موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الإثنين، ٦ يناير / كانون الثاني ٢٠٢٥
المجوس

أشخين ديمرجيان :

 

إلى بيت لحم أتى علماء المشرق "المجوس"، من بلاد الكلدان الأشوريين الذين يتحدّثون الآرامية، وتُعرف أيضًا في الكتاب المقدّس بأرض المشرق. وهؤلاء العلماء هم كهنة كلدانيّون وملوكٌ درسوا حركة النجوم والكواكب وسائر الظواهر يالفلكيّة وعلاقتها بأحداث العالم.

 

إنّ مجيء المجوس لزيارة الطفل يسوع تتميم لنبوّة بلعام بن بعور عن الميلاد الخلاصي: "أراه وليس في الحاضر، أُبصِره وليس من قريب... يخرج كوكب من يعقوب، ويقوم صولجان... من يعقوب يخرج سيّدٌ..." (عدد 24: 17)، كما أنبأ أنّ نجمًا يظهر في السماء يختلف عن سائر الكواكب، وظهوره يدلّ على ولادة ملكٍ عظيمٍ يسمو على سائر ملوك الأرض. وأوصى باتّباع هذا النجم المعجز، وتقديم الهدايا له، ذهباً ولباناً ومرّاً.

 

وكان علماء المشرق على علم بالنبوّة فالنبي بلعام آرامي من بلاد ما بين النهرين مثلهم، ومن هنا اهتمامهم بالنبي بلعام وبنبوّاته! وتتوافق نبوّة بلعام مع نبوّة النبي دانيال عن مجيء المسيح بدقّة متناهية (9: 25-26). وحينما قرب موعد ميلاد المسيح حسب النبوّات، كان هؤلاء العلماء "المجوس" الأوثان الذين آمنوا بالنبوّات وحفظوها ينتظرون علامة تُخبرهم عن هذا المجيء.

 

لكلّ موقف من مواقف الحياة "الكلام" المناسب له، أي "لكلّ مقام مقال" كما يقول المثل العربي، وحينما يريد الله أن يكلّم الانسان، يدور موضوع حديثه تعالى بلسان يناسب معرفة المخاطَب وثقافته كي يفهمه، لذلك تحدّث الله عزّ وجلّ مع اليونانيين بالفلسفة، ومع اليهود بالنبوّات، ومع التلاميذ عن طريق صيد السمك الوفير، ومع سيّدتنا مريم العذراء وخطّيبها العفيف القدّيس يوسف وزكريا والد يوحنّا المعمدان والرعاة في بيت ساحور عن طريق الملائكة، وكلّم علماء المشرق "المجوس" عن طريق النجوم "لغة الكواكب" التي يفهمونها.

 

هم يحسبون الحقائق العلميّة والفلكيّة فوق كلّ اعتبار بشريّ، فأوجد سبحانه اقتراناً ثلاثيّاً بين النجوم، وأرسل اليهم نجمة مذنّبة ذات صفات عجيبة تميّزها عن باقي النجوم، ممّا أثار فضولهم واهتمامهم العلميّ، وفهموا من شكل النّجم وزمان ظهوره أنّه يُنبىء عن "مولد طفل معجز"، وكانت النجمة علامة حاسمة دفعتهم للانطلاق في مسيرة شاقّة، فجهّزوا أنفسهم لرحلة طويلة، وتبعوا النجم من بلاد فارس في المشرق إلى الأرض المقدّسة.

 

وحين وصلوا إلى الدّيار المقدّسة، توقّف النجم عن إرشادهم، لكي يقف حيناً فوق المدينة المقدّسة كمرحلة أولى. فسألوا اليهود ليُرشدوهم، وسألوا هيرودس الملك، فذاع الخبر وانتشر، وبهذا تكلّم الله مع اليهود ليعرفوا نبأ ميلاد السيّد المسيح. وحينما وصل المجوس إلى مدينة بيت لحم مسقط رأس السيّد المسيح، هناك سطع النجم بشكل فريد فوق مكان ولادته ليُعلن وصولهم، ودخلوا بين يديه، كي ينالوا بركة الطفل الذي كتب عنه دانيال النبي :"كنت أرى في رؤى الليل، وإذا مع سحب السماء مثل ابن إنسان أتى وجاء إلى القديم الأيّام فقرّبوه قدّامه. فأعطى سلطانًا ومجدًا وملكوتًا لتخدمه كلّ الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطان أبديّ  لن يزول، وملكوته لن ينقرض" (دا7: 13، 14).

 

في نبوّة دانيال (4: 2-13)" كلّم الكلدانيون الملك بالآرامية، ومرّة أخرى ما اعجب التدبير الإلهي، إذ جاء المجوس "الاراميّون" لزيارة السيّد المسيح الذي بدوره يتحدّث لغتهم "الآرامية".

 

أمّا الملك هيرودس فقد طلب من المجوس أن يتحقّقوا من مكان الطفل في بيت لحم ويعودوا إليه، بذريعة أنّه سيذهب هو أيضاً ويؤدّي له الولاء والإكرام! في الحقيقة كان هيرودس يضمر قتل المسيح المنتظَر خوفاً على عرشه، لذلك حينما لم يعد المجوس اليه، قرّر إبادة جميع أطفال بيت لحم كي يقتل معهم السيّد المسيح، ويرتاح من كابوس ضياع العرش والملكوت الدّنيويّ.

 

هكذا، يتنوّع أسلوب حديثه تعالى مع البشر طبقاً لظروف ومتغيّرات كثيرة.  يدعونا الله ويكلّمنا عبر الأنبياء والرسل والكتب المقدّسة (عن عبرانيّين 1: 1 وتابع)، ومن خلال الأحداث المختلفة في دائرة حياتنا، وعن طريق الطبيعة التي تحيط بنا (رومية 1: 18 وتابع، مزمور 19 (18): 1 وتابع) أو أعمالنا ونشاطاتنا وممارساتنا اليوميّة. والبعض منّا يُعلن ايمانه أمام الملأ (ظاهرًا بمظهر العابد) وفي الواقع لا يؤمن بالله! والبعض يرفض أقوال الأنبياء، أو يقفل باب قلبه أمام مشيئته تعالى، أويرفض الإصغاء إلى الله عزّ وجلّ أو ينفر من سماع صوته مثل الملك هيرودس، حينئذٍ تكون الطامة الكبرى، وتكون خسارة المتمرّد عظيمة.

 

يدعونا الله اليوم، نحن أتباع جميع الديانات الموحّدة، أن نوقف الحروب بالصوم والصلاة، مثلما فعلنا مرات عديدة، حينما دعا قداسة الحبر الأعظم العالم أجمع الى يوم صوم وصلاة على نية السلام في العالم أجمع. ويجدر بنا أن نكرّر هذه الممارسة في مجموعات صغيرة مع الأهل والأصدقاء، حتى لو كان صيامنا أحياناً لمدّة نصف يوم إن كان الأمر صعباً، فالصلوات الحارّة من أجل سلامة "جميع الناس" (عن تيموثاوس الأولى 2: 1 وتابع) بإمكانها تغيير مجرى التاريخ لأنّها نوعاً ما وبرضاه تعالى تؤثّر على وجدانه تعالى، وقوّة الصلاة أكبر من أية مؤامرة سياسيّة شيطانيّة تحبك الويلات في الخفاء - وها هي اليوم تنشب أظافرها لتنقضّ على بلدان تطمع بثرواتها...

 

 

خاتمة

 

اليوم إن أنت سمعت صوته تعالى فهل تُقسّي قلبك (عن مزمور 95 (94): 7-8) وتُعرض عنه؟ أم تُعيره أذناً صاغية وتُعاهده بقلب مملوء فرحاً وايماناً؟ وتجعله يعمل؟ وعمل الله لاحدود له ولا مساحات!