في اروشليم الجديدة حيث لا وجع ولا ألم بل فرح وسلام في جوارك للأبد. آمين