موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
نعمةُ ربِنا يسوعَ المسيح، ومحبّةُ الله الآب، وشركةُ الرّوح القدس معكم جميعًا
عَلّمونا أنَّ الله ثالوث، ولكنّهم نادِرًا ما شرحوا لنا كيف يكونُ هذا الثّالوث. والبعضُ ربّما حاولَ أن يشرح، فتارةً أصابوا وتارة اِنحَرَفوا عن جَادّةِ الصّواب. فخلطوا الحابِلَ بالنّابل، وأَمسَت مَعرِفَتُنا خليطًا مُتداخِلًا، كأنّها قِدرٌ (طنجرة) من حساءِ الخُضار. وإذا أَرادوا أن يُفسّروا هذهِ العقيدة، تَجِدُهم يَغرِفونَ من نفسِ الوعاء: الله محبة، ومن صِفات المحبّة أنّها لا تكونُ وَحدها بل بالاشتراكِ مع آخر!!! كلامٌ جميل، لكنّه يبقى دونَ تفصيل.
لِذلِك اِرتأيتُ أن أَجتهِدَ مُفسِّرًا هذهِ العقيدة وَمُبسِّطًا إياها لشعبِنا المؤمن، قَدر الإمكان، بالرّغم من قِلّة معرفتي الّلاهوتية، عَلّي أُصيبُ ولا أخيب.
في استهلالةِ كلِّ قدّاس، نُحيّ الشّعبِ قائلين: ((نعمةُ ربِنا يسوعَ المسيح، ومحبّةُ الله الآب، وشركةُ الرّوح القدس معكم جميعًا)). أتُرى هل يوجدُ في الله تعدُّدية؟! لماذا كُلُّ هذا الإرباك؟! ألم يَكُن من الأفضلِ للمسيحية أن تُنادي بِوَحدة الله، كغيرِها من الأديان، بشكل مُباشر ودونَ تعقيد؟!
مِن صفاتِ الله الجمعُ بينَ مُتناقِضاتٍ، في منظورِنا البشري، دون أن يُحدِثَ هذا الجمعُ تناقضًا في الله نفسه. فاللهُ هو الدّيانُ العادِل من جهة وهو الرّبُّ الرّحيم من جهة أُخرى. هو الّذي يَجرح وهو الّذي يَعصِب. وهو كذلك اللهُ الواحِدُ الأحد، الثّالوثُ الأقدس.
لقد عَمِلَت الكنيسةُ على مدارِ ألفيِّ عامٍ ونيف، برُسُلِها وآبائها وأساقِفَتِها وكهنتها وقدّيسيها ولاهوتيِّها وَمُفَكِّريها، على البحثِ في كينونةِ الله، في ماهيَّتِه، في طَبيعَتِه. مَن هو الله؟ مَا هو الله؟ كيفَ هو الله؟! وَوصلت إلى أجوبةٍ واستنتاجاتٍ لاهوتيّة وفلسَفيّة، استنادًا إلى ما جاء في الكتاب المقدّس بعهديه: القديم، حيثُ "أنَّ اللهَ كلّمنا بالأنبياءِ مرّاتٍ كثيرة بوجوهٍ كثيرة" (عبرانيّين 1:1). والجديد، حيثُ "الله كَلَّمَنا في آخرِ الأيام هذِه، بابنٍ جَعَلَهُ وَارِثًا لكلِّ شيءٍ، وَبِهِ أَنشأَ العالمين. هو شعاعُ مَجدِه وَصورةُ جَوهَرِه" (عبرانيّين 2:1-3).
أيّها الأحبّاء، لِتعرِفوا مَن هو الله، دَعوا الكتاب يُكلِّمُكم. دَعوه يُخبِرُكم عن اللهِ الآبِ الضّابطِ الكُل، خالقِ السّموات والأرض. الّذي بكلِمته قالَ كُن فكانت الأشياءُ وخُلِقت. ولمّا تمَّ مِلءُ الزّمان، "الكلمةُ صار بشرًا، فَسَكَنَ بينَنا، فَرَأينا مجدَهُ، مجدًا مِن لَدُن الآب لابنٍ وَحيد" (يوحنّا 14:1). ثمَّ أنَّ اللهَ الكائِن، هو حيٌّ بروحِه القدّوس الصّالح المُحي، مانِح الهبات ومُوزّع النّعم. هذا الرّوح الّذي حلَّ على العذراءِ والرّسلِ يومَ العنصرة، فَكَانَت نَشأةُ الكنيسةِ وانطلاقَتُها.
نحنُ لم نِعرف اللهَ معرفةَ عَيان، ولكنَّنا عرفناهُ معرفةَ إيمان، بيسوعَ المسيح، "لأنَّ الله ما رآهُ أحدٌ قَط، الابنُ الوحيد الّذي في حِضنِ الآبِ، هو الّذي أَخبرَنا عنه" (يوحنّا 18:1). ومَع ذلِك، لِسان حالِنا يقول مع بولس الرّسول: "لأنَّ مَعرِفَتَنا ناقِصة. فمتى جاءَ الكامِلُ زالَ النّاقِص. فنحنُ اليوم نَرى في مِرآةٍ رؤيةً مُلتَبِسة، وأمّا في ذلكَ اليوم فتكونُ رؤيَتُنا وجهًا لوجه" (1 قورنتوس 9:13-12). قال الّلاهوتيُّ والمفكّرُ العظيم أوغسطينوس، مخاطِبًا رعيّتَه بعدما أنهى عظتَه حولَ سرِّ الثّالوث: "إنَّ الثّالوث ليسَ ما فهمتموه، بل هو ما لَم تفهموه".
لذلك دعونا نحاول أن نستعرِضَ معًا ما يُمكِن لنا فهمُه والوصولُ إليه، حولَ الله الواحد في سرِّ ثالوثهِ الأقدس.
في إيمانِنا بعقيدة الثالوث نرتكِزُ على أَمرين اثنين:
أ) الكتاب المقدس. فهو مصدرُ الوحي بامتياز، ومِن خلالِه نتعرّف على طبيعةِ الله. فقد وردَ العَديدُ من النّصوص التي تشير إلى حقيقةِ الثّالوثِ الأقدس. ففي سِفرِ التكوين نقرأ: "وكانَ روح الرب يرفُّ على وجِه المياه" (تكوين 2:1) وهنا نرى الإشارة المباشِرة إلى روح الله الّذي يرفُّ على وجه المياه. أمّا في العهد الجديد، فنسمعُ الملاك يُبشّرُ مريمَ قائِلًا: "إِنَّ الرُّوحَ القُدُسَ سَينزِلُ عَليكِ وقُدرَةَ العَلِيِّ تُظَلِّلَكِ، لِذلِكَ يَكونُ الـمَولودُ قُدُّوساً وَابنَ اللهِ يُدعى". (لوقا 35:1). وفي عماد يسوع نقرأ: "وبَينَما هو خارِجٌ مِنَ الماء رأَى السَّمَواتِ تَنشَقّ، والرُّوحَ يَنزِلُ علَيه كَأَنَّهُ حَمامةَ. وانطَلَقَ صَوتٌ مِنَ السَّمَواتِ يقول: «أَنتَ ابنِيَ الحَبيب، عَنكَ رَضيت»". (مرقس 10:1-11) وتشير خاتِمةُ بشارةِ متى إلى رسالةِ التّلاميذ المصحوبة بنعمةِ الثّالوث الأقدس: "اذهَبوا وتَلمِذوا جَميعَ الأُمَم، وعَمِّدوهم بِاسْمِ الآبِ والابْنِ والرُّوحَ القُدُس" (متى 19:28). ونذكر أيضًا جملةَ بولس الوداعية إلى أهل قورنتوس: "لتكن نعمةُ ربِّنا يسوعَ المسيح ومحبّةُ الله وشركةُ الروحِ القدس معكم جميعًا". (2 قورنتوس 13:13). فالثّالوث الأقدس وردَ نصًّا صريحًا في طيّاتِ الكتابِ المقدّس.
ب) واستِنادًا منها على النّصوص الموحاة، أَقرّت الكنيسةُ، من خلالِ مجامِعها المسكونيّة الأولى، عقيدةَ الثّالوث ومجملَ العقائد الأساسيّة، وصاغتها قانونَ إيمانٍ نحفظُهُ ونتلوه حتّى يومِنا هذا.
أما الشّروحاتُ الّلاهوتيّة والفلسفيّة فقد تَعدّدت، لمحاولةِ تبسيط هذه العقيدة، وتسهيلِ عرضِها وإيصالِها لأذهان المؤمنين وقلوبِهم. نعرضُ جزءًا منها:
- البنوّة لها أشكالٌ كثيرة، فهناكَ البنوةُ الجسدية النّاتِجة عن الولادة الطّبيعة بينَ البشر، لضمانِ استمرار النّوع البشري.
- هناكَ أيضًا بُنوّة التّبني، كأن تتبنّى طفلًا من إحدى دورِ رعاية الأيتام أو الأطفال الّلقطاء. هذا الطّفل لم يخرُج من صُلبِكَ، ولكنّه صار ابنًا لك بالتّبنّي.
- أَضِف إلى ذلك أشكالًا أُخرى للبنوّة، كالبنوّة الفكرية أو الحزبيّة في أن تنتمي مثلًا إلى أيدولوجية أو مَدرسة فكريّة مُعيّنة كمدرسة أدباء المهجر. والبنوّة الزّمانية كانتمائِك إلى هذا العصر الرّقمي، أو البنوّة المكانية كانتمائِك إلى مدينة الكرك أو مادبا أو السّلط.
- هناكَ أيضًا البُنوّة العقلية، فنقول: أفكاري بناتُ عقلي؛ أي أنّها وُلِدَت وتكوّنت في عقلي وَنَتَجت وصدرت عنه. فالفكرةُ تولد في العقل. وبِما أنّها وُلِدت في العقل، فالفكرة تساوي العَقلَ الّذي نشأت فيهِ، في جوهرِه. فالعقل الصّالح المُستنير يلِدُ فكرًا صالحًا مُستنيرًا، والعقلُ الغبيُّ المتخلّف يلِدُ فكرًا غبيًّا مُتخلِّفًا. فكلُّ شجرةٍ تُثمِرُ ثمارَها.
- وإذا كانَ الفِكرُ ينشأُ في العقل، فهو يصدرُ أو يخرجُ عن العقلِ بوسائِلَ عدّة: إمّا كلامًا منطوقًا يصدرُ عن الفمِ والشّفتين ليدخلَ إلى أذانِ السّامعين. وإمّا كلامًا مكتوبًا مُدوَّنًا ليدخُلَ أذهان القارئين، وإمّا يُطبّقُ اختراعًا يفيد أو يضر العَالَمين. ولكنَ الفِكر، وإن خرج عنّي، نُطقًا أو كتابة أو اختراعًا، يبقى ويَظلُّ حاضِرًا في عقلي، الّذي فيه تكوّنَ، وعنهُ صَدرَ، دونَ انفصالٍ وبلا تَجَزُّأ.
- هكذا هو الأمرُ في المسيح، كلمةُ الله أو فكرُ الله. صدَر عن الله في الزّمان، وصارَ بشرًا، حامِلًا نفسَ صفاتِه، ونفسَ جوهرِه، دون انفصال. خرجَ من الله، وظلَّ حاضِرًا في الله، فهو فكرُ الله وكلمةُ الله. وفي نفس الوقت صار بشرًا، وسَكن بيننا، وأصبحَ مَعنا.
- وهذا الصُّدور هو صدورٌ أزليٌّ، أي دونَ بداية ودونَ نهاية. وهو صدورٌ جَوهريٌ أي يحملُ نفسَ جوهرِ الله. تمامًا عِندما تُشعِلُ نارًا، فالنُّورُ والحرارة يصدُرانِ معًا، في آنٍ واحد، عن نارٍ واحدة، دون انفصال أو مُفارِقة. الفَرق يكمن في هذا المثال، أنَّ النّارَ صَدَرَت في الزّمن، لها بداية ولها نهاية، أمّا اللهُ بكلمتِه وروحِه، فلا بدايةَ لهُ ولا نهاية، أَزلي.
- نحنُ نؤمن بإله واحد، ولكنّنا عِندما نتكلَّم عن الثّالوث، فنحن نتكلّم عن صِفاتِ الكائنِ الإلهي. فالله ذاتٌ إلهية بعقل وبروح. والله بعقلِهِ وروحِهِ هو كَيانٌ واحد، وصِفاتٌ تُشكِّلُ إلهً واحد. فمن نفسِ الذَّات الإلهية يخرج العقلُ الإلهي، كلمةُ الله يسوعُ المسيح، الذي به كانَ كلُّ شيء، ومن الذّات الإلهية يصدرُ أيضًا الروحُ القُدس المحي.
- ومن مِيزاتِ هذا الكائن الّلامحدودية، فالله لا يخضع لقوانين الزّمان ولا المكان. موجودٌ في كلِّ مكان، دونَ أن يَحدَّهُ المكان. هو موجودٌ بطريقةٍ غير منظورة، وصارَ أيضًا موجودًا بطريقةٍ منظورة من خلال المسيح، "فالكلمة صار بشرًا فسكنَ بينَنا فرأينا مجدَه".
- نعودُ إلى مِثالِ النّار، فمِن نفسِ النّار أنت تستطيعُ أن تُشعِلَ نارًا أخرى، وتبقى الأولى كما هي. وفي الله، الكلمةُ بقيت في الله، وفي نفسِ الوقت، الكلمةُ صارَ بشرًا وسكنَ بينَنا، في شخصِ المسيح يسوع.
- مصطلح الكلمة في الّلغةِ اليونانية هو (Logos) ويَعني مَنطق. وهو من الفعل اليوناني (Lego) ويعني يَنطِق. فالكلمةُ تعني عَقل الله النّاطق، أو نُطقَ الله العاقل.
- فعندَما نقول، في مُقدِّمة إنجيل يوحنّا: "بهِ كانَ كلُّ شيء"، أي أنَّ كلَّ شيءٍ كانَ بعقلِ اللهِ النّاطق، فهذا يعني أنَّ اللهَ خلقَ العالم بكلمتِه العاقلة النّاطقة، أي بيسوعَ المسيح. تماما عِندما نقول أنَّ الطّالب حلَّ المسألة بعقله. فَمَن الّذي حلَّ المسألة؟ الطّالبُ أم عقلُ الطّالب؟! الطالبُ حلَّ المسألة، وعقلُه حلَّ المسألة، وهو بعقلِهِ حلَّ المسألة، والطّالبُ وعقله هما كيانٌ واحدٌ لا كَيانينِ مُنفَصِلين. واللهُ بعقله/ بكلِمتِه خلقَ العالم، وكلِمتُه يسوعُ المسيح خَلَق العالم، والله وكلِمته كيانٌ واحد وجوهر واحد غيرُ منفصل. وهل مِن فرقٍ بين الكائنِ وعقلهِ وروحه؟
- قُلنا: أن كلمةَ أزلي تعني بلا بداية وبلا نهاية. وآريوس الّذي بسبب هرطقته، عُقِد مجمع نيقيا سنة 325 للرّد عليه، كانَ يقول أنَّ يسوع، هو كائنٌ غيرُ أزلي، بل مخلوقٌ له بداية في الزّمان. ولكنّنا قُلنا أنّ يسوع المسيح هو عقلُ اللهِ النّاطق، فهل يعني آريوس بكلامِه، الخالي من المنطِق، أنْ كان هناكَ زمنٌ كانَ اللهُ فيه بلا عقل؟ ثمَّ أتى زمنٌ خلقَ اللهُ له عقل؟! وإذا كانَ بغير عقل، فبأيِّ عقل يخلِقُ لنفسِه عقلًا؟!
- أمّا مَقدونيوس الّذي كانَ أُسقف القسطنطينية، فادَّعى أنَّ روحَ الله مخلوقٌ غيرُ أزلي. أي كانَ هناكَ زمنٌ كانَ اللهُ فيه بِلا روح! وإذا كانَ اللهُ بلا روح في وقتٍ ما، فكيفَ كان حيًّا، والروحُ هو مصدر الحياة؟! وكيفَ يخلِق لنفسِه روحًا وهو أصلًا من غيرِ روح؟!
لذلك يا أحبّة، إنَّ اللهَ بكلمتِه وبروحِه، منذُ الأزل، بلا بداية ولا نهاية، دونِ انفصالٍ ودونَ تجزّأ. هذا هو الله: الموجودُ في ذاته، الناطقُ الخالِقُ بكلمتِه، الحيُّ القدّوس بروحِه. في كلِّ مكان وفي كلِّ زَمان، قبل المكان ِوقبل الزّمان.
أخيرًا، إخوتي وأخواتي مهما قلتُ وبحثتُ، يبقى كلامي ناقصًا ومعرفتي ناقِصة، لذلك قالَ الّلاهوتيون بصدقٍ: (ما مِن مرةٍ تكلَّمِتِ الّلغةُ عن الّلاهوت، إلّا وقصّرت في التَّعبير). أمّا توما الأكويني، الّلاهوتي العظيم، فقال عندَ دُنوِّ أجلِه: (إنَّ كلَّ ما قلتُ وكتبتُ عن الله في حياتي هو قَشّة. لكنّني لا أنسى أنَّ القشّة تحمل السُّنبُلَةَ على رأسها). فكونوا قَشَّ قمحٍ تحملُ الله سنابِل في قلوبِها وأذهانِها.
وبركة الله الواحد الآب والابن والرّوح القدس، تكونُ معكم وتصحبكم دائِمًا أبدًا...