موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٨ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٤

الأحد السّادس والعشرون من زمن السنة – ب، 2024

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
الأب فارس سرياني

الأب فارس سرياني

 

﴿وَطُوبَى لِمَن لا أَكونُ لَهُ حَجَرَ عَثرَة﴾ (لوقا 23:7)

 

تَمشِي، في أَمانِ الله، وقَدْ مَالَ النَّهارُ وتَسَرَّبَتِ العَتمَة، وإِذْ بِحَجَرٍ في الطَّريقِ يَظهَرُ لَكَ مِنْ حَيثُ لا تَحتَسِب، فَتَصطَدِمُ بِهِ ويُسْقِطُكَ أَرضًا، وتُصَابُ إِصَابَةً مُوجِعَة. حَجَرُ العَثرَةِ يا أَحِبَّة حَجَرٌ مُؤذِي ومُضِر. وَعِندَمَا أَرَادَ رَبُّ الْمَجدِ أَنْ يُشَبِّهَ البَعضَ بِأَنَّهُم "حِجَارَةُ عَثرَة"، فَذَلِكَ لِكَي يُدَلِّلَ عَلَى حَجمِ السُّوءِ، ومِقدَارِ الأَذَى الَّذي قَدْ يُلْحِقُونَهُ بِالغَير، خُصَوصًا عَلَى مُستَوى الإيمَانِ، بَسُلُوكِيّاتٍ مُشَكِّكَة، ويَغدو وُجودُهم في طَريقِ الجَمَاعة "سَبَبَ عَثرةٍ ومَصدَرَ شَك".

 

مِنْ نَاحِيَةٍ أُخرَى، نَسمَعُ الآيةَ الّتي فِيهَا يُخَاطِبنَا الرّبُّ قَائِلًا: ﴿وَطُوبَى لِمَن لا أَكونُ لَهُ حَجَرَ عَثرَة﴾ (لوقا 23:7). هُنَا الْمُشكِلَةُ لا تَكمُنُ في الحَجَر، أَي في الْمَسيح، إِنّمَا في الْمَواقِفِ العِدَائِّيةِ والسَّلبِيّةِ الّتي يَتَّخِذُها كَثيرونَ إِزَاءَ السَّيدِ الْمَسيحِ وتَعَالِيمِه! فَنَحنُ نُدرِكُ جَيِّدًا أَنَّ تَعَاليمَ الرَّبِّ وعَيشَهَا لَيسَ بالأَمرِ الهَيّن، وقَدْ تُصبِحُ لِعَدِيدين حَجرَ عَثرَة، لِأنّهَا تُعَارِضُ طَبيعَةَ تَفكِيرهِم، وأَنمَاطَ سُلُوكِهِم، ولا تَتَّفِقُ مَع رُدُودِ فِعلِهم الغَرائزيّة، فَيَرونَ فِيهَا شَيئًا مُزعِجًا ونَيرًا مُرهِقًا. أَلَم يَقُل الرَّبُّ عَلَى لِسَانِ أَشعيا: ﴿إِنَّ أَفكَارِي لَيسَت أَفْكارَكُم، ولا طُرقُكُم طُرُقي﴾؟ (أش 8:55).

 

وهَذَا مَا يُفَسِّرُ مَوقِفَ كَثيرٍ مِنْ أَتْبَاعِ يَسوع، في نَهايَةِ الفَصلِ السَّادِس مِنْ بِشَارَةِ يُوحَنَّا، لِمَّا قَالُوا: ﴿هَذَا كَلامٌ عَسير، مَنْ يُطيقُ سَماعَه؟ فَقَالَ لَهم يَسُوع: أَهَذَا حَجَرُ عَثرَةٍ لكُم؟ فَارْتَدَّ عِندَئِذٍ كثيرٌ مِنْ تَلاميِذِه، وانْقَطَعُوا عَنِ السَّيرِ مَعَهُ﴾ (يوحنا 60:6-61، 66).

 

فَالرّبُّ يَدعُوك لِأنْ تَغفِر، وأَنت تَسعَى للانتِقَام. ويَدعُوك لِأنْ تَرأَفَ وتَرحَم، وأَنت تَستَبِدُّ وتَظلم. ويَدعُوك لِأنْ تَتَواضَع، بَينَما تَكادُ تَنفَجِرُ مِنْ شِدَّةِ الكِبرياء. ويَدعُوك لِأن تُحِبَّ، وأَنت تُبغِض. ويَدعُوك لِأنْ تُنَقِّي شَفَتَيك، ولِسَانُك يَفيضُ مَكرًا وكَلامًا كَريهًا. ويَدعُوك أَلّا تَشتَهِي شَخصًا أو مُقْتَنًا، وعَينُكَ حَسودَة، وفِكرُكَ وقَلبُكَ مُجَمَّعٌ لِكُلِّ خَيَالٍ ورَغبَةٍ دَنِسَة. وَقِسْ عَلَى ذَلِكَ كَثيرًا مِنَ الأُمورِ الّتي تُخَالِفُ فِكْرَ اللهِ وطُرُقَهُ... هُنَا نَقُولُ بِأَنَّ الْمَسيحَ يَغدُو حَجرَ عَثرَةٍ وعِلَّةَ إِدَانَة، إذْ شَتَّانَ مَا بَين دَعوةِ الرّبِّ ومَا نَحيَاه. وهُنَا يَنطَبِقُ قُولُ الْمَهاتما غَاندي، يَومَ خَاطَبَ الْمُستَعمِرَ الإنجليزيّ: "أَعطُوني مَسيحَكُم وخُذُوا مَسيحيّتَكُم".

 

يا أَحِبَّة، دَعوَتُنَا أَلّا نَكونَ حِجَارَةَ عَثرَة هَدَّامَة، بَلْ حِجَارةً نَافِعَةً تُفيدُ البُنيَان. عَلَى حَدِّ قَولِ الرَّسُولِ بُطرس في رِسَالتِهِ الأولَى: ﴿وَأَنتُم شَأنَ الحِجَارَةِ الحَيَّة، تُبنَونَ بَيتًا رُوحِيًّا، فَتَكُونُونَ جَمَاعَةً كَهَنوتيَّة مُقَدَّسَة﴾ (1بط 5:2). دَعوَتُنا أيضًا أَلّا يَكونَ الْمَسيحُ حَجَرَ عَثرةٍ لَنَا، أي أنْ نَصنَعَ انسِجَامًا، ونجعَلَ مِنْ حَياتِنَا لَحنًا مُستَسَاغًا دُونَ نَشَاز، ومَقْطُوعَةً إنسَانِيّةً ورُوحِيّةً فَريدَة، تَجمَعُ بَينَ كَلامِ الْمَسيحِ ونَمَطِ حَياتِنَا.

 

في القِسمِ الثَّاني مِنْ إنجيلِ هَذَا الأَحَدِ السَّادسِ والعِشرين مِنْ زَمَنِ السَّنَة، كَلامُ الْمَسيحِ صَعبٌ وقَاسٍ! ورُبَّمَا عَاشَهُ البَعضُ بِشَكلٍ حَرفِيّ، كَمَا فَعَلَ القِدّيسُ سِمعانُ الخَرَّاز. وإِذَا مَا أَرَدنَا نَحنُ أَنْ نُطبِّقَ هَذَا الكَلامَ بِحَذَافِيرِه، لَدَخلنَا كُلُّنَا الحَيَاةَ الأبَديّةَ بِإعَاقَاتٍ وتَشَوُّهَات! وَلَكِنَّ رَبَّ الْمَجدِ تَعَمَّدَ الخُشُونَةَ في كَلامِهِ، إِذْ لا هُدنَةَ يَعقدُهَا الْمُؤمِنُ، ولا حَالَةَ وَسَطِيَّة أو مُسَاوَمَة يَحيَاهَا مَع عَالَمِ الشَّرِّ والخَطيئَة! فَلَيسَ بالإِمكَانِ أَنْ تَكونَ "مَعِ الْمَسيحِ وعَليهِ" في آَنٍ وَاحِد، "فَإمَّا مَعَهُ وَإمَّا عَلَيِه"!.

 

ثُمَّ أَنَّ اللهَ قَدْ حَبَانَا هَذَا الجَسَدَ الكَريم، لِنَحيَا بِهِ ومِنْ خِلالِهِ حَيَاةً شَريفَة، ونَأتيَ ثمارًا صَالِحَة. لا لِكَي نَسرِقَ ونَعتَدي بِأَيدينَا، ولا لِكَي نُسَارِعَ إلى ارتِكابِ الْمَعَاصي بِأرجُلِنَا، ولا لِكَي نَشتُمَ ونَفتَري بِأَلْسِنَتِنا، ونُنَاظِرَ البَاطِلَ والقَبَائِحَ بِأَعيُنِنَا. وعَلَيهِ يَحُثُّنَا الرَّسُولُ بُولُسُ في الأولى إلى أَهلِ قُورنتس بِقَولِهِ: ﴿أَوَ مَا تَعلَمونَ أَنَّ أَجسَادَكُم هيَ هَيكَلُ الرُّوحِ القُدُس؟ فَمَجِّدُوا اللهَ إِذًا بِأَجسَادِكُم﴾ (1قور 19:6-20). ثُمَّ يُضيفُ في الثَّانِيَةِ قَائِلًا: ﴿لابُدَّ لَنَا جَميعًا مِنْ أَنْ يُكشَفَ أَمرُنَا أَمَامَ مَحْكَمةِ الْمَسيح، لِيَنالَ كُلُّ واحِدٍ جَزَاءَ مَا عَمِلَ وهوَ في الجَسَد، أَخيرًا كَانَ أَمْ شَرًّا﴾ (2قور 10:5). فَلا تَجعَلَنَّ مِنْ جَسَدِكَ حَجَرَ رَحاكَ الْمُهلِك، بَلْ صَيِّرهُ وسِيلَةً بها تَبلُغُ الخَلاصَ وتَنَالُ الرَّحمَة. مُرَنِّمًا مَع صَاحِبِ الْمَزامير: ﴿هوَ وَحدَهُ صَخرَتي وخَلاصِي، هوَ حِصْني فَلا أَتَزَعزَع﴾ (مز 3:62).