موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
حوار أديان
نشر الجمعة، ٢٥ أغسطس / آب ٢٠٢٣
ابن الرومي.. وصفة علاجية في أزمنة التيه الروحي

إميل أمين :

 

بعيدا عن السياسة وألاعيبها، وعن الحروب والصدامات وأكلافها، يعطينا العيد فسحة من الزمن للتحليق في عالم من الروحانيات، والتأمل الصوفي في حال الإنسان والأديان، علها فرصة لتهذيب النفس البشرية من أدران ما علق بها طوال العام.

 

قراءة العيد هذا العام ستتخذ لها منطلقا من عند الشاعر الصوفي الكبير "ابن الرومي" المولود في منطقة "بلخ"، أفغانستان حاليا، عام 836 ميلادية، والذي أسرّت تعاليمه كامل العالم الإسلامي، وفي حاضرات أيامنا، أبهج الغرب كذلك، كما ألهم الكثير من القلوب المتقدة ومحبي الله، بمشاعر الأخوة الإنسانية، والسعي في طريق خدمة البشر لبعضهم البعض.

 

وقر في ذهن وعقل ابن الرومي، أن المولى سبحانه وتعالى، أرسل الأنبياء ليلعبوا دورين أساسيين في حياة الإنسانية القلقة والمضطربة، الأول كمعلمين، والثاني كمعالجين.

 

لا يقصد ابن الرومي الانتقاص من دعوات الأنبياء إلى الوحدانية، والدعوة لعبادة الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، بل يؤكد على أن دورهم في هداية الناس كان يمر من خلال هاتين المرحلتين، وفيهما يتثبت الرجاء في العزة الإلهية، وترسخ في القلوب فكرة الوحدانية.

 

على أن المثير في معتقدات ابن الرومي، هو أنه أسند أهمية أكبر لدورهم كمعالجين من كونهم معلمين، ما الذي كان يعنيه ابن الرومي بذلك؟

 

بدون تطويل ممل، أو اختصار مخل، اعتقد هذا الصوفي الكبير إن الغرض الرئيسي للأنبياء والأديان هو تنمية النفوس ومعالجة الأرواح، لا ملء العقول بالتعليم، وإنما ملء القلوب بحب الله، وحب بعضهم البعض، وتطهيرهم من المرض والكراهية.

 

لم يهمل الرجل العقل، بل اعتبر أنه عندما يتحرر من الرذائل، يمكنه إيجاد طريقه برشاقة للغرفة المخفية التي تحتوي على أسرار العالم، وقاطعا بأن" عقلا مقيدا بالأغلال لهو سجين الطبيعة".

 

عبر أكثر من ألف عام اعتبر كبار الفلاسفة والفقهاء، عدا اللاهوتيين، عربا وعجما، أن ابن الرومي فتح أمامهم طريقا ذهبيا يمضي العقل في دربه، من خلال إقراره بأن تلك المنة العقلانية الربانية على بني البشر، إنما منحت لهم حصريا ليسعوا في طلب الحقيقة، وأن الله أرسل للناس الأديان لعبادة الخالق، ويصيبهم ويل كبير لو أنهم استخدموه لغايات وأغراض أخرى.

 

بم يشبه ابن الرومي العقل الخلاق الساعي في مسارات الوفاق، والمخالف لمساقات الافتراق؟

 

إنه يشبهه بعصا الإرشاد بأيدي العميان، وليس سلاحا في أيدي المقاتلين المعتدين ليضربوا بعضهم البعض.

 

من أشهر أقوال ابن الرومي في هذا السياق:

 

عندما تصبح العصا أداة للصخب والحرب، حطمها ألف قطعة، أيها الأعمى.

 

هل يحتاج زماننا هذا إلى مراجعة تلك الرؤى الروحية، والقادرة على استنقاذ البشرية من وهدة الضياع التي تعانيها من جراء صراع الشوفينات والقوميات، وصولا للحروب الداخلية الأهلية والتناحر الذي لا يبعد سوى خطوات معدودات عن الحرب الكونية الجديدة، تلك التي لن تبقي زرعا أو ضرعا لا قدر الله حال حدوثها.

 

تبدو كلمات ابن الرومي، أفضل وازع على ممارسة التسامح، لا سيما حين يساء استعمال عطية ربانية، واستخدامها في غرض مغاير للغرض الأصلي الذي وهبت من أجله من لدن الخالق.

 

يحث ابن الرومي على ترك تلك العطية حتى لو كانت "عصا" العقل والدين، وبخاصة حال تحولت الأديان والأيديولوجيات إلى أدوات للعداوة، أو كرست لزرع الكراهية، وحب الانتقام، والغرور بدلا من ملء القلوب بالحب وكرم النفس وميل القلوب تجاه الخالق، فساعتها ينبغي من غير خجل أو وجل التخلي عنها .

 

يعن لنا أن نتساءل: ألم يكن الأنبياء أطباء ومعالجين؟ أليست الأديان خادمة للأخلاقية والفضائل؟

 

وبصيغة استنكارية يمكننا أيضًا التساؤل: أي نوع من التدين هذا الذي يزيد المرض ويجعل الناس معادين لبعضهم البعض، أو يضعهم في الجنة والجحيم؟

 

الغوص فيما تركه ابن الرومي من تراث باطني، يدفعنا للذهاب بعيدا وأبعد مما هو مرئي للأعين، ذلك أن الدين عنده ليس عصا ولا سيفا، وإنما هو حبل يلزم على الفرد التشبث به بشكل مستقل، بتوق للارتقاء، وذلك كي يتسلق المرء خارج بئر الجهل والتيه، وأن يبصر نور المعرفة، وكرم النفس والعطف .

 

استخدم ابن الرومي مصطلح " الاشتياق للأعلى" وهو مصطلح محرك للعواطف وتعبيري للغاية، وفيه يقصد القول إن على المرء أن يستمر في التضرع إلى الله مخافة التعثر ولكي يصل إلى نهاية رحلته على الأرض سالما غانما، سليم الروح، من غير عيب أو لوم

 

في كتاباته العميقة والمؤثرة روحانيا ووجدانيا، نجد ابن الرومي يقدم للبشرية المعذبة، ما يمكن أن نصفه بالوصفة العلاجية، سيما في أزمنة "التيه الروحي"، التي نحياها.

 

خذ إليك على سبيل المثال ما يقوله للإنسان الحائر: "إن الحبل بين يديك، لكنك لا تريد أن تتسلق للخروج من البئر. لقد هبطت لقاع البئر بدلا عن ذلك. إنك لا تملك "إشتياقًا للأعلى" ولهذا السبب يكتسب تصحيح الإتجاه والهدف أولوية على حساب الوسائل والأدوات.

 

هل من خلاصة؟

 

قطعا هناك أناس يحولون الأديان إلى أدوات للعداوة، وهناك أناس يحولون الأديان إلى أدوات للعطف والتعايش المشترك.

 

يعتمد الأمر على شغفهم الذي يأتي قبل الدين ويقبع خارجه.

 

عيد سعيد وكل عام وأنتم في تواد وتعايش، في محبة ورحمة.

 

(العين الإخبارية)