موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٠ ابريل / نيسان ٢٠٢٤

يسوع المسيح وسَاعَةُ مَوتِه ومَجْده

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
 الأحَد الخَامِس من الصَّوم: يسوع المسيح وسَاعَةُ مَوتِه ومَجْده (يوحنا 12: 20-33)

الأحَد الخَامِس من الصَّوم: يسوع المسيح وسَاعَةُ مَوتِه ومَجْده (يوحنا 12: 20-33)

 

النّص الإنجيلي (يوحنا 12: 20-33)

 

20 وكانَ بَعضُ اليونانِيِّينَ في جُملَةِ الَّذينَ صَعِدوا إلى أُورَشَليمَ لِلْعِبادَةِ مُدَّةَ العيد. 21 فقَصَدوا إلى فيلِبُّس، وكانَ مِن بَيتَ صَيدا في الجَليل، فقالوا له مُلتَمِسين: ((يا سَيِّد، نُريدُ أَن نَرى يسوع)). 22 فذَهَبَ فيلِبُّس فأَخبَرَ أَنَدرواس، وذهَبَ أَندَرواس وفيلِبُّس فأَخبَرا يسوع. 23 فأَجابَهما يسوع: ((أَتَتِ السَّاعَةُ الَّتي فيها يُمَجَّدُ ابنُ الإِنسان. 24 الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: إنَّ حَبَّةَ الحِنطَةِ الَّتي تَقَعُ في الأَرض إِن لَم تَمُتْ تَبقَ وَحدَها. وإذا ماتَت، أَخرَجَت ثَمَرًا كثيرًا. 25 مَن أَحَبَّ حياتَهُ فقَدَها ومَن رَغِبَ عنها في هذا العَالَم حَفِظَها لِلحَياةِ الأَبَدِيَّة. 26 مَن أَرادَ أَن يَخدُمَني، فَلْيَتْبَعْني وحَيثُ أَكونُ أَنا يَكونُ خادِمي ومَن خَدَمَني أَكرَمَهُ أَبي. 27 الآنَ نَفْسي مُضطَرِبة، فماذا أَقول؟ يا أَبَتِ نَجِّني مِن تِلكَ السَّاعة. وما أَتَيتُ إِلَّا لِتلكَ السَّاعة. 28 يا أَبتِ، مَجِّدِ اسمَكَ)). فانطَلَقَ صَوتٌ مِنَ السَّماءِ يَقول: ((قَد مَجَّدتُه وسَأُمَجِّدُه أَيضًا)). 29 فقالَ الجَمْعُ الَّذي كانَ حاضِرًا وسَمِعَ الصَّوت: ((إِنَّه دَوِيُّ رَعْد)). وقال آخَرونَ: ((إِنَّ مَلاكًا كَلَّمَه)). 30 أَجابَ يسوع: ((لم يَكُنْ هذا الصَّوتُ لأَجلي بل لأجلِكُم. 31 الَيومَ دَينونَةُ هذا العَالَم. اليَومَ يُطرَدُ سَيِّدُ هذا العَالَم إلى الخارِج. 32 وأَنا إِذا رُفِعتُ مِنَ الأَرض جَذَبتُ إِلَيَّ النَّاسَ أَجمَعين)). 33 وقالَ ذلك مُشيرًا إلى المِيتَةِ الَّتي سَيَموتُها. 34 فأَجَابَه الجَمْع: ((نَحنُ عَرَفْنا مِنَ الشَّريعَةِ أَنَّ المَسيحَ يَبْقى لِلأَبَد. فكَيفَ تَقولُ أَنتَ إِنَّهُ لابُدَّ لابنِ الإنسانِ أَن يُرفَع. فمَنِ ابنُ الإِنسانِ هذا؟)) 35 فقالَ لَهم يسوع: ((النُّورُ باقٍ معَكم وقتًا قليلًا فَامشوا ما دامَ لَكُمُ النُّور لِئَلاَّ يُدرِكَكُمُ الظَّلام. لأَنَّ الَّذي يَمْشي في الظَّلام لا يَدْري إلى أَينَ يَسير. 36 آمِنوا بِالنُّور، ما دام لكُمُ النُّور لِتَصيروا أَبناءَ النُّور)). قالَ يسوعُ هذا، ثُمَّ ذهَبَ فتَوارى عَنهُم.

 

 

المقدمة

 

قبل احتفال يسوع بعيد الفصح الثَّالث والأخير والعشاء الفصح  الأخير، ودخوله الظَّافر إلى أورَشَليمَ، ، أنبأ يسوع بسَاعَة موته وقيامته، إنَّها سَاعَة آلامه وموته على الصليب لخلاص البشر (يوحنا 12: 20-33). ومن هنا تكمن أهميَّة البحث في وقائع النّص الإنجيلي وتطبيقاته.

 

 

أولًا: وقائع النّص الإنجيلي (يوحنا 12: 20-33)

 

20 وكانَ بَعضُ اليونانِيِّينَ في جُملَةِ الَّذينَ صَعِدوا إلى أُورَشَليمَ لِلْعِبادَةِ مُدَّةَ العيد

 

تشير عبارة "بَعضُ اليونانِيِّينَ" إلى الوثنيِّين من اليونان الذين تهوّدوا وسُموا الدُّخلاء (متى 23: 15)، كالحبشي الذي ورد ذكره في أعْمَال الرُّسل (8: 27) واليونانِيِّين المُتعبِّدين (أعْمَال الرُّسل 17: 4)، وهم الأجانب المُتميِّزين عن العبرانيِّين (أعْمَال الرُّسل 6: 1). وكان هؤلاء النّاس اليونانِيِّين الجنسيَّة غُرباء عن الأمَّة اليهوديَّة، لكنهم كانوا من المؤيِّدين، وقد جاؤوا إلى أورَشَليمَ من أجل الحَجِّ في عيد الفصح (أعْمَال الرُّسل 10: 2). وكانت رغبتهم في عِبَادة الإله الحقيقي تحملهم على السَّعي إلى رؤية يسوع واللِّقاء به كي يسمعوه عن قُرب (يوحنا 4 :21-23). ويُعتبر هؤلاء الوثنيُّون طليعة عَالَم الأُمِّيِّين الوثنيِّين الذين اقتربوا من يسوع المسيح.  وهذ الأمر يدلَّ على أنَّ الله يُحبَّ البشر جميعًا، لا لفئة من الفئات وحسب، بل لكلِّ النّاس دون تمييز عنصري أو طبقي، كما جاء في تعليم بولس الرَّسول: "فلَيسَ هُناكَ يَهودِيٌّ ولا يونانِيّ، ولَيسَ هُناكَ عَبْدٌ أَو حُرّ، ولَيسَ هُناكَ ذَكَرٌ وأُنْثى، لأَنَّكم جَميعًا واحِدٌ في المسيحِ يسوع" (غلاطية 3: 28). لكن يرى البعض أن هؤلاء اليونانِيِّين هم يهود، تشتَّتوا وارتبطوا بالثَّقافة الهلنستيَّة، لهذا دُعوا يونانيِّين مثل خَصِيٌّ ذو مَنصِبٍ عالٍ عِندَ قَنْداقَة مَلِكَةِ الحَبَش (أعْمَال الرُّسل 8: 26)، وقُرنيلِيوس قائدُ مِائةٍ مِنَ الكَتيبَةِ الَّتي تُدعى الكَتيبَةَ الإِيطالِيَّة. وكانَ تَقِيًّا يَخافُ الله هو وجَميعُ أَهلِ بَيتِه (أعْمَال الرُّسل 10 1-2). وفي العصور المُتأخرة سمح اليهود لبعض الأمم الأتقياء أن يأتوا إلى الهيكل في العيد. ويرى البعض أنهم من فينيقيَّة أو سوريا، ربَّما من سكَّان المُدن العشر أو من بَيتَ صَيدا. فهؤلاء اليونانيِّين هم باكورة الأمم الذين أتوا إلى المسيح للخلاص، كما جاء في نبوءة يسوع: "ولي خِرافٌ أُخْرى لَيسَت مِن هذِه الحَظيرَة فتِلكَ أَيضًا لا بُدَّ لي أَن أَقودَها وسَتُصغي إلى صَوتي فيَكونُ هُناكَ رَعِيَّةٌ واحِدة وراعٍ واحِد"(يوحنا 10: 17). أمَّا عبارة " صَعِدوا إلى أُورَشَليمَ " فتشير إلى وقوع أورَشَليمَ على ارتفاع عالٍ (لوقا 19: 45)، حيث ترتفع قمة جبل الزَّيتون 826 مترًا عن سطح البحر. واسم " أُورَشَليمَ " ورد أول مرة في نقش مصري قديم يرجع إلى القرن التَّاسع عشر قبل الميلاد. وربما معنى هذا الاسم هو "أساس السَّلام" أو "أساس الإله شاليم"؛ وتُدعى هذه المدينة في سفر المزامير "شَليمَ " (مزمور 76: 2) ويُرجح أن "شَليمَ " التي كان "ملكي صادق" ملكًا عليها، وهي نفس أورَشَليمَ (تكوين 14: 18). أمَّا أسماؤها في العربيَّة فهي تُسمّى بيت المَقْدِس والمَقْدِس والقُدس الشَّريف، والاسم الغالب هو القُدْس. وتحيط التَّلال بأورَشَليمَ من ثلاثة جوانب (مزمور 125: 2) فإلى الشِّمال الشَّرقي منها جبل المشارف (سكوبس)، وجبل الزَّيتون في الشَّرق، وجبل أبو طور في الجنوب، ويُسمى أيضًا تلّ المشورة الشَّريرة، ويستخدم الأنبياء أورَشَليمَ كرمز إلى ملكوت الله (أشعيا 65: 17-25)، وقد أُطلق اسم أورَشَليمَ على الكنيسة المُمجَّدة (رؤيا 21: 2). أمَّا عبارة "العيد" فتشير إلى الفصح، وهو اسم عبري פֶּסַח معناه عبور (خروج 12: 13 -27). وهو أول الأعياد السَّنويَّة الثَّلاثة التي كان مفروضًا فيها على جميع الرِّجال الظُّهور أمام الرَّبّ في بيت العبادة (تثنية الاشتراع 16: 1-2). ويعرف أيضًا بعيد الفطير (خروج 23: 15) أنشئ في مصر تذكارًا للحادث الذي بلغ فيه خلاص بني إسرائيل ذروته (خروج 12: 1 -42) حين ضرب الرَّبَّ ليلًا كل بكر في مصر، وعَبَرَ عن بيوت بني إسرائيل المختومة بالدَّم، والمقيمون فيها واقفون وعُصْيهم في أيديهم في انتظار الخلاص الموعود. فكان المفروض أن تحفظ تلك الليلة للرَّبِّ.  وكان هذا الفصح الثَّالث والأخير في حياة يسوع المسيح. أمَّا عبارة " مُدَّةَ العيد " فيشير إلى المُدَّة التي تبدأ مساء الرَّابع عشر من شهر أبيب (المعروف بعد السَّبي بشهر نيسان) (الأحبار 23: 5) حيث كان يُذبح خروف أو جِدي بين العشاءين نحو غروب الشَّمس (خروج 12: 6) ويُشوَّى صحيحًا، ثم يُؤكل مع فطير وأعشاب مُرِّة (خروج 12: 8). والدَّم المسفوك يشير إلى التَّكفير، والأعشاب المرّة كانت ترمز إلى مرارة العبوديَّة في مصر، والفطير كان يرمز إلى الطَّهارة (الأحبار 2: 11) وإلى نبذ المشتركين في الفصح كلَّ خبثٍ وشَرٍّ لكي يكونوا في شركة مقدسة مع الرّبّ، كما جاء في تعليم بولس الرَّسول: "طَهِّروا أَنفُسَكُم مِنَ الخَميرةِ القَديمة لِتَكونوا عَجينًا جَديدًا لأَنَّكُم فَطير. فقَد ذُبِحَ حَمَلُ فِصْحِنا، وهو المسيح.  فلْنُعيِّدْ إِذًا، ولكِن لا بِالخَميرةِ القَديمة ولا بِخَميرةِ الخُبْثِ والفَساد، بل بِفَطيرِ الصَّفاءِ والحَقّ "(1 قورنتس 5: 7 -8).

 

21 "فقَصَدوا إلى فيلِبُّس، وكانَ مِن بَيتَ صَيدا في الجَليل، فقالوا له مُلتَمِسين: يا سَيِّد، نُريدُ أَن نَرى يسوع

 

تشير عبارة "فقَصَدوا" إلى مجيء بعض اليونانِيِّين إلى فيلِبُّس، لأنَّ له اسمًا يونانيًا رغمَ عن كونه يهوديًا، ولأنَّه من بَيتَ صَيدا الجَليل، وهي مدينة يسكن فيها الكثير من اليونانِيِّين، اتَّخذوا فيلِبُّس وسيطًا لهم، لأنَّهم يريدون مقابلة يسوع. سنطلب يسوع يومًا ولن نجده، كما تنبَّأ "ستَطلُبوني فلا تَجدوني وحَيثُ أَكونُ أَنا لا تَستطيعونَ أَنتُم أَن تَأتوا" (يوحنا 7: 34). أمَّا اسم "فيلِبُّس" في الأصل اليوناني Φίλιππος (معناه مُحبّ للخَيل) فيشير إلى أحد الرُّسل الاثني عشر (متى 10: 3). وكان من بَيتَ صَيدا الواقعة على الشاطئ الشِّمالي الشَّرقي من بحيرة طبريَّة، وهي مدينة أنْدَراوُس وبطرس. التقى به يسوع أولًا في بيت عنيا عبر الأردن حيث كان يوحنا يُعمّد، فدعاه فتبعه. ووجد فيلِبُّس نَتَنائيل فجاء به إلى يسوع ثقة منه بأن مقابلة واحدة مع يسوع تقنعه أنه هو المسيح المنتظر (يوحنا 1: 43-49). وبعد ذلك بسنة اختاره يسوع ليكون تلميذًا له. وعندما أراد إطعام الخمسة الآلاف امتحن يسوع أولًا فيلِبُّس وسأله: " مِن أَينَ نَشتَري خُبزًا لِيأكُلَ هؤلاء؟ " (يوحنا 6: 5). وعندما كلَّم يسوع تلاميذه مُبيّنًا لهم أنَّهم قد رأوا الآب لم يفهم فيلِبُّس الكلام على ما يبدو من كلامه ليسوع: " يا ربّ، أَرِنا الآبَ وحَسْبُنا" (يوحنا 14: 8). وكان فيلِبُّس أحد الرُّسل المُجتمعين في العُليَّة بعد القيامة (أعْمَال الرُّسل 1: 13). ويقول مؤرخ الكنيسة، يوسابيوس القيصري أن فيلِبُّس قد دُفن في هيرابوليس في آسيا الصُّغرى(تركيا).  أمَّا عبارة "بَيتَ صَيدا" فتشير إلى مدينة تقع في شمال بحيرة طبريَّة عند مصبِّ نهر الأردن في الجولان. أعاد بناءها هيرودس فيلِبُّس فسمّاها يولياس في بدء العصر المسيحي، وفيها شفى يسوع أعْمى (مرقس 8: 22)؛ وهي من إحدى مُدن بحيرة طبريَّة الثَّلاثة التي عَنّفَ يسوع أهلها، لأنَّهم لم يؤمنوا به (متى 11: 20-21). وهي مدينة يسكن فيها كثيرون من اليونانِيِّين. أمَّا عبارة "مُلتَمِسين" فتشير إلى طلب بعض اليونانِيِّين أن يروا يسوع بعد أنَّ سمعوا عنه، وعن معجزاته وتطهيره للهيكل بطرده الباعة فأعجبوا به. ويُعلق القديس أوغسطينوس: "لقد اغتنمَ يسوع فرصة وجود الوثنيِّين الذين يريدون رؤيته ليُنبئ بتوبة جميع الوثنيِّين في المستقبل، وأعلنَ عن اقتراب سَاعَة تمجيده في السَّموات، التي ستَليها اهتداء جميع الوثنيِّين إلى الإيمان". أمَّا عبارة "يا سَيِّد، نُريدُ أَن نَرى يسوع" فتشير إلى رغبة صادقة لهؤلاء اليونانِيِّين الذين سمعوا عن المسيح، وأرادوا أن يروه، ليس من باب الفضوليَّة، ولكن من باب الرَّغبة الصَّادقة للِّقاء به والتَّعرف عليه وعلى حقيقة ملكوته ولمعرفة ما يجب عمله ليُصبحوا تلاميذه. وما أصدق قول الكاتب الفرنسي أنطوان دي سانت أكزوبيري في كتابه الأمير الصَّغير: "لا يَحسن الإنسان البصرَ إلا بقلبه، وجوهر الأشياء يبقى خَفيّا عن الأنظار!" ويُعلق القديس أوغسطينوس: "انظروا كيف يريد اليهود أن يقتلوه، والأمم أن يروه". وان رؤية يسوع هي رؤية " الحَياةَ كانَت لَدى الآب فتَجلَّت لَنا" (1 يوحنا 1: 1-3) ويُعلق الأسقف بروكلس القسطنطيني: "هؤلاء اليونانيُّون تشبّهوا بزكا العشّار، لكنّهم لم يصعدوا على الجميزة لرؤية الرَّبّ يسوع، بل سارعوا إلى الارتفاع نحو معرفة الله لا لتأمّل وجهه، بل لحمل صليبه". وهكذا دلَّ الوثنيُّون على اهتمامهم بالإنجيل أكثر من اليهود. وبهذا الأمر، أصبح تبشير يسوع يتعدّى حدود فلسطين ليذهب إلى أهل الشِّتات وتبشيرهم. كما أتى بعض الأمم من المشرق ليسجدوا ليسوع على أثر ولادته كذلك جاء بعض اليونانيِّين من المغرب ليكرّموه وهو على وشك أن يموت على الصَّليب. أمَّا عبارة " نَرى" في الأصل اليوناني ὁράω (يرى) فيشير بحسب إنجيل يوحنّا ليس لرؤيّة خارجية بل لرؤيّة باطنيّة أيّ رؤية من الداخل.  يرغب هؤلاء اليونانِيِّين أن يَروا عن قُربٍ ما رآه إبراهيم "عن بعد" (عبرانيِّين 11: 13)، وأن يروا ما يحدث في الحقيقة " العُميانُ يُبصِرون والعُرْجُ يَمشونَ مَشْيًا سَوِيًّا، البُرصُ يَبرَأُون والصُّمُّ يَسمَعون، المَوتى يَقومون والفُقراءُ يُبَشَّرون" (متى 11: 5). ويُعلق البابا فرنسيس: "الفعل الذي يستخدمه يوحنا، "رأى"، يعني الوصول عبر النّظر إلى القلب، أي البلوغ إلى داخل الشَّخص".  إلاَّ أنه قد نرى أو نسمع الذين رأوا، ونظل مع ذلك دون إيمان (لوقا 27: 39-41)، في حين يكون الإيمان الأمثل في أن نؤمن دون أن نرى (يوحنا 20: 29). ويُعلق القديس يوحنا الذَّهبي الفم: " جاءت رسالة اليونانيِّين لفيلِبُّس تحمل تقديرًا خاصًا للسِّيد المسيح وشوقًا للِّقاء به والحديث معه على انفراد. يريدونه هو، ويشتهون رؤيته والحديث معه". تُظهر هذه الآية اليونانيِّين الذين أتوا يطلبون أن يروا يسوع، وبالتَّحديد أن يعرفوا مَن هو. وهي رغبة حاضرة في قلب الكثير من النّاس الذين سمعوا بالمسيح، ولكن لم يلتقوا به بعد. وهذا السُّؤال مطروح منذ بداية إنجيل يوحنا وعلى كل ّإنسان أن يطرحه على نفسه وأن يبحث عن يسوع. تدعونا هذه الآية أن ننظر إلى يسوع في حقيقته الإلهيّة كابن الله ومخلصنا.

 

22 فذَهَبَ فيلِبُّس فأَخبَرَ أَنَدرواس، وذهَبَ أَندَرواس وفيلِبُّس فأَخبَرا يسوع

 

تشير عبارة "فذَهَبَ فيلِبُّس فأَخبَرَ أَنَدرواس" إلى تشاور فيلِبُّس مع أنْدَراوُس كونه تلميذًا سابقًا له، عَمَّا يفعلانه، لأنَّه كثيرًا ما سمع يسوع يقول إنه جاء "إلى الخِرافِ الضَّالَّةِ من بَيتِ إِسرائيل" (متى 10: 6)؛ ويُعلق القديس أوغسطينوس: "ما أروع أن يعمل الخُدَّام معًا، فيتقدمون معًا إلى شخص السَّيد المسيح يقدِّمون النُّفوس المشتاقة إلى معرفته". أمَّا اسم "أنْدَراوُس" في الأصل يوناني Ἀνδρέας (معناه رجل حقًا) فيشير إلى أحد تلاميذ المسيح، وهو أخ سمعان بطرس، وكان موطنه بَيتَ صَيدا (يوحنا 1: 44) وكان يعمل في مِهنة الصَّيد كبطرس (مرقس 1: 16-18). وكان لأنْدَراوُس بيتٌ مع بطرس في كفرناحوم (مرقس 1: 29) وكان تلميذًا ليوحنا المعمدان الذي أرشده إلى يسوع، حمل الله (يوحنا 1: 29).  وبعد ما اقتنع أنْدَراوُس بأن يسوع هو المسيح أحضر بطرس أخاه إلى يسوع (يوحنا 1: 35 -42). وقد جاء ذكر أنْدَراوُس في سجل الرُّسل (مرقس 3: 18).  وأنْدَراوُس هو الذي أخبر يسوع عن الصَّبي الذي كان معه خمسة أرغفة وسمكتان عند إطعام الخمسة آلاف (يوحنا 6: 8 -9)؛ وقد سأل هو وبطرس ويعقوب ويوحنا عن خراب أورَشَليمَ ومجيء الثَّاني للمسيح (مرقس 13: 3 – 4). ويقول التَّقليد أن أنْدَراوُس استشهد في باتريا في أخائية في القسم الجنوبي من بلاد اليونان، وأنَّه صُلب على شكل صليب × وهذا النّوع من الصُّلبان يُسمَّى حاليًا صليب القديس أنْدَراوُس. أمَّا عبارة " فأَخبَرا يسوع " فتشير إلى إعلام فيلِبُّس وأنْدَراوُس يسوع برغبة بعض اليونانِيِّين في رؤيته. وقاد فيلِبُّس نتنائيل، وأنْدَراوُس سمعان بطرس، إلى يسوع (يوحنا 1: 19)، فهما يعملان معًا الآن ليقودا اليونانِيِّين إلى يسوع. إنّ التلاميذ يقدمون إلى يسوع رغبة بعض الأمم، المنسجميّن مع إيمان بني إسرائيل، لإمكانيّة لقائهم بالرّبّ. وهذا هو دورنا اليوم في تقديم الناس للقاء يسوع المخلص.

 

23 فأَجابَهما يسوع: أَتَتِ السَّاعَةُ الَّتي فيها يُمَجَّدُ ابنُ الإِنسان

 

تشير عبارة "فأَجابَهما يسوع" إلى توجيه يسوع كلامه أولاً إلى التَّلميذين أَندَرواس وفيلِبُّس، والأرجح أنَّ ذلك كان على مَسمع من سائر التَّلاميذ واليونانيِّين. يرى يسوع في مجيء اليونانِيِّين باكورة الحَصَاد الذي سيحصد بواسطة موته. فكما كان التَّلاميذ والرُّسل هم باكورة اليهود القادمين للإيمان به كذلك هؤلاء اليونانيُّون هم باكورٍة للأُمم الذين يدخلون الإيمان (مزمور 2: 8). أمَّا عبارة "يسوع" فتشير إلى الصِّيغة العربيَّة للاسم العبري יֵשׁוּעַ ومعناه الله مُخلِّص، وقد تسمَّى يسوع حسب قول الملاك ليوسف (متى 1: 21)، ومريم (لوقا 1: 31). ويسوع هو اسمه الشَّخصي. أمَّا المسيح فهو لقبه. وقد ورد لقب "الرَّبّ يسوع المسيح" نحو 50 مرة في العهد الجديد، وأمَّا لَقبُ "يسوع المسيح أو "المسيح يسوع"، فورد نحو مئة مرة. ووردت اسم "يسوع" وحده على الأكثر في الأناجيل، و"يسوع المسيح"، و"الرَّبّ يسوع المسيح" في سفر الأعْمَال والرَّسائل. أمَّا عبارة "أَتَتِ السَّاعَةُ" فتشير إلى جواب يسوع على سؤال اليونانِيِّين، كاشفًا عن هويَّتِه ومشيرًا إلى سبيلِ معرفتِه الحقّة. إنّ الخلاص الّذي يصل إلى كلّ امرأة وكلّ رجل من خلال فصح يسوع. إنَّه سيموت كحَبَّة الحِنطَة ليُعطي ثمرًا مشيرًا إلى الطَّريق التي يسلكها النّاس لكي يُصبحوا من تلاميذه. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم: "إنَّ السَّيد المسيح سبق فأمر تلاميذه: " لا تَسلُكوا طَريقًا إلى الوثَنِيِّين" (متى 10: 5)، لكن إذ حان وقت الصَّلب انفتح الباب للأمم. لقد أتت السَّاعَة للكرازة الأمم". إنَّ التَّلاميذ والرُّسل هم بكور اليهود القادمين للإيمان به، وجاء هؤلاء اليونانيُّون كباكورٍة للأمم الذين يدخلون الإيمان.  ويُعلق البابا فرنسيس: " إن ردّة فعل يسوع هي مدهشة، حيث أنَّه لا يجيب بـ "نعم" أو بـ "لا"، إنَّما يقول: أَتَتِ السَّاعَةُ الَّتي فيها يُمَجَّدُ ابنُ الإِنسان".  هذه الكلمات، التي تبدو لأوّل وهلة وكأنَّها تتجاهل طلب اليونانِيِّينَ، لكنَّها في الواقع تعطي الجواب الحقيقي، لأنَّ من يريد أن يعرف يسوع يتوجب عليه أن ينظر إلى الصَّليب، حيث يتجلّى مَجْده". ويعلق القدّيس أوغسطينوس: "قد يعتقد البعض أنّ المسيح قال أنّه يُمَجّد بسبب الوثنيِّين الذين أرادوا رؤيته. لكن الحقيقة غير ذلك، إذ رأى أنّ هؤلاء الوثنيِّين أنفسهم سوف يؤمنون في جميع الأمم بعد آلامه وقيامته ليتمّ ما قاله الرَّسول: "إِنَّ قَساوةَ القَلْبِ الَّتي أَصابَت قِسمًا مِن إسرائيلَ ستَبْقى إلى أَن يَدخُلَ الوَثنِيُّونَ بِكامِلهم" (رومة11: 25)" (عظة عن إنجيل يوحنا). أمَّا عبارة "السَّاعَةُ " في الأصل اليوناني ὥρα وفي العبريَّة הַמּוֹעֵד فتشير إلى الموعد الذي يدخل يسوع في المَجْد الذي يُشرك فيه تلاميذه (يوحنا 17: 1-5)، ذلك المَجْد الذي حدّده الآب في نهاية حياة يسوع على الأرض (يوحنا 2: 4). إنَّها قبل كل شيء سَاعَة الخدمة حتى الموت على الصَّليب، وبالتَّالي إلى القيامة (مرقس 14: 35). إنها سَاعَة آلامه وموته وقيامته لخلاص البشر. إنّها ساعة الفصح قد حَلّت. ويعلق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم: "مَجْد الآب هو الصَّليب" (عظة عن "أبتي، إذا أمكن). تكلم إنجيل يوحنا عن ساعة آلامه في صورة تصاعدية: أولا "إن الساعة لم تأتِ بعد (يوحنا 2: 4؛ 7: 30)، ثم أن هذه الساعة على وشك أن تأتي (يوحنا 5: 25) ، وفي إنجيل اليوم "أَتَتِ السَّاعَةُ الَّتي فيها يُمَجَّدُ ابنُ الإِنسان. أمَّا عبارة " ابنُ الإِنسان" في العبرية בֶן־הָאָדָם (معناه ابن آدم (حزقيال 2: 1) فتشير في سفر دانيال فتشير إلى شخص أعطي سلطانًا أبديًا وملكوتًا لا ينقرض (دانيال 7: 13)؛ وأمَّا في الأناجيل فتشير إلى يسوع المسيح كونه رأس الجنس البشري ومُمثله (مرقس 2: 28). وتدلُّ في مواضع أخرى على أنه المسيح الذي يتنبأ بمجيئه الثَّاني وبمَجْده (متى 26: 64) وبدينونته لجميع البشر (متى 19: 28)، وهي في نفس الوقت تدلُّ على حياته المتواضعة على الأرض كإنسان كامل. والجدير بالذكر بانَّ تعبير "ابن الإنسان" لم يستخدم عن المسيح بعد القيامة سوى مرة واحدة (أعْمَال الرُّسل 7: 56)، في حين ورد في الأناجيل الأربعة نحو ثمانية وسبعون مرَّة حيث يستخدمه يسوع كلقب عن نفسه. وأمَّا في رؤية يوحنا الرَّسول فتدلُّ هذه العبارة عن المسيح القائم من الأموات والمُمجّد "وبَينَ المَناوِرِ ما يُشبِهُ ابنَ إِنْسان، وقد لَبِسَ ثَوبًا يَنزِلُ إلى قَدَمَيه وشَدَّ صَدرَه بِزُنَّارٍ مِن ذَهَب" (رؤيا 1: 13). 

 

24 الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: إنَّ حَبَّةَ الحِنطَةِ الَّتي تَقَعُ في الأَرض إِن لَم تَمُتْ تَبقَ وَحدَها. وإذا ماتَت، أَخرَجَت ثَمَرًا كثيرًا

 

تشير عبارة "الحَقَّ الحَقَّ" في الأصل اليوناني ἀμήν وفي العبري אָמֵן (معناها تأكيد) إلى أمرٍ مُصدَّقٍ ومؤكدٍ، لأنَّ المُتكلِّم هو يسوع المسيح، إله العهد القديم والعهد الجديد.  هذه العبارة وردت 25 مرّة في إنجيل يوحنا البشير، وهي تمهيد أيضًا لكلام ذي شأن. أمَّا عبارة "الحِنطَةِ" فتدل على الحبوب التي كانت تُزرع بكثرة في فلسطين، وهي حبوب من النّوع العادي ذي السُّنبلة الواحدة على الأغلب (خروج 22: 34) وتعود زراعتها إلى عصور مبكِّرة في التَّاريخ. وكان خُبْز العبرانيِّين يُصنع عادة من دقيق الحِنطَة (خروج 2: 29). وكانوا يَشوون سنابل الحِنطَة ويفركونها ويأكلون القمح المَشوي (راعوت 14: 2). أمَّا عبارة "إنَّ حَبَّةَ الحِنطَةِ الَّتي تَقَعُ في الأَرض" فتشير إلى زراعة حَبَّة الحِنطَة في التُّربة وتُدفن لكي تأخذ منها الرُّطوبة الضُّروريَّة للنمو. أمَّا عبارة "حَبَّةَ الحِنطَةِ" فتشير إلى صورة "البذر الذي يموت" ليُخرج حَصَادًا، وهي صورة مألوفة في إعلان الإنجيل، كما ورد في مثل الزَّارع "بَينما هو يَزرَع، وَقَعَ بَعضُ الحَبِّ على جانِبِ الطَّريق" (مرقس 4: 3-9)، وهذه الحَبَّة ترمز إلى موت يسوع وقيامته. ويُعلق البابا فرنسيس: "يسوع هو حَبَّة الحِنطَة التي ستسقط في أرض البشر لتُخصبها" (عظة 24/3/2012). وفي الواقع، يُشبِّه يسوع نفسه بحَبَّة الحِنطَة التي تتحلل في الأرض، فتلِّد حياة جديدة. وسبق أن طبّقها علماء اليهود وبولس الرَّسول على عقيدة القيامة "ما تَزرَعُه أَنتَ لا يَحْيا إِلاَّ إِذا مات. وما تَزرَعُه هو غَيرُ الجِسْمِ الَّذي سَوفَ يَكون، ولكِنَّه مُجَرَّدُ حَبَّة مِنَ الحِنطَةِ مَثَلًا أَو غَيرِها مِنَ البُزور" (1 قورنتس 15: 36-37). فصورة حَبَّةَ الحِنطَةِ هي صورة جميلة لذبيحة يسوع، لأنَّها إن لم تُدفن حَبَّةَ الحِنطَةِ لن تُصبح سُنبلة قمحٍ تُنتج حَبَّا كثيرًا. وهكذا موت يسوع تقوده إلى القيامة. وموت يسوع يُبيِّن سلطانه على الموت، وقيامته تُثبت قدرته على الحياة الأبديَّة. وبسلطانه الإلهي يُمكِّنه أن يهب الحياة الأبديَّة. وبهذا يتمجَّد ابن الإنسان عن طريق التَّضحيَّة بحياته، لأنَّ التَّضحية هي شريعة الحياة والضَّمان للحياة الأبديَّة. ومن هذا المطلق، ينبغي أن نختار بين حياة خصبة وحياة عقيمة. ولا يكون الاختيار دون تضحية، لانَّ الحياة اختيار، وكل اختيار تضحية. ويُصبح المسيحيِّون "حَبَّة الحِنطَة"، ويَحمِلوا الكثيرَ من الثَّمرِ إذا "فَقَدوا حياتَهم" حبّا بالله وبالإخْوة على مثال يسوع. أمَّا عبارة "إِن لَم تَمُتْ تَبقَ وَحدَها" فتشير إلى حَبَّةَ الحِنطَة التي لم تُزرع بل حُفظت في المخزن فوق الأرض حيث لا تُصيبها رطوبة فتبقى سليمة، ولكن بلا منفعة. وهكذا الحياة التي تمضي سريعًا وتتسم بانغلاقها على نفسها حيث تبقى وحدها ولا تعرف إلا مساحات "الأنا" الضَّيِّقة، ومَصالحها الشَّخصيَّة، وسيكون مصيرها الزَّوال؛ ومن انغمس في ملذات هذا العَالَم يكون قد اختار الموت، مثل البذرة التي تُركتْ دون دفنٍ فيأكلها السُّوس (متى39:10). أمَّا عبارة "تَمُتْ" فتشير إلى التَّغيير العظيم الذي يحدث في الحبوب عندما تتحول البزور إلى نبات. إنْ دُفنت حَبَّةَ الحِنطَةِ في التُّربة تموت وتنشأ حياة جديدة من موتها، فتظهر في النّبت ثم في السُّنبل ثم في القمح. أمَّا عبارة "وإذا ماتَت، أَخرَجَت ثَمَرًا كثيرًا" فتشير إلى مبدأ من عالم النّبات لتوضيح مبدأ من عالم الرُّوح. وهو أنَّ الموت استعدادًا لحياة أسمى من الأولى. فهناك مبدا الموت ويليه مبدا القيامة والحياة. ومبدأ الموت يكمُن في حياة يسوع بالتَّخلِّي عن الذَّات الذي يسير يسوع بموجبه من خلال آلامه (فيلبي 2: 7) وتضحيته من أجل الآخرين. وتجرُّد يسوع من الذَّات هو أكثر من الألم الجسدي كالضَّرب والجَلْد والصَّليب، فهو ألم روحي ونفسي: خيانة وقلق وشعوره أنَّه متروكٌ من أبيه السَّماوي أيضًا. والمنطق الثَّاني هي الانفتاح والمشاركة. إن حَبَّة الحِنطَة تنعزل وتموت لتحمل ثمرًا هي رمز للحياة الفصحيَّة لكل مسيحي، كما ورد على لسان أشعيا "بِسَبَبِ عَناءَ نَفْسِه يَرى النُّور" (أشعيا 53: 11). وكما أن حَبَّةَ الحِنطَةِ لا تُعطي الحَصَاد الوفير إن لم تمتْ، كذلك حال يسوع، فآلامه وموته تقودان إلى القيامة؛ ويعلق القديس كيرلس الأورَشَليمَي: "هنا يتكلم عن صليبه، كأنَّ السَّيد المسيح يقول: إن من شأن هذا الحادث أن يتحقق في الحِنطَة، إنها إذا ماتت تأتي بثمرٍ كثيرٍ، فإن كان هذا يحدث في البذور، فأليَق وأوجب أن يكون فيّ، إلاَّ أن تلاميذه لم يُدركوا الأقوال التي تفوَّه بها". فالموت في نظر يسوع هو مقدمة حياة، والخسارة ربحٌ، لأنَّ الموت أو إخلاء الذَّات يؤدِّي إلى قيامته المجيدة وعطيَّة الرَّوح القدس والنِّعمة والمَجْد الذي سيؤول إلى الآب من خلال عودة كثير من الأبناء الأباعد إلى وحدة الإيمان. يصير الفصح بمثابة الحدث الّذي يسمح لجميع الشعوب بالدخول في العهد مع الله. فيصير الفصح بمثابة الحَدث الّذي يسمح لجميع الشعوب بالدخول في العهد مع الله. ويُعلق القديس أوغسطينوس: " إنّ الرَّبّ يسوع المسيح هو حَبَّةَ الحِنطَةِ تلك التي أماتَها شكّ اليهود، والتي سوف ستتكاثر باهتداء الشُّعوب إلى الإيمان".  إنَّ تعب يسوع ينبغي أن يسبق شبْعه: كما يقول أشعيا " بِسَبَبِ عَناءَ نَفْسِه يَرى النُّور ويَشبَعُ بعِلمِه يُبَرِّرُ عَبْديَ البارُّ الكَثيرين وهو يَحتَمِلُ آثامَهم" (أشعيا 53: 11). وكل الآلام التي سيعيشها يسوع، تؤدّي إلى خصب القيامة التي تجمع بين اليهود واليُونانِيِّين في الجماعة المسيحيَّة الواحدة، كما جاء في نبوءة أشعيا "أَسلَمَ نَفْسَه لِلمَوت وأُحصِيَ مع العُصاة وهو حَمَلَ خَطايا الكثيرين، وشَفَعَ في مَعاصيهم" (أشعيا 53: 12). ويُعلق القديس كيرلس الأورَشَليمَي: " مهما بلغ العَالَم لا يستطيع أن يُدرك سرّ حَصَاد ثمر كثير من حَبَّةَ الحِنطَةِ واحدة".  وعلى خطى يسوع، يتوجب على كل مؤمن أن يُميت ذاته مثل حَبَّةَ الحِنطَةِ في هذا العَالَم، لكي ينال حياة أبديَّة. ومن تجرَّد عن ذاته يكون المسيح له الطَّريق للقيامة والحياة؛ وهكذا إنَّ مبدأ الحياة في نظر يسوع هو المرور عبر الموت لكي يحمل الحياة إلى البشريَّة. وبكلمة أخرى، ترمز هذه الآية إلى معنى فصح يسوع، باعتباره حياة معطاة ومثمرة.

 

25 مَن أَحَبَّ حياتَهُ فقَدَها ومَن رَغِبَ عنها في هذا العَالَم حَفِظَها لِلحَياةِ الأَبَدِيَّة

 

تشير عبارة "مَن أَحَبَّ حياتَهُ فقَدَها" إلى التَّعلّق بالحياة في هذا العَالَم. فتركيز المَرء على نجاحه في ذاته يؤدي إلى خسران نفسه؛ وفي هذا الصَّدد يقول صاحب الحكمة " لا تتَبعْ أَهْواءَكَ، بل اْكبَحْ شَهَواتِكَ.  فإِنَّكَ إِن أَبَحتَ لِنَفسِكَ الرِّضا بِالشَّهوَة جَعَلَتك شَماتةً لأَعْدائِكَ" (يشوع بن سيراخ 18: 30 -31). فمن اهتمّ في جسده خسر نفسه، ومن زهد في جسده ربح نفسه.  من أحبَّ نفسه أكثر من حبِّه للسيد المسيح، أو من أحب حياته الزَّمنيَّة على حساب مَجْده الأبدي يُهلك نفسه. فمن يُريد أن يتبع المسيح يتطلب منه الزُّهد في نفسه والتَّجرد عن ذاته وحمل صليبه وراء المسيح كما أوصى يسوع: "مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفْسِه ويَحمِلْ صليبَه ويَتبَعْني، لأَنَّ الَّذي يُريدُ أَن يُخَلِّصَ حَياتَه يَفقِدُها، وأَمَّا الَّذي يَفقِدُ حَياتَهُ في سبيلي فإِنَّه يَجِدُها" (متى 16: 24-25). ويُعلق اللاهوتي الأسقف يودورس المصّيصي: "فمن اهتمّ بهذه الحياة الدَّنيويَّة سوف يخسر نفسه في الحياة الجديدة؛ ومن اختار الانفصال عن هذا العَالَم الحاضر وهو يعيش فيه، ودخل في الآلام، سوف يخرج منها منتصرًا ومُحمّلًا بالثِّمار الوافرة". ومن هذا المنطلق، يجب أن نكون ملتزمين بالحياة للمسيح إلى درجة أن "نبغض" حياتنا؛ وليس معنى هذا أن نهفو إلى الموت، لكن أن نكون مستعدِّين له إذا كان في ذلك تمجيدًا للمسيح، كما وضَّح يسوع في موضع آخر لإتباعه "لأَنَّ الَّذي يُريدُ أَن يُخَلِّصَ حَياتَه يَفقِدُها"(متى 16: 25)؛ أمَّا عبارة "حياتَهُ" في الأصل اليوناني τὴν ψυχὴν αὐτοῦ (معناها نفسه) فتشير إلى حياته، لأنَّه لمَّا خلق الله الإنسان "نَفخَ في أَنفِه نَسَمَةَ حَياة، فصارَ الإِنسانُ نَفْسًا حَّيَة" (التَّكوين 2: 7). أمَّا عبارة "مَن رَغِبَ عنها" في الأصل اليوناني  μισῶν τὴν ψυχὴν αὐτοῦ (معناها من يبغض نفسه) فتشير إلى فعل يُعاكس فعل أحبَّ.  وبالتَّالي يعني هنا كان المرء اقل حبّا لنفسه، وهكذا فهمه متى الإنجيلي بقوله على لسان يسوع " مَن كانَ أَبوه أو أُمُّه أَحَبَّ إِلَيه مِنّي، فلَيسَ أَهْلًا لي. ومَن كانَ ابنُه أَوِ ابنَتُه أَحَبَّ إِلَيه مِنّي، فلَيسَ أَهْلًا لي" (10: 37)، لأنَّ لغة العهد القديم لا تعرف أفعال التَّفضيل (تكوين 20: 31). ومن هذا المنطلق "من يبغض نفسه " تعني من يموت عن شهوات العَالَم. ويُعلق القديس يوحنا الذَّهبي الفم: "إن قلتَ: ما معنى "ومن يبغض نفسه"؟ أجبتك: من لا يَخضع لها، ولا يَطعْها متى أمرته بفعل الأفعال الضَّارة". إن كنتَ تُحبُّ حياتك بطريقة خاطئة، أنت تبغضها بالحقيقة، أمَّا إن كنت تُحبُّها بطريقة صالحة فإنك فيما أنت تبغضها بالحقيقة تُحبُّها" على خطى يسوع "لم يحبّ المسيح حياتَه على هذه الأرض. لقد أتى ليخسرَها ويقدّمَها فداءً لنا" (أوغسطينوس، العظة 305). وفي هذا الصَّدد قال الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه "من أراد الحُبَّ رَضي بالموت". لذلك لا يستطيع أحدٌ أن يدرك الحياة الأبديَّة إذا تمسّك بالحياة الرَّاهنة وكأنَّها كل شيء. ومن خشي أن يفقدها ولا يرى سواها، يحول تعلّقه بها إلى عدم اكتشاف ما يختبئ وراء الآفاق الحاضرة بالتَّحديد الحياة الأبديَّة. من يهلك نفسه كحَبَّة الحِنطَة، ويشارك السَّيد المسيح آلامه وموته، مُمجّدًا مُخلِّصه، ينعم بالحياة الأبديَّة.  أمَّا عبارة " العَالَم " في الأصل اليوناني κόσμος فتدلّ أولًا على الكون، وعلى المسكونة أي على مجمل الكون كما خلقه (يوحنا 17 :24) الله في البدء (أعْمَال الرُّسل 17 :24) بواسطة الكلمة (يوحنا 1 :3).  وردت هذه اللفظة 188 مرة في العهد الجديد، منها 104 مرات في الكتابات يوحنا الرَّسول، و64 في رسائل بولس الرَّسول. وهذه الفظة تقابل أيضا لفظة "المسكونة" أي الأرض والبشريَّة التي تقيم عليها (متى 26 :13) في عدة ممالك (متى 4 :8).  فإن العَالَم هو الكوَن حيث يُولد الإنسان (يوحنا 16 :21) ويقيم (يوحنا 17 :11) ويتألّم (2قورنتس 7 :10) ويجمع المال (متى 16 :26)، ويقوم بالأعْمَال (1قورنتس 7 :33-34) بكل قوى نفسه (1يوحنا 2 :15-17). ومن هذا المنطلق، خرج العَالَم في الأصل من فعل الخلق، وبدأ في جوهره صالحًا ودلّ على قدرة الله (أعْمَال الرُّسل 14 :17). ولكن هذا الكون الأرضي سكنه الإنسان، فصار في الواقع في يد الشَّرّ (1يوحنا 5 :19)، عالم الكَذب الذي تحكمه أرواح الشَّرّ والظُّلمة (أفسس 6 :12) ويستعبد الإنسان (غلاطية 4 :3، 9) ويمنعه من أن يتذوّق عطايا الله (1قورنتس 2 :12)، لأن الخطيئة شوّهته منذ بداية التَّاريخ (رومة 5 :12). أمَّا عبارة "حَفِظَها لِلحَياةِ الأَبَدِيَّة " فتشير إلى حياة من الصَّداقة مع الله التي تبدأ على الأرض وتدوم إلى الأبد، وهي الحياة الجديدة التي يكشفها يسوع لتلاميذه وبموجبها عليهم أن يُوحِّدوا حياتهم بها ويُوجِّهوها. ويُعلق القديس أوغسطينوس: "إذا أحببتَ بطريقةٍ خاطئة فما أنتَ سوى إنسان يُبغض، وإذا أبغضتَ بطريقةٍ صحيحة، فما أنتَ سوى إنسان يُحبّ. طوبى لمن يُبغضون النّفسَ فيحفظونها كي لا يفقدوها بحبّهم الخاطئ لها".  وهكذا، يجب على المرء أن يبغضَ حياته في هذا العَالَم حتّى يحفظها للحياة الأبديَّة وفي هذا الصَّدد يقول القديس ايرونيموس: "من يُحبّ نفسه أكثر من حبِّه للسَّيد المسيح، أو من يحُب حياته الزَّمنيَّة على حساب مَجْده الأبدي يُهلك نفسه. أمَّا من يهلك نفسه كحَبَّة الحِنطَة، فيشارك السَّيد المسيح آلامه وموته، مُمجدًا مُخلصه، ينعم بالحياة الأبديَّة". فالحياة الأبديَّة هي أشبه باللؤلؤة الثَّمينة التي لا بدّ من بيع كل شيء لاقتنائها (متى 13: 46). تدعونا هذه الآية أن نتعلم أنّ مَن يَحبَّ نفسه يهلكها، ومن يُبغض نفسه يحتفظ به للحياة الأبدية.

 

26 مَن أَرادَ أَن يَخدُمَني، فَلْيَتْبَعْني وحَيثُ أَكونُ أَنا يَكونُ خادِمي ومَن خَدَمَني أَكرَمَهُ أَبي:

 

تشير عبارة " مَن أَرادَ " إلى دعوة يسوع المُوجَّه لكلِّ إنسان، خاصة هنا إلى اليونانيِّين الذين جاؤوا لرؤية يسوع؛ ومن هذا المنطلق، لا يجوز أن تكون الاختلافات الاجتماعيَّة أو العِرقيَّة حاجزًا لاتِّباعه. أمَّا عبارة "يَخدُمَني " فلا تشير إلى غِيرة للعمل لحساب الآخرين، إنَّما هي اتحاد مع الخادم الحقيقي الفريد، يسوع المسيح، ومرافقته وإتِّباعه في طريق الجسمانيَّة. وإتباع يسوع يعني أنَّ التَّلمذة له والتَّعلم منه وطاعته والسَّير معه في طريق الصَّلب والموت، للقيام معه مع ثمارٍ وافرة. أمَّا عبارة "فَلْيَتْبَعْني" فتشير إلى السَّير وراء المسيح مِمَّا يتطلب الزُّهد بالنّفس وحمل الصَّليب وطريق إنكار الذَّات، كما جاء في تعليم الرَّسول بولس " إِذا شارَكْناه في آلامِه، نُشارِكُه في مَجْدِه أَيضًا" (رومة 8: 17).  ويُعلق القديس أوغسطينوس: " فَلْيَتْبَعْني " معناها أن يسلك المَرء في طريق يسوع، وليس في طريقه هو. وكما هو مكتوب في موضع آخر: " مَن قالَ إِنَّه مُقيمٌ فيه وَجَبَ علَيه أَن يسِيرَ هو أَيضًا كما سارَ يَسوع" (1 يوحنا 2: 6). ويعلق اللاهوتي الأسقف يودورس المصّيصي: "إذا أراد أحدكم أن يكون خادمًا لي، فليظهر في أعْمَاله أنّه يريد اتّباعي. إنّ من يشاركني آلامي سوف يشاركني مَجْدي". أمَّا عبارة "يَخدُمَني، فَلْيَتْبَعْني َ" فتشير إلى الصِّلة بين "خِدمة يسوع" و"إتباع يسوع" التي هي من مُعطيات الإنجيل الأساسيَّة. يسوع هو الخادم الذي يبذل نفسه عن الآخرين كما صرَّح: "لأَنَّ ابنَ الإِنسانِ لم يَأتِ لِيُخدَم، بل لِيَخدُمَ ويَفدِيَ بِنَفْسِه جَماعةَ النّاس"(مرقس 10: 45). عاش يسوع حياته وموته كخادم، عرف معاناة البشر وخضوعهم للخطيئة والموت، تألّم معهم ومن أجلهم، وأدرك أنّ " آخِرُ عَدُوٍّ يُبيدُه هو المَوت" (1 قورنتس 15: 26)، " وهو الَّذي في أَيَّامِ حَياتِه البَشَرِيَّة رفعَ الدُّعاءَ والاِبتِهالَ بِصُراخٍ شَديدٍ ودُموعٍ ذَوارِف إلى الَّذي بِوُسعِه أَن يُخَلِّصَه مِنَ المَوت، فاستُجيبَ لِتَقْواه.  وتَعَلَّمَ الطَّاعَةَ، وهو الاِبن، بما عانى مِنَ الأَلَم ولَمَّا بُلِغَ بِه إلى الكَمال، صارَ لِجَميعِ الَّذينَ يُطيعوَنه سَبَبَ خَلاصٍ أَبَدِيّ" (عبرانيِّين 5: 7-9). يسوع إذًا هو الخادم الذي يَهب نفسه عن الآخرين (مرقس 10: 45).  ومن هذا المنطلق، إن حياة التَّلميذ الأصيل تُحدِّدها حياة يسوع: فلا بدَّ  له أن يتبعه في الخدمة  كما قال يسوع : " مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفْسِه ويَحمِلْ صليبَه ويَتبَعْني" (متى 16: 24).  فدور الخادم أن يقاسم المُعلم موتَه ثم قيامته. واليوم، إذا أردنا أن نتبع يسوع علينا أن نُحبّه ونخدمه ونمجّده، حيث أنَّ طريقنا تمرّ بما لا يشتهيه العَالَم، أي روح التَّطويبات روح الزُّهد والفقر والتَّواضع، والخدمة السَّخيّة والمُصالحة المتجدّدة، وقبول عدم الفهم والرَّفض والاستهزاء وحتى الاطضهاد والموت في سبيله وسبيل البِشارة. أمَّا عبارة "حَيثُ أَكونُ أَنا يَكونُ خادِمي" فتشير إلى مشاركة التَّلميذ في وضع المسيح وطاعته حتى الموت (يوحنا 13: 33) وارتفاعه في المَجْد (يوحنا 12: 26)، كما جاء في صلاة يسوع الكهنوتيَّة " يا أَبَتِ، إِنَّ الَّذينَ وهَبتَهم لي أُريدُ أَن يَكونوا معي حَيثُ أَكون فيُعايِنوا ما وَهَبتَ لي مِنَ المَجْد لأَنَّكَ أَحبَبتَني قَبلَ إِنشاءِ العَالَم" (يوحنا 17: 24).  وأول شيء وعد يسوع به تلميذه الأمين أن يكون معه في ملكوت مَجْده في السَّعادة " إِذا ذَهَبتُ وأَعددتُ لَكُم مُقامًا أَرجعُ فآخُذُكم إِلَيَّ لِتَكونوا أَنتُم أَيضًا حَيثُ أَنا أَكون" (يوحنا 14: 3). أمَّا عبارة " خادِمي" في الأصل اليوناني διάκονος (معناه ذاك الذي يخدم في المعبد عزرا 7 :24) فتشير إلى تابع شخصي أو معين، وهنا تدل على تلميذ المسيح الذي يقوم على خدمته، وهو شاهد عيان له (أعْمَال 26: 16)، والخدمة هنا ليست وظيفة دُنيا، إنَّما هي مكانة كرامة ومَجْد مثل خدمة يوسف في بيت مولاه (تكوين 39: 4)، وخدمة يشوع لموسى النّبي في وظيفته (يشوع 1: 1)، وخدمة لإيليا النّبي (1 ملوك 19: 21). وتطلق الكلمة خاصة على خادم الإنجيل مثل طيموتاوس (1 تسالونيقي 3: 2). وبولس وأَبُلُّس (1 قورنتس 3: 5) وأَبَفْراس صاحب بولس الرَّسول في العمل (قولسي 1: 7). أمَّا عبارة " ومَن خَدَمَني أَكرَمَهُ أَبي " فتشير إلى الوعد الثَّاني الذي وعد به المسيح تلميذه الأمين، وهي إثابة لكل ما يخسره في خدمته للمسيح.

 

27 الآنَ نَفْسي مُضطَرِبة، فماذا أَقول؟ يا أَبَتِ نَجِّني مِن تِلكَ السَّاعة. وما أَتَيتُ إِلَّا لِتلكَ السَّاعَة

 

تشير عبارة " الآنَ نَفْسي مُضطَرِبة" في الأصل اليوناني τετάρακται (معناها القلق أكثر منه الخوف) فتشير إلى انفعال عاطفي شديد داخل النّفس، إنها وقت التَّجربة العُظمى، تجربة السَّاعَة الأخيرة. وهذا الانفعال يدلُّ على حقيقة يسوع البشريَّة التي تضطرب من الآلام والصَّلب الماثلة أمامه، لأنَّه شعر بصراع عنيف عند مجابهته رئيس هذا العَالَم (آية 31) ومذلة الموت الأليمة على الصَّليب (العبرانيِّين 5: 7)؛ وبيَّن هذا الاضطراب عظمة ثقل الحمل الذي حمله للتكفير عن خطايا العَالَم. وإذ صار إنسانًا حقيقيًا كان لا بُد لنفسه أن تضَّطرب أمام الآلام التي تحيط به وخطايا البشريَّة كِّلها التي ظهرت أمامه لكي يحملها على كتفيه، مُقدِّمًا نفسه ذبيحةً عن خطايانا. وأشار صاحب الرِّسالة إلى العبرانيِّين إلى هذا الاضِّطراب بقوله: " ولِمَن ((أَقسَمَ أَن لن يَدخُلوا راحَتَه؟)) أَلَيسَ لِلَّذينَ عَصَوه؟" (العبرانيِّين 3: 18)، ويُعلق القدّيس أوغسطينوس: "كيف استطاعَ أن يقولَ: "الآنَ نفسي مُضَّطربة"؟ هو، الإنسان-الإله، كيف استطاع أن يشعرَ بالاضَّطراب لو لم يكن يحمل صورة ضُعفَنا؟" (العظة 305). وكان يسوع يرغب أن ينجو من سَاعَة الاضِّطراب، فسأل آبيه السَّماوي أن يصرف عنه هذه السَّاعَة، ساعة كأس الآلام كما حدث في بستان الجَتْسمَانِيَّة (مرقس 14: 36)، لكنه يسأل خلاف ذلك أن يمجّد اسم الآب، بحسب الرِّسالة التي تولاّها (يوحنا 13: 31-32). فكان يعلم يسوع أنَّ الله أرسله إلى العَالَم لكي يموت من أجل خطايانا بدلاً عنا. إنَّ طريق الطَّاعة حتى الصَّليب هي طريق التَّمجيد النّهائي. أمَّا عبارة "فماذا أَقول؟ " تشير إلى مخاطبة يسوع نفسه دليل على شدَّة اضِّطرابه وعدم القدرة على التَّركيز بسبب انفعاله نتيجة الصِّراع مع الموت. أمَّا عبارة "يا أَبَتِ" في الأصل اليوناني   Πάτερ وفي العبريَّة אָב (معناه أب) فتشير إلى اسم تعطيه التَّوراة لوالد الابن أو الابنة، وللجدّ (تكوين 28 :13) وللوالدين (عبرانيِّين 11 :23) وللأجداد (خروج 12 :3) وتُستعمل هذه اللفظة بطريق القياس وبشكل تشبيهي للحديث عن الله حيث تدلَّ في إنجيل يوحنا على علاقة الأُبوّة مع الله حيث تتجاوز كلّ التَّجاوز ما تفترضه لفظة أب حيث يُشدّد يوحنا الإنجيلي على وحدة المسيح مع الآب في أعْمَاله (يوحنا 5 :17، 19-21). ومن هذا المنطلق، ينادي يسوع الله "يا أَبَتِ" كونه لن يتركه وحده، ولأنه يشاطره منطق المشاركة والمحبَّة والطَّبيعة الإلهيَّة. أمَّا عبارة " نَجِّني مِن تِلكَ السَّاعة " فتشير إلى حقيقة يسوع البشريَّة أمام الآلام بسبب شعوره باضَّطراب باطني عنيف عند مجابهته رئيس هذا العَالَم (يوحنا 12: 31) ومذلَّة الموت الأليمة على الصَّليب.  يخطر ليسوع أن يسأل الآب أن يصرف عنه هذه الكاس، كما حدث في التَّجربة في الجَتْسمَانِيَّة:" أَبَّا، يا أَبَتِ، إِنَّكَ على كُلِّ شَيءٍ قَدير، فَاصرِفْ عنَّي هذِه الكَأس. ولكِن لا ما أَنا أَشاء، بل ما أنتَ تَشاء " (مرقس 14: 36)، ويُعلق القديس يوحنا الذَّهبي الفم: " هذه ليست أقوال لاهوته لكنها أقوال طبيعته الإنسانيَّة التي لا تشاء أن تموت "؛ وبالرَّغم من كل ذلك يسال يسوع أن يُمجَّد اسم الآب، بموجب الرِّسالة التي تولاّها يوم اعتماده (يوحنا 13: 31-32).  ويُعلق القديس يوحنا الذَّهبي الفم: " قال يسوع " نَجِّني مِن تِلكَ السَّاعة" كي يحملنا إلى حياة التَّسليم والتَّواضع".  أمَّا عبارة " وما أَتَيتُ إِلَّا لِتلكَ السَّاعة " فتشير إلى يسوع الابن الذي أتى مُتجسِّدًا لأجل خلاص البشر الذي لا يتم ألاَّ بآلامه وموته نظرًا لمحبته لهم ولطاعته للآب، كما جاء قول يسوع لبطرس: " أَفَلا أَشرَبُ الكَأسَ الَّتي ناوَلَني أَبي إِيَّاها " (يوحنا 18: 11)؛ ويستعمل يسوع هذه العبارة للدلالة على الآلام (متى 20: 22-23). وتلمّح الكاس في العهد القديم إلى كأس المَرارة الذي يصف المِحَن الأخيرة " تَيَقَّظي تَيَقَّظي قومي يا أُورَشَليم الَّتي شَرِبَت مِن يَدِ الرَّبِّ كأسَ غَضَبِه شَرِبَت وجَرِعَت ثُمالَةَ كَأسِ التَّزَلُّج " (أشعيا 51: 17)، ويُعلق القديس أوغسطينوس: "يتحوَّل الإنسان مما هو بشري إلى ما هو إلهي حينما يُفضِّل إرادة الله على إرادته هو".

 

28 أَبتِ، مَجِّدِ اسمَكَ. فانطَلَقَ صَوتٌ مِنَ السَّماءِ يَقول: قَد مَجَّدتُه وسَأُمَجِّدُه أَيضًا

 

تشير عبارة "أَبتِ" إلى لفظة يُطلقها يسوع على أبيه " أَحمَدُكَ يا أَبَتِ، رَبَّ السَّمَواتِ والأَرض، على أَنَّكَ أَخفَيتَ هذه الأَشياءَ على الحُكَماءِ والأَذكِياء، وكَشفتَها لِلصِّغار"(متى 11: 25)، ويُطلقها المسيحيُّون على الله، لأنَّه الآب السَّماوي، كما جاء في رسائل بولُس: "من بولس وهو رَسول، لا مِن قِبَلِ النّاس ولا بِمَشيئَةِ إِنسان، بل بِمَشيئَةِ يسوعَ المسيح واللهِ الآبِ الّذي أَقامَه مِن بَينِ الأَموات" (غلاطية 1: 1). أمَّا عبارة " اسمَكَ " فتشير إلى شخص الآب الذي يتجلّى في يسوع.  وأمَّا عبارة "مَجِّدِ اسمَكَ" فتشير إلى طلب يسوع من آبيه السَّماوي (يوحنا 3: 16) أن يكتمل عمل محبته للبشر من خلال آلامه وموته وقيامته.  إنَّها صلاة يسوع التي تدلُّ على تسليمه كل شيء إلى مشيئة الآب، لأنَّ تمجيد الآب هو غاية يسوع العظمى. إن يسوع يُمجِّد الآب حين يدخل طوعًا في آلامه وموته على الصَّليب. وفي هذه المناجاة يسأل يسوع عمَّا هو أساسي، ما الذي سيواجه من أجل الساعة. ما يطلبه يسوع من الآب يتمحور حول "مجد" الذي يتكرّر ثلاث مرّات في هذا الآية بصيغة الماضي والمضارع والمستقبل. ويُعلق الأسْقُف بروكلس القسطنطيني: "أُطْلق على الصَّليب اسم "المَجْد"، لأنّه من ذلك اليوم حتّى يومنا هذا، يتمجّدَ الصَّليب". أمَّا عبارة "فانطَلَقَ صَوتٌ مِنَ السَّماءِ يَقول" تشير إلى تأكيد الآب قراره بعدم ترك ابنه الحبيب، ولذا يُسمِع صوته. إنَّ الله تكلم من السَّماء بصوت مسموع على الأرض ثلاث مرات: الأولى في معموديَّة يسوع (متى 3: 17)، والثَّانيَّة خلال التَّجلي (متى 17: 5)، والثَّالثة هنا قرب سَاعَة صلبه. ما عبارىأما عبارة "قَد مَجَّدتُه وسَأُمَجِّدُه أَيضًا" فتشير إلى موافقة الآب السَّماوي العلنيَّة على طاعة ابنه وإظهار مَجْده في عجائبه على الأرض كمعجزة الخمر في عرس قانا الجَليل (يوحنا 2: 1-11) وشفاء المقعد عند بركة بيت ذاتا في القدس (يوحنا 5: 1-18) وإحياء لعازر (يوحنا 11: 4). مجّد يسوع الآب بهذه الأعاجيب، وسيُمجّده من خلال الموت والقيامة وهبة الرُّوح القدس (يوحنا 13: 31-32). ويُعلق القديس يوحنا الذَّهبي الفم على "قول الآب: " قَد مَجَّدتُه وسَأُمَجِّدُه أَيضًا؛ فإن سألتَ وأين مجَّده؟ أجبتك: قد مجَّده في الأزمان الكائنة قبل هذه، وسيُمجِّده بعد الصَّليب".  والواقع بعد أن قام يسوع بتمجيد الآب بطاعته الكاملة في الخدمة المتواضعة حتى موته على الصَّليب، يُشركه الآب في مَجْده الأبدي بالقيامة والتَّمجيد. وقد أكّد يسوع مَجْد الآب السَّماوي له في صلاته الكهنوتيَّة " فمَجِّدْني الآنَ عِندَكَ يا أَبتِ بِما كانَ لي مِنَ المَجدِ عِندَكَ قَبلَ أَن يَكونَ العَالَم" (يوحنا 17: 5) ويدلُّ المَجْد هنا إمَّا على المَجْد الذي كان الابن يتمتّع به في وجوده منذ البدء لدى الآب (يوحنا 1: 1)، وإمّا على المَجْد الذي أعَدّه الآب منذ البدء. لقد تجلّى هذا المَجْد طوال حياة يسوع على الأرض (يوحنا 2: 11)، وخاصة على الصليب. وهنا يتساءل البابا فرنسيس:" كيف يمكن أن يظهر مجد الله على الصليب الذي هو هزيمة وفشل؟ غير أن يسوع وإذ يتحدث عن آلامه يقول "أَتَتِ السَّاعَةُ الَّتي فيها يُمَجَّدُ ابنُ الإِنسان". وأوضح بأنّ المجد بالنسبة لله يعني المحبة حتى بذل الحياة، وقد بلغ ذروته على الصليب حيث أظهر يسوع إلى أقصى حد محبة الله، وكشف بالكامل وجه الرحمة، معطيًا لنا الحياة وغافرًا لصالبيه. فالعطاء والمغفرة هما جوهر مجد الله" (عظة الأحد الخامس من الصوم 2024). وقد سطع بهاء مجد يسوع ابتداء من القيامة والتَّمجيد (يوحنا 3: 14)؛ ويعلق القديس أوغسطينوس على قول الآب السَّماوي: " سَأُمَجِّدُه أَيضًا " عندما يقوم يسوع من الأموات، عندما لا يكون للموت أي سلطان عليه، وعندما يرتفع فوق السَّماوات بكونه الله، ويكون مَجْده فوق كل الأرض".

 

29 فقالَ الجَمْعُ الَّذي كانَ حاضِرًا وسَمِعَ الصَّوت: إِنَّه دَوِيُّ رَعْد. وقال آخَرونَ: إِنَّ مَلاكًا كَلَّمَه

 

تشير عبارة "دَوِيُّ رَعْد" إلى حضور الله. يرافق الرَّعد عمومًا إعلانات حضور الله عندما آتى في جلال وعظمة كما حدث في التَّجلي الإلهي: "حَدَثَ في اليَومِ الثَّالِثِ عِندَ الصَّباحِ أَنْ كانَت رُعودٌ وبُروقٌ وغَمامٌ كَثيفٌ على الجَبَل وصَوتُ بوقٍ شَديدٌ جِدًّا، فارتَعَدَ الشَّعبُ كلُّهُ الَّذي في المُخَيَّمِ" (خروج 19: 16). أمَّا عبارة "رَعْد " فتشير إلى الصَّوت الذي يعقب البرق. إنه يُسبِّب رُعبًا وفزعًا، كما حدث في الضَّربة السَّابعة من ضربات الله العشر على مصر "مَدَّ موسى عَصاه نَحوَ السَّماء، فأَرسَلَ الرَّبُّ رَعْدًا وبَرَدًا، وجَرَتِ النّارُ على الأَرض، وأَمطَرَ الرَّبُّ بَرَدًا على أَرضِ مِصْر" (خروج 9: 23)، وإن صوت الرَّبّ قد وُصف مَجازيا (مزمور 29: 3-9)، لأنَّ الرَّبّ هو الذي يرسل العاصفة ويوجَّهها (أيوب 28: 26). والرَّعد يُعلن عظمة قدرة الله في عمله في الطَّبيعة (مزمور 77: 18). أمَّا عبارة "مَلاكًا" فلا تشير إلى اسم علم، بل إلى وظيفة، كما حدث في تجلّي الله أمام رجالات كبار في شعب العهد (تكوين 22 :11، 15)، ولدى الشَّعب كله (2 صموئيل 24 :16). يعمل الملاك باسم الله ويرتدي سلطة الله ويتكلّم باسم الله. أمَّا عبارة "كَلَّمَه" فتشير إلى تجاوب الملاك مع نداء الابن يسوع. ويعلق البابا فرنسيس: "هذه هي حالة التَّأويلات البشريَّة. لذلك وجب علينا أن نتيقّظ لمرور الله وحركته في مسيرة تاريخنا الذي يكتب تاريخ حياتنا على أسطر ملتويَّة. فإن التَّاريخ لهو مساحة مقدّسة نختبر فيها حضور الله فينا وبيننا، وهذا فإما أن يكون ضياعًا للذات وإمّا أن يكون سببًا لتحقيقها. (عظة البابا 24/3/2021).

 

30 أَجابَ يسوع: "لم يَكُنْ هذا الصَّوتُ لأَجلي بل لأجلِكُم

 

تشير عبارة "لم يَكُنْ هذا الصَّوتُ لأَجلي بل لأجلِكُم" إلى توضيح يسوع للجَمع أنَّ صوت الله لم يكون لتعزيته، لأنَّه هو متيقن من إرادة الله، إنَّما كان للجمع الذي لم يُدرك معنى التَّدخل الإلهي، وكان من شأن هذا التَّدخل أن يحمل الجمع على إدراك معنى أحداث الخلاص وإزالة شكوكهم ليُقنعهم أنَّ يسوع هو مُرسل الله.  لم يكن يسوع بحاجة إلى هذا الصَّوت، لأنه متَّحدٌ دومًا بآبيه، فأعلن ذلك الصَّوت ليُنذرهم "الَيومَ دَينونَةُ هذا العَالَم". صوت الله هذا تتعلق بماضينا وحاضرنا، بأفراحنا وأحزاننا، إنها تشمل حياتنا كلها، كما شملت حياة يسوع.

 

31 الَيومَ دَينونَةُ هذا العَالَم. اليَومَ يُطرَدُ سَيِّدُ هذا العَالَم إلى الخارِج

 

تشير "الَيومَ" في الأصل اليوناني νῦν (معناها الآن) فتشير إلى زمن حدوث ثلاثة أمور وهي: مجيء اليونانيِّين والصَّوت من السَّماء وموته، وبالتَّالي هناك ثلاث نتائج: دَينونَة العَالَم ونبذ رئيسه وجذْب المسيح للجميع. أمَّا عبارة "دَينونَةُ" فتشير هنا إلى الحُكم على العَالَم ورئيسه (إبليس) حيث سيُخلع عن عرش سلطانه.  ويحكم الصَّليب على هذا العَالَم الذي يسيطر عليه الشَّيطان، فيُصبح المسيح المصلوب سيدَ هذا العَالَم كما جاء في الكتاب المقدس: "إنَّما الدَّينونَةُ هي أَنَّ النُّورَ جاءَ إلى العَالَم"(يوحنا 3: 19). وظنَّ الشَّيطان أنَّ موت يسوع على الصَّليب هو انتصاره، فكان هزيمته. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم: "لم تذكر كلمة "دَينونَة" بأداة تعريف، فهي لا تشير هنا إلى الدَّينونة النِّهائيَّة، بل هي دَينونَة تبدأ بعمل المسيح الخلاصي، كما جاء في نبوءة سعمان الشَّيخ "ها إِنَّه جُعِلَ لِسقُوطِ كَثيرٍ مِنَ النّاس وقِيامِ كَثيرٍ مِنهُم في إِسرائيل وآيَةً مُعَرَّضةً لِلرَّفْض (لوقا 2: 34). الدَّينونة هنا ليست حساب اليوم الأخير بل إعلان الله أنَّ العَالَم أثيم وأنَّه تعالى أخذ إزالة عبادة الأوثان والفَساد والرِّياء واستيلاء الشَّيطان على قلوب النّاس. بينما تبقى الدَّينونة النِّهائيَّة محفوظة في يوم قيامة الموتى، عندما يُدان الأحياء والأموات. أمَّا عبارة "هذا العَالَم" فتشير إلى العَالَم الحاضر بصفته المكان الذي تظهر فيه سيطرة القوَّات المُعادية للسِّيادة الإلهيَّة الواردة في إنجيل يوحنا بأسماء متنوعة، مثل إبليس (يوحنا 6: 70)، والشَّيطان (يوحنا 13: 27)، ورئيس هذا العَالَم (يوحنا 14: 30)، وملكوت الشَّرير كما ورد في إنجيل يوحنا " نَحنُ نَعلَمُ أَنَّنا مِنَ الله وأَمَّا العَالَم فهُو كُلُّه تَحتَ وَطْأَةِ الشِّرِّير" (1 يوحنا 5: 9). وعبارة هذا العَالَم تتميز على العَالَم الآتي التي سيملك الله عليه بحسب التَّقاليد الرُّؤيويَّة.  والواقع أنّ جوهر القيامة يبدأ منذ حضور يسوع على الأرض، وهو الاشتراك في الحياة الإلهيَّة، ولكنَّها لا تتحقق تمامًا إلاّ في اليوم الآخر (يوحنا 5: 28-29). أمَّا عبارة "يُطرَدُ" في الأصل اليوناني ἐκβληθήσετα (معناها سيُطرح أرضًا) فتشير إلى قهر العدو فيرميه الغالب ويدوسه برجليه ويزيل سلطانه عن العَالَم، ويؤكِّد ذلك صاحب الرَّسالة إلى العبرانيِّين بقوله" لِيَكسِرَ بِمَوتِه شَوكَةَ ذاكَ الَّذي لَه القُدرَةُ على المَوت، أَي إِبليس" (العبرانيِّين 2: 14). وينتظر أن يلقى في نهاية الأيام في "النّارِ الأَبَدِيَّةِ المُعدَّةِ لإِبليسَ وملائِكَتِه" (متى 25: 41). فموت المسيح هو عِلَّة خراب مملكة الشَّيطان، كما جاء في تعليم بولس الرَّسول "خَلَعَ أَصحابَ الرِّئاسةِ والسُّلْطان وشَهَّرَهم فسارَ بِهِم في رَكْبِه ظافِرًا" (قولسي 2: 15)، وفي ذلك إتمام نبوءة الأولى لله تعالى: "أَجعَلُ عَداوةً بَينَكِ وبَينَ المَرأَة وبَينَ نَسْلِكِ ونَسْلِها فهُوَ يَسحَق رأسَكِ وأَنتِ تُصيبينَ عَقِبَه" (التَّكوين 3: 15). أمَّا عبارة "سَيِّدُ هذا العَالَم" فتشير إلى الشَّيطان الذي يعمل دومًا ضد الله وضد من يُطيعون الله، وسُمِّي سيِّد هذا العَالَم لخضوع أكثر العَالَم له، وحيث تسود الخطيئة يملك الشَّيطان، لانَّ" مَن يَرتَكِبُ الخَطيئَة يَكونُ عَبْدًا لِلخَطيئَة (يوحنا 8: 34). وإن للشيطان سلطانٌ عظيم وهو قوي، لكن يسوع أقوى منه، والدَّليل على ذلك أن قيامة المسيح قد حطَّمت سلطان الشَّيطان، كما جاء في تعليم بولس الرَّسول "هو الَّذي نَجَّانا مِن سُلْطانِ الظُّلُمات ونَقَلَنا إلى مَلَكوتِ ابنِ مُحَبَّتِه" (قولسي 1: 13).  أمَّا عبارة "إلى الخارِج" فتشير إلى أسفل، كما ورد في بعض المخطوطات. لم يأتِ يسوع ليدين بل ليُخلص (يوحنا 3: 17-21)، إلا أن انتصاره بالصَّليب سيؤدّي حتمًا إلى انهزام الشَّيطان وإبعاده عن العَالَم.

 

32 وأَنا إِذا رُفِعتُ مِنَ الأَرض جَذَبتُ إِلَيَّ النّاسَ أَجمَعين

 

تشير عبارة "رُفِعتُ" في الأصل اليوناني ὑψωθῶ (صيغة مجهولة تدل على صيغة آراميَّة معلومة אֶנָּשֵׂא وهي ارتفعت) إلى الارتفاع على الصَّليب "إلى المِيتَةِ الَّتي سيُمَجِّدُ بِها الله" (يوحنا 21: 19) من ناحية، وعلامة لارتفاعه في مَجْد الله الآب بالقيامة والصُّعود وجلوسه عن يمين الآب من ناحية أخرى (يوحنا 8: 28). حيث أنَّ كلمة "رُفِعتُ" تلّخص الارتفاع على الصَّليب والمَجْد، ذلك لأنَّ الصَّليب والمَجْد من الآن وصاعدًا لا يمكن الفصل بينهما. ولم يَعد الصَّليب علامة لعنةٍ وموتٍ، لانَّ المسيح حوّله إلى أداة نصرٍ على الخطيئة والموت وأداة مَجْد؛ أما عبارة " رُفِعتُ مِنَ الأَرض " فتشير إلى معنى مزدوج: "رُفِعتُ" لأنَّه مصلوبٌ و" رُفِعتُ" لأنَّه مُمَجّدٌ من الآبِ في القيامة، كي يَجذُبَ إليه ويُصالِحَ البشرَ مع الله ومع بعضهم البعض. أمَّا عبارة "جَذَبتُ" فتشير إلى انجذاب النّاس بطواعيَّة في اتِّجاهين: للمُشاركة في الخلاص من جهة، وللمُشاركة في المَجْد من جهة أخرى. وهكذا سيُولد شعبٌ جديدٌ يستطيع الجميع أن ينضمَّ إليه.  وتضمُّ جاذبيته كلِّ البشريَّة سواء كانوا من اليهود أو الأمم، كما يضمَّهم معًا كأعضاء في جسده الواحد، لكنَّه لن يجتذب يسوع المصلوب أحدًا قهرًا بغير إرادته. ويُعلق القديس يوحنا الذَّهبي الفم: "إنه يجتذب النّفس ليس إلزامًا ولا بالعُنْف، وإنَّما بالحُبِّ الجذَّاب. وكما يقول في هوشع: " بِحِبالِ البَشرِ، بِرَوابِطِ الحُبِّ آجتَذَبتُهم وكُنتُ لَهم كمَن يَرفَعُ الرَّضيعَ إلى وَجنَتَيه وآنحَنَيتُ علَيه وأَطعَمتُه" (هوشع 11: 4). أمَّا عبارة " إِلَيَّ " فتشير إلى نفسه لا إلى دينه ولا إلى كنيسته ولا إلى رسله أو إلى مخلوق لآخر.  أمَّا عبارة "النَّاسَ أَجمَعين " فتشير إلى الجميع: يهودا كانوا أم يونانيِّين حيث جذبهم يسوع دون تميُّز في عِرقٍ أو وطنٍ، وفي كل زمان وليس فقط أثناء السَّاعات القليلة التي كان مُعلقًا فيها على الصَّليب. ويُعلق القديس يوحنا الذَّهبي الفم "قوله " النَّاسَ أَجمَعين: " ليؤكد فاعليَّة الصَّليب في جذب السَّماويِّين والأرضيِّين ليصيروا واحدًا" كما جاء في تعليم بولس الرَّسول: "وأَن يُصالِحَ بِه ومِن أَجلِه كُلَّ موجود مِمَّا في الأَرْضِ ومِمَّا في السَّمَوات وقَد حَقَّقَ السَّلامَ بِدَمِ صَليبِه"(قولسي 1: 20). اليوم نحن مدعوون للنظر إلى يسوع المرفوع على الصَّليب، والذي هو خلاصنا. فليجذبنا المَصلوب من جديد.

 

33 وقالَ ذلك مُشيرًا إلى المِيتَةِ الَّتي سَيَموتُها

 

تشير عبارة "مُشيرًا" إلى تفسير يوحنا الإنجيلي لقول المسيح "رُفِعتُ" مبيِّنًا أنَّ المسيح سيُرذل ويتألم، محقِّقًّا نبوءة أشعيا "لا صورَةَ لَه ولا بَهاءَ فنَنظُرَ إِلَيه ولا مَنظَرَ فنَشتَهِيَه. مُزدَرًى ومَتْروكٌ مِنَ النّاس رَجُلُ أَوجاعٍ وعارِفٌ بِالأَلَم ومِثلُ مَن يُستَرُ الوَجهُ عنه مُزدَرًى فلَم نَعبَأْ بِه" (أشعيا 53: 2-4). أمَّا عبارة "المِيتَةِ" فتشير إلى موت يسوع صلبًا وليس رجمًا، وإلاَّ لما احتاج اليهود إلى موافقة بيلاطس (يوحنا 18: 30-32). ارتفع يسوع بالصَّليب فصار مُعلقًا بين السَّماء والأرض ليراه العَالَم؛ وفي صُلبه جُذب العَالَم إليه، وآمن كثيرون به، وثبتوا في محبَّته. اعتبر اليهود أنَّ الشَّريعة كانت بجانبيهم حين حكموا على يسوع، فإذًا هي تشهد عليهم. لم تقدر الجموع أن تصديق المسيح أنَّه سيموت من قِلة قراءتهم لبعض فقرات الأسفار المقدسة (مزمور 89: 35؛ 110: 4). إلاَّ أنَّ بعض الفقرات الأخرى أوضحت أنَّه سيموت كما ورد في نبوءة أشعيا: " لقَد حَمَلَ هو آلاَمَنا وآحتَمَلَ أَوجاعَنا فحَسِبْناه مُصابًا مَضْروبًا مِنَ اللهِ ومُذَلَّلًا... عُومِلَ بِقَسوَةٍ فتَواضَع ولم يَفتَحْ فاهُ كحَمَلٍ سيقَ إلى الذَّبْحِ كنَعجَةٍ صامِتَةٍ أَمامَ الَّذينَ يَجُزُّونَها ولم يَفتَحْ فاهُ ... قدِ آنقَطَعَ مِن أَرضِ الأَحْياء وبِسَبَبِ مَعصِيَةِ شَعْبي ضُرِبَ حتَّى المَوت. فجُعِلَ قَبرُه مع الأَشْرار وضَريحُه مع الأَغنِياء مع أَنَّه لم يَصنَع عُنفًا ولم يوجَدْ في فمِه مَكْرًا" (أشعيا 53: 5-9).  أمَّا عبارة "مُشيرًا " فهي توضيح يسوع فكرة موته على الصَّليب، لأنَّ الشَّعب أرتبك أمام إعلان يسوع عن موته. إذ إنهم لا يستطيعوا أن يوفِّقوا بين رأيهم في المسيح المنتظر وبين كلام يسوع، معتقدين أنَّ المسيح المنتظر سيظهر في السَّماء ويبقى إلى الأبد. لذلك يطلب يسوع منهم أن يسيروا في النُّور وان يؤمنوا بالنُّور. ومن يؤمن بنُّور المسيح يستنير روحيًا.

 

 

ثانيًا: تطبيقات النّص الإنجيلي (يوحنا 12: 20-33)

 

بعد دراسة موجزة عن وقائع النّص الإنجيلي (يوحنا 12: 20-33)، نستنتج أنَّه يتمحور في ثلاث نقاط: مفهوم السَّاعَة وسَاعَة المسيح وسَاعَة الدَّينونة الأخيرة.

 

1) مفهوم السَّاعَة في الكتاب المقدس

 

للسَاعَة في الكتاب المقدس معنيان: معنى زمني ومعنى ديني. يدلُّ المعنى الزَّمنى على أنَّ التَّاريخ ينقسم إلى عصور وشهور وأيام وساعات. وفي العهد القديم، دلّت لفظة "שעה " (ساعة) على الوقت أو اللحظة، وجاءت في زمن متأخّر في اللغة الآراميَّة שעתא (دانيال 3 :6، 15).

 

في العهد الجديد احتفظت اللفظة اليونانيَّة " ὥρα" بمعنى عام: الزَّمن، الوقت (متى 8 :13)، كما دلّت أيضًا على وقتٍ مُحدّدٍ في النّهار: السَّاعَة الثَّالثة (متى 20 :3)، السَّاعَة السَّادسة (مرقس 15 :33)، السَّاعَة السَّابعة (يوحنا 4 :52)، السَّاعَة التَّاسعة (متى 20 :5)، السَّاعَة العاشرة (يوحنا 1 :39)، السَّاعَة الحادية عشرة (متى 20 :6). تدلّ كلمة " ὥρα" أيضًا على مدى من الوقت محدّد مثل سَاعَة واحدة (متى 20 :12)، ساعتان (أعْمَال الرُّسل 19 :34)، ثلاث ساعات (أعْمَال الرُّسل 5 :7).

 

يُقسم اليوم إلى اثنتي عشرة سَاعَة من شروق الشَّمس إلى غروبها كما جاء في العهد الجديد: "أَلَيسَ النّهارُ اثنَتَي عَشْرَةَ سَاعَة؟ "(يوحنا 11 :9) وهذا التقسيم ينطبق أيضًا على الليل (أعْمَال 23 :23).  لكن كان الليل يُقسم ثلاثة أقسام، وكل قسم يُدعى هزيعًا جمْعها هُزع أو هجعة وجمْعها هجعات، أولها من غروب الشَّمس إلى نصف الليل، والثَّاني من نصف الليل إلى صياح الدِّيك، والثَّالث من صياح الدِّيك إلى شروق الشَّمس (خروج 14: 24). وكانوا يحدِّدون السَّاعَة بدقّة بواسطة سَاعَة شمسيَّة أو سَاعَة مائيَّة، وهاتان الآلتان قد عرفهما المصريُّون وبلاد الرَّافدين منذ الألف الثَّاني ق.م.

 

بالإضافة إلى هذا الاستعمال اليوميّ والدَّقيق للسَاعَة، ذكر العهد الجديد السَّاعَة مرات عديدة في معنى لاهوتيّ. وبهذا المعنى تدل على مراحل خطة الله: إلى سَاعَة المسيح والسَّاعَة الإسكاتولوجيَّة في آخر الأزمنة.  أمَّا سَاعَة يسوع فهي سَاعَة آلامه وموته، سَاعَة العدو، سَاعَة الله، سَاعَة مَجْده، "ساعتي" سَاعَة حبّه وتضحيته.

 

2) سَاعَة يسوع المسيح:

 

وسّع إنجيل يوحنا بشكل خاص عبارات مبنيَّة على السَّاعَة: مختلفة لكنها مترابطة وهي:

 

سَاعَة يسوع هي "ساعتي" كما أطلق عليها يسوع (يوحنا 2: 4)، وقد أتت سَاعَة المسيح بمجيئه وإعلان ملكوته بطريقة لا تُلفت الأنظار (يوحنا 2: 4) وخاصّة سَاعَة آلامه ومَجْده التي فيها تحقّق تمامًا تدبير الله الخلاصي. وتبعًا لساعته هذه، يترتَّب كل نشاطه سواء كان في صنع المعجزات، أو في ممارسة وظيفته النّبويَّة. وما من أحد يُمكنه، مخالفة التَّخطيط الإلهي والتَّماس معجزة دون أن يشير يسوع إلى حلول ساعته، كما حدث في عرس قانا الجَليل (يوحنا 2: 4)؛ وهكذا كل محاولة لإلقاء القبض على يسوع أو لرجمه تظلُّ دون جدوى طالما لم تأتِ ساعته، كما ورد في إنجيل يوحنا: "فأَرادوا أَن يُمسِكوه، ولكِن لم يَبسُطْ إِلَيه أَحَدٌ يَدًا، لأَنَّ ساعتَه لم تكُن قد جاءَت" (يوحنا 7: 30). وتتحطم مخططات البشر في مواجهة هذا التَّحديد الإلهي. النّاس يظنون أنَّ ساعتهم جاءت حين تسير الأمور على ما يرام. أمَّا سَاعَة يسوع فهي آلامه وموته؛ وهي سَاعَة خلاص إخوته البشر الذي أحبَّهم حتى بذل ذاته في سبيلهم.

 

سَاعَة يسوع هي سَاعَة الله: سَاعَة الله التي حدّدها الله بنفسه وعاشها يسوع طِبقًا لمشيئة الآب. وإذ جاء ليتمّم هذه المشيئة، فهو يَقبل هذه السَّاعَة بإرادته وبحرِّية، برغم الاضِّطراب الذي يستحوذ عليه من جرّائها، كما جاء في صلاة يسوع في بستان الجسمانيَّة "الآنَ نَفْسي مُضَّطَرِبة، فماذا أَقول؟ يا أَبَتِ نَجِّني مِن تِلكَ السَّاعَة. وما أَتَيتُ إِلَّا لِتلكَ السَّاعَة" (يوحنّا 12: 27). الساعة، إذن، هي تلك السَّاعة التي يكشف فيها يسوع، بقبوله المجَّاني للموت، وهي محبة الله الآب للإنسان. في هذه الساعة المظلمة والمأساوية لن يتوارى فيها الآب ويترك الابن وحده ليواجه آلام الموت، بل لقد كان الآب حاضرًا في حياة الابن، كما صرّح يسوع "وقَد عَلِمتُ أَنَّكَ تَستَجيبُ لي دائِماً أَبَداً" (يوحنا 11: 42). إن محبة الآب ترافق الابن في ساعته دون أن يتخلى عنه.

 

سَاعَة يسوع هي سَاعَة المسيح المنتظر: بطريقة لا تلفت الأنظار، قد أتت السَّاعَة بمجيء يسوع: سَاعَة إعلان الملكوت (يوحنا 2: 4)، وخاصّة سَاعَة آلامه ومَجْده التي فيها تحقّق تمامًا تدبير الله الخلاصي. تشير إليها الأناجيل الإزائيَّة بأسلوب بسيط "قد اقتربت السَّاعَة، الخ..." (متّى 26: 45). وهذه السَّاعَة لا تُحدّد وقتًا معيَنا من الزَّمن، بقدر ما تتوّج مُجمل المرحلة العظمى من عمل المسيح، على نحو ما تكون عليه سَاعَة المرأة التي تشير أوجاعها إلى ظهور حياة جديدة (يوحنا 16: 21).

 

سَاعَة يسوع هي سَاعَة آلامه وموته: أشارت الأناجيل إلى الموت بعبارة "قد اقتربت السَّاعَة" (متّى 26: 45)، وهي سَاعَة الصَّليب؛ أتت سَاعَة الصَّليب! أتت سَاعَة هزيمة الشَّيطان، أمير الشَّر، وسَاعَة الانتصار النِّهائي لحبِّ الله الرَّحيم؛ ويعلق البابا فرنسيس: "وضع الإنجيليّون سَاعَة الصَّليب كلحظة الذِّروة لنظرة الإيمان، لأنّه في تلك اللحظة تتلألأ عظمة ورحابة المحبّة الإلهيَّة " (الرَّسالة العامّة: "نور الإيمان"، الفقرتان 16). كان يسوع يعي سَاعَة ألامه كما صرّح: "كانَ يسوعُ يَعَلمُ بِأَن قد أَتَت سَاعَة انتِقالِه عن هذا العَالَم إلى أَبيه" (يوحنا 13: 1)، وأنَّه تقبَّلها بملء حرِّيته "إِنَّ الآبَ يُحِبُّني لِأَنِّي أَبذِلُ نَفْسي لأَنالَها ثانِيَةً" (يوحنا 10: 18). لا يحمل موت المسيح شيئًا من خيبة الأمل، أو من الانحدار إلى العدم. إنَّه بالعكس، يُمثل موت المسيح قمَّة حياة المسيح ورسالته على الأرض، وتكتمل فيه شخصيَّة يسوع التَّاريخيَّة في المَجْد" أَتَتِ السَّاعَةُ الَّتي فيها يُمَجَّدُ ابنُ الإِنسان (يوحنا 12: 23).  إن موت السَّيد المسيح غيَّر مفاهيم الموت ومعاييره كما غيَّر نظرتَنا إلى الحياة، حيث أصبح الموت ضرورة للتَّمتع بالحياة المثمرة الكاملة، حيث لا حياة صادقة دون موت. كما قال يسوع: "إنَّ حَبَّةَ الحِنطَةِ الَّتي تَقَعُ في الأَرض إِن لَم تَمُتْ تَبقَ وَحدَها. وإذا ماتَت، أَخرَجَت ثَمَرًا كثيرًا" (يوحنا 12: 24).

 

سَاعَة يسوع هي سَاعَة اضطراب: بدأ يسوع سَاعَة آلامه بكفاح باطني قاسٍ، كما وصفه يوحنا: "الآنَ نَفْسي مُضطَرِبة، فماذا أَقول؟ يا أَبَتِ نَجِّني مِن تِلكَ السَّاعَة. وما أَتَيتُ إِلَّا لِتلكَ السَّاعَة" (يوحنا 12: 27). إنها ساعة اضطراب والشِّدة ثم يضيف أن هذا الاضطراب لن يدفعه إلى الوراء كما جاء في قوله " أَبتِ، مَجِّدِ اسمَكَ. فانطَلَقَ صَوتٌ مِنَ السَّماءِ يَقول: قَد مَجَّدتُه وسَأُمَجِّدُه أَيضًا (يوحنا 12: 28).  وهناك بعض ساعات قاسية أخرى مرّ بها يسوع، مثل السَّاعَة التي تركه فيها تلاميذه (يوحنّا 16: 32)، إلا أنها تنْزع نحو المَجْد. ولقد مات يسوع المسيح ليُبيِّن سلطانه على الموت، وقيامته تُثبت أنَّ لديه الحياة الأبديَّة، وبسلطانه الإلهي يُمكنه أن يهب الحياة الأبديَّة لكلِّ من يؤمن به. ويُعلق القديس كيرلس بطريرك الإسكندريَّة: "إنّ المسيح، باكورة الخليقة الجديدة. بعدما هزم الموت، قام من بين الأموات وصعدَ إلى الآب كتقدمة رائعة ومشرقة كباكورة الجنس البشري المُتجدّد وغير القابل للفَساد".

 

سَاعَة يسوع هي سَاعَة الحبِّ: عندما "أَتَت سَاعَة انتِقالِه عن هذا العَالَم إلى آبيه" (يوحنا 13: 1)، أي عند سَاعَة الحُبِّ الذي بلغ ذروته، نرى يسوع المسيح يذهب إلى الموت بملء حريته، مسيطرًا على جميع الأحداث، كما صرَّح: "وما ذلِكَ إِلاَّ لِيَعرِفَ العَالَم أَنِّي أُحِبُّ الآب وأَنِّي أَعمَلُ كما أَوصاني الآب" (يوحنا 14: 31). إنّها سَاعَة الحُبّ الأعظم، التي يهب فيها يسوع حياته لأحبَّائه الذين هم في العَالَم، وقد أحبّهم إلى اقصى الحدود: "لَيسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعظمُ مِن أَن يَبذِلَ نَفَسَه في سَبيلِ أَحِبَّائِه" (يوحنا 15: 13).

 

سَاعَة يسوع هي سَاعَة العدوّ: سَاعَة الانتصار الظَّاهري للظلام؛ سَاعَة يستطيع فيها الذين لا يعرفون يسوع ولا الله أن يستخدموا وسائل العنف الظَّالمة غير مُبَالين، كما جاء على لسان يسوع: "كُنتُ كُلَّ يَومٍ مَعَكم في الهَيكَل، فلَم تَبسُطوا أَيدِيَكُم إِليَّ، ولكِن هذه ساعتُكم! وهذا سُلطانُ الظَّلام!"(لوقا 22: 53).

 

سَاعَة يسوع هي سَاعَة مَجْده: إن سَاعَة الآلام في هذه المرحلة ستُصبح سَاعَة المَجْد كما اكّد يسوع إلى تلميذيه أَندَرواس وفيلِبُّس: "أَتَتِ السَّاعَة الَّتي فيها يُمَجَّدُ ابنُ الإِنسان."(يوحنا 12: 23)؛ وهي سَاعَة كمال رسالة الخلاص كما أعلن يسوع في مثل حَبَّة الحِنطَة "الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: إنَّ حَبَّةَ الحِنطَةِ الَّتي تَقَعُ في الأَرض إِن لَم تَمُتْ تَبقَ وَحدَها. وإذا ماتَت، أَخرَجَت ثَمَرًا كثيرًا" (يوحنا 12: 24). ويُعلق القدّيس غريغوريوس الكبير "لقد كان يسوع بذرة زرع بإذلال جسده، وشجرة كبيرة بتمجيدِ عظمته. كانَ بذرة زرع عندما ظهرَ لأعيننا مشوّهًا كليًّا، وشجرةً كبيرةً عندما قامَ من بين الأموات". لا يريد يسوع الحياة لنفسه، "لم يَعُدَّ مُساواتَه للهِ غَنيمَة" (فيلبي 2: 6)، بل ليعطي الحياة لكثيرين ويجمع في جسد واحد سائر أخوته البشر (قولسي 1: 18)؛ انه يقع في الأرض كحبّة الحِنطَة ويموت، "تَجرَّدَ مِن ذاتِه" (فيلبي 2: 7)، فيتمجَّد ابن الإنسان عن طريق التَّضحيَّة بحياته، لان التَّضحية هي شريعة الحياة والضَّمان للحياة الأبديَّة. كما صرّح يسوع المسيح "مَن أَحَبَّ حياتَهُ فقَدَها ومَن رَغِبَ عنها في هذا العَالَم حَفِظَها لِلحَياةِ الأَبَدِيَّة" (يوحنا 3: 25). إنها سَاعَة تنزع في جملتها نحو المَجْد، أي نحو رجوع الرَّبّ في مَجْده. أنها سَاعَة انتقال يسوع من هذا العَالَم إلى أبيه. هي تفتح بابا للقاء مع الآب. لم يأتي يسوع إلى هذا العَالَم إلا ليحقِّق في جسده هذا العبور من الابن إلى الآب، ولكي يأخذ معه كل البشر في حركة هذا الفصح الواحد. وتشهد هذه السَّاعَة بذات دقتها لقصد الله الذي يقود التَّاريخ (أعْمَال 1: 7).

 

سَاعَة يسوع هي سَاعَة عبادة الآب بالرُّوح والحق كما صرّح يسوع للمرأة السَّامريَّة " تَأتي سَاعَة -وقد حَضَرتِ الآن -فيها العِبادُ الصَّادِقون يَعبُدونَ الآبَ بِالرُّوحِ والحَقّ" (يوحنا 4: 21)، وهنا صدق القول "كثيرون هم الذين يجلسون في بيت الله، وقليلون هم الذين يجلسون في حضرة الله، فالعبادة الحقيقيَّة هي سَاعَة يسوع حيث يعرف المؤمن الله ويعبده على أنه الآب بفضل الرُّوح القدس الذي يهبه السَّيد المسيح من خلال موته. وهي سَاعَة العبادة الكاملة، في صداقة حميمة مع الآب بالرُّوح القدس (يوحنا 4: 23). لذلك على المؤمن أن يستعدّ لهذه السَّاعَة الخطيرة وإن كانت غير معلومة (متى 25: 13). وهو على كلّ حال، يعلم أنّ السَّاعَة قريبة، بل أنّها قد حضرت الآن (يوحنّا 4: 23)، وأنها آتية (5: 25 و28): هي "السَّاعَة الأخيرة" (1 يوحنا 2: 18)، سَاعَة الاستيقاظ من النّوم (رومة 13: 11).

 

نستنتج مما سبق أنَّ وراء الأحداث التي تتعاقب، يتّجه كلّ شيء نحو هدف سوف يتمّ بلوغه في زمنه وفي يومه وفي ساعته. إن ساعات هذه المسيرة موقوتة. وكلّها تشهد لقصد الله الذي يقود التَّاريخ كما قال يسوع بعد قيامته "لَيَس لَكم أَن تَعرِفوا الأَزمِنَةَ والأَوقاتَ الَّتي حَدَّدَها الآبُ بِذاتِ سُلطانِه" (أعْمَال الرُّسل 1: 7). يدعونا إنجيل اليوم نصل إلى ساعة يسوع، حيث تكشف لنا وجه الله الرحيم ووجه يسوع ابنه مرفوعًا على الصَّليب ليَجذب إليه النّاسَ أَجمَعين (يوحنا 12: 32).

 

3) سَاعَة الدَّينونة في آخر الأزمنة

 

كان اليهود في كتبهم الرُّؤيويَّة مقتنعين بقرب الأزمنة الأخيرة، أزمنة الاكتمال، فكانوا يقسّمون الزَّمن المتوخى للتدخّل الإلهي إلى أيّام وساعات، حيث تتخذ كل لحظة قيمتها، ومن هنا جاءت السَّاعَة الدَّينونة هي سَاعَة الدَّينونة في الأزمنة الأخيرة الإسكاتولوجيَّة.

 

كان رجاء اليهود متجهًا نحو "سَاعَة" التَّدخل الإلهي الأخير، في آخر الأزمنة كما جاء في نبوءات دانيا ل النّبي "إنِّي أُعلِمُكَ بِما سَيَكونُ في آخِرِ السُّخْط، فإِنَّ المُنتَهَى يَتِمُّ في الميعادِ المَحْدود" (دانيال 8: 17-19)، وقد وصف دانيال النّبي هذه السَاعَة أنَّها سَاعَة حاسمة، سَاعَة الانقضاء التي تشهد دمار العدوّ (دانيال 11: 40 و45،)، وكذلك وصفها سفر رؤيا أنَّها "سَاعَة دمار" (رؤيا 18: 10 و17 و19)، و "سَاعَة الحَصَاد" (رؤيا 14: 15-17). يصحب هذه السَّاعَة محنٌ عامة كما يصرّح صاحب الرُّؤية "فسأَحفَظُكَ أَنا أَيضًا مِن سَاعَة المِحنَةِ الَّتي ستَنقَضُّ على المَعْمورِ كُلِّه لِتَمتَحِنَ أَهلَ الأَرْض" (رؤيا 3: 10) كما يصحبها محن خاصّة "فأَطلِقَ المَلائِكَةُ الأَربَعَةُ المُتَأَهِّبونَ لِلسَاعَة واليَومِ والشَّهرِ والسَّنَة، كَي يَقتُلوا ثُلثَ النّاس" (رؤيا 9: 15).

 

في مثل هذا الإطار، يُعلن يسوع سَاعَة الدَّينونة، سَاعَة الانتصار النِّهائي لابن الإنسان، سَاعَة غير معروفة للبشر "أَمَّا ذلكَ اليومُ وتلكَ السَّاعَة، فما مِن أَحَدٍ يَعلَمُها، لا مَلائكةُ السَّمَواتِ ولا الابنُ إِلاَّ الآبُ وَحْدَه" (متى 24: 36)، أمَّا يوحنا الحبيب فيصفها أنَّها "السَّاعَة الأخيرة" من التَّاريخ (1 يوحنا 2: 18) وهي سَاعَة قريبة (يوحنّا 4: 23). وهكذا السَّاعَة الإسكاتولوجيَّة هي بمثابة سَاعَة الدَّينونة الأخيرة، التي تقع في منعطف تاريخ الخلاص، وهي سَاعَة غير معلومة من أحد كما صرّح يسوع لتلاميذه " كونوا أَنتُم أَيضًا مُستَعِدِّين، ففي السَّاعَةِ الَّتي لا تَتَوَقَّعونَها يأَتي ابنُ الإِنسان" (متى 24 :44)، وهي سَاعَة لا يعلمها يسوع نفسه (متى 24: 50)، ولا يعلمها الملائكة (مرقس 13 :32)، ولا أي إنسان (متى 25 :13)، إنَّما الآب وحده (متى 24 :36).  ويعلق القدّيس أفرام السّرياني "أخفى عنّا ذلك، كي نبقى ساهرين وليفكّر كلُّ واحد منّا في أنّ هذا المجيء سيتمّ خلال حياته، وعلى المؤمن أن يستعدّ لهذه السَّاعَة الخطيرة " (تعليق على الإنجيل أو دياطِسَّرون).

 

أعلنَ يسوع المسيح: "أمّا تلك السَّاعَة، فلا يعرفُها أحدٌ، ولا الابن" (متى24: 36)، وفي مكان آخر: "ما لكم أن تعرفوا الأوقات والأزمنة" (أع1: 7). يأتي ابنُ الإنسان في لحظةٍ لا يدركُها أحدٌ، كي نبقى ساهرين وليفكّر كلُّ واحد منّا في أنّ هذا المجيء سيتمّ خلال حياته. لو تمَّ الكشف عن زمن مجيئه، لكان هذا المجيء باطلًا: ولما رغِبتْ فيه الشُّعوب والعصور التي كانت ستشهدُ على هذا المجيء. قالَ فعلًا إنه سيأتي، لكنّه لم يحدِّد الوقت؛ بهذه الطَّريقة، ستبقى الأجيال والعصور كلّها متشوّقة لمجيئه.


يطلب بولس الرَّسول، ومن ناحية، أن نستعد لهذه السَّاعة بالتَّنبُّه من النّوم أي" لِنَسِرْ سيرةً كَريمةً كما نَسيرُ في وَضَحِ النّهار. لا قَصْفٌ ولا سُكْر، ولا فاحِشَةٌ ولا فُجور، ولا خِصامٌ ولا حَسَد " (رومة 13: 13)، ومن ناحية أخرى، يطلب يسوع منَّا أن نستعد لها بالصَّلاة والعبادة في صداقة حميمة مع الآب بالرُّوح القدس "تَأتي سَاعَة -وقد حَضَرتِ الآن-فيها العِبادُ الصَّادِقون يَعبُدونَ الآبَ بِالرُّوحِ والحَقّ" (يوحنا 4: 23).

 

كشف يسوع عن علامات مجيئه؛ لكننا لا نعرف زمن حدوثها. في ظلّ التَّغيّرات المستمرّة التي نعيشها، فقد ظهرَتْ هذه العلامات ومرَّتْ وما زالت مستمرّة حتّى اليوم. في الواقع، سيكون مجيئه الثَّاني مشابهًا لمجيئه الأوّل: كان الأبرار والأنبياء يريدونه. كانوا يعتقدون أنه سيظهر في زمنهم. حتّى في أيّامنا هذه، فإنّ كلَّ مؤمن بيسوع المسيح يرغبُ في استقباله في زمنه، خاصّة أنّ يسوع المسيح لم يحدِّد بشكل واضح يوم مجيئه. هكذا، لن يتصوّر أحدٌ أنّ يسوع المسيح يخضع لقانون الزَّمن، أو إلى سَاعَة معيّنة، هو الذي يحكم الأعداد والزَّمن.

 

نستنتج مما سبق فكرة الدَّينونة الأخيرة، أثَّرت منذ الأزمنة الأولى، على المسيحيِّين حتى في حياتهم اليوميَّة، فكانت لهم بمثابةِ مقياسٍ لتنظيم حياتهم الحاضرة، ونداءٍ لإتباعِ الضَّمير وفي نفس الوقت كانت لهم رجاءً في عدل الله. ويعلق البابا بِندِكتُس السَّادس عشر "إنّ الإيمان بالدَّينونة الأخيرة هو قبل كلّ شيء فعل رجاء.  إنَّ الإيمانَ بالمسيح لَمْ ينظر أبدًا إلى الوراء فحَسْب، ولا إلى العَلاء فحَسْب، بل هو ينظرُ على الدَّوام إلى الأمامِ أيضًا، إلى سَاعَة العدلِ التي كان الرَّبّ قد سبقَ وأعلنها مرارًا" (الرّسالة العامّة بالرَّجاء مُخَلَّصون (Spe Salvi)، العدد 41).

 

لذلك يتوجب على المؤمن أن يستعدّ لهذه السَّاعَة الخطيرة وإن كانت غير معلومة (متى 25: 13). لذلك يطلب بولس الرَّسول أن نستعد لها بالتَّنبُّه من النّوم أي" لِنَسِرْ سيرةً كَريمةً كما نَسيرُ في وَضَحِ النّهار. لا قَصْفٌ ولا سُكْر، ولا فاحِشَةٌ ولا فُجور، ولا خِصامٌ ولا حَسَد" (رومة 13: 13) من ناحية، ومن ناحية أخرى، يطلب يسوع منَّا ان نستعد لها بالصَّلاة والعبادة في صداقة حميمة مع الآب بالرُّوح القدس "تَأتي سَاعَة -وقد حَضَرتِ الآن-فيها العِبادُ الصَّادِقون يَعبُدونَ الآبَ بِالرُّوحِ والحَقّ" (يوحنا 4: 23). وعلى مثال يسوع، نتوسّل إلى أبيه كيّ يمنحنا نعمة أن نحبّ أنفسنا فنقبل أن نخسرها في نظر العَالَم، لنحفظها للحياة التي لا تنتهي "مَن أَحَبَّ حياتَهُ فقَدَها ومَن رَغِبَ عنها في هذا العَالَم حَفِظَها لِلحَياةِ الأَبَدِيَّة" (يوحنا 12: 25).

 

 

الخلاصة

 

يروي الإنجيل حادثة في الأيام الأخيرة من حياة المسيح، قبل آلامه بفترة وجيزة (يوحنا 12، 20-33). بينما كان يسوع في أورَشَليمَ من أجل عيد الفصح، أعرب بعض اليونانيِّين، الذين أثارهم الفضول حول ما كان يفعله، عن رغبتهم في رؤيته. فاقتربوا من الرَّسول فيليبس وقالوا له: " نُريدُ أَن نَرى يسوع" (يوحنا 12: 21). فذهب فيلِبُّس فأَخبر أَنَدرواس، ومن ثم ذهَبا معًا وأَخبَرا المُعلِّم. في طلب هؤلاء اليونانيِّين، يمكننا أن نرى السُّؤال الذي يوجهه العديد من الرِّجال والنِّساء، في كلّ مكان وزمان، إلى الكنيسة وإلى كلّ واحد منا أيضًا وهو: "نريد أن نرى يسوع".

 

كيف أجاب يسوع لهذا الطَّلب؟ أجاب بطريقة تجعلنا نفكر. قال هكذا: "أَتَتِ السَّاعَة الَّتي فيها يُمَجَّدُ ابنُ الإِنسان. [...] إنَّ حَبَّةَ الحِنطَةِ الَّتي تَقَعُ في الأَرض إِن لَم تَمُتْ تَبقَ وَحدَها. وإذا ماتَت، أَخرَجَت ثَمَرًا كثيرًا" (يوحنا 12: 23-24). لا يبدو أنّ هذه الكلمات تجيب على السُّؤال الذي طرحه هؤلاء اليونانيون. في الواقع، هذه الكلمات تذهب أبعد من ذلك. في الواقع، يكشف يسوع، لكلّ إنسان يريد أن يبحث عنه، أنّه البذرة الخفيَّة الجاهزة لأن تموت لكي تأتي بثمر كثير. كمن يقول: إذا أردتم أن تعرفوني، وإذا أردتم أن تفهموني، انظروا إلى حَبَّة الحِنطَة التي ماتت في الأرض، أي انظروا إلى الصّليب.

 

يدعونا إنجيل اليوم للنظر إلي يسوع المرفوع على الصَّليب، حيث أنَّ في صورة يسوع المصلوب يظهر سرّ موت ابن الله كعمل محبّة سامي، وكمصدر حياة وخلاص للبشريَّة في كلّ الأزمان.  إننا بجراحه قد شفينا. ومن هذا المنطلق لنحاول أن نوجّه أنظارنا نحو الصَّليب وأن ندخل، من خلال جراح يسوع، إلى داخله، إلى عمقه، وصولًا إلى قلبه حتى نجد خلاصنا. وهناك نتعلّم حكمة سرّ المسيح العظيمة، وحكمة الصَّليب العظيمة. ويعلق البابا لاون الكبير " من يريد أن يكرِّمُ لآلامِ الرَّبّ يجبُ أن ينظرَ إلى يسوعَ المصلوبِ بعينِ القلبِ، فيَرَى إنسانيَّتَه في إنسانيَّةِ يسوعَ، وفي جسدِه المتألِّمِ يَرَى جسدَه". فإن ثبتنا في نظرتنا إليه، في نختبر قوة جذبه التي تحمينا من ضعفنا وتوحّدنا معه وفيما بيننا

 

تعلمنا سَاعَة آلام المسيح وموته أن نموت عن ذواتنا من ناحية، وان نستعد للمحن، علمًا أن الصُّعوبات والآلام هي ليست هدفًا بحد ذاتها، إنَّما هي تدخل في مخطط الله الآب محب للبشر. ومن هذا المنطلق لنحاول أن نتتم إرادة الله وأن نعانق صليبنا كل يوم وأن نتحد بيسوع المصلوب والمتروك فنستطيع منذ الآن أن نشاركه حياة القيامة، حيث الظُّلمة تنتهي بالنُّور، والموت بملء الحياة.  وهكذا نثمر ثمارا وفيرة لنا ولإخوتنا البشر.

 

 

دعاء

 

أيها الآب السَّماوي، علمنا أن نبحث عن ابنك الوحيد يسوع المسيح ونراه على الصَّليب هو الذي أسلم نفسه إلى الموت لآجل خلاصنا، فيجذبنا إليه فنكون حَبَّة الحِنطَة التي تموت لتحمل ثمارا كثيرة من أجل إخوتنا. آمين