موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١ ديسمبر / كانون الأول ٢٠١٨

مجيء المسيح في آخر الأزمنة والصلاة

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين

يفتتح الاحد الأول من زمن المجيء السنة الليتورجيا، وهي السنة التي تساعدنا على مواكبة يسوع من تجسّده وميلاده وحتّى صعوده، وإلى يوم العنصرة، في انتظار الرجاء السعيد لعودته المجيدة. فيصف لوقا الإنجيلي خطاب يسوع المسيح عن مجيئه في نهاية العالم ديانا للعالمين وعن أهمية السهر بالصلاة لحسن لقائه لنيل الرحمة والخلاص (لوقا 21: 25-28، 34-36). فبدون استعداد للقائه تعالى بالصلاة لا نجاة ولا ثبات في حياتنا لدى ربنا يسوع المسيح "يوم مَجيئه يُواكِبُه جَميعُ قِدِّيسيه!" (1 تسالونيقي 3: 13). ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الانجيلي وتطبيقاته. أولاً: تحليل وقائع نص انجيل لوقا (لوقا 21: 25-28، 34-36) 25 وسَتَظهَرُ عَلاماتٌ في الشَّمسِ والقمَرِ والنُّجوم، ويَنالُ الأُمَمَ كَرْبٌ في الأَرض وقَلَقٌ مِن عَجيجِ البَحرِ وجَيَشانِه. تشير عبارة "عَلاماتٌ" الى أحداث نهاية العالم عبر تقلبات التاريخ كانقلاب الأنظمة القومية وسقوط الإمبراطوريات العظيمة (اشعيا 13:10 وحزقيال 32: 7)، وانتشار الفوضى في أرجاء الكون. وفي الواقع يميّز لوقا الإنجيلي بين علامات النهاية في آخر الأزمنة (21: 21: 25-27) وعلامات التاريخ أي الشدة التي تسبق الأزمنة الأخيرة الاضطهادات والسجون والبغض والكراهية بين الوالدين وابنائهم (لوقا 21: 12- 19،) والاضطرابات الحربية والسياسية مثل حصار اورشليم (لوقا 21: 20-24). أمَّا عبارة "عَلاماتٌ في الشَّمسِ والقمَرِ والنُّجوم" فتشير الى كلمات تقليدية من الأسلوب الرؤيوي بحسب لغة العصر آنذاك. وهذه العلامات يصفها انجيل متى " تُظلِمُ الشَّمس، والقَمَرُ لا يُرسِلُ ضَوءَه، وتَتَساقَطُ النُّجومُ مِنَ السَّماء، وتَتَزعزَعُ قُوَّاتُ السَّمَوات" (متى 24: 29)؛ وهذا الوصف مقتبس من اشعيا النبي "كَواكبَ السَّماءِ ونجومَها لا تَبعَثُ نورَها والشَّمسَ تُظلِمُ في طُلوعِها والقَمَرَ لا يُضيءُ بنورِه" (اشعيا13: 10)؛ أمَّا عبارة " كَرْبٌ" فتشير الى حزن شديد ومشقة. أمَّا عبارة "قَلَقٌ مِن عَجيجِ البَحرِ وجَيَشانِه" فتشير الى العالم المضطرب كالبحر. بل هذا ما حدث في أمواج تسونامي التي ضربت الناس بارتفاع 10-20متراً وبسرعات مخيفة. هذه العلامات هي جزء من الوصف الذي يقدِّمه التقليد عن يوم الرب. وهي تدل من جهة على أهمية الحدث، ومن جهة تانية على جهلنا لزمن هذا اليوم وكيف يكون. لكن هذه العلامات تكون، عادة، مصدر تعزية وتشجيع في الدرب الروحيّ، ومساعدة قويّة للخلاص، لأنها تقودنا إلى معرفة الله المتجسّد بما أنّها تشهد لصلاحه وتواضعه، وتقوّي إيماننا بأنّه هو كلمة الله المتجسد. 26 وتَزهَقُ نُفوسُ النَّاسِ مِنَ الخَوف ومِن تَوَقَّعِ ما يَنزِلُ بِالعالَم، لِأَنَّ أَجرامَ السَّماءِ تَتَزَعزَع تشير عبارة "تَزهَقُ نُفوسُ النَّاسِ مِنَ الخَوف ومِن تَوَقَّعِ ما يَنزِلُ بِالعالَم " الى الاضطرابات، والخوف، والألم والشدائد، بحيث تعيق قدرات الناس على الفعل والحركة ورؤية النور. أمَّا عبارة "أَجرامَ السَّماءِ" فتشير الى الكواكب والقوى السماوية، وهي مستوحاة من أقوال اشعيا النبوية (اشعيا 13: 10، 34: 4) حيث يدلّ هذا الانقلاب الكوني على مجيء الرب في نهاية العالم مع التركيز على مجد ابن الانسان وظهور قدرته بحيث يهتزّ الكون كله رغم ثباته. أمَّا عبارة " أَجرامَ السَّماءِ تَتَزَعزَع " فتشير الى نهاية الكون كله وعودته الى البداية من اجل خلق جديد، حيث يبدو ان الطبيعة تستعد لمجيء ابن الانسان ودينونته كما جاء في رؤية يوحنا الحبيب "رَأَيتُ سَماءً جَديدةً وأَرضًا جَديدة، لأَنَّ السَّماءَ الأُولى والأَرضَ الأُولى قد زالَتا، وللبَحرِ لم يَبقَ وُجود"(رؤيا 21: 1). ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " أَجرامَ السَّماءِ تَتَزَعزَع عندما ترى جماهير بلا حصر لها تسقط تحت الدينونة!" اما القديس اوغسطينوس فيعلق " أَجرامَ السَّماءِ تَتَزَعزَع، لأنه عندما يثير الأشرار الاضطهاد يرتعب بعض المؤمنين الأقوياء". تؤكد لنا تلك الصور ان مجيء المسيح لا شك فيه، وانه علينا ان ننتظره في الايمان والمواظبة على الصلاة. 27 وحينَئذٍ يَرى النَّاسُ ابنَ الإِنسانِ آتِياً في الغَمام في تَمامِ العِزَّةِ والجَلال تشير عبارة" حينَئذٍ " الى التاريخ الذي لا يسير نحو نهايته، نحو فناء كلّ شيء، نحو الفوضى والموت؛ بل إنّه يسير نحو لقاء الربّ؛ أما عبارة " يَرى النَّاسُ ابنَ الإِنسانِ " فتشير الى النَّاس المؤمنين، وغير المؤمنين، الذين يرون عودة المسيح دلالة على ان الربّ يسوع يُحب الجميع، يُكرّم السامري والأممي تماماً مثل اليهوديّ، ويدعو الجميع للترحيب والاهتمام والمشاركة. أمَّا عبارة “ابنَ الإِنسانِ" فتشير الى شخصية سماوية. ولم يرد لقب "ابن الانسان" في الإنجيل او على لسان يسوع، لكن وجدت فيه الجماعة المسيحية الأولى إحدى الألقاب المميَّزة ليسوع الناصري. يعُزى بعض المفسِّرين هذه اللقب الى ما ورد في حزقيال (حزقيال 2: 1-3) لكن أكثر المفسرين يردّونها الى التقليد الرؤيوي (دانيال 7: 13)؛ وفي هذا التقليد، سيأتي ابن الانسان في اليوم الأخير ليدين الخاطئين ويخلص الابرار. وهذا اللقب، بارتباطه بالوصف النبوي لعبد الله المتألم، فانه يوحِّد بين الصليب والمجد (مرقس 8: 31). ومن هذا المنطلق، فان الجماعة المسيحية الاولى بإطلاق هذا اللقب على يسوع تُرينا ان يسوع ذلك الذي يستبق الدينونة بسلطانه مخلصا الخاطئين (متى 9: 6) وفاتحا الزمن المسيحاني (متى 12: 8). أمَّا عبارة "ابنَ الإِنسانِ آتِياً في الغَمام في تَمامِ العِزَّةِ والجَلال" فتشير إلى علاقة واضحة بين ابن الانسان ونبوءة دانيال (دانيال 7: 13) للدلالة على مجيء المسيح المنتصر كديَّان؛ وهي صورة عن مجيء الله وتجلياته كما يصوِّرها العهد القديم (خروج 19: 16 وحزقيال 1: 4). يسوع يرى ذاته منذ الآن بصفة "ابن الإنسان" الذي سيعود ممجَّدا ً "ويَجلِسُ بَعدَ اليَومِ عن يَمينِ اللهِ القَدير" كما سيعلنه أمام مجلس عظماء الكهنة (لوقا 22: 69). فإن يسوع يريد، في وسط اضطرابات الكون والعالم، أن يظهر قوّته العظيمة ومجده الذي ليس له مثيل. بينما يمضي التاريخ نحو نهاية ما، يأتينا الربّ، ويدخل في التاريخ. إن قدرة الله أعظم من كلّ شيء، وهو أقوى من كلّ شيء. ويُعلق البابا بندكتس السادس عشر " وجدت الكلمات القديمة للأنبياء مركزا في شخص المسيح: فهو الحدث الحقيقي الذي يبقى النقطة الثابتة وسط اضطرابات العالم، انه يربط الحاضر والمستقبل"؛ أمَّا عبارة "الغمام" فتدل على الحضور الإلهي (خروج 34: 5)؛ فيسوع يظهر ثانية من الغمام الذي حجبه عن أعين الرسل عند صعوده الى السماء (أعمال الرسل 1: 9-11). ويبدو ان يسوع يشير هنا الى نبوءة دانيال (8: 13: -14). وتبرز هذه الآية حقيقة نصرة يسوع المسيح المتألم الذي يدخل في النهاية الى مجده. ويُعلِّق القديس أوغسطينوس " انه يأتي الآن في كنيسته كما في الغمام، أما فيما بعد فيتحقق مجيئه بسلطان أعظم وجلال إذ يظهر بقوة لاتباعه المؤمنين ليهبهم فضيلة عظيمة حتى يغلبوا ذلك الاضطهاد المريع. كما سيأتي بجسده... الذي صعد به". إن يسوع سيعود ليُقيم حكمه، حكم السلام والبرّ. هل لدينا رجاء في الربّ يسوع وفي وعده بالمجيء ثانية كي يقيم ملكه وحكمه على كلّ ما قد صنع؟ 28 وإِذا أَخذَت تَحدُثُ هذِه الأُمور، فانتَصِبوا قائمين وَارفَعوا رُؤُوسَكُم لِأَنَّ اِفتِداءَكم يَقتَرِب تشير عبارة "إِذا أَخذَت تَحدُثُ هذِه الأُمور" الى صورة الاضطهادات القادمة والكوارث الطبيعية، وهي صورة مظلمة وكئيبة، لكنها في النهاية ستكون سببا لا للقلق والاضطراب بل للفرح. لأنه عندما يرى المؤمنون هذه الاحداث يعلمون ان المجيء الثاني للمسيح وشيكا على الأبواب فيتطلَّعون نحو العدل والسلام والخلاص. ومن هذا المنطلق يتوجب على المؤمنين أن ينتظروا مجيئه بكل ثقة ورجاء بدلا من ان يرتعبوا مما يحدث في العالم. أّمَّا عبارة "فانتَصِبوا" فتشير الى دعوة يسوع الى الثبات بفخر وفرح واعتزاز والى الوقوف كرجال روحيين بلا تراخ ولا كسل. فالمسيح سيتمجَّد ويتمجَّد تلاميذه معه. أمَّا عبارة "قائمين" الى اختيار الله لتلاميذه، مع انه لم يكن لهم وجود في أعين الناس (1قورنتس 1: 26) بل بما هم عليه في يسوع المسيح في نظر الله كما جاء في تعليم بولس الرسول "بِفَضْلِه أَنتُم قائمونَ في المسيحِ يسوعَ الَّذي صارَ لَنا حِكمَةً مِن لَدُنِ الله وبِرّاً وقَداسةً وفِداءً "(1 قورنتس 1: 30). امَّا عبارة " وَارفَعوا رُؤُوسَكُم " فتشير الى رفع العقول نحو السماويات، وانتظار مجيء الرب، لأن نجاة الانسان الأبدية تقترب. ويأتي ربُّ المجد لنجاتنا، ليس فقط على مستوى خـــــلاص النفس، وإنمـــا على مستوى قيامة الجسد أيضًا، حيث يتمجد الإنسان بكليته؛ أمَّا عبارة "فانتَصِبوا قائمين وَارفَعوا رُؤُوسَكُم" فتشير الى دعوة يسوع لتلاميذه ان يرفعوا رؤوسهم بعد ان انحنت تحث ثِقل المحن والاضطهادات. ويعلق البابا فرنسيس " وإن اشتدّت قوّات الشرّ، فعلى المسيحيّين أن يلبّوا الدعوة، ورؤوسهم مرفوعة، مستعدّون للمقاومة في هذه المعركة حيث الكلمة الأخيرة تكون لله. وهذه المحبّة سوف تكون كلمة محبّة وسلام"! وما يبدو لكثير من الناس أنَّه دمار، يظهر للمؤمنين أنّه بداية الخلاص. أمَّا عبارة "افتداء" في الأصل اليوناني ??????????? (معناها النجاة) فتشير الى لفظة تقليدية في العهد القديم للدلالة على خلاص شعب الله (مزمور 111: 9)؛ وقد استعملها لوقا عدة مرات إمّا للدلالة على خلاص شعب الله (لوقا 1: 68) او لفداء الابكار (لوقا 2: 38) او لافتداء إسرائيل (لوقا 24: 21). الافتداء هي كلمة رجاء من خلال الضيق والاضطهاد. وهذه اللفظة لا ترد في الاناجيل الاّ في هذا النص، لكنها من المفردات التي ردَّدها القديس بولس الرسول مراراً في رسائله (1 قورنتس 1: 30، ورومة 3: 24 و8: 23 وقولسي 1: 14). أمَّا عبارة " اِفتِداءَكم يَقتَرِب " فتشير الى الظهور المهيب للربّ في نهاية الأزمنة للخلاص والتحرير الحاسم للبشر، وبالتالي، فإنّ نهاية العالم، بالنسبة للمسيحيّين، هو لحظة الإلقاء الشخصي بالربّ الممجّد، وهو العمل الّذي يختتم تاريخ خلاص البشر. وبعبارة أخرى، تشير صورة الاضطهادات القادمة والكوارث الطبيعية الى صورة مظلمة وكئيبة، لكنها في النهاية ستكون سببا لا للقلق والاضطراب بل لفرح عظيم لأنها دلالة على ان الخلاص قد اقترب. 34 فاحذَروا أَن يُثقِلَ قُلوبَكُمُ السُّكْرُ والقُصوفُ وهُمومُ الحَياةِ الدُّنيا، فَيُباغِتَكم ذلِكَ اليَومُ تشير عبارة " فاحذَروا" الى النظر حولكم من كل جانب، بعين دائمة السهر لحراسة أنفسكم خوفا من الخطيئة. لذلك ينبِّه بولس الرسول المؤمنين بقوله" ْلنَخلَعْ أَعمالَ الظَّلام ولْنَلبَسْ سِلاحَ النُّور. ِنَسِرْ سيرةً كَريمةً كما نَسيرُ في وَضَحِ النَّهار. لا قَصْفٌ ولا سُكْر، ولا فاحِشَةٌ ولا فُجور، ولا خِصامٌ ولا حَسَد. بلِ البَسوا الرَّبَّ يسوعَ المسيح، ولا تُشغَلوا بِالجَسَدِ لِقَضاءِ شَهَواتِه" (رومة 13: 12-13). أمَّا عبارة " يُثقِلَ قُلوبَكُمُ " فتشير الى تنويم الضمير لان التعلق بشهوات الحياة الارضية يُخدر القلب ويُنسي "ذلك اليوم". لأنه إن لم يكترث الانسان للقاء الرب والاتحاد معه الآن فأنه يملئ فراغه بالسُّكْرُ والقُصوفُ وهُمومُ الحَياةِ الدُّنيا للهروب من الشعور بالوحدة وبالتالي يخاطر بوجوده ونجاته في الحياة الآخرة. أمَّا عبارة "السُّكْرُ" في الأصل اليوناني ???????? (معناها الخمرة) فتشير الى شرب الخمر الذي يفقد الإنسان سيطرته على ذاته، فلا تعود إرادته تتحكّم في حياته، والإنسان الّذي لا يتحكّم بذاته يكون ضعيفاً وفريسة للشر، لأنه حياته فاقدة الإرادة وفاقدة الوجهة الصحيحة. فالسكِّير يُشبه مركباً دون دفّة قيادة؛ أمَّا عبارة "القُصوفُ " في الأصل اليوناني ???? (معناها السكر) الى غياب عقلُ المرء وإدراكُه نتيجة شرب الخمر. ويعلق القديس باسيليوس الكبير "يوجد حولكم غنى وفنون وكل مباهج الحياة، يلزمكم ألا تهتموا إلا بنفوسكم اهتمامًا خاصًا". واما عبـــــارة " هُمومُ الحَياةِ الدُّنيا" فتشير الى معنى تبديد الحياة في ألف شيء صغير، لا معنى له؛ فنُصبح عبيداً للأشياء، ولا نبقى أسياد أنفسنا بعد ذلك، بل تكون الأشياء هي أسيادنا؛ وقد حذرنا منها يهوذا الرسول "سيَكونُ في آخِرِ الزَّمانِ مُستَهزِئُونَ يَتبَعونَ شَهَواتِ كُفْرِهم" ( يهوذا 1: 18). أمَّا عبارة "َيُباغِتَكم" فتشير الى مجيء المسيح غير المنتظر بصورة مفاجئة ومتى جاء لن تكون هناك فرصة أخرى. وهو يشبه دينونة الله في الطوفان في أيام نوح حيث "كانَ النَّاسُ يأكُلونَ ويشرَبون، والرِّجالُ يَتَزَوَّجونَ والنِّساءُ يُزَوَّجْنَ، إِلى يَومَ دخَلَ نُوحٌ السَّفينة، فجاءَ الطُّوفانُ وأَهلَكَهُم أَجمَعين "(لوقا 17: 27)؛ كما يشبه خراب سدوم في أيام لوط " إِذ كان الناس يأكُلونَ ويَشرَبون، ويَشتَرونَ ويبيعون، ويَغرِسونَ ويَبْنون، ولكِن يَومَ خَرَجَ لوطٌ مِن سَدوم، أَمطَرَ اللهُ ناراً وكِبريتاً مِنَ السَّماء فأهلَكَهم أَجمَعين " (لوقا 17: 28-29). ما كان الناس قبل الطوفان وخراب سدوم يتوقعون شيئاً، وما كانوا يدركون شيئاً، وما كانوا يشعرون بشيء. لذلك يدعونا بولس الرسول الى خلع أعمال الظلام بما فيها من السكر والقصوف وشهوات العالم (رومة 13: 13) التي تخدّر القلب وتُنسينا يوم مجيء الرب فنتغافل عنه، ويوضِّح بولس الرسول هذا الامر بقوله " فحِينَ يَقولُ النَّاس: سَلامٌ وأَمان، يأخُذُهمُ الهَلاكُ بَغتَةً كما يأخُذُ المَخاضُ الحامِلَ بَغتَةً، فلا يَستَطيعونَ النَّجاة (1تسالونيقي 5: 3). أمَّا عبارة "ذلِكَ اليَومُ" فتشير الى مجيء يوم الرب، يوم الدينونة. فالرب يسوع لا يريدنا أن نعرف الأزمنة وننشغل بحساباتها، بل بالحري أن نسهر بقلوبنا، مترقبين بالحياة الجادة مجيئه ليملك علينا أبديًا. هل نحن مستعدون لهذا اللقاء ونحن نعلم انه يموت شخص في كل ثانية... ويموت كل يوم عشرات الآلاف على وجه الأرض؟ هل نعرف كم من الثاني بقي لنا على قيد الحياة؟ 35 كأَنَّه الفَخّ، لِأَنَّهُ يُطبِقُ على جَميعِ مَن يَسْكُنونَ وَجهَ الأَرضِ كُلِّها تشير عبارة "الفَخّ " الى أمر يأتيك فجأة، وهذ الامر هو أزمة "يوم الرب". لان مجيء الربّ سيكون لبعض الناس بمثابة حدث غير متوقع لانشغالهم في أمور الدنيا وملذاتها، والتالي فخا وخطرا لأنهم لا يسهرون على أنفسهم. أمَّا عبارة "جَميعِ مَن يَسْكُنونَ وَجهَ الأَرضِ" فتشير إلى البشرية كلها وليس فقط الى الشعب اليهودي كما كان الأمر في دمار أورشليم عام 70م. ان علامات اقتراب المجيء سوف تكون ضيقا وسط الشعوب واضطرابات مفزعة في النظام العالمي بأكمله. ولكن يحوّل الحذر الفخ الذي يسقط فيه جميع الجالسين على وجه كل الأرض إلى يوم نجاة ووقوف قدام ابن الإنسان ومعاينة وجهه على الدوام. 36 فاسهَروا مُواظِبينَ على الصَّلاة، لكي توجَدوا أَهْلاً لِلنَّجاةِ مِن جَميعِ هذه الأُمورِ التي ستَحدُث، ولِلثَّباتِ لَدى ابنِ الإِنْسان تشير عبارة "اسهَروا" الى دعوة يسوع الى السهر والصلاة انتظارا لأحداث الآخرة (1 تسالونيقي 5: 3). يحثُّ يسوع تلاميذه هنا على السهر والتنبّه الدائم الى علامات الملكوت في حياتهم وفي التاريخ حتى لا يُؤخذوا بتلك الدينونة وإنما يُمكنهم الوقوف لدى ابن الانسان عند مجيئه. وهذا السهر يُمّيز المسيحي الذي ينتظر عودة الربّ (مرقس 13: 33-37). ويربط بولس الرسول بين فكرة الرقاد في الليل، رمز مُلك الشر، وفكرة السهر، رمز الانتظار " أَمَّا أَنتُم، أَيُّها الإِخوَة، فلَستُم في الظُّلُماتِ حتَّى يُفاجِئَكم ذلِك اليَومُ مُفاجَأةَ السَّارِق، 5 لأَنَّكم جَميعًا أَبناءُ النُّورِ وأَبناءُ النَّهار. لَسْنا نَحنُ مِنَ اللَّيلِ ولا مِنَ الظُّلُمات. فلا نَنامَنَّ كما يَفعَلُ سائِرُ النَّاس، بل علَينا أَن نَسهَرَ ونَحنُ صاحون " (1 تسالونيقي 5: 4-6). أمَّا عبارة "مُواظِبينَ على الصَّلاة" فتشير الى تركيز لوقا على المداومة على الصلاة بثباتٍ استعدادا لمجيء يسوع في نهاية العالم وإن أبطأ قليلا (لوقا 18: 1 1-8). ويستعين بعبارات امتاز بها بولس الرسول وهي "المداومة على الصلاة" (2 تسالونيقي 1: 11، وفيلبي1: 4). أمَّا عبارة "اِلثَّباتِ لَدى ابنِ الإِنْسان" فتشير الى تحمّل محنة حكم المسيح الرهيبة أثناء الدينونة. وهذه هي آخر جملة من خطاب ألقاه يسوع قبل آلامه. ان ابن الانسان هو صاحب الكلمة الأخيرة. "فان سهَرنا مُواظِبينَ على الصَّلاة، كنا أَهْلاً لِلنَّجاةِ لِلثَّباتِ أمامه. فالإنسان الذي استعد للقاء يوم مجيء الرب بالصلاة يتحقق له يوم الخلاص الذي آمن به. لذلك يدعو البابا بندكتس المسيحيين "لتقبل الخلاص من الله في وسط تقلبات العالم، وصحاري اللامبالاة والمادية، والشهادة له بطريقة عيش مختلفة". ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (لوقا 21: 25-28، 34-36) بعد دراسة وقائع النص الإنجيلي (لوقا 21: 25-28، 34-36) نستنتج ان النص يتمحور حول الانتظار للمجيء الثاني للمسيح بالصلاة، لأن الصلاة هي الإمكانية الحقيقية للبقاء في الحياة دون هروب، ودون ضياع أمام الشدائد والآلام. لأننا بها نستمد من الرب القوة للبقاء في داخل الأحداث، متيقنين أننا لسنا وحدنا، وأن كل شيء يمكن أن يُفقد، ما عدا حضور الرب، وان مجيء المسيح في الزمن قبل الفين سنة دلالة على مجيئه النهائي. وهذا المجيء هو بمثابة حلول النور والحب والرحمة والحياة بين الناس والدينونة. لذا ينصحنا يسوع بقوله: "فاسهَروا مُواظِبينَ على الصَّلاة، لكي توجَدوا أَهْلاً لِلنَّجاةِ مِن جَميعِ هذه الأُمورِ التي ستَحدُث، ولِلثَّباتِ لَدى ابنِ الإِنْسان". (لوقا 21: 36). ومن هنا نتساءل: كيف علينا ان نصلي لكي ننجو يوم مجيء المسيح في نهاية العالم ونثبت لديه؟ نجد في الكتاب المقدس تعليمات واضحة في كيفية الصلاة بروح الانجيل: صلاة موجّهة لله ألآب، باسم يسوع وبروح التبني بمفعمة بالثقة والايمان والثبات والشكر والمداومة على الليتورجيا المقدسة: 1) صلاة موجّة لله الآب يطلب يسوع منا ان نرفع صلاتنا الى الله الآب. علمنا يسوع في الصلاة الربانية باليونانية ??????? ???????? التي تعتبر قلب تعليمه عن الصلاة (لوقا 11: 2-4) ان نوجّه صلاتنا إلى الله بصفته أب "أبانا". لأننا بالإيمان أصبحنا ابناء الله كما جاء في تعليم يوحنا الحبيب " جاءَ إِلى بَيتِه. فما قَبِلَه أَهْلُ بَيتِه. أَمَّا الَّذينَ قَبِلوه وهُمُ الَّذينَ يُؤمِنونَ بِاسمِه فقَد مَكَّنَهم أَنْ يَصيروا أَبْناءَ الله"(يوحنا 1: 11-12). وقد عرّف القديس يوحنا الدمشقي "الصلاة هي رفع العقل والقلب إلى الله"، وقال البابا فرنسيس "الصلاة هي وقفة حقّ أمام النفس وأمام الله. نقابل خلالها وجهنا الحقيقي، الذي يعرفه الله، ونتحدث في شأنه مع الله تماماً كالابن مع أبيه". فإننا بالإيمان أصبحنا ابناء الله. ومن هنا جاءت وصية بولس الرسول " لِتُرفَعْ طَلِباتُكم إِلى اللهِ بِالصَّلاةِ والدُّعاءِ مع الشُّكْر (فيليبي 4: 6- 7). وهذا الابتهال هو فعل إيمان، وهبة ذات، من شانه إدخالنا في نطاق المحبة. فنطلب الله ومشيئته قبل كل طلب، نهتم باسمه تعالى وبملكوته وبتحقيق إرادته (متى 9: 38). وهذا هي الصلاة الحقيقية، الانتقال من الرغبة في عطايا الله إلى الرغبة في هبة الله ذاته. وهكذا نرى المرأة السامرية انتقلت رغبتها من طلب ماء البئر نحو الرغبة في الماء الحي أي عطاء الله كما ورد في كلام يسوع "لو كُنتِ تَعرِفينَ عَطاءَ الله ومَن هوَ الَّذي يقولُ لَكِ: اسقيني، لَسَأَلِته أَنتِ فأَعطاكِ ماءً حَيّاً" (بوحنا 4: 10)؛ وكذلك نرى الجمهور ينتقل من الرغبة في الطعام الفاني الى "الغذاء الباقي للحياة الأبدية" كما علّمهم: "لا تَعمَلوا لِلطَّعامِ الَّذي يَفْنى بلِ اعمَلوا لِلطَّعامِ الَّذي يَبْقى فَيَصيرُ حَياةً أَبَدِيَّة" (يوحنا6: 27). وعليه إن مركز الصلاة هو الله وليس أنفسنا، ان نعرف الله بصورة أفضل وان نميّز إرادته بصورة أفضل وان نتعلم أكثر ان نكرمه. وباختصار ان نعيش في مخافته. وفي هذا الصدد قالت القديسة تريزا الأفيلية "الصلاة بالنسبة لي ليست إلا علاقة صداقة حميمة، والاختلاء مع مَن نعرف أنه أب يُحبنا". 2) الصلاة "باسم" المسيح يطلب يسوع منا ان نصلي باسمه القدوس " إِنَّ سَأَلتُمُ الآبَ شَيئاً بِاسمي أَعطاكم إِيَّاه " (يوحنا 16: 23)، وصرّح لتلاميذه "حتَّى الآن لم تَسألوا شَيئاً بِاسمي " (يوحنا 16: 24)، ويؤكد ذلك بولس الرسول " كُلُّ مَن يَدْعو بِاسمِ الرَّبِّ يَنالُ الخَلاص" (رومة 10: 13). لان َّيسوع بعد قيامته أصبح حاضرا لأجلنا أمام الله وحيا أبدا للشفاعة فينا. الصلاة باسم يسوع إقامة علاقة حقيقية معه. والصلاة في هذه الحالة لا تعني أن يقتصر الطلب على الأمور السماوية، بل أن يشاء الإنسان ما يشاء يسوع؛ ومشيئة يسوعٍ إنما هي إنجاز رسالته. ورسالته هي أن يصبح اتحاده "بالآب أساسا لاتّحاده بالمدعوّين "فَلْيكونوا بِأَجمَعِهم واحِداً: كَما أَنَّكَ فِيَّ، يا أَبَتِ، وأَنا فيك ... لِيَكونوا واحِداً كما نَحنُ واحِد (يوحنا 17: 22-24). لذا الصلاة باسم يسوع معناها أن نريد ما يريده، أي أن نعمل بوصاياه، وأولى هذه الوصايا تفرض المحبة. فالمحبة إذا هي كل شيء في الصلاة شرطها ونهايتها. والآب يمنح كل شيء من أجل هذه الوحدة في المحبة. فالصلاة باسم يسوع تعني الصلاة بسلطته والطلب من الله الآب قبول صلواتنا لأننا نأتي باسم أبنه، يسوع. والصلاة باسم يسوع تعني طلب مشيئة الله، "والثِّقةُ الَّتي لَنا بِه هي أَنَّه إذا سأَلْناه شَيئًا مُوافِقًا لِمَشيئَتِه استَجابَ لَنا وإِذا كُنَّا نَعلَمُ أَنَّه يَستَجيبُ لَنا في كُلِّ شَيءٍ نَسأَلُه إِيَّاه فنَحنُ نَعلَمُ أَنَّنا ننالُ كُلَّ شَيءٍ نَسأَلُه إِيَّاه " (1 يوحنا 14:5 – 15). وأخيراً الصلاة باسم يسوع هي طلب أشياء تُمجِّد الرب يسوع. وفي الواقع، نرى التلاميذ في سفر اعمال الرسل يصلون في العلية بعد الفصح، ويصلون في الهيكل ولكن بيسوع والى يسوع. في حين لمّا كان يسوع على قيد الحياة، لم يصل اليه أحد. فهو لا يُصبح ربَّا وموضوع عبادة إلا في قيامته (اعمال الرسل 4: 24 -30). 3) الصلاة بحسب روح الابن يطلب يسوع منا ان نصلي بروحه القدوس. يُبيّن لنا بولس الرسول دور الروح في الصلاة التي توحِّدنا بالثالوث الأقدس. فيرفع بولس الرسول صلواته بالمسيح إلى الآب. "اشكُروا اللهَ الآبَ كُلَّ حينٍ على كُلِّ شَيءٍ بِاسمِ رَبِّنا يسوعَ المسيح" (أفسس 5:20). فأسوة بيسوع، نقول "يا أبتا"، إذ "أَنَّ اللهَ أَرسَلَ رُوحَ ابنِه إِلى قُلوبِنا، الرُّوحَ الَّذي يُنادي: "أَبَّا، يا أَبتِ" (غلاطية 4: 6). إذ ان روح التبني يجعلنا أن نصلي بروح الابن كما جاء في تعليم بولس الرسول "لم تَتلَقَّوا روحَ عُبودِيَّةٍ لِتَعودوا إِلى الخَوف، بل روحَ تَبَنٍّ بِه نُنادي: أَبًّا، يا أَبَتِ!" (رومة 8: 15). وهذا ما نفعله جميعنا لدى مشاركتنا في صلاة ليتورجيا الكنيسة كالقداس والاسرار المقدسة وصلوات ليتورجيا ساعات الفرض الإلهي. ومن هنا نستنتج ان الصلاة ليست قبل كل شيء عملا من أعمالنا، نتّجه بها نحو الله، بل إنَّها عمل الله نحونا فهو الذي يصلي فينا من خلال الروح القدس. ولذلك لا عجب ان يحثنا يهوذا الرسول على الصلاة بالروح “صَلُّوا بِالرُّوحِ القُدُس، واحفَظوا أَنفُسَكم في مَحَبَّةِ الله وانتَظِروا رَحمَةَ رَبِّنا يسوعَ المسيح مِن أَجْلِ الحَياةِ الأَبَدِيَّة" (يهوذا 20-21). 4) الصلاة بثقة يطلب يسوع منا أن نصلي بثقة. إن الروح الذي يصلي فينا يضفي على صلاتنا الثقة "فلْنتَقَدَّمْ بِثِقَةٍ إِلى عَرْشِ النِّعمَة لِنَنالَ رَحمَةً ونَلْقى حُظْوَةً لِيَأَتِيَنا الغَوثُ في حِينِه" (عبرانيين 4: 14-16). والثقة بالعبرية "بطح" ??? (مزمور 25: 2). وهذه الثقة باللّه تتراوح بين التوسل ورفع الشكر. يشكر المرء قبل أن يستجاب كما صلى يسوع لدى إحياء لعازر " شُكراً لَكَ، يا أَبَتِ على أَنَّكَ استَجَبتَ لي" (يوحنا 11: 41). والثقة نابعة من الروح المحبة الذي قد أفيض علينا "لأَنَّ مَحَبَّةَ اللّه أُفيضَت في قُلوبِنا بِالرُّوحَ القُدُسِ الَّذي وُهِبَ لَنا" (رومة 5: 5) ومع ذلك نطلب الروح كما طلب منا السيد المسيح" فما أَولى أَباكُمُ السَّماوِيَّ بِأَن يهَبَ الرُّوحَ القُدُسَ لِلَّذينَ يسأَلونَه " (لوقا 11: 13). وهذا الروح هو أصل الصلاة وغايتها؛ ومن هذا المنطق عندما نصلي نثق أن صلواتنا مستجابة من قبل الله، والا فنحن نصلي كما يصلى الوثنيون "وإِذا صلَّيْتُم فلا تُكَرِّروا الكلامَ عَبَثاً مِثْلَ الوَثَنِيِّين، فهُم يَظُنُّونَ أَنَّهُم إِذا أَكثَروا الكلامَ يُستَجابُ لهُم " (متى 6: 7). 5) الصلاة بإيمان يطلب منا يسوع ان نصلي بإيمان. والإيمان ليس شرطاً للصلاة فحسب انما هو نتيجتها ومفعولها كما يبدو واضحا من إيمان عامل الملك بالمسيح في شفاء ابنه المريض (يوحنا 4: 50 و53) وإيمان مرتا ومريم بالمسيح في احياء أخيهم لعازر (يوحنا 11: 25-27 و45). لذلك يتوجب علينا ان نصلي ونحن على يقين من استجابة يسوع لصلاتنا. وهذا التيقّن هو منبع الصلاة وشرطها كما جاء في حوار يسوع مع يائيرس، رَئيسِ المَجمَعِ بقوله: "لا تَخَفْ، آمِنْ فحَسْب تَخلُصِ ابنَتُكَ " (لوقا 8: 50). ويعبّر مرقس عن ذلك بصورة مباشرة تماماً: "مَن لا يَشُكُّ في قَلبِه، بل يُؤمِنُ بِأَنَّ ما يَقولُه سيَحدُث، كانَ له هذا" (مرقس 11: 23). وعلينا ان نكون على يقين لأننا ندعو الله الآب "فإِذا كُنتُم أَنتُمُ الأَشرارَ تَعرِفونَ أَن تُعطوا العَطايا الصَّالِحَةَ لأَبنائِكم، فما أَولى أَباكُمُ السَّماوِيَّ بِأَن يهَبَ الرُّوحَ القُدُسَ لِلَّذينَ يسأَلونَه "(لوقا 11: 13). فلا نكثر من الكلام أو نطيله عبثاً (متى 6: 7) كأن الله بعيد عنا، كما كان شأن بعل الذي سخر منه إيليا (1 ملوك 18: 26-28)، لان الله أبونا السماوي كما جاء في توصيات يسوع في الصلاة "إِذا صلَّيْتُم فلا تُكَرِّروا الكلامَ عَبَثاً مِثْلَ الوَثَنِيِّين، فهُم يَظُنُّونَ أَنَّهُم إِذا أَكثَروا الكلامَ يُستَجابُ لهُم. فلا تتَشَبَّهوا بِهِم، لأَنَّ أَباكُم يَعلَمُ ما تَحتاجونَ إِلَيه قبلَ أَن تَسأَلوه. "(متى 6: 7-8). فالإيمان يُثمر الحب، والحب يدفع لخدمة قريبه والخدمة تعطينا اسلام الداخلي مع الله. وفي هذا الصدد تقول القديسة الأم تريزا الكالكوتية " ثمرة الصلاة بالإيمان الحب، وثمرة الحب الخدمة، وثمرة الخدمة السلام". 6) الصلاة في انتظار يطلب منا يسوع ان نصلي في انتظار. وقد شدَّد يسوع على الالحاح في الصلاة والثبات فيها " فاسهَروا مُواظِبينَ على الصَّلاة لِلثَّباتِ لَدى ابنِ الإِنْسان " (لوقا 21: 36). لا بد من السهر والصلاة في انتظار فعّال لمجيء ملكوت الله والثقة في انتظار تلك الدينونة، على الرغم من إبطائها (لوقا 18: 1-8). مطلوب منا الصلاة انتظار، ولكن كثيرًا ما نفقد الصبر في الصلاة، مطالبين الله أن يلبّي نزواتنا بدل أن نخضعها لإرادته ولمجيئه. فهل القيمة الّتي نعطيها لعمل الله فينا أقلّ من أن تكلّفنا انتظارًا؟ الزمن يأخذ معناه من انتظارنا. الزمن يعطي الأرض خصوبتها، "الَّذينَ بِالدُموعِ يَزرَعون بِالتَّهْليلِ يَحصُدونَ" (مزمور 126: 5). من سيلتقي بالرب عند مجيئه؟ ذاك الذي واظب على الصلاة منتظرًا الربّ، مصغيًا بانتباه إلى كلمته، راغبًا في ملكوته. إنّ الصلاة في انتظار مجيء يسوع ضرورية لأنّه لا أحد يعرف لحظة نهايته. إنّها ضرورية كي نظلّ دائماً في حقيقة ومحبّة الربّ يسوع المسيح. إنّها ضروريّة كي نحصل على كلّ نعمة من الربّ، وكلّ بركة، وكلّ عطيّة سماويّة، وكلّ معونة، إنّها ضرورية كي نتمكّن من السير على هدى كلمته وإنجيله وعهده. دون الصلاة لا نعمة وبدون نعمة، لا يمكننا أن نسير أبداً في الحقيقة وفي محبّة الربّ يسوع المسيح. وفي هذا الصدد يقول الأب يوحنا كرونستادت "إذا كنتَ عالِمًا أو طالبًا أو موظفًا أو ضابطًا أو باحثًا أو عاملاً، فاذكر أن أول وأهم ما يجب أن تتعلمه في الحياة يتركز في معرفتك الخلاص بالمسيح، وإيمانك بالثالوث الأقدس، وصلاتك كل يوم مع الله، ومواظبتك على الخدمات الكنسية، وترديدك اسم يسوع المسيح في قلبك لأنه قوة الله لخلاصك". 7) الصلاة بشكر يطلب يسوع منا ان نشكر الله بصلواتنا. تشمل الصلوات في الإنجيل بوجه عام تقديم الشكر إلى جانب الطلبات. يدعونا يسوع إلى طلب ما نحن بحاجة إليه، لكنه يطلب ان نعبر له عن شكرنا في شفائه عشرة برص " فقالَ يسوع: أَليسَ العَشَرَةُ قد بَرِئوا؟ فأَينَ التِّسعَة؟ أَما كانَ فيهِم مَن يَرجعُ ويُمَجِّدُ اللهَ سِوى هذا الغَريب؟" (لوقا 17: 1717- 18). لذا يوصي بولس الرسول المؤمنين بقوله "اشكُروا اللهَ الآبَ كُلَّ حينٍ على كُلِّ شَيءٍ بِاسمِ رَبِّنا يسوعَ المسيح" (أفسس 5: 20). ونلاحظ في صلاة الشكر عند بولس الرسول ان صلاته تتراوح بين التضرع والحمد": فأَسأَلُ قَبلَ كُلِّ شَيءٍ أَن يُقامَ الدُّعاءُ والصَّلاةُ والاِبتِهالُ والشُّكرُ (طيموتاوس 2: 1). وهو نفسه يستهل رسائله بحمد الله على تقدم المرسل إليهم، ويعرض صلواته لكي يتمِّم َالله نعمه عليهم" أَشكُرُ إِلهي كُلَّمَا ذَكَرتُكم ... وإِنِّي على يَقينٍ مِن أَنَّ ذاكَ الَّذي بَدَأَ فيكم عَمَلاً صالِحًا سيَسيرُ في إِتمامِه إِلى يَوم المسيحِ يسوع" (فيلبي 1: 9). ويبدو أن رفع الشكر يجلب معه سائر مقومات الصلاة: فبعد كل ما تلقيناه دفعة واحدة في المسيح يسوع، لا يمكننا أن نصلي إلا إذا بدأنا بالشكر على هذا العطاء "فإِذا اغتَنَيتُم في كُلِّ شيَء، جُدتُم كُلَّ جُودٍ يَأتي عن يَدِنا بآياتِ الشُّكرِ لله. ...فالشُّكرُ للهِ على عطائِه الَّذي لا يُوصَف" (2 قورنتس 9: 11-15). ومن هنا جاءت توصيات بولس الرسول "اشكُروا اللهَ الآبَ كُلَّ حينٍ على كُلِّ شَيءٍ بِاسمِ رَبِّنا يسوعَ المسيح " (أفسس 5: 20). 8) الصلاة مِن غَيرِ مَلَل طلب منا يسوع ان نواظب على الصلاة "فاسهَروا مُواظِبينَ على الصَّلاة " (لوقا 21: 36)؛ لأننا في حاجة كلية إلى "المُداوَمةِ على الصَّلاةِ مِن غَيرِ مَلَل" (لوقا 18: 1) وذلك في انتظار مجيئه في إطار الأزمنة الأخيرة (لوقا 18: 1-7). وإلا فسوف تغرقنا "جميع الأمور التي ستحدث" (لوقا 21: 36). ألم يقل " ما بالُكُم نائِمين؟ قُوموا فصَلُّوا لِئَلاَّ تَقَعوا في التَّجرِبَة " (لوقا 22: 46). فلا بدّ وأن نختبر مواظبتنا وأن نُظهر يقظة قلوبنا "فلا تَفْتُرُ هِمَّتُنا "(2 قورنتس 4: 1). فعلينا ان نتضرع إلى الله كي ينقذنا من تجربة الأزمنة الأخيرة التي يتعذّر تحملها. ويقرن بولس الألفاظ الدالّة على الصلاة، بعبارة " دائما" (رومة 1: 10) “دون انقطاع"، أو "في كلّ حين" (أفسس 6: 18،) أو "ليل نهار" (1 تسالونيقي 3: 10)، او "المواظبة على الصلاة " كما نقرا في اعمال الرسل "كان جماعة الرسل يُواظِبونَ جَميعًا على الصَّلاةِ " (اعمال الرسل 1: 14) متّحدِين، مُعلِنين بمواظبتِهم وبوحدتِهم أنّ الله الذي "يُسكِنُ الوحيدَ بيتًا" (مزمور 67: 7) ولا يُدخِلُ بيتَ الأبديّةِ أي بيتَه الإلهيَّ إلا هؤلاء الذين يُصَلُّون صلاةً واحدة. ويعلق القديس غريغوريوس الكبير "يجب علينا لا أن نصلي فقط بلا انقطاع باسم يسوع المسيح، ولكن نحن ملزَمون أن نعلم صلاتنا للآخرين، لكل إنسان على وجه العموم، إذ أنها لائقة ونافعة للجميع: لرجل الدين ولرجل العالم، للخادم والمخدوم، للعالِم والأُمي، للرجل والمرأة، للشيخ والطفل. نوحي إليهم جميعًا بأهمية هذه الصلاة وندربهم على الصلاة بها بغير انقطاع"، كما يوصي بولس الرسول "لا تَكُفُّوا عن الصَّلاة"(1 تسالونيقي 5: 17). 9) الصلاة بمراسيم الليتورجيا الطقسية يطلب يسوع منا ان نصلي ليس بالروح فقط، بل بالجسد أيضا من خلال طقوس الكنيسة. خشوع الجسد مطلوب، لأن الجسد يشترك مع الروح في مشاعرها، ويُعبِّر عنها. فخشوع الروح يُعبِّر عنه خشوع الجسد. وتراخى الروح وعدم اهتمامها، يظهر كذلك في حركات الجسد، مثل انشغال الحواس بشيء آخر أثناء الصلاة سواء النظر أو السمع وما إلى ذلك. لذلك يتوجب علينا ان نشارك اجسادنا في الصلاة كما كان فعل الرسل: فكانوا يرفعون الأيدي نحو السماء (1 طيموتاوس 2: 8)، وأحياناً يجثون على الركبتين (أعمال 9: 40) ويرنّمون بالمزامير (أفسس: 19، كولسي 3: 16). والاهم من ذلك ان نكون قلبا واحد على مثال الجماعة المسيحية الأولى: "كانوا يُواظِبونَ جَميعًا على الصَّلاةِ بِقَلْبٍ واحِد" (أعمال 1: 14). فعندَما نجتمعُ مع الإخوةِ ونحتفلُ بالذبيحةِ الإلهيةِ مع كاهنِ الله، يجبُ أن نتذكَّرَ واجبَ الاحتشامِ والنظام، فلا نُرسِلُ الكلامَ هنا وهناك بأصواتٍ منكَرَة. والطَّلَباتُ التي يجبُ أن نرفعَها باحتشامٍ لا نعبِّرُ عنها بالثرثرةِ والضجيج، لأنَّ الله لا يسمعُ الصوتَ بل القلب، ولا هو بحاجةٍ لأنْ يُنَبَّهَ بالضجيج. فهو يرى الأفكارَ كما قالَ الربُّ نفسُه: "لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ السُّوءَ فِي قُلُوبِكُم؟" (متى 9: 4). ونستنتج مما سبق يتوجب ان تكون صلاتنا وكلامنا بنظامٍ وهدوءٍ وخشوع حيث أنَّنا ماثلون أمامَ حضرةِ الله. لذلك علينا أن نحترمَ الحضرةَ الإلهيةَ بمظهرِ جسمِنا وطريقةِ كلامِنا. الصراخُ والضجيجُ هما عدمُ احترام، ولا يَليقان بالهيبةِ والخشوعِ في الصلاة. لأنّنا نعلمُ أنّ الله حاضرٌ، وهو يسمعُ الجميعَ ويرى الجميعَ، كما كُتِبَ: “أنَا إلهٌ قريبٌ، ولسْتُ إلهًا بعيدًا. أيَختَبِئُ إنسَانٌ في الَخَفايَا وَأنَا لا أرَاهُ؟ ألَسْتُ ماَلِئَ السَّمَاوَاتِ وَالأرضِ؟" (إرميا 23: 23-24). الخلاصة الرب عالم بأحداث التاريخ كله ويسخرها كعلامات لمجيئه. وعلامات مجيئه سوف تكون ضيقا وسط الشعوب واضطرابات مفزعة في النظام العالمي بأكمله. وعندما تبدأ تحدث هذه الأمور، على المؤمنين ان يصلوا لكي يقفوا امام ابن الانسان ثبات عند مجيئه. وليس في الإنجيل ما يكشف أن الصلاة ضرورة مطلقة، أفضل من المكانة التي تحتلها في حياة يسوع. إنه يصلّي كثيراً على الجبل (متى 14: 23)، وحده على انفراد في حوار حميم ومستمر مع الآب (لوقا 9: 18)، وصلاته كما أشار لوقا الإنجيلي كانت تتعلق خاصة برسالته؛ فقد صلى يسوع عندما اعتمد (لوقا 3: 21)، وقبل اختياره رسله الاثني عشر (لوقا 6: 12)، وعند التجلّي (لوقا 9: 29)، وعندما علّم تلاميذه "الصلاة الربانية " (لوقا 11: 1). لقد كانت صلاته هي السر الذي اجتذب إليه أشد الناس قرباً منه (لوقا 9: 18). والعلاقة بين صلاته ورسالته تبدو جلية واضحة أيضا في فترة الأربعين يومأ التي افتتح بها عمله في الصحراء. (متى 4: 7)، وصلى في بستان الزيتون في الجسمانية قبل اجتيازه فترة آلامه (مرقس 14: 36). ويلخص صاحب الرسالة الى العبرانيين صلاة يسوع بقوله "وهو الَّذي في أَيَّامِ حَياتِه البَشَرِيَّة رفعَ الدُّعاءَ والاِبتِهالَ بِصُراخٍ شَديدٍ ودُموعٍ ذَوارِف إِلى الَّذي بِوُسعِه أَن يُخَلِّصَه مِنَ المَوت، فاستُجيبَ لِتَقْواه" (عبرانيين 5: 7) وإن قيامة المسيح وهي اللحظة الأساسية لخلاص الإنسانية، هي الاستجابة لهذه الصلاة من يسوع الإله التي تستوعب كلّ الطلبات الإنسانية في تاريخ الخلاص. وفي هذا الصدد كتب أحد الفلاسفة المفكرين " من قال لك إن الله لا يساعدنا في صلاتنا؟ ابدأ بالصلاة اليه، وسترى". وإذا عجزت عن الصلاة، فاجعل من عدم قدرتك على الصلاة صلاةً. لذلك يوصينا يهوذا ا لرسول بالصلاة استعداد لمجيء الرب "أما أنتم أيها الأحباء، فابنوا أنفسكم على إيمانكم المقدس وصلوا بالروح القدس. واحفظوا أنفسكم في محبة الله وانتظروا رحمة ربنا يسوع المسيح من أجل الحياة الأبدية" (يهوذا 20-21). وذلك تلبية لوصية يسوع "لِتَكُنْ أَوساطُكُم مَشدودة، ولْتَكُنْ سُرُجُكُم مُوقَدَة، وكونوا مِثلَ رِجالٍ يَنتَظِرونَ رُجوعَ سَيِّدِهم مِنَ العُرس، حتَّى إِذا جاءَ وقَرَعَ البابَ يَفتَحونَ لَه مِن وَقتِهِم" (لوقا و12: 35-36). "الصلاة سلاح عظيم، وكنز لا يفرغ، وغنى لا يسقط ابدا، ميناء هادئ وسكون ليس فيه اضطراب" كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم. دعاء أيها الآب السماوي، نسألك باسم يسوع ابنك الوحيد، الذي سيعود في تَمامِ العِزَّةِ والجَلال ليدين العالم، ساعدنا على المواظبة في الصلاة، بثقة وانتظار وبغير ملل كي نتمكّن من أن نظلّ ثابتين في الصلاة بك وفيك ومنك واليك حتّى النهاية، فنرى في كل حدث من أحداث التاريخ خطوة نحو خلاصنا انتظارا في رجاء سعيد لمجيئك في العزة والجلال. آمين