موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٢ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٤

الأحد الثّامِن والعشرون من زمن السنة - ب، 2024

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
الأب فارس سرياني

الأب فارس سرياني

 

﴿أَنْسى ما ورائي وأَتَمطَّى إِلى الأَمام﴾ (فيلبّي 13:3)

 

﴿لا صالِحَ إلّا اللهُ وحدَه!﴾ (مرقس 18:10). فَصَلاحُ اللهِ صَلاحٌ مُطْلَقٌ دُونَ نُقصَان، خَالِصٌ لا تَشُوبُهُ شَائِبَة. وقَدْ تَرنَّمَ صَاحِبُ الْمَزاميرِ فَقَال: ﴿إِحمَدُوا الرَّبَّ لأَنَّه صَالِحٌ، لانَّ للأبدِ رَحمَتَهُ﴾ (1:107). وَلِأنَّ الرّبَّ كُليُّ الصَّلاح، فَهو كَامِلُ الرَّحمَة. ورَحمتُهُ تَعَالَى جُزءٌ أَصيلٌ مِنْ دَعوتِهِ للإنسانِ إلى التَّوبَة، والسَّعيِ بِدَورِهِ نَحوَ الصَّلاحِ، والظَّفَرِ بالحَيَاةِ الأَبَديَّة، تِلكَ الّتي أَتَى الغَنيُّ يَسأَلُ الْمَسيحَ السَّبيلَ إلى بُلُوغِهَا.

 

وَلِأنَّ اللهَ خَلَقَ الإنسَانَ: ﴿عَلَى صُورَتِهِ خَلَقَهُ﴾ (تَك 27:1)، فلِذلِكَ نَجِدُ أَنَّ كُلَّ إنْسَانٍ يحمِلُ في ذَاتِهِ الْمَخلُوقَة، نَزعَةً فِطرِيَّةً للصَّلاح. ومَع ذَلك، يَبقَى صَلاحُ الإنسانِ صَلاحًا مَحدُودًا وجُزئِيًّا، وأَيضًا مُهَدَّدًا وقَابِلًا لِلزَّوَال، بِسَببٍ مِنَ الخَطيئةِ الّتي فِيه.

 

هَذا الصَّلاحُ الكَامِنُ في قَلبِ الغَنيّ، هَو مَا دَفَعَهُ أنْ يُسرِعَ إلى الْمَسيحِ يَسألُهُ: ﴿مَاذَا أَعمَلُ لأَرِثَ الحَياةَ الأَبَدِيَّة؟﴾ (17:10). فَجَاءَهُ جَوابُ السَّيد: ﴿اِذْهَبْ فَبِعْ ما تَملِك، وتَعَالَ فَاتَبعْني﴾ (21:10). وكَأنَّهُ يَقولُ لَهُ: إنْ أَرَدتَ أَنْ تَغنَمَ بِحيَاة، فَعَليكَ أَنْ تُضَحِّي بِأُخرَى! وهَذا مَا كَانَ غَيرَ مُمكِنٍ لِلغَنيّ، الّذي انصَرَفَ مُغتَمًّا حَزينًا، إذْ لَم يَكُنْ قَادِرًا عَلَى التَّخَلّي، في سَبيلِ الرّبحِ الأَعظَم، مُفَضِّلًا الحَيَاةَ الّتي يَملِكُهَا، عَلَى تِلكَ الّتي جَاءَ يَطلُبُهَا وكَانَ يَتَمَنَّاهَا!

 

يا أَحِبَّة، نحنُ كُلُّنَا "نَرجُو الحَيَاةَ الأَبَديَّة"، كَمَا نُعلِنُ في قَانونِ الإيمان، ولَكِنْ: مَاذَا نَعمَلُ في سَبيلِ الحُصولِ عَليهَا، وبُلوغِ مَا نَرجُوه؟! إِذْ كَمَا قَالَ الْمُتَنبّي: "مَا كُلُّ مَا يَتَمَنّى الْمَرءُ يُدرِكُهُ". فَكَمْ مِنْ أُمنِيَاتٍ تَمنَّينَاهَا، بَقِيَتْ مُجرَّدَ أُمْنِيَات؟! وهُنَا يَنطبِقُ قَولُ السَّيد: ﴿لَيسَ مَنْ يَقولُ لي: يا ربّ، يا ربّ، يَدخُلُ مَلكوتَ السَّمَوات، بلْ مَن يَعمَلُ بِمَشيئَةِ أَبي الَّذي في السَّمَوات﴾ (متّى 21:7). وهو مَا بَدَا مُستَحِيلًا بالنّسبَةِ لِلغَنيّ، الّذي فَضَّلَ الاغتِنَاءَ بمالِهِ ودُنيَاه، عَلَى الاغتِناءِ باللهِ وعَيشِ وَصَايَاه! ولكِنْ: ﴿مَاذَا يَنفَعُ الإِنسانَ لَو رَبِحَ العالَمَ كُلَّهُ، وخَسِرَ نَفسَه؟﴾ (متّى 26:16).

 

يقولُ القدّيسُ بولس في رسَالتِهِ الأولَى إلى أَهلِ قُورنتوس: ﴿ كُلُّ شَيءٍ يَحِلُّ لي، ولكِنِّي لَن أَدَعَ شَيئًا يَتَسَلَّطُ عَليَّ﴾ (12:6). لَقَدْ كَانَ بولسُ حُرًّا نَحوَ الأشيَاء، غَيرَ مُقَيِّدٍ ولا مُقَاد، قَادِرًا أنْ يَتَخَلَّى ويَتَخَطَّى كُلَّ مَا مِنْ شَأنِهِ أَنْ يُبعِدَهُ عَنْ غَايتِهِ القُصوَى، أَي الظَّفَرِ بالله. هَذهِ الحُرّيةُ هيَ مَا دَفَعَ بولسَ لأنْ يَقول: ﴿أَنْسَى مَا وَرَائِي، وأَتَمطَّى إِلى الأَمام، فَأَسْعى إِلى الغَايَةِ الَّتي يَدْعُونا اللّهُ إِلَيها، لِنَنالَها في الْمَسيحِ يَسوع﴾ (فيلبّي 13:3-14).

 

وهُنا بَيتُ القَصيد. فاللهُ يا أَحِبّة أَوجَدَ الحَيَاةَ وكُلَّ مَا فِيهَا. وقَدْ جَعَلَ لَنَا مِنهَا وَسَائِلَ لا غَايَات، بها نَبلُغُ الغَايةَ أَي اللهَ نَفسَهُ. ولكنَّ الخَلَلَ يَكمُنُ عَندمَا تُصبِحُ الوَسيلَةُ غَايةً، مُهمِلينَ الغَايَة! نَسعَى العُمرَ كُلَّهُ كَادِحينَ لِتَحقيقِ غَاياتٍ دُنيَويّة، ولا نَبذِلُ مَجهُودًا كَافٍ للظّفَرِ بالْمَسيح! نُمضي الحَياةَ مَهمُومِينَ مُهتَمّينَ، مُغتَمِّينَ مُقَيّدينَ بالْمَادّةِ الّتي تَسَلَّطَت عَلينَا تَكادُ تَخنُقُنَا، ولا نَسعَى لِأنْ نُسَكِّنَ قَلبَنَا لَدَى الْمَسيح، حَيثُ سَلامُ النَّفسِ وسَكينَةُ القَلب. ولذلِكَ نَرَى كَيفَ أنَّ كُلَّ مَالِ الغَنيِّ وجَميعَ سُلطانِهِ، لم يُسعِفهُ ولَم يَشفَع لَهُ، إنَّمَا انصَرَفَ مُنقَسِمَ القَلب، مُثْقَلًا بالحُزنِ الّذي أَغرَقَ قَلبَهُ!

 

وهذَا يجعَلُنَا نَتَساءَلُ: مَا الّذي يُعطِي حَقًّا نُفوسَنَا السَّلامَ والسَّكينَةَ والاطمِئنَان؟ أَكَثْرَةُ الْمُقتَنَيات، وَفرَةُ الأَموَال، السَّلُطَةُ والجَاه، الْمَركِزُ الاجتِمَاعِيّ؟ لَستُ أُدري، ولَكِنَّني أَعلَمُ إِجَابَةً وَاحِدةً فَقَط: ﴿مِنْ أَجْلِهِ خَسِرتُ كُلَّ شَيء، وعَدَدتُ كُلَّ شَيءٍ نُفَايَةً، لأَربَحَ الْمَسيحَ وأَكونَ فيه﴾ (فيلبي 8:3-9).

 

الْمُزمورُ التَّاسِعُ والأربعون يَقُول: ﴿إِنَّهُم عَلَى ثَروَتهم يَتَّكِلون، وبِوَفرَةِ غِناهم يَفتَخِرون... لا تَخَفْ إِذا اْغتَنى الإِنْسان، واْزدادَ بَيتُه مَجدًا، فإِنَّه إِذا ماتَ لا يأخُذُ شَيئًا، ولا يَنزِلُ مَجدُه وَراءَه. ونَفسُه الَّتي في حَياتِه بارَكَها، تَنضَمُّ إِلى جيلِ آَبَائِه﴾ (راجع الْمزمور 49). لَيتَنا نَتَّعِظُ مِنْ هَذَا الكَلام! فَكُلُّ حَيَاةٍ مَهمَا طَالَت عَاقبَتُهَا الفَنَاء. وكُلُّ مَا تَجنِيهِ اليَوم سَتَترُكُهُ غَدًا لِلّذينَ مِن بَعدِك. ولكن، حِينَ تَقِفُ أَنت أَمَامَ عَرشِ النِّعمَة، مَاذَا سَتحمِلُ بينَ يَديك؟!

 

الحَيَاةُ الأَبديَّةُ الّتي نَرجُوهَا بابُها ضَيّقٌ وحَرِج! ولَيسَ بالضَّرورةِ أَنْ يَكونَ دُخُولُهُ عَسيرًا عَلَى الأَغنيَاءِ فَقَط. لِأنَّ الغّنيَّ لَيسَ فَقَط غَنيَّ الْمَال، بَل أيضًا الغَنيُّ بِكبريائِهِ وعُتُوِّهِ، الْمُمتَلِئُ إثمًا، الْمُتخَمُ مَعصِيَة... فَإنْ أَردت أَن تَدخُلَ الحياةَ تِلك، فَعَلَيكَ أَنْ تَتَخَلَّى عَنْ غِنَاكَ الْمَمقُوت، عَنْ مُقَدَّراتِ الخَطيئةِ الّتي تَكنُزُهَا في قَلبِكَ وفَكرِك، وتَرصدُهَا كُلَّ يومٍ بِسُوءِ أَقوالِكَ وفِعَالِك! إذْ لَيسَ كُلُّ غَنيٍّ خَاسِرٌ وهَالِك، ولا كُلُّ فَقيرٍ رابحٌ ونَاجٍ. فَ: ﴿طُوبَى لِفُقراءِ الرُّوح، فإِنَّ لَهم مَلكوتَ السَّمَوات﴾ (متّى 3:5).