موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢١ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٤

الأحد الخامِس والعشرون من زمن السنة – ب، 2024

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
الأب فارس سرياني

الأب فارس سرياني

 

﴿لا خَوفَ في الْمَحبَّة﴾ (1يوحنا 18:4)

 

أَيُّها الأحِبَّاءُ جَميعًا في الْمَسيحِ يَسوع. هَذهِ هِيَ الْمَرَّةُ الثَّانِيةُ الّتي يُنْبِئُ يَسوعُ فِيهَا تَلامِيذَهُ، بِآَلامِهِ ومَوتِهِ ثُمَّ قِيَامَتِه، دُونَ أَنْ يُدرِكُوا مَعنَى الكَلام! الأَمرُ الْمُختَلِفُ هَذهِ الْمَرَّة، أَنَّهُم الْتَزَمُوا الصَّمتَ بِسَببِ خَوفِهم. كَانُوا حَائِرينَ ولَكِنَّهُم فَضَّلُوا السُّكُوتَ عَلَى سُؤالِهِ مَاذَا يَقصدُ بِكَلامِهِ هَذا، خِلافَ الْمَرَّةِ الأولَى، الّتي تَصَدَّرَ فِيهَا بُطرسُ الْمَشهَدَ كَعَادِتِه، إذْ أَخَذَ يُعَاتِبُ يَسوع مُعْتَرِضًا عَلَى مَا يَقُول، مُعْتَقِدًا أَنَّهُ صَاحِبُ ولايَةٍ عَلَيه، أو وَكَأنَّ يَسوعَ كَانَ يَهذي فَلا يَدري مَا يَقُول. فَنَالَ بُطرسُ نَصيبَهُ الوَافِي مِنَ التَّوبِيخ: ﴿اِنْسَحِبْ وَرائي يَا شَيطَان، لأَنَّ أَفكارَكَ لَيسَت أَفكارَ الله، بل أَفكارُ البَشَر﴾ (مرقس 33:8).

 

ذَلِكَ أنَّ يَسوعَ لا يُهَادِنُ ولا يُدَاهِن. فَالوجَهُ عِندَهُ وَجْهٌ وَاحِد، ولا أَقنِعَةَ يرتَدِيهَا بِحسبِ الْمَواقِفِ والأَشخَاص. عَكسَ عَالَمِنَا القَائِمِ عَلَى النِّفَاق وتَشْوِيهِ الوَقَائِع وتحويرِ الحَقَائِق. والأقبَحُ مِنْ ذَلِكَ التَّنَازُلُ الْمُخزِي الّذي نَشهَدُهُ في بَعضِ الْمَواقِفِ العَامَّة، عَنْ بَعضِ مَبادِئِ الإيمان، تَحَتَ مُسَمَّيَاتٍ هَجِينَة، أو رَغبَةً في رُكوبِ الْمَوجَة، وتَحقيقِ مَصالِحَ شَخصِيَّة واجتِمَاعِيَّة!

 

أَيُّها الأَحِبَّة، مَع الْمَسيحِ تُؤخَذُ الأُمورُ بِمُجمَلِهَا: حَيثُ لا تُقبَلُ أَنصَافُ الحَقَائِق، ولا اختِلافُ الحَديث باختِلافِ الحَاضرين، ولا الْمُجامَلَةُ عَلى حِسَابِ جَوهَرِ العَقيدَةِ، ولا التَّذَبذُبُ في الإيمانِ سَعيًا لاستِمالَةِ هَذَا أو تَملُّقِ ذَاك، ولا حَتّى الصَّمتُ النَّابِعُ مِن الخَوفِ أو التَّذَلُّل! عِندَ الْمَسيحِ هَذَا يُعَدُّ نِفَاقًا. أَنَحنُ الْمَسِيحيّين، قِيَادَةً ومُؤمِنين، نَسعَى لإرضَاءِ اللهِ أَمْ لإرضاءِ العَالَمِين؟! إذْ: ﴿مَنْ شَهِدَ لي أَمَامَ النَّاس، أَشهَدُ لَه أَمامَ أبي الَّذي في السَّموات. وَمَنْ أَنْكَرَني أَمامَ النَّاس، أُنْكِرُه أَمَامَ أَبي الَّذي في السَّمَوات﴾ (متّى 32:10-33).

 

في إنجيلِ هَذا الأحَدِ الخامِسِ والعِشرين مِنْ زَمنِ السَّنَة، نَرَى الصَّمتَ قَدْ كَبَّلَ التَّلاميذَ مَرَّتَين! فَبَعدَ خَوفِهِم مِنْ سُؤالِ يَسوع عَمَّ كَانَ يَتَحَدَّث، نَرَاهُ هُوَ يُبَادِرُ إلى سُؤالِهم: ﴿فِيمَ كُنتُم تَتَبَاحَثونَ في الطَّريق؟﴾ (33:9). فَكَانَ الصَّمتُ جَوابَهُم! لَمْ يَجْرُؤ أَحَدٌ مِنهُم أَنْ يُصَارِحَهُ بأَنَّهُم كَانُوا يَتَباحَثُونَ فِيمَن هُوَ الأَكبَرُ بينَهم! هَذَا الصَّمتُ الْمُزدَوَج لَهُ دَلالَاتُه، فَهوَ مِنْ نَاحِيةٍ يَدلُّ عَلَى القُوّةِ الّتي كَانَ يَتَمَتّعُ بِها يَسوع، وهي قُوَّةٌ في الحُضورِ والْمَنطِقِ والحَقِّ، ومِنْ نَاحِيَةٍ أُخرَى يَدلُّ عَلَى عَجزِ التَّلاميذِ وخَوفِهِم مِنْ مُكاشَفَةِ يَسوع بِمكنُونَاتِ قُلوبِهم، إذْ كَانُوا عَلَى خَطَأ!

 

فَالإنْسَانُ الْمُذنِبُ عَادَةً هو إنسَانٌ يُقيِّدُهُ الخَوف، ويَخشَى الاعتِرافَ بِذَنبِه، ويَستَتِرُ وَرَاءَ الصَّمتِ أَو التَّبريرِ أو الانْكَارِ دِفَاعًا! ولَكنَّ يَسوعَ العَالِمَ بِما أَخفَت القُلوبِ وأَضمَرت العُقول، أَعطَاهُمْ دَرسًا في أَنَّ الكِبَرَ الحَقيقيّ لَيسَ في الخُشونَةِ والاستِعلاءِ وإعطاءِ الأَوامِر، بِقَدرِ مَا هو في البَسَاطَةِ والتَّواضُعِ والخِدمَة! ولِذلِكَ أَضَافَ في مَوضِعٍ آخر: ﴿تَعلَمُونَ أَنَّ الَّذينَ يُعَدُّونَ رُؤَساءَ الأُمَمِ يَسودونَها، وأَنَّ أَكَابِرَها يَتَسَلَّطونَ علَيها. فَلَيسَ الأَمرُ فيكم كَذَلِك. بَلْ مَن أَرادَ أَن يَكونَ كَبيرًا فيكم، فَلْيَكُنْ لَكُم خَادِمًا. ومَنْ أَرادَ أَن يكونَ الأَوَّلَ فيكم، فَلْيَكُنْ لأَجمَعِكم عَبْدًا﴾ (مر 42:10-44).

 

﴿فِيمَ كُنتُم تَتَبَاحَثونَ في الطَّريق؟﴾. هَذَا سُؤالٌ يحمِلُ في طَيّاتِهِ عِتَابًا نحوَ التَّلامِيذ! دَعُونَا نَتَخَّيِلُ الْمَشهَد: يسوعُ يُنبِئْ التَّلامِيذَ بِآلامِهِ ومَوتِه، والتَّلامِيذُ يَخَافونَ سُؤَالَهُ. هُنَا لا بُدَّ أَنَّ يَسوعَ قَدْ تَقَدَّمَهُم في الْمَسِير، وهُمْ أَصَابَهُم الارتِبَاك، وصَارُوا يَتَجَادَلُونَ حَولَ الْمَرحَلَةِ "مَا بَعد رَحيلِ يَسوع"، ويَضعُونَ التَّرتِيبَاتِ حَول مَنْ سَتَؤُولُ إليهِ الشِّيخَةُ والزَّعَامَة! هَذَا مَوقِفٌ مَعِيبٌ مِنْ طَرفِ التَّلاميذ، ولا بُدَّ أَنَّ يَسوعَ قَدْ شَعرَ مِنهُم بالخِذلان والنُّكرَان. فَبَدَلًا مِنْ التِفَافِهم حَولَ مُعلِّمِهم، والوُقُوفِ إلى جَانِبِه ودَعمِهِ مَعنَويًّا، صَارُوا يَتَنازَعُونَ ويُوزِّعُونَ الحِصَص، كَأَبنَاءٍ أَخَذُوا يَتَقَاسَمونَ الْمِيراثِ، عِوضًا عَنِ الالتِفَافِ حَولَ وَالِدهِم الْمُشرِفِ عَلَى الْمَوت!

 

ومع ذَلِكَ لم يَيأَسْ يَسوعُ مِنهُم، بَلْ جَعَلَ جِدَالِهم مُنَاسَبَةً لِتَعلِيمِهم: ﴿مَنْ أَرَادَ أَن يَكونَ أَوَّلَ القَوم، فَلْيَكُن آَخِرَهُم جَميعًا وَخادِمَهُم﴾ (35:9). إنَّ اللهَ لا يَيأسُ مِنَ الإنسان إِنَّما الإنسانُ هو الّذي يَيأسُ مِنَ الله. إنَّ الله لا يرتَدُّ عَنْ إنسان إنّما الإنسانُ هو الّذي يَرتَدُّ عَنِ اللهِ ويَنقَطِعُ عَنِ السّيرِ مَعَهُ! إنَّ اللهَ لا يصمتُ عَنْ إِنسان إنّما الإنسانُ هو الّذي يَصمتُ عَنِ اللهِ، مُفَضِّلًا الاستِتارَ والغَوصَ في وَحلِ خَطَايَاه.

 

كُمْ أُحِبُّ الآيةَ مِنْ سِفرِ الْمَزاميرِ والّتي تَقُول: ﴿أَبَحتُكَ خَطيئَتي، وما كَتَمتُ إِثْمي﴾. (مز 5:32). الخَوفُ يا أَحِبَّة يُقَيِّدُ ويُهلِك، أَمّا الْمَحبَّةُ فتُحَرِّرُ وتُنَجِّي. الخَطيئَةُ خَلَل ولكِنَّ الخَوفَ شَلَلٌ، يمنَعُكَ عَنْ مُعَالَجةِ الخَلَل. الخَوفُ دَاءٌ مُزِمن، فَلا تَدعْهُ يَتَمَلَّكُكَ أَيُّها الْمُؤمِن في عَلاقَتِكَ معِ الْمَسيح، لِأنَّهُ هو الوحيدُ الّذي لن يَحكُمَ عَليك، بل يَأخُذُ بِيَدِكَ لِيَنْتَشِلَكَ مِنْ سَقَطاتِكَ، مَهمَا كَانتَ عَظيمَة.

 

بِهذهِ الثِّقَة نَسيرُ في دُرُوبِ الحَيَاةِ مُجَاهِدِينَ وحَاجِّينَ، مُؤمِنينِ بِقَولِ الكِتَاب: ﴿لا خَوفَ في الْمَحبَّة، بلِ الْمَحبَّةُ الكَامِلةُ تَنْفي عَنهَا الخَوف﴾ (1يوحنا 18:4).