موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٥ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٤

الأحد السّابِع والعشرون من زمن السنة - ب، 2024

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
الأب فارس سرياني

الأب فارس سرياني


﴿مَا جَمَعَهُ الله، فَلا يُفرِّقنَّهُ الإنسان﴾ (مرقس 9:10)

 

 يَبْدُو أَنَّ "مُتَلازِمَةَ الْمَنعِ والرَّفض" كَانَت خَلَلًا عَانَى مِنهُ تَلاميذُ يَسوع، والَّذي بِدَورِهِ عَمِلَ خِلالَ فَترَةِ مُكُوثِهِم مَعَهُ عَلَى مُعَالَجَتِهِ وإصْلاحِهِ! ونَذكُرُ في إنجيلِ الأحَدِ الْمَاضِي، كَيفَ أَنَّ التَّلاميذَ حَاوَلُوا مَنعَ رَجُلٍ مِنْ استخدَامِ اسمِ يَسوع، لِيَصنَعَ بِهِ خَيرًا، فَقَط لِأنَّهُ لم يَكُنْ مِنهُم! وظَنًّا مِنهُم أَنَّهم أَتَوا صَالِحًا، جَاءَهُم جَوابُ يَسوع: ﴿لَا تَمْنَعُوه﴾ (مر 39:9).

 

وَلَكِن يَبدُو أَنَّ الدَّرسَ لم يُفلِحْ مَعَهُم. فَنَراهُم ثَانِيَةً في إنجيلِ هَذَا الأَحَد، وقَدْ بَلَغَ بِهم الأَمرُ أَنْ يَنْتَهِروا ويَمنَعوا "أَطفَالًا صِغَارًا"، مِنَ القُدومِ إلى يَسوع! فَيَأتِيهم جَوَابُ الْمَسيحِ حَازِمًا: ﴿لا تَمنَعُوهم، فَلِأَمثالِ هَؤُلاءِ مَلَكوتُ الله﴾ (مر 14:10). والْمَسيحُ بِموقِفِهِ هَذَا، يَسبِقُ مَا قَالَهُ بُولسُ في الأولى إلى أَهلِ قُورنتوس: ﴿مَا كَانَ في العالَمِ مِنْ حَماقَةٍ، فَذَاكَ مَا اختَارَهُ اللهُ لِيُخزِيَ الحُكَمَاء. ومَا كَانَ في العَالَمِ مِنْ ضُعْفٍ، فَذَاكَ مَا اختَارَهُ اللهُ ليُخزِيَ ما كانَ قَوِيًّا﴾ (27:1).

 

فَفِي الوَقتِ الّذي فيهِ نَرَى التَّلاميذَ يَمنَعونَ ويُغلِقُون، نَرى الْمَسيحَ يُرَحِّبُ ويَستَقبِل. وفي الوَقتِ الّذي فيهِ نَرَاهُم يُبْعِدونَ وبِقَسوَةٍ يَنهَرون، نَرَاهُ يَضمُّ الأَطفَالَ إلى صَدرِهِ ويَجذِبُهم بحَنَان. بَلْ إنَّ الإنجيليَّ مَرقُس يُصوِّرُ لَنَا الْمَسيحَ مُستَاءً مُمتَعِضًا، إِزَاءَ سُلُوكِ تَلاميذِهِ الْمُستَهجَن! فَهوَ لَم يَأتِ لِيَحتقِرَ أَحَدًا ويُقَدِّرَ أَحَدًا آَخَر. ولَم يَأتِ لِيُؤسِّسَ نَظَامًا طَبَقِيًّا تَفْرِيقًّا بَغيضًا، إنَّما أَتَى عُنصُرَ وَحدَةٍ وجِسرَ رَبط، بِلا احتِكَارٍ ودُونَ احتِقَار، فَالجميعُ مَدعوٌّ لِلتّوبةِ، والدُّخُولِ في مَلكوتِ أَبنَاءِ الله.

 

وهَذا مَا أَشارَ إليهِ بولسُ الرَّسُولُ في رِسَالتِهِ إلى أَهلِ أَفسُس، قَائِلًا: ﴿فَقَدْ جَعَلَ مِنَ الجَمَاعتَينِ جَمَاعَةً واحِدَةً، وهَدَمَ في جَسَدِهِ الحَاجِزَ الَّذي يَفصِلُ بَينَهما، أَيِ العَدَاوة... لِيَخلُقَ في شَخْصِه إِنسَانًا جَديدًا وَاحِدًا﴾ (14:2-15). أَمَّا الأنظِمَةُ الطَّبَقِيَّة، ونَزعَةُ الاستِفرَاد، والجُنُوحُ نَحوَ الإقصاءِ والإبعاد، والْمُوجُودَةُ مَع كُلِّ أَسفٍ في جَماعَاتِنَا الْمَسيحِيَّة، فَهيَ مِنْ صُنعِ النَّاسِ لا مِنْ صُنعِ الله!

 

وهَذَا مَا يَنقُلُنَا إلى مَا وَرَدَ في القَسمِ الأوَّلِ مِنْ إنجيلِ اليَوم، حِينَ بَتَّ الْمَسيحُ في مَسألَةِ الطَّلاقِ، قَائِلًا: ﴿مَا جَمَعَهُ الله، فَلا يُفرِّقنَّهُ الإنسان﴾ (مر 9:10). فَالإنْسَانُ يا أَحِبَّة هو مَنْ يُفَرِّق، ويَصنَعُ التَّفرِقَة، ويَضَعُ الفَوارِق! أَمَّا اللهُ فَهوَ الجَامِعُ والْمُوحِّد. ويَسوعُ قُبَيلَ آلامِهِ، لَمَّا صَلَّى لِأجلِ وَحدَتِنَا، جَعَلَ مِنْ ذَاتِهِ الْمَثَالَ في الوَحدَة، فَقَال: ﴿فَلْيَكُونوا بِأَجمَعِهم واحِدًا كَمَا نَحنُ وَاحِد﴾ (يوحنّا 21:17-22).

 

وبُولُسُ لَمَّا رَأَى الخَلافَاتِ قَدْ أَخَذَتْ تَدُبُّ في جَمَاعَةِ قُورنتوس، خَاطبَهم مُوبِّخًا ونَاصِحًا: ﴿أُناشِدُكُم باِسمِ رَبِّنَا يَسوعَ المسيح، أَلاَّ يَكونَ بَينَكُمُ اختِلافَات، بَلْ كُونُوا عَلَى وِئامٍ تَامّ، في رُوحٍ واحِدٍ وفِكرٍ واحِد﴾ (1قور 10:1). جَاعِلًا مِن القُربانِ الأَقدَس، الّذي فيهِ نحنُ كُلّنَا مُشتركُون، جَوهرًا لهذِهِ الوَحدَة، فَقَال: ﴿نَحنُ عَلَى كَثرَتِنَا جَسَدٌ واحِد، لأَنَّنا نَشتَرِكُ كُلُّنا في هَذَا الخُبْزِ الواحِد﴾ (1قور 17:10).

 

﴿مَا جَمَعَهُ الله، فَلا يُفرِّقنَّهُ الإنسان﴾. والوَحدَةُ الّتي يَدعُونَا الْمَسيحُ إِلَيهَا لا تَعني ذَوَبانًا أو طَمسًا، بَلْ أَنْ نَكونَ كُلُّنا وُرُودًا مُختَلِفَةً في حَقلِ الله، ولَكِنَّ اختلافَهَا هو مَا يَصنَعُ آَيَةً مِنَ الجَمالِ الأَخَّاذِ والْمُتَنَاسِق! فَلِكُلٍّ مِنَّا يا أَحِبَّة جَمَالُهُ الفَريد، أَي وَزَناتُهُ الّتي حَبَاهُ اللهُ إيّاها، لا لِتَكونَ سَبَبًا للاقتِتَال والتَّشَرذُم، بَلْ سَبَبًا لإغنَاءِ الجَمَاعةِ وخدمَتِها، كَالأعضَاءِ الّتي عَلَى اختلافِها، تَصنَعُ جَسدًا واحِدًا، نَحنُ أَعضاءُهُ والْمسيحُ رَأَسُهُ!

 

هَذا الكَلامُ يَتطلَّبُ مِنَّا جَميعًا كَثيرًا مِنَ التَّواضُع، كَثيرًا مِن القُبولِ نَحو بَعضِنا البَعض، عَلَى الرَّغمِ مِن اختِلافَاتِنَا. فَالْمَيلُ نَحوَ التَّفرِقَةِ أَشَدُّ مِنَ الرَّغبَةِ في الاتِّحَاد! وكُلُّ عُضوٍ في الجَمَاعَةِ يَسعَى لِتَمزيقِ الجَسَد، مَا هو إلّا عَميلٌ لِلشَّيطَانِ جَاءَ لِيبذُرَ زُؤاناً خَبيثًا وَسَطَ القَمحِ الطَّيب! ومَا أَكثَرَهُم...

 

أَخيرًا، كَثيرونَ يَرونَ في مَوقِفِ الْمَسيحِ والكَنيسةِ مِنَ الزَّوَاجِ ورَفضِ الطّلاق، شَيئًا مِنَ التَّصلُّب، خُصَوصًا أُولئِكَ الّذينَ عَانُوا في زِيجاتِهِم. فَمِنْ نَاحِيَةٍ يَعلمُ الْمَسيحُ يَقينًا أَنَّ في بُيوتٍ كَثيرة أَوجَاعًا كَثيرة، وعَدمَ اتِّفَاقٍ، وحَيَاةً لا تُطَاق. ومَعْ ذَلِكَ لَم يُبحِ الطَّلاق، إنّما أَعَطَى الزَّواجَ أَسمَى دَرَجَاتِ القُدسِيَّةِ والحُرمَة، الّتي يجِبُ الحِفَاظُ عَليهَا والدِّفاعُ عَنهَا.

 

ومِنْ ناحِيةٍ أُخرَى، غَدَت بَعضُ الزّيجَاتِ أَتونَ تَنكِيلٍ ومِرجَلَ عَذَابٍ! ونَأتيكُم نَحنُ الكَهَنةَ الْمُتَبتّلين لِنَسألَكُم الصَّبرَ والاحتِمَال، دُونَ أَنْ نُدرِكَ حَقيقَةَ الجَحيمِ الَّذي يَكتَوي بِنَارهِ كَثيرونَ بِسَبَبِ زيجاتِهِم. فالّذي ظَنُّوهُ مَصدَرَ سَعَادةٍ وهَنَاء، تَبَدَّى سَبَبَ بُكاءٍ وعَنَاء!

 

فَكَانَ اللهُ في عَونِ كُلِّ مِنْ يُعَاني في زَوَاجِه، سَوَاءً كَانُوا أَزوَاجًا أَو زَوجَاتٍ أَو أَبنَاءً وبَنَات. فَفِي بُيوتٍ كَثيرة حَسَرَاتٌ وعَبَرَات، وقُلُوبٌ تَفَطَّرَتْ ونُفُوسٌ اِكْتَوَت، وسَنَواتُ عُمرٍ أُزهِقَت عَلى صَرحٍ مِن خَيالٍ فَهَوَى! فَلا أَملِكُ سَوَى الصَّلاةِ وبِضعَ كَلِمَاتِ عَزَاء، لِكُلِّ ذِي جَنَاحٍ مَكسُور! فَمَنْ يَرزَحُ تَحتَ ضَرباتِ العِصيِّ، لَيسَ كالَّذي يَعدُّهَا!