يَا نَجمَةَ الصُّبحِ شِعّي في مَعابِدِنَا

عيد الحبل الطّاهر بأُمِّنا مريم العَذراء (الحَبل بِلا دَنس)

لَا أَحدَ مِنَ البَشَر، نَالَ مَا نَالَتْ مَريمُ العَذراء، مِنَ الْمَكَانَةِ والرِّفعَة! لِأنَّ الَّذي نَالَتهُ مَريمُ أُمُّنَا مِنَ الْمَجدِ والكَرامَة، لَمْ يَكُنْ هِبَةً أَو أُعْطِيَةً مِنْ إنْسَانٍ فَانٍ عَليهَا، بَل كَانَ فَضلًا وإِنْعَامًا مِنَ اللهِ الأزليِّ نَفسِه، الّذي خَصَّ مَريمَ بهذا الْمَجدِ السَّامِي، ورَفَعَهَا إلى هَذِهِ الْمَنزِلَةِ الرَّفيعَة. ولَقَدْ أَدْرَكَتْ مَريمُ ذلِكَ بِفَضلٍ مِنَ الرُّوحِ القُدس، الَّذي حَلَّ عَليهَا سَاعَةَ البِشَارة، فَأَنْشَدَت قَائِلةً: ﴿سَوفَ تُهَنِّئُني بَعدَ اليَومِ جَميعُ الأجيَال، لِأنَّ القَديرَ صَنَعَ إليَّ أُمورًا عَظيمَة﴾ (لوقا 48:1-49).

فَاللهُ بإرادَتِهِ وتَدبِيرهِ الحَكيم، اِرْتَأى أَنْ يَصْطَفيَ مَريمَ العَذراء، مِنْ بَينِ كُلِّ نِسَاءِ العَالَمين، ويختَارَهَا أُمًّا لِلمَسيحِ كَلمةِ الله، الَّذي نَستَعِدُّ في هَذهِ الأيّامِ، للاحتِفَالِ بِعيدِ مَولِدِهِ الْمَجيد. ولِكَي يَتِمَّ ذَلِك، أَنعَمَ اللهُ عَلَى البَتُولِ فائِقَةِ القَدَاسَة، بِإنْعَامٍ فَريدٍ وحَصْريّ. فَمَعْ أَنّها كُوِّنَت في رَحمِ والدتِهَا حَنّة، كَسَائِر البَشر، بِشَكلٍ طَبِيعيّ، إلّا أَنَّ اللهَ قَدْ حَبَاهَا نِعمَةَ "الحَبَلِ بِهَا" دُونَ أنْ تَمَسَّها الخَطيئَةُ أو نَتَائِجُهَا، بَلْ حُفِظَتْ مُنَزَّهَةً نَقيَّةَ الكَيانِ كَامِلًا، صَافِيَةً شَريفَةً لا دَنَسَ فِيهَا، ولا تَشُوبُها أَيَّةُ شَائِبَة.

هَذَا الإيمانُ الْمُستَقيم، أَعْلَنتُهُ الكَنيسةُ الكَاثوليكيّةُ عَقيدَةً تُلزِمُ كُلَّ مُؤمِنٍ صَالِح، في شَأنِ العَذراءِ القِدّيسةِ مَريم. وَالَّتي جَاءَ إعلانُهَا بلِسَانِ البَابا بِيوُس التّاسع، في الثَّامِنِ مِنْ كَانُونِ الأوّل لِعَامِ 1854، عَلَى النَّحوِ التّالي: ((العَقيدَةُ الّتي تَقُولُ بإنَّ العَذراءَ مَريم، قَدْ عُصِمَت مِنْ كُلِّ دَنَسٍ لِلْخَطيئَةِ الأصلِيّة، مُنذُ الَّلحظةِ الأولَى لِلحَبلِ بها، بِنِعمَةٍ وحُظْوَةٍ خَاصَّةٍ مِنَ اللهِ القَدير، نَظَرًا إلى اسْتِحقَاقَاتِ سَيِّدنَا يسوعَ الْمَسيح، مُخَلِّصِ الجِنسِ البَشَريّ، هِيَ عَقيدةٌ أَوحَى اللهُ بِهَا، وَيجبُ أَنْ يَعتَقِدَها كُلُّ الْمُؤمنينَ بِثَبَات، وفي كُلِّ حِين))/ الكَنيسة الكاثوليكيّة في وثائِقها # 2803.

عَقيدَةُ الحَبَلِ بِلا دَنس، وإنْ اختَلَفَ فِيهَا مَعَنَا بَعضُ الإخوَةِ الْمَسيحيّين، لأسْبَابِهم وآَرائِهِم، إلَّا أنَّنَا نَرَى فِيهَا كَمُؤمنينَ كَاثوليك، حِفَاظًا عَلَى دَورِ مَريمَ واعتِرافًا بِمَكَانَتِهَا الحَصريّةِ، في عَمَلِ الفِدَاء الّذي تمَّ في الْمَسيحِ يَسوع. فَمَريمُ قَدْ افْتُدِيَت وخُلِّصَت، في الْمَسيحِ الْمُخَلِّص، كَسَائِر البَشَر، بِشَكْلٍ فَريدٍ واسْتِبَاقَيّ. وعَلَى سَبيلِ الْمِثَالِ، أَلَمْ يَقُلْ الرَّبُّ لِزَكّا العَشَّار: ﴿اليومَ حَصَلَ الخَلاصُ لِهَذا البَيت﴾ (لوقا 9:19). فَمَا الْمَانِعُ إذًا، أَنْ يَكونَ خَلاصُ العَذراءِ مَريم، قَدْ تمَّ بِوَاسِطَةِ الْمَسيحِ الْمَصلوبِ والقَائِم، حَتَّى وإنْ لَمْ يَكُنْ الْمَسيحُ قَدْ صُلِبَ وقامَ بَعد؟!

ثُمَّ أنَّ عِيدَ الحَبلِ بِلا دَنَس، هُوَ رِسالَةٌ لَنَا ودَعوَة. فَنَحنُ، وإنْ لَمْ نَنَلْ نِعمَةَ "الحَبلِ الطَّاهِرِ"، كَمَا نَالَت مَريم، بَلْ كَمَا يَقولُ دَاودُ النَّبيُّ: ﴿إنِّي في الإثمِ وُلِدتُ، وفي الخَطيئَةِ حَبِلَتْ بي أُمّي﴾ (مز 7:51). إِلَّا أَنَّ دَعوَتَنَا هِيَ أَنْ نَعيشَ ونَحيَا، قَدرَ الإمْكَان، بِلا خَطيئةٍ وبِلا مَعصِيَة، وفي حالَةِ النِّعمَةِ والبَرارَة، والسَّعيِ نحوَ القَدَاسَة، تمامًا مِثلَمَا عَاشَت مَريم. هَذهِ هيَ البُطولَةُ الْمَسيحيَّةُ في أَسمَى مَعَانيهَا. ومريمُ أُمُّنَا هِيَ أَروعُ مِثالٍ بَشَرِيٍّ عَلَيهَا.

دَعونَا يا أحِبَّة في هَذَا العيدِ السَّعيد، نُجدِّدُ الْتِزامَنَا بِدَعوَتِنَا الْمَسيحيَّة الأسمَى، في أنْ نَعيشَ في هَذَا الدَّهر، ووَسطَ هذا العَالَم: قِدِّيسينَ طَاهِرين، أَنقياءَ الفِكرِ والقَلب، والنِّيَةِ والرَّغبَة، والنَّظَرِ والِّلسانِ واليَد، أَتقياءَ مُتَواضِعين، مُبتَهِجينَ باللهِ مُخلِّصِنَا، مُعَظِّمينَ فِعَالَهُ فينَا. فَنَكونَ عَلَى حَدِّ قَولِ بُولسَ الرَّسول، في رِسَالتِهِ إلى أهلِ فيلبّي: ﴿بِلا لَومٍ وبِلا شَائِبَة، وأَبنَاءَ اللهِ بِلا عَيبٍ، في جِيلٍ ضَالٍّ فَاسِد، تُضيئونَ فِيهِ ضِيَاءَ النَّيراتِ في الكَون، مُتَمَسِّكينَ بِكَلِمَةِ الحَياة﴾ (فل 15:2).