موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر السبت، ١٥ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٥
أن نُعيد للعيد قلبه الضائع

الأب علاء بعير، كاهن رعية الكرك :

 

"فقَدِ افتَقَرَ لأَجْلِكُم وهو الغَنِيُّ لِتَغتَنوا بِفَقْرِه" (2 قورنتس 9:8)

 

مع اقتراب عيد الميلاد المجيد، تبدأ رعايانا ومناطقنا بالاستعداد لعيش هذا الزمن المقدس. وتزين المغارات وتضاء الأشجار، وتتلألأ الشوارع بأضواء العيد. وتقام البازارات في كل مكان، وتحضر النشاطات بمختلف أشكالها، فيعيش الناس حركة جميلة مفعمة بالفرح والأمل. ولا شك أن هذه التحضيرات تحمل في طياتها رغبة صادقة في إظهار أفضل ما لدينا، وتسهم في إدخال الفرح إلى القلوب، وتهيئة الأجواء للقاء الروحي الذي يحمله العيد.

 

لكن وسط هذا الجمال كله، يعود سؤال جوهري ليطرق باب التأمل: هل ما زلنا نعيش روح الميلاد كما ظهرت أول مرة في المغارة؟ فعندما ظهرت البازارات في عالمنا المسيحي، لم تنشأ للتنافس أو لتحقيق الأرباح، بل كانت مبادرة بسيطة تهدف إلى مساعدة المحتاج. كان الناس يجتمعون ليقدموا مما يملكون بمحبة، ويشاركوا بطيبة قلب، ويضعوا من وقتهم وجهدهم لخدمة المحتاج، ويجعلوا من عطائهم جسرا يجمع القلوب ويمسح تعب الفقير. كانت البازارات فعل محبة قبل أن تكون فعل بيع، ووسيلة ليشعر كل إنسان أن له مكانًا في قلب العيد.

 

أما اليوم، فنرى في بعض الأماكن أن البازارات أخذت منحى مختلفًا. نرى أسعارًا ترتفع داخلها أكثر مما هي خارجه، ونلاحظ تفاوتًا كبيرًا في تكلفة الطاولات من منطقة إلى أخرى، وأصبح الهدف الربحي ظاهرًا أكثر من الهدف الرعوي. ولذلك من الطبيعي أن نسأل: أين هو الفقير من هذه الاحتفالات؟ وأين موقعه الذي كان محور هذه المبادرات منذ بدايتها؟

 

ولا يقف الأمر عند البازارات فحسب؛ فحتى الاحتفالات المخصصة للأطفال أصبحت في بعض الأحيان مجالاً للتنافس غير الضروري، وارتفعت تكاليفها إلى حد يحرم الطفل الفقير من المشاركة في البهجة البسيطة التي يفترض أن تكون حقًا للجميع. وهكذا، وسط كثرة البرامج والتنظيمات، تضيع أحيانًا بسمة الصغير الذي كان يسوع يضعه في قلب تعليمه.

 

أما الميلاد الحقيقي، فهو قبل كل شيء عيد المحبة المتجسدة؛ تلك المحبة التي ظهرت في طفل صغير اختار أن يأتي إلى عالمنا ليكون قريبا من الإنسان، وخاصة من البسيط والضعيف، فيذكرنا بأن الفرح الحقيقي يولد عندما نتشارك ونعطي ونفتح قلوبنا للآخر. لقد "افتَقَرَ لأَجْلِكُم وهو الغَنِيُّ"، كما تقول الآية، ليُعلّمنا أن العطاء هو الطريق إلى الفرح، وأن مشاركة الفقير ليست لفتة، بل فعل إيمان.

 

من هنا، تصبح دعوتنا اليوم دعوة محبة وتأمل، لا انتقادا ولا إدانة. دعوة لنراجع نوايانا، ونعود إلى أصل المبادرات الرعوية التي وجدت لخدمة الإنسان لا لإثقال كاهله. دعوة لنمنح الطفل الفقير مساحة من الفرح، ولنفتح قلب الميلاد للجميع. دعوة لأن نعيد للبازارات رسالتها الأولى، وأن نجعلها فرصة لقاء حقيقي ومساحة محبة لا تعرقلها المظاهر أو الأسعار.

 

عيد الميلاد فرصة لكي نعيد ترتيب أولوياتنا، ونجعل من كل مبادرة وكل نشاط وكل بازار علامة من علامات نور المغارة. فلنأخذ من الطفل الإلهي مثالاً في المحبة، ومن المغارة درسًا في البساطة، ولنسمح للمحبة أن تقود أعمالنا، حتى نُعيد للعيد قلبه الضائع، فيولد فينا الميلاد من جديد.