موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٣ يونيو / حزيران ٢٠٢٣

وَعَمِّدوهُم باسمِ الآبِ والابنِ والرّوحِ القُدس

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
وَعَمِّدوهُم باسمِ الآبِ والابنِ والرّوحِ القُدس

وَعَمِّدوهُم باسمِ الآبِ والابنِ والرّوحِ القُدس

 

أحد الثّالوث الأقدس

 

﴿وَعَمِّدوهُم باسمِ الآبِ والابنِ والرّوحِ القُدس﴾ (متّى 19:28)

 

في إِحدَى الجَلسَاتِ العَامَّةِ قَديمًا، كَانَ أَحَدُ الكَهنةِ حَاضِرًا. فَدَخَلَ رَجُلٌ فَخَاطَبَ الكَاهِنَ بِتَهَكُّمٍ وَوقاحَةٍ قَائِلًا: ((هَدَاكُم الله)). فَجَاءَ رَدُّ الكِاهِنِ صَاعِقًا: ((هَدَاكُمُ اللهُ، إلى مَا هَدَانَا إليه)). افتَتِحُ عِظتي لِعيدِ الثّالوثِ الأقدسِ بهذهِ الوَاقِعة، لِأبيّنَ أنَّ الْمَسيحَ الّذي كَانَ ﴿آيةً مُعرَّضَةً لِلرّفض﴾ (لوقا 34:2)، عِندَ آلِ إسرائيل، بِسبَبِ رِسالَتِهِ وَتَعاليمِهِ، يَستَمِرُّ حَتّى وَقتِنا الحَاضِر، مَرفوضًا عِندَ كَثيرين، مِن خِلالِ رَفضِ الإيمانِ الْمُوحَى، الّذي تُقدِّمُهُ وَتُعلِّمُهُ الكَنيسَةُ الْمُقَدَّسَة.

 

وَطَبعًا، تَبْقى عَقيدَةُ الثّالوثِ الأقدس، إلى جانبِ عَقيدةِ التَّجسُّدِ وَالصَّلب، أَهمَّ العَقائِدِ الّتي يُطعَنُ بِها. وَمعْ ذَلِك، هَذَا مَا كَشَفَهُ اللهُ وَأَوحَاهُ لَنا، مِنْ خِلالِ الكِتابِ الْمُقَدَّس، وَهَذَا مَا نُؤمِنُ بهِ وَنعْتَقِدُهُ بِثَبَات. وهذا الوَحيُ الإلهيّ، قَدْ بَلَغَ تمامَهُ في الْمَسيحِ يَسوع، الّذي لا وَحيَ بَعدَه، فَمَعَهُ وبِهِ تَمَّ كُلُّ شَيء، كَمَا تُخبِرُنَا الرّسالَةُ إلى العِبرانيّين: ﴿إِنَّ اللهَ كَلَّمَنا في آَخِرِ الأيّامِ هَذهِ، بِابنٍ جَعَلَهُ وارِثًا لِكلِّ شَيءٍ، وَبِه أَنْشَأَ العَالَمين. هوَ شُعاعُ مَجدِهِ وَصُورَةُ جَوهَرِهِ﴾ (عب 1:1-3).

 

وفي الوقتِ الّذي فيهِ نَسمَعُ كثيرينَ يُسِيئونَ إلى الإيمانِ مِن خَارجِ البَيتِ، نَرى أيضًا إِسَاءَاتٍ أَبشعَ للإيمانِ مِن داخلِ البَيت! وَهَذهِ الإهَانَاتُ مِن الدَّاخِل، تَجِدُهَا أحيانًا مِنْ أَشخَاصٍ يُفتَرضُ بهم الحِفاظُ عَلَى وَديعَةِ الإيمان، الّتي اِئْتَمَنَهُم اللهُ عَلَيها! عَلَى هَؤلاءِ تَنطَبِقُ كَلِماتُ الْمَسيح: ﴿مَنْ أَنْكَرَني أَمَامَ النَّاس، أُنْكِرُهُ أمامَ أبي الّذي في السّموات﴾ (متّى 33:10).

 

الأسقفُ أَثناسيوس شنايدر، أُسقُفُ الكنيسةِ الكَاثوليكية في كازخستان، ذاتِ الأغلبيّةِ غَيرِ الْمَسيحيّة، يَقولُ في مُقَابَلةٍ لَهُ: ((إِنَّنَا كَكاثوليك نُشَكِّلُ مَا نِسبَتُهُ 0.5% فَقط مِن سُكّانِ كَازخستان. وَمع ذلِك، نُحاوِلُ الحفاظَ عَلَى احترامٍ مُتَبَادَل، دونَ أَيِّ التِبَاسٍ أَو خَلطٍ بَينَ الْمُعتَقَدَات، مُحافِظينَ عَلَى هويَّتِنَا كَمُؤمنينَ كَاثوليك!)).

 

يَا تُرى، أَينَ يَقفُ الْمَسيحيّونَ مِن هويّتِهم الإيمانيَّة، مُؤمنينَ وَكهنَةً وَرُؤسَاء؟ هَل هويّتُهم وَاضِحَةٌ مُحدَّدَة، أَمْ أنّها ذَائِبَةٌ مُشَوَّهة؟! طَريقَةُ الخَلطِ بينَ الْمعتَقَدات تُثيرُ الغَثَيان، وَمع كُلِّ أَسف نَلمسُ هَذَا الانْفِصَامَ في الهويّةِ الإيمانيّة، عِندَ بَعضِ مَنْ يُفتَرَضُ أَنَّهُم يُمثّلونَ الْمَسيحيين، نَظَرًا لِمَواقِعِهم الدِّينيّةِ أَو الاجتِمَاعيّة!

 

وَمِن هُنَا يا أَحِبَّة، رِسالَةُ عيدِ الثَّالوثِ الأقدَس، هيَ رِسالَةُ عَدمِ التَّفريطِ بالعقيدَة، أو التّنازُلِ عَنِ الإيمان، تحتَ أَيِّ ذَريعَةٍ كانَت! والبَعضُ صَارَ يُرَوِّجُ لِ "دِيَانَةٍ إبراهيميّةٍ جَديدَة"، بِهدفِ جَمعِ النّاسِ تحتَ مَظَلَّةٍ وَاحِدَة، وَفيهَا يُنْكَرُ يسوعُ الْمَسيحُ الإله، وهوَ الأمرُ الْمرفوضُ لَدَينَا كَمَسيحيّين! لأنَّ الْمُخَلِّصَ وَاحِد، والطّريقَ الْمُؤدّيةَ إلى الخَلاصِ وَاحِدَة، أَلا وهيَ الإيمانُ بالْمسيحِ الرّب، وَبِكُلِّ مَا عَلَّمَنَا وَأوصَانا، وكَمَا تَعرِضُهُ الكَنيسَةُ الكاثوليكيّةُ الْمُقَدَّسَةُ الرّسوليّة. ﴿فَلَو بَشَّرَكُم مَلاكٌ مِنَ السَّمَاءِ بِخلافِ مَا بَشَّرناكُم بِه، فَلْيَكُنْ محرومًا﴾ (غلا 8:1)، عَلَى حَدِّ قَولِ بولُسَ الرّسول في رِسَالتِهِ إلى أهلِ غلاطية.

 

اللهُ كَينُونَةٌ مْطلَقَةٌ بِلا ابتِداءٍ وَبِلا انْتِهاء، خَلَقَ وَأَبدَعَ الوُجودَ بِكَلِمَتِهِ الإلهيَّة، وَهوَ حَيٌّ وحَاضِرٌ بِروحِهِ الّذي يَمْلَأُ الوُجود. اللهُ الكائِنُ الأزليُّ، غيرُ الْمَحدودِ بمَكَانِ وغَيرُ الْمَحصورِ بِزَمَان، هوَ الكَلِمَةُ الّذي صَارَ بَشَرًا وَسَكَنَ بَينَنا فَرَأينَا مَجدَهُ (راجع يوحنا 14:1). والكَلِمَةُ يسوعُ الْمَسيح هوَ: ﴿صُورَةُ اللهِ الّذي لا يُرَى﴾ (قولسّي 15:1). فَاللهُ الّذي لا يُرَى، صَارَ يُرَى في يَسوعَ الْمَسيح، لأنَّ: ﴿مَنْ رَآني رَأَى الآب﴾ (يو 9:14). واللهُ مَعَنَا يُرشِدُنا وَيَقودُنا، لأنَّ رُوحَهُ روحَ الحقِّ: ﴿مَتَى جَاءَ أَرشَدَكُم إلى الحقِّ كُلِّهِ﴾ (يو 13:16).

 

هَذهِ الصّفاتُ الإلهيّة: اللهُ الكَائِن، الخالِقُ بِكَلِمتِهِ، الحيُّ بِروحِه، جَوهَرٌ واحِد وَطَبيعَةٌ واحِدَة، للهِ الواحِد غيرِ الْمُجَزَّأ. وَعِندَما يَستَخدِمُ الّلاهوتُ كَلمَةَ "أُقنوم"، وَهيَ كَلمَةٌ سُريانيّة وَلَيسَت عَرَبيّة، لِترجَمَةِ الكَلِمَةِ اليُونانيّة "Hypostasis"، فَذلِكَ لِلدّلالَةِ عَلَى الصِّفَاتِ والخَصائِصِ الإلهيّة: صِفَةِ الكَينونَة، صِفَةِ الكَلِمَة (العَقل)، وَصِفةِ الرّوحِ الْمُحي. وَهوَ مَا نُطلِقُ عَليهِ اسمَ الآبِ والابنِ والرّوحِ القُدس، كَمَا عَلّمَنَا رَبُّنَا يسوعُ الْمسيحُ: ﴿اِذهَبوا وَتَلمِذوا جَميعَ الأُمَمِ، وَعَمِّدوهم باسمِ الآبِ والابنِ والرّوحِ القُدس﴾ (متّى 19:28). فَجَوهرُ الله يَقومُ عَلَى هَذهِ الصِّفَاتِ (الأقانيم) الْمُتَميّزَة، ذَاتِ الجوهرِ الواحِد، والطّبيعةِ الواحِدَة، والكَينونَةِ الواحِدَة. وَمِن هُنا، نحنُ لا نَتَحَدَّثُ عَنْ ثَلاثةِ آلِهة، بَل عَنْ إلهٍ واحِدٍ في جَوهَرِهِ وَطَبيعَتِه.

 

يَقولُ القدّيسُ أَثناسيوس الإسْكندَريّ في شَرحِهِ لِعَقيدَةِ الثّالوثِ الأقدس: ((لَيسَت الأقانيمُ ثَلاثَةَ آلِهَة، بَلْ إلهٌ واحِدٌ: آبٌ وابنٌ وروحُ قُدس. ثَلاثُ خَواص ذَاتُ طَبيعَةٍ وَاحدَةٍ وَجَوهرٍ وَاحِد. فَطَبيعَةُ الآبِ هيَ طَبيعَةُ الابن، وَهيَ طبيعةُ الرّوحِ القُدس. الثَّالوثُ الأقدَسُ خَالِقٌ وَاحِد وَلَيسَ ثَلاثَة، لأنَّ العَقلَ الخالِق، يخلِقُ بِكَلِمَتِهِ الخالِقَةِ وَرُوحِهِ الخالِق)).

 

وَأَخيرًا، يقول التّعليمُ الْمسيحيُّ للكَنيسةِ الكاثوليكيّة، ر 234: ((سرُّ الثّالوثِ الأقدس هوَ السّرُّ الْمركَزيُّ في الإيمانِ والحياةِ الْمسيحيّة. إنّهُ العَقيدَةُ الأساسيّةُ والجوهَريَّةُ الأكثرُ أَهمّيَةً في هَرَميّةِ حقائِقِ الإيمان)). وَعَليِهِ تَبقَى الْمَسيحيّةُ وَحدهَا، بِكتابِها الْمُوحَى وَقَانونِ إيمانِها، أَصدَقَ وَأَدَقَّ مَنْ تحدَّثَ عَنِ الله.

 

وَلنَا نحنُ الْمَسيحيّين يُوَجَّهُ كَلامُ الْمَسيح: ﴿إنَّ كَثيرًا مِنَ الأنبياءِ والصِّديقينَ تَمَنّوا أنْ يَسمَعوا مَا تَسمَعونَ فَلمْ يَسمعوا﴾ (متّى 17:13). فَطوبَى لَنَا نِعمَةَ الإيمانِ وَوديعةَ الإيمانِ، وكَمَا تَسَلّمنَاها نُحافِظُ عَليها وَنُسلِّمُهَا.