موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٣٠ مارس / آذار ٢٠٢٤

التَّجَلِّي الرَّبّ كما رَواه مَرْقُس ورِسَالةُ الرَّجَاء

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحَد الثَّاني من الصَّوم: التَّجَلِّي الرَّبّ كما رَواه مَرْقُس ورِسَالةُ الرَّجَاء (مرقس 9: 2-10)

الأحَد الثَّاني من الصَّوم: التَّجَلِّي الرَّبّ كما رَواه مَرْقُس ورِسَالةُ الرَّجَاء (مرقس 9: 2-10)

 

النَّص الإنجيلي (مرقس 9: 2-10)

 

وبعدَ سِتَّةِ أَيَّام مضى يسوعُ بِبُطرُسَ ويعقوبَ ويوحَنَّا فانفَرَدَ بِهِم وَحدَهم على جَبَلٍ عالٍ، وتَجَلَّى بِمَرأَى منهم. 3 فَتَلألأَت ثِيابُه ناصِعَةَ البَياض، حتَّى لَيَعجِزُ أَيُّ قَصَّارٍ في الأَرضِ أَن يأَتِيَ بمِثلِ بَياضِها. 4 وتَراءَى لَهم إِيلِيَّا مع موسى، وكانا يُكَلِّمانِ يسوع. 5 فخاطَبَ بُطرُسُ يسوعَ قال: ((رابَّي، حَسَنٌ أَن نَكونَ ههُنا. فلَو نَصَبْنا ثَلاثَ خِيَمٍ، واحِدَةً لَكَ، وواحِدةً لِموسى، وواحِدَةً لإِيلِيَّا)). 6 فلم يَكُن يَدْري ماذا يَقول، لِما استَولى علَيهِم مِنَ الخَوف. 7 وظَهَرَ غَمَام قد ظَلَّلَهم، وانطَلَقَ صَوتٌ مِنَ الغَمَام يَقول: ((هذا هُوَ ابنِيَ الحَبيب، فلَهُ اسمَعوا)). 8 فأَجالوا الطَّرْفَ فَوْرًا فيما حَولَهم، فلَم يَرَوا معَهم إِلاَّ يسوعَ وَحدَه. 9 وبَينَما هم نازِلونَ مِنَ الجَبَل أَوصاهم أَلاَّ يُخبِروا أَحدًا بِما رَأَوا، إِلاَّ متى قامَ ابنُ الإِنسانِ مِن بَينِ الأَموات.

 

 

المقدمة

في الأحد الثَّاني للصَّوم الأربعيني يُسلط إنجيل مرقس الأضواء على تَجلِّي سيِّدنا يسوع المسيح (9: 2-10) لتهيئة تلاميذه لآلامه ولتَثْبيت إيمانهم أمام عثرة الصَّليب مُبيّنا لهم أنَّ فكرة المسيح المُتألم مطابقة لشِهادة الشَّريعة والأنبياء (لوقا 24: 44-46)؛ وهكذا يقطع الشَّك باليقين حيث أنَّ التَّجَلِّي هو صورة مُسبقة للقِيَامَة والمَجْد، ويُشكّل جزءًا من مسيرة التَّنشئة لفهم الرِّسالة المسيحانيّة الحقيقيّة والمعرفة الباطنيّة العميقة للرَّبِّ. وبهذا تدعونا الكنيسة اليوم لنلقي عنا كلّ خوف ونتسلّح بالرَّجاء والإيمان في مسيرتنا الأرضيّة التي تؤدي بنا إلى مَجْد القِيامة بالرُّغم من الصِّعاب والتَّجارب؛ ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النَّص الإنجيلي وتطبيقاته.

 

 

أولًا: وقائع النَّص الإنجيلي (مرقس 9: 2-10)

 

2 وبعدَ سِتَّةِ أَيَّام مضى يسوعُ بِبُطرُسَ ويعقوبَ ويوحَنَّا فانفَرَدَ بِهِم وَحدَهم على جَبَلٍ عالٍ، وتَجَلَّى بِمَرأَى منهم.

 

 تشير عبارة "بعدَ سِتَّةِ أَيَّام" إلى الوقت الذي تكلّم يسوع لتلاميذه للمرّة الأولى، عن موت الصَّليب الّذي كان سيُعانيه في أورشليم (مرقس 8: 31)، بعد وعده لتلاميذه أن منهم من سوف يرون ابن الإنسان آتيًا في ملكوته، وها هو هنا يُريهم عربون المَجْد الأبدي في الملكوت. تقع الأيام السِّتَّة بين يوم الوعد ويوم التَّجَلِّي. والرَّقم (6) هو عدد ناقص، ويجد كماله في يوم السَّابع (رقم 7) في التَّجَلِّي. وبهذا يُحضرنا الرَّبّ للدخول معه في الكمال.  ويُعلق العلامة أوريجانوس: "إن هذه الأيام السِّتَّة تُشير إلى راحتنا الحقيقيّة في الرَّبّ بعبورنا ستَّة أيام الخليقة ودخولنا إلى اليوم السَّابع أو السَّبت الرُّوحي".  وعبَّر لوقا الإنجيلي عن هذه المُدة بقوله: " بِنَحوِ ثَمانِيَةِ أَيَّام "(لوقا 9: 28)، إذ حَسَب لوقا اليوم الذي خاطب يسوع تلاميذه فيه هو اليوم الأول من تلك المدةَّ ويوم تجليه الثَّامن، في حين مرقس حسَب السَّتة الأيام بين هذين اليومين. وهناك ترابط قوي بين التَّجَلِّي وألام الرَّبّ التي تنتظره. إنَّها دعوة من الرَّبّ لكيلا نخشى أوقات المُعاناة والمَوت، وأن نُبقي سرَّ الصَّليب مُتحدًا مع سرِّ المَجْد. أمَّا عبارة "مضى" في الأصل اليوناني   ἀναφέρει (معناها صعد) فتشير إلى نبوءة أشعيا "هَلُمُّوا نَصعَدْ إلى جَبَلِ الرَّبّ إلى بَيتِ إِلهِ يَعْقوب وهو يُعَلِّمُنا طُرُقَه فنَسيرُ في سُبُلِه" (أشعيا 2: 3). ويُعلق البابا فرنسيس " يتطلب الصُّعود جهدًا ولكنَّه السَّبيل الوحيد لرؤية كلَّ شيء بشكل أفضل والتَّفرّغ لله وللآخرين "(عظة 263/2021). أمَّا عبارة "بُطرُسَ ويعقوبَ ويوحَنَّا" فتشير إلى التَّلاميذ الثَّلاثة المُقرّبين جدًا إلى يسوع. وهذه هي المرَّة الثَّانية التي يأخذ فيها الرَّبّ هؤلاء التَّلاميذ الثَّلاثة ليكونوا في شركة معه وشُهود عَيَان؛ إذ دعاهم للمرَّة الأولى لمشاهدة إحياء ابنة يائيرس (مرقس5: 37)، والمرَّة الثَّالثة ليشاهدوه في بُستان الزَّيتون في الجسمانيّة (مرقس14: 33). وهناك تقارب بين هذه المشاهد الثَّلاثة: أحياء ابنة يائيرس يدلُّ على سلطان يسوع على الموت، والتَّجَلِّي هو صورة مُسبقة لمَجْد القِيَامَة، والنِّزاع يُظهر كيف يسير يسوع نحو مَجْده. والعدد ثلاثة كان كافيًا لإثبات الشِّهادة في الشَّريعة الموسويّة. ويُعلق القديس أمبروسيوس: "اختيار الثَّلاثة هو انفتاح لباب مراحم الله والتَّمتع بأمجاده للجنس البشري دون تمييز بين يهودي وأممي، إذ يمثل العدد الثَّلاثة أبناء نوح الثَّلاثة الذين جاء الجنس البشري كلُّه من نسْلهم". لنصعد نحن أيضًا إلى الجَبَل مع يسوع للصَّلاة. ويعلق البابا فرنسيس: "كما دعا يسوع التَّلاميذ الثَّلاثة، فإنَّه يدعو اليوم أيضًا البعض ليكونوا قريبين منه ليشهدوا له. أن الشِّهادة هي هبة ٌ لم نستحقها ونحن نشعر بأنفسنا غير ملائمين، ولكن لا يمكننا التَّراجع بحجة عدم قدرتنا"(عظة 8/3/2020). أمَّا عبارة "وَحدَهم" فتشير إلى خلوة "بُطرُسَ ويعقوبَ ويوحَنَّا" التي فيها أعطاهم الرُّوح القُدُس أن يروا صورة المسيح في مَجْده؛ وأمَّا التَّلاميذ التِّسعة الآخرون فتركهم يسوع مع الجمهور عند أسفل الجَبَل؛ لا يزال الرَّبُّ يدعونا على الجبل ليظهر نفسه لنا كي نختبر حضوره المميز. وأمَّا عبارة "على جَبَلٍ عالٍ" فتشير إلى جَبَلٍ غير مُحدَّد، وله دلالة لاهوتيّة أكثر منها جغرافيّة، وهو رمز القُرب من الله ومكان للوحي، تحدث عنه أشعيا "أَنَّ جَبَلَ بَيتِ الرَّبّ يُوَطَّدُ في رَأسِ الجِبالِ وَيرتَفعُ فَوقَ التِّلال. وتَجْري إِلَيه جَميعُ الأُمَم (أشعيا 2: 2-3)؛ فالجَبَل يرتبط بالاقتراب إلى الله والاستعداد لسِماع أقواله، حيث ظهر الله لكل من موسى (خروج 24: 12-18)، وإيليا (1ملوك 19: 8-18) على جَبَل. لانَّ الجَبَل يُعتبر ملتقى الرَّبّ بالإنسان بحسب لاهوت إنجيل كل من مرقس ومتى أي من الأعلى (الجَبَل) إلى الأسفل (البشر)؛ أمَّا القديس بُطْرُس فيصف الجَبَل بقوله "الجَبَل المقدس" (2 بُطْرُس 1: 18)؛ فيسوع بعد قيامته، دلّ التَّلاميذ، كمكان لقائه، على جَبَل في الجليل، ويُعلق البابا فرنسيس: "يبدو أن الجَبَل هو المكان حيث يحب الله أن يلتقي البشريّة بأسرها. إنَّه مكان اللقاء معنا" (عظة 6/3/2021). وأشار تقليد قديم من القرن الثَّالث الميلادي إلى جَبَل طابور في الجليل كجَبَل التَّجَلِّي". وجَبَل طابور أو تابور لفظه يونانيّة ταβύριον تعني المرتفع الذي ورد ذكره عدة مرات في أسفار العهد القديم. ويعتقد بعض الباحثين أن طابور كلمة من اللغة أوغاريت في رأس شمرا بسوريا، وهي تعني النُّور أو البهاء، إذ كانت تقام عبادة طابور، إله النُّور. ويقع جَبَل طابور في أرض الجليل في الجهة الشِّماليّة الشَّرقيّة من مرج بن عامر على بعد 8 كم نحو الجنوب الشَّرقي من النَّاصرة، ويبلغ ارتفاعه نحو 602 م عن سهل مرج بن عامر ونحو 570 مترًا فوق سطح البحر الأبيض المتوسط، وهناك طريق مُعبَّدة طولها 4 كيلومترات ولها ستَّة عَشْرَ مُنعطفٍ تصل إلى قمة الجَبَل. والجَبَل منعزلٌ عن بقيّة جبال الجليل حيث أصبح في العهد القديم كنقطة استدلال (ارميا 46: 18). وفي عام 1924 جسّد المهندس بارلوتسي حادثة التَّجَلِّي من خلال بناء كنيسة ضخمة على آثار الكنيسة الصَّليبيّة في قمة الجَبَل؛ وأمَّا المسيحيون فيطلقون عليه أسم "جَبَل التَّجَلِّي" نسبة لتجلي المسيح عليه؛ أمَّا السُّكان العرب المَحلِّيون فيطلقون على الجَبَل اسم الطُّور. الطُّور كلمة آراميّة تعني الجَبَل، ويرى باحثون آخرون أنَّ التَّجَلِّي حدث على جَبَل حرمون أو جَبَل الشَّيخ الذي يعلو قمته المغطاة بالثَّلج نحو 2743 م، وهو يبعد 19 كم شمال شرقي قيصريّة فيلبس (بنياس)، ويُمكن رؤيته من أجزاء عديدة في فلسطين، وهو يـتألق مثل الذَّهب في ضوء الشَّمس. أمَّا عبارة " عالٍ " فتشير للسمو، سمو قدر المسيح الذي سيرونه الآن مُتجليًا. ويعلق العلاّمة أوريجانوس: إن السيّد أعلن لاهوته للذين صعدوا على الجبل العالي. إنه يسأل من يشتاق أن يتعرّف على حقيقة السيّد ويتجلّى قدامه أن يرتفع مع يسوع خلال الأناجيل المقدّسة على جبل الحكمة خلال العمل والقول".  أمَّا فعل "تَجَلَّى" في الأصل اليوناني   μετεμορφώθη (معناها تحوّل، تغيّر) فيشير إلى التَّحوُّل الرُّوحي (2 قورنتس3: 18)، ولكن هذا التَّحوّل له أثر منظور في وجه يسوع (متى 17: 2، ولوقا 9: 29)، وفي ثِيابه (متى 17: 2، مرقس 9: 3، لوقا 9: 29). نجد في هذه العبارة إشارة إلى موسى لدى لقائه بالله على جَبَل سيناء "لم يَكُنْ يَعلَمُ أَنَّ بَشَرَةَ وَجهِه قد صارَت مُشِعَّةً مِن مُخاطَبَةِ الرَّبّ لَه" (خروج 34: 29) علمًا أنَّ يسوع هو موسى الجديد. ويُعلق القديس يوحَنَّا الذَّهبي الفم " إن ملامح السَّيد المسيح عند تجلِّيه بقيت، كما هي لكن أُعلن بهاء مَجْده لقد بقي السَّيد المسيح بجسده، لكنَّه حمل طبيعة جديدة مملوءة بهاءً ومَجْداّ"، ولا يُدرك معنى هذا المشهد العجيب إلاّ في ضوء قِيَامَة المسيح المجيدة، لأنَّ التَّجَلِّي هو استباقٌ للقِيَامَة في نظر مرقس الإنجيلي.  اصطحب الرَّبّ يسوع بُطْرُس، يعقوب ويوحَنَّا إلى الجَبَل وأراهم، قبل قيامته، مَجْد ألوهيّته. هكذا، حين سيقوم من بين الأموات في مَجْد طبيعته الإلهيّة، سيعرفون أنّه لم يحصل على هذا المَجْد كمكافأة عن آلامه، بل إنّه يملك هذا المَجْد، كما جاء في صلاة يسوع: " فمَجْدني الآنَ عِندَكَ يا أَبتِ بِما كانَ لي مِنَ المَجْد عِندَكَ قَبلَ أَن يَكونَ العَالَم" (يوحَنَّا 17: 5). بالتَّجلي أشرق النُّور على وجه يسوع فأظهر نفسه حتى نتمكن من معرفته بشكل أفضل وأعمق على مثال رسله الثلاثة المُقرَّبين وندخل معه في أحداث تاريخ الخلاص.

 

3 فَتَلألأَت ثِيابُه ناصِعَةَ البَياض، حتَّى لَيَعجِزُ أَيُّ قَصَّارٍ في الأَرضِ أَن يأَتِيَ بمِثلِ بَياضِها.

 

 تشير عبارة " فَتَلألأَت ثِيابُه " إلى تحوّل الثِّياب، وترمز الثِّياب المتلألئة إلى المَجْد السَّماوي المُنعم به الله على المُختارين ِالذين يصيرون كالملائكة، كما ورد في إنجيل متى "كانَ لِباسُ الملاك أَبيضَ كالثَّلْج"(متى 28: 3)؛ وأمَّا إنجيل متى ولوقا فيذكرا أنَّ التَّحوّل أثَّر في وجهه، وتغيّر في ثيابه. ويُعلق القديس أوغسطينوس: "أن يسوع سطع كالشَّمس، لأنّه النُّور الذي يُضيء كلَّ إنسان آتٍ إلى العَالَم". وعلى صعيد الحواس، إن نور الشَّمس هو الأقوى في الطَّبيعة، ولكن على صعيد الرُّوح، فإن التَّلاميذ شاهدوا خلال فترة وجيزة بهاء أقوى من نور الشَّمس، وهو بهاء مَجْد يسوع الإلهي الذي يُنير كل تاريخ الخلاص. ويُشدِّد العلامة أوريجانوس على ظهور الطَّبيعة الإلهيّة في يسوع، وهي لا تتخلّى عن إنسانيتها. فهو يُشرقُ عليهم، ليسَ فقط كالشَّمسِ، بل مُثَبَّتًا أَنَّه شَمس البِرّ (ملاخي 3: 20).  أمَّا عبارة " ناصِعَةَ البَياض" فتشير إلى اللَّون السَّماوي للمسيح الذي لا يظهر خلال حياته على الأرض إلاّ في لحظة مُميّزة، عند التَّجَلِّي، حين صارَت ثِيابه بِيضاء. ويدلُّ الثَّوب الأبيض على علامة المَجْد السَّماوي الذي سيظهر يوم مجيء ابن الإنسان في "غَمَام السَّماء".  فاللون الأبيض يُشير إلى لون القِيَامَة والظَّفر، كما تؤكد المريمات، مريم المَجْدليّة ومريم أمُّ يعقوب وسالومة لدى زيارتهن لقبر يسوع "لمَّا دَخَلْنَ القَبْرَ فأَبصَرْنَ شَابًّا جَالِسًا عنِ اليَمينِ عَلَيه حُلَّةٌ بَيضاء فَارتَعَبنَ"(مرقس 16: 5). فهناك ربط بين ثِياب يسوع ناصِعَةَ البَياض في التّجّلي وظهوره بعد القيامة " عَلَيه حُلَّةٌ بَيضاء".  لكن العلاّمة مكسيموس يقول: "الثِّياب التي أضحت بيضاء ترمز إلى كلمات الكتاب المقدس التي كادت تُصبح واضحة وشفَّافة ونيِّرة" (PG 91, 1128). أمَّا عبارة "أَيُّ قَصَّارٍ في الأَرضِ أَن يأَتِيَ بمِثلِ بَياضِها" فتشير إلى بياض لا يُضاهيه شيء. لم نعد أمام لون طبيعي. إنَّه يمتزج مع نقاوة نور الله. إنَّه الصُّورة الكاملة للسَّعادة. ويُعلق البابا فرنسيس: " الصَّلاة تبدّل الشَّخص من الدَّاخل وهي قادرة على إنارة الآخرين والعَالَم المحيط بنا" (عظة 17/4/2019).

 

4 وتَراءَى لَهم إِيلِيَّا مع موسى، وكانا يُكَلِّمانِ يسوع

 

تشير عبارة “تَراءَى" إلى ظهور إيليا وموسى بهيئة جسميّة، كما تراءى يسوع أيضًا ليس بهيئة روحيّة. ويُعلق البابا فرنسيس: "إن ظهور موسى وإيليا في مشهد التَّجَلِّي يبيِّن لنا أنَّ يسوع المسيح ليس هو موسى ولا إيليا ولا واحد من الأنبياء، كما كان يظنُّه البعض، بل هو ربُّ موسى والأنبياء، ولذلك ظهر إيليا الحَي وموسى من عالم الأموات ليؤكِّدا لنا أنَّ يسوع المسيح هو إله الأحياء والأموات".  ويُعلق القديس يوحَنَّا الذَّهبي الفم "مثّل موسى أيضًا جماعة القدّيسين الذين رقدوا في الماضي (تثنية الاشتراع 34: 5) كما يمثّل إيليّا جماعة الأحياء (2 ملوك 2: 11)، لأنّ الرَّبّ يسوع المُتجلّي هو ربّ الأحياء والأموات".  وفي هذا الظُّهور جمع تجلي الرَّبّ في لحظة واحدة التَّاريخ كله ليتأمله جميعُ النَّاس. أمَّا عبارة "إِيلِيَّا مع موسى" فتشير إلى أعظم شاهدين في تاريخ الخلاص لكشف الله عن نفسه. فهما شاهدان للعهد أكثر منهما مُمثِّلين، الواحد للأنبياء والآخر للشَّريعة. ويعلق البابا القديس لاون الكبير: " فقد ظهرَ موسى وإيليّا، أي الشَّريعةُ والأنبياء، يكلِّمان الرَّبّ، فتمَّ حقًّا بحضورِ هؤلاء الرِّجالِ الخمسةِ ما قيلَ في الإنجيل: أن " يُحكَمَ فِي كُلِّ قَضِيَّةٍ بِنَاءً عَلَى كَلامِ شَاهِدَيْنِ أو ثَلاثَة"(متى 18: 16)" (موعظة القديس لاون الكبير البابا في التَّجَلِّي). ويُمثل موسى الشَّريعة وتنبأ عن مجي نبي عظيم (تثنية الاشتراع 18: 15-19)، وإيليا يًمثِّل الأنبياء الذين تنبأوا عن مجي المسيح (ملاخي 4: 5-6). حيث أنَّ" غايَةُ الشَّريعةِ هي المسيح (رومة 10: 4) وهو أيضًا مركز النَّبوءات (رؤيا 10:19)؛ فكان ظهورهما مع يسوع ليس تأييدًا لرسالته السَّماويّة بصفته المسيح لإتمام شريعة الله وأقوال أنبياء الله ووعودهم فحسب إنَّما أيضًا تأكيدًا أنَّ المسيح هو ابن الله. ويُعلق القديس يوحَنَّا الذَّهبي الفم:" أراد أن يظهر موسى النَّبي وإيليا معه أمام التَّلاميذ ليُدركوا الفارق بينه وبين خدَّامه، وليُعلن أيضًا افتراء المُتَّهمين له كناقض للنَّاموس ومُجدِّف ينتحل مَجْد الآب".  والجدير بالذِّكر أنَّ كل من موسى وإيليا عادا إلى الله بطريقة غامضة (تثنية 34: 5-6)؛ إن إيليا نقل بالجسد إلى السَّماء (2 ملوك 2/11)؛ كما قد عُرف أيضا في الدَّين اليهودي بارتفاع موسى إلى السَّماء على مثال إيليا، وهذا ما نجده ضمنًا في رسالة يهوذا حيث أنَّ جسد موسى كان قد أقيم من الأموات (رسالة يهودا 9). ويتمتَّع كلٌ من إيليا وموسى بالمَجْد، لأنَّهما أُشْرِكا في عمل الله (2قورنتس 3: 7-11)؛ ويقول لوقا الإنجيلي أنَّهما " قد تَراءَيا في المَجْد "(لوقا 9: 31)؛ وهذا ما سيحدث لكل الكنيسة في الأبديّة أنها ستكون في المَجْد، لأنه سينعكس عليها مَجْد المسيح الذي ستراه مُمَجْدا. أمَّا يسوع فإنَّه يتمتَّع بهذا المَجْد في هذه الأرض قبل قيامته (لوقا 9: 32). وسيهب "المَجْد" لجميع الذين سيُقبلون في العَالَم الآتي (1 تسالونيقي 2: 12). وفي المَجْد سننعم كلنا بهذه العُشرة الجميلة مع المسيح، هو في مَجْده ونحن معه في المَجْد في فرح أبدي. فالهنا "ما كانَ إِلهَ أَموات، بل إِلهُ أَحياء" (متى 22: 32). ويُعلق القديس يوحَنَّا الذَّهبي الفم "جسّد موسى وإيليّا، إلى جانب المُخلّص، الشَّريعة والأنبياء. ذاك الذي أعلن عنه الشَّريعة والأنبياء، هو في الحقيقة، المسيح، مُوزّع الحياة"؛ أمَّا عبارة "كانا يُكَلِّمانِ يسوع" فتشير إلى كلام موسى وإيليا على رَحيلِ يسوع الَّذي سَيتِمُّ في أُورَشَليم" (لوقا 9: 31)، "فخَرَجَ حامِلًا صَليبَه إلى المَكانِ الَّذي يُقالُ لَه مَكانَ الجُمجُمة، ويقالُ لهُ بِالعِبرِيَّةِ جُلْجُثَة "(يوحَنَّا 19: 17) لإتمام الفداء. ولفظة "رَحيلِه " في الأصل اليوناني ἔξοδος  (معناها خروجه) توحي بعمل موسى الذي قاد بني إسرائيل من البرِّيّة إلى أرض المِيعاد، وتُحدِّد رسالة يسوع لدى شعبه؛ فيسوع هو موسى الجديد الذي يُحقق "الخروج الجديد" بموته وقيامته وصعوده.  وهنا يأتي إله الحياة الله الآب ليمنحنا أداة جديدة، لمُحاربة الشَّر الّذي يتعارض مع الحياة البشرية الكاملة. فعرف موسى وإيليا هذه الطريقة المختلفة للخلاص من خلال الصليب، إذ اعتقد موسى وإيليا أن الخلاص يتمُّ بالتَّغلب على الشَّرِّ بالقُوَّة: فقتل موسى مصريًا كان يضايق يهوديًا (خروج 2: 12)؛ وقتل إيليا جميع أنبياء البعل على جبل الكرمل (ملوك الأول 18، 20 – 40). تتجلى حياتنا البشريّة على الالتزام بإرادة الله الآب. لذلك اليوم نحن مدعوُّون لقبول الخلاص ببذل حياتنا من أجل الآخرين، كما بذل يسوع نفسه من أجلنا. ويعلق البابا القديس لاون الكبير: "أيُّ كلامٍ أثبتَ وأقوى من الكلامِ الذي يتَّفقُ فيه العهدُ القديمُ والجديد، والذي فيه تؤيِّدُ العهودُ القديمةُ تعليمَ الإنجيل" (موعظة القديس لاون الكبير البابا في التَّجَلِّي). وصحَّ ما قالَه يوحَنَّا الإنجيلي "الشَّرِيعَةُ أُعطِيَتْ عَن يَدِ مُوسَى، وَأمَّا النِّعمَةُ وَالحَقُّ فَقَد أتَيَا عَن يَدِ يَسُوعَ المَسِيحِ" (يوحَنَّا 1: 17).

 

5 فخاطَبَ بُطرُسُ يسوعَ قال: رابَّي، حَسَنٌ أَن نَكونَ ههُنا. فلَو نَصَبْنا ثَلاثَ خِيَمٍ، واحِدَةً لَكَ، وواحِدةً لِموسى، وواحِدَةً لإِيلِيَّا.

 

 تشير كلمة " بُطرُسُ " في الأصل اليوناني Πέτρος (معناها صخرة) إلى واحد من الاثني عشرة رسولاً الذي كان يُسمَّى أولًا سمعان (متى 16: 17). وقد دعاه يسوع ثلاث مرات كتلميذ ثم كرفيق ملازمًا إيَّاه (متى 14: 19)، وأخيرًا كرسول (متى 10: 2). أمَّا لفظة "رابَّي" بالعبريّة רַבִּי فهي مشتقَّة من " ראב " أي العظيم، وهو لقبٌ توقيري، وقد ترجمه متى ولوقا بكلمة " الرَّبّ"، في حين يوحَنَّا ترجمه بكلمة "مُعلم" (يوحَنَّا 1: 38)؛ وفي أواخر القرن الأول، فقدت هذه الكلمة معنى صيغة المُنادى ودلّت على علماء الشَّريعة (مرقس 11: 21). أمَّا عبارة " حَسَنٌ أَن نَكونَ ههُنا" فهي جملة مُلتبسة: فهل أحسَّ بُطْرُس بالفرح وأراد أن تمتَّد حالة السَّعادة إلى ما لا نهاية، أم أحسن ليسوع وإيليا وموسى الذين يريد بُطْرُس أن يقدّم لهم مساعدة؟ يدل كلامه على فرحته واهتمامه بخدمة الضيوف الثَّلاثة شأن إبراهيم (التَّكوين 18). وعلى كل حال، يُسيء بُطْرُس فهم الموقف ويحلم بتمديده، كما أساء فهم يسوع لدى تكلمه عن آلامه. وهنا يظهر أن فكر بُطْرُس كان متَّجهًا نحو الأشياء الزَّمنيّة كما تبيَّن من كلامه ليسوع " فَانفَرَدَ بِه بُطْرُس وجَعلَ يُعاتِبُه فيَقول: ((حاشَ لَكَ يا رَبّ! لن يُصيبَكَ هذا! " (متى 16: 22). أراد بُطْرُس أن يدوم المشهد ويبقى في ذلك المكان. أمَّا عبارة "فلَو نَصَبْنا ثَلاثَ خِيَمٍ" فتشير إلى عيد الأكواخ أي عيد المظال، وهو عيد جمع الغِلّة عند نهاية السَّنة (خروج 23: 16). وفي هذا العيد يعيش اليهود ثمانية أيامٍ في خيام من أغصان فيتذكرون مسيرة الشَّعب في الصَّحراء بانتظار الدُّخول إلى أرض الميعاد (خروج 23: 16)، ولعلَّ كان بُطْرُس يُفكر في هذا العيد، حيث كانت تُنصب الخِيام للاحتفال بتذكار الخروج وخلاص الله لبني إسرائيل من العبوديّة في مصر. وفيه يتذكَّرون حضور الله وسط شعبه في برِّيّة سيناء. والاحتفال بعيد المظال مع موسى وإيليا علامة مجيء ملكوت الله القريب، وهناك تقليد يهودي يجعل المسكن السَّماوي في رمز "المظال "الخيام الأبديّة "، ويُعلق القديس أوغسطينوس "إننا نملك مسكنًا واحدًا هو المسيح؛ فهو "كلمة الله، كلمة الله في الشَّريعة، كلمة الله في الأنبياء" (PL 38, 491). وعندما نضج بُطْرُس في فهمه وإدراكه، كتب بإرشاد الرُّوح القُدُس عن يسوع أنه "حَجر لِلزَّاويَةِ مُختارًا كريمًا" (1 بُطْرُس 2: 6). كان تصرف بُطْرُس تصرفًا واقعيًا من صميم الحياة والذي يعطي دليلا قويًا على تاريخيّة القصة بعيدة عن رواية أسطورية أو رمزيّة أو إنَّها جلسة من جلسات مستحضري الأرواح كما يدّعي بعض المُفسّرين.

 

6 فلم يَكُن يَدْري ماذا يَقول، لِما استَولى علَيهِم مِنَ الخَوف.

 

تشير عبارة " الخَوف " إلى عاطفة الإنسان تجاه الحضور الإلهي المتسامي الذي يفوق إدراكه. وعبّر صاحب الرِّسالة إلى العبرانيين عن هذا الشَّعور الدَّاخلي بسموّ مقام يسوع عندما قارن بين مَجْد يسوع ومَجْد موسى "فإِنَّ المَجْدَ الَّذي كانَ أَهْلًا لَيسوع يَفوقُ مَجدَ موسى بِمِقْدارِ ما لِباني البَيتِ مِن فَضْلٍ على البَيت" (العبرانيّين 3: 3)؛ فنحن أمام خوف مقدس يُمسك الإنسان الذي يزوره الله، فينزعه من الأوضاع العاديّة للحياة.

 

7 وظَهَرَ غَمَام قد ظَلَّلَهم، وانطَلَقَ صَوتٌ مِنَ الغَمَام يَقول: هذا هُوَ ابنِيَ الحَبيب، فلَهُ اسمَعوا.

 

تشير عبارة "غَمَام " إلى علامة حضور الله حضورًا حِسِّيًّا لتجلِّيه تعالى (2 ملوك 2: 7-8)، كما كان الأمر لدى ظهوره في عمودُ الغَمَام الذي كان يسير أمَام العبرانيّين الهاربين من مصر بقيادة موسى النَّبي في أيام فرعون الظَّالم (الخروج 13: 13) وظهورُهُ لموسى على جَبَل سيناء وهو يتلقّى الوصايا العشر (خروج 20: 1-17)، وعلى خيمة الموعد (خروج 40: 34)، وعلى الهيكل يوم تدشينه في زمن سليمان (1ملوك 8: 10). الغَمَام تدلُّ على الله الخَفيِّ. وهو لا يشعُّ عادة ولا يُرى. إنَّه كالشَّمس خلف الغيوم. فالغَمَام علامة على مجيء الرَّبّ وحضوره. وعندما انتهت خدمة يسوع على الأرض صعد على الغَمَام، كما جاء في أعمال الرُّسل " رُفِعَ بِمَرأىً مِنهُم، ثُمَّ حَجَبَه غَمَام عن أَبصارِهِم" (أعمال 1: 9) وسيأتي ثانيّة على غَمَام المَجْد " تَرى ابنَ الإِنسانِ آتِيًا على غَمَام السَّماء في تَمامِ العِزَّةِ والجَلال " (متى 24: 30).  أمَّا عبارة " ظَلَّلَهم" فتشير إلى مجيء الله وحضوره الإلهي، كما اختبره الشَّعب خلال مسيرة الخروج (خروج 40: 34–35). وكذلك اختبرته سيدتنا مريم العذراء بحسب قول الملاك جِبرائيل لها " وقُدرَةَ العَلِيِّ تُظَلِّلَكِ (لوقا 1: 35). وما يحصل على جَبَل التَّجَلِّي هو امتدادٌ لما حصل على جَبَل سيناء. ولكن الجديد هو أنَّ الله صار منظورًا في شخص يسوع. وقد حقّق الغَمَام الذي ظلّل يسوع ورسله.  حلم اليهود أنّه عندما سيأتي المسيح، فسوف تملأ غَمَامة حضور الرَّبّ الهيكل مرّة أخرى، كما جاء في الشَّريعة "ها أَنا آتٍ إِلَيكَ في كَثافةِ الغَمَام لِكَي يَسمَعَ الشَّعبُ مُخاطَبتي لَكَ وُيؤمِنَ بِكَ لِلأَبَد " (خروج 19: 9). ويُعلق القديس يوحَنَّا الذَّهبي الفم: "إنّ الغَمَامة التي ظلّلت التَّلاميذ لم تكن مليئة بالظَّلام بل بالنُّور. في الواقع، إنّ "السِّرِّ الَّذي ظَلَّ مًكْتومًا طَوالَ الدُّهَورِ والأَجيال وكُشِفَ اليَومَ لِقِدِّيسيه" (قولسي 1: 26)"؛ أمَّا عبارة " انطَلَقَ صَوتٌ مِنَ الغَمَام " فيشير إلى الصَّوت السَّماوي الذي يُوحي بأن يسوع هو الابن (مزمور2: 7)، والعبد المتألم (أشعيا 42: 1)، والنَّبي الذي من واجب الشَّعب كلِّه أن يسمع له (أعمال الرُّسل 3: 22). إن هذا الصَّوت يُحدِّثنا عن هويّة يسوع، ابن الله الحبيب، له قوة الله وسلطانه، وهو مرجعنا الأخير. وكما أعطى صوت الله من السَّحابة على جَبَل سيناء السَّلطان لشريعته (خروج 19: 9)، هكذا صوت الله على جَبَل التَّجَلِّي أضفى سلطانًا على أقوال يسوع، والصَّوت هنا مُوجّه إلى التَّلاميذ، ومن خلالهم إلى "الجموع". أمَّا عبارة "هذا هُوَ ابنِيَ الحَبيب، فلَهُ اسمَعوا " فتشير إلى ثلاث نبوءات من العهد القديم: الأولى، تخصُّ المسيح وبنوته الإلهيّة "قالَ لي: أَنتَ اْبني وأَنا اليَومَ وَلَدتُكَ"(مزمور 2: 7)، والثانية تتعلق بعبد الله المتألم واختياره "هوَذا عَبدِيَ الَّذي أَعضُدُه مُخْتارِيَ الَّذي رَضِيَت عنه نَفْسي قد جَعَلتُ روحي علَيه فهو يُبْدي الحَقَّ لِلأُمَم "(أشعيا 42: 1)، والثَّالثة يعلن فيها عن موسى جديد " يُقيمُ لَكَ الرَّبّ إِلهُكَ نَبِيًّا مِثْلي مِن وَسْطِكَ، مِن إِخوَتكَ، فلَه تَسْمَعون "(تثنيّة الاشتراع 18: 15). وهذه التَّوصية تؤكِّد تعليم يسوع عن آلام ابن الإنسان وقيامته. ويُعلق البابا فرنسيس: " لنصغي بانتباه إلى المسيح كي نسمح للربّ بالتَّدّخلِ في أمورِنا وتبديلِ مسارِ حياتِنا بحسبِ مشيئتِه"(عظة 7/8/2017). أمَّا عبارة "هذا هُوَ ابنِيَ الحَبيب" فتشير إلى البنوَّة الإلهيّة، وقد اقتبسه مرقس الإنجيلي من النَّبي أشعيا (42: 1). وقد ورد هذا اللقب في المؤلفات الرُّؤيويّة اليهوديّة. حيث أنه لدى اعتماد يسوع (متى 3: 17) أشار الصَّوت السَّماوي إلى يسوع أنَّه الابن (مزمور 2: 7) والعبد المتألم (أشعيا 42: 1). أمَّا في التَّجَلِّي، فإنه يشير، قبل كل شيء، إلى أن يسوع هو النَّبي الذي يجب على الشَّعب كله أن يسمع له (أعمال الرُّسل 3: 22) والذي يستند إلى قول النَّبي موسى "يُقيمُ لَكَ الرَّبّ إِلهُكَ نَبِيًّا مِثْلي مِن وَسْطِكَ، مِن إِخوَتكَ، فلَه تَسْمَعون"(تثنيّة الاشتراع 18: 15). ويشهد موسى بظهوره يوم التَّجَلِّي أن يسوع هو النَّبي الذي تنبأ عنه، وإيليا بالنِّيابة عن الأنبياء بظهوره الآن يُقدَّم المسيح على أنه هو محور النَّبوءات، وها هو الآب يشهد بحقيقة المسيح أنه ابنه الحبيب. وعبارة "الابن الحَبيب" تخلق رابطًا هامًا مع محرقة إبراهيم حيث يقول الرَّبُّ له: "خُذِ اَبنَكَ وَحيدَكَ الَّذي تُحِبُّه، إِسحق، وآمضِ إِلى أَرضِ المورِيِّا وأَصعِدْه هُناكَ مُحرَقَةً على أَحَدِ الجِبالِ الَّذي أريكَ" (التكوني 22: 2). فالله لمّ يشفق على ابنه يسوع بل منحه عطيَّة حياة لنا جميعًا. وعليه جاءت كلمة الآب لتؤكِّد صحة تعاليم يسوع خاصة حول تألمه وموته وقيامته. إنَّه الطَّريق الجديد للحريّة الجديدة، للفصح الجديد والنِّهائي.  أمَّا عبارة " لَهُ اسمَعوا" فتشير إلى توصية الآب للتَّلاميذ، للسَّمع والطَّاعة والبقاء مع الرَّبّ.  وهذه التَّوصية هي النُّبوءة الّتي وعدت إسرائيل بموسى جديد (تثنية 18: 15). استمعوا إليه وحده (مرقس ٩: ٨)، هو الرَّبّ والطَّريق الجديد للحريّة الجديدة، للفصح الجديد. يؤكد الآب السَّماوي مهمة يسوع التي بدأت بالمعموديّة في نهر الأردنِّ، ويدعو التَّلاميذ إلى الإصغاء إليه واتِّباعه. وهذه أيضًا كانت وصيّة العذراء يوم عرس قانا الجليل "مَهما قالَ لَكم فافعَلوه" (يوحَنَّا 2: 5). لان سماع ليسوع هو، في الواقع، السِّماع للكلمة الذي صار جَسدًا، والذي يرى فيه المؤمن مَجْد الله (يوحَنَّا1: 14). وفي هذا الإطار يبدو التَّجَلِّي كشفًا مسبقًا لمَجْد ابن الإنسان. في العماد كان الصَّوت مُوجّهًا إلى يسوع وحده، أمَّا في التَّجَلِّي فإنَّه مُوجّه إلى التَّلاميذ، وعلى التَّلاميذ أن يستمعوا ليسوع، وليس لأفكارهم ورغباتهم الخاصة. إن القوَّة اللازمة لإتِّباع يسوع المسيح تنبع من ثقتنا كونه ابن الله. ومن خلال التَّلاميذ يتوجّه كلام يسوع إلى الجموع. ويظهر في حادثة التَّجَلِّي ظهورًا جديدًا للثَّالوث الأقدس: فالآب بالصَّوت والابن هو المُتجلِّي والرُّوح القُدُس في الغَمَام. وهكذا فإن الآب يكشف لنا عن الابن بإقامته من بين الأموات، وبالمُقابل يكشف الابن عن الآب بثقته وطاعته الكاملة له، كما كشف إبراهيم عن طاعته في تقديم ابنه إسحاق لله (تكوين 22: 1-18). هذه هي دعوة كلّ مؤمن إلى الاستماع إلى كلمة الله وطاعتها على مثال إبراهيم، أب المؤمنين.

 

8 فأَجالوا الطَّرْفَ فَوْرًا فيما حَولَهم، فلَم يَرَوا معَهم إِلاَّ يسوعَ وَحدَه.

 

تشير عبارة "يسوعَ وَحدَه" إلى الوِحْدة بالمسيح حيث أنَّ هناك لقاء ممثلي العهد القديم موسى وإيليا ومع ممثِّلي العهد الجديد بُطْرُس ويعقوب ويوحَنَّا، فالكل صار واحدًا فيه " فقَد جَعَلَ مِنَ الجَماعتَينِ جَماعةً واحِدة " (أفسس 2: 14)، كما يعلق القديس أمبروسيوس " بعد أن كانوا ثلاثة وُجد يسوع وحده. رأوا في البداية ثلاثة، أمَّا في النِّهاية فرأوا واحدًا. بالإيمان الكامل يصير الكل واحدًا كما طلب يسوع من الآب" فَلْيكونوا بِأَجمَعِهم واحِدًا" (يوحَنَّا 17: 21). والواقع، إن غاية التَّجَلِّي أن يلتقي المؤمنون جميعًا كأعضاء في الجسد الواحد خلال الثَّبات في المسيح والتَّمتع بالعضويّة في جسده الواحد، فنُحسب بحق أبناء الله المَحبوبين والمُمجَّدين فيه.  وقد تشير عبارة " يسوعَ وَحدَه" إلى تركيز الأنظار على المسيح وحده كمُخلص، فلا النَّاموس ولا الأنبياء يستطيعان أن يخلصا، ولكنهما يقودان فقط للمسيح المُخلص. بالتَّجَلِّي أظهر السَّيد المسيح كيف يمكن أن يجتمع الكلُّ حول شخصه باعتباره الرَّبّ الفَادي والمُخلّص، وسيِّدُ الحياة هو الكل وفي الكل؛ ويعلق البابا فرنسيس "نظروا إلى المسيح بعين الإيمان فرأوا فيه الإله والمخلص، إذا رأيت بعين الجسد فهو إنسانًا وإذا لبست نظر الإيمان رأيت المسيح".

 

9 وبَينَما هم نازِلونَ مِنَ الجَبَل أَوصاهم أَلاَّ يُخبِروا أَحدًا بِما رَأَوا، إِلاَّ متى قامَ ابنُ الإِنسانِ مِن بَينِ الأَموات.

 

أوحت عبارة "بَينَما هم نازِلونَ مِنَ الجَبَل" بفكرة بناء مُصلى صغير من العصر البيزنطي أطلق عليه "بَينَما هم نازِلونَ" يقع على الطَّريق التي تؤدي إلى السَّاحة الرَّئيسية لكنيسة التجلي الواقعة على قمة جبل تابور، وقد رُمِّم هذا المُصلَّى عام 1923. ويُعلق البابا فرنسيس "في نهاية خبرة التَّجَلِّي الرَّائعة، نزل الرُّسل من على الجَبَل، وقد تجلّت أعينهم وقلبهم من جرّاء اللقاء بالرَّبّ. واللقاء ليس هدفًا بحدّ ذاته، لكنَّه يقودنا إلى "النُّزول عن الجَبَل"، وقد امتلأنا بقوّة الرّوح الإلهيّ، كي نكون شهود للمَّحبة باستمرار كقانون حياة يوميّة" (صلاة "التَّبشير الملائكي 6 /8/ 2017). أمَّا عبارة "أَلاَّ يُخبِروا أَحدًا بِما رَأَوا؟ " فتشير إلى توصية يسوع لتلاميذه بالصَّمت، لأنَّهم لن يدركوا ما رأوه إلاَّ بعد أن قام يسوع من الأموات، وعندئذ يُظهر قوته على الموت وسلطانه ليكون مَلكًا على الكلِّ. وكذلك لم يكن ممكنا للتلاميذ أن يكونوا شهودًا أقوياء لله إلاّ بعد أن يُدركوا تمامًا حقيقة موت وقِيَامَة الرَّبّ. وهذه التَّوصية بما أوحته السَّماء هو موضوع مألوف في الأدب الرُّؤيوي (دانيال 12: 4)؛ ولقد تناوله مرقس الإنجيلي من وجهة نظر "السِّر المسيحاني" (متى 8: 4). ويوضِّح مرقس الإنجيلي أنَّ السِّر لن يُكشف إلا بعد القِيَامَة، وذلك أن هذه الحادثة لا يُفهم إلا بعد القِيَامَة حتى لا يظنُّ النَّاس أن التَّجَلِّي مقدمة لمسيحٍ سياسيٍ دنيويٍ من ناحية، وحتى لا يتشكك التَّلاميذ من آلام المسيح وموته من ناحية أخرى. ولكن من يستطيع أن يسكت عما رآه؟ من يستطيع أن يحتفظ لنفسه بخبرة إيمان بهذا العمق؟  لم تنتهي الأمور في التَّجَلِّي، إنَّما في القِيَامَة حيث أنَّ التَّجَلِّي هو صورة سابقة عن القِيَامَة.

 

10 فَحَفِظوا هذا الأَمْر وأَخذوا يَتَساءَلونَ ما مَعنى القِيَامَة مِن بَينِ الأَموات.

 

تشير عبارة "فَحَفِظوا هذا الأَمْر" إلى الرُّسل الذين حافظوا على سر التَّجَلِّي، كما أمرهم يسوع المسيح. أمَّا عبارة "أَخذوا يَتَساءَلونَ" فتشير إلى سؤال التَّلاميذ كدليل فهمهم أنَّ يسوع "ابن الإنسان" سيموت، في حين كانوا يعتقدون أنَّه لن يعرف الموت، ولم يدركوا أن الصَّليب طريق المَجْد. وهذا ما يشككهم ويُدهشهم. لكن ما يبدأ بالصَّليب ينتهي بالمَجْد، كما جاء في حديث يسوع مع تلميذَي عِمَّواس " أمَّا كانَ يَجِبُ على المَسيحِ أَن يُعانِيَ تِلكَ الآلام فيَدخُلَ في مَجدِه؟ " (لوقا 24: 26). والمَجْد هو طبيعة الله كما جاء في نبوءة حجاي " وأَنا أَكونُ لَها، يَقولُ الرَّبّ، مَجدًا في وَسَطها " (حجاي 2: 9)؛ والله طبيعته المحبة (1يوحَنَّا 4: 8). فالمَجْد والمحبة هما الله، ما دام الصَّليب رمز المحبة الكاملة، كما جاء في إنجيل يوحَنَّا "فإِنَّ اللهَ أَحبَّ العَالَم حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة " (يوحَنَّا 3: 16). نفهم إذًا أن الصَّليب والمَجْد هما شيء واحد.  فطريق المسيح هو الصَّليب وهكذا ينبغي أن يكون هذا طريق التَّلاميذ وطريق الكنيسة كلها. أمَّا عبارة "مَعنى القِيَامَة مِن بَينِ الأَموات" فتشير إلى فكرة القِيَامَة التي كان يعتقد بها الكثير من اليهود، ولكن التَّلاميذ كانوا يتساءلون عن طريقة يسوع في الكلام عليها حيث يُخبر بها كأنها قريبة، في حين أنهم كانوا يتوقعون حصولها في آخر الأزمنة عند القِيَامَة العامة كما كان يعتقد سائر اليهود كما جاء في تصريح مرتا، أخت لعازر أمام يسوع" أَعلَمُ أَنَّه سيَقومُ في القِيامَةِ في اليَومِ الأَخير" (يوحَنَّا 11: 24). وبجانب ذلك، قول يسوع أنه لا بدَّ له أنّ يمرّ بدرب الآلام والموت للوصول إلى القِيَامَة كما جاء على لسانه "يَجِبُ على ابنِ الإِنسانِ أَن يُعانِيَ آلامًا شَديدة، وأَن يَرذُلَه الشُّيوخُ وعُظَماءُ الكَهَنَةِ والكَتَبَة، وأَن يُقتَلَ ويقومَ في اليَومِ الثَّالِث " (لوقا 9: 22). وهذا الأمر يبدو غريبًا ومُحيًّا لأنه بحسب الفكر اليهودي المسيح لن يموت. فلماذا يجب أن نؤمن بيسوع؟ لأنه على جَبَل طابور تجلَّى ابن الرَّبّ الإله وظهرت حقيقته لرسله، ومن خلال الرُّسل الثَّلاثة، تعلّمت الكنيسة جمعاء ممّا رأوا بعيونهم وسمعوا بآذانهم: "هذا هُوَ ابنِيَ الحَبيب، فلَهُ اسمَعوا".  إنه ذاك المُتجلي. إنَّه المسيح حقًا يتجّه نحوه التَّاريخ كلُّه. ومن هذا المنطلق، الإيمان ليس قبولًا من غير دليل، بل ثقة من غير تحفّظ بكائن لا حدودَ لعِلمِه ومَحبّته وحكمته وكمالاته. وفي هذا الصَّدد يقول العلامة الفيلسوف أوغسطينوس: "الإيمان يبحث عن العقل، والعقل عن الإيمان".  يدعونا نص إنجيل مرقس (مرقس 9: 1-9) إلى التأمل في وجه الرَّبِّ المُتجلّي الذي يمنحنا الحياة بفضل الآمه وصلبه وقيامته.

 

 

ثانيًا: تطبيقات النَّص الإنجيلي (مرقس 9: 1-9)

 

بعد دراسة موجزة عن وقائع النَّص الإنجيلي وتحليله (مرقس 9: 1-9)، يمكن الاستنتاج أنَّ النَّص يتمحور حول ثلاثة نقاط: التَّجَلِّي في حياة يسوع، التَّجَلِّي في حياة الرُّسل والتَّلاميذ، وأخيرًا التَّجَلِّي في حياة الكنيسة وكل مسيحي مؤمن.

 

1) التَّجَلِّي في حياة المسيح

 

التَّجَلِّي في الأصل اليوناني   μετεμορφώθη بالمَعنى الحرْفي يدلُّ على التَّحوّل من حالة إلى حالة. وفي إنجيل متى ولوقا تغيّر وجه يسوع. أمّا في إنجيل مرقس، فلم يَعد ليسوع وجهٌ. إنَّه الله، وفي بياضِه كالشَّمس يمتزج معها نقاوة نورِ الله. وفي هذا الصَّدد قال الرَّبّ يسوع عن نفسه إنّه "نورُ العَالَم" (يوحَنَّا 8: 12). وقد ظهرت هذه المِيزة في التَّجَلِّي حيث سطع نورُ مَجْده الإلهي. إنه الصُّورة الكاملة للسَّعادة الذي يرمز إليها عيد المظال (أو الأكواخ) الذي يُذكِّرنا بأفراح حفلات القطاف خاصة العِنب، كما يُذكِّرنا بمسيرة الشَّعب في البرِّيَّة خلال زمن الخروج. ومن هذا المنطلق، فإن التَّجَلِّي حادثة بالغة الأهمية في حدِّ ذاته لشخص يسوع، حيث يكشف أنَّه "ابن الله" و"ابن الإنسان، وعبد الله المتألم.

 

ابن الله الوحيد: حادثة التَّجَلِّي تكشف أنَّ يسوع ابن الله الوحيد. فالصوت الآتي من السَّماء شهد أن مجد يسوع هو مجد الابن الذي فيه تتمّ كل كتب الشَّريعة والأنبياء (التي يمثّلها هنا إيليا وموسى). إن موسى يُمثّل الشَّريعة، وإيليا يُمثّل الأنبياء وبظهورهما دلالة أنَّ يسوع هو إتمام الشَّريعة ووعود الأنبياء. ولم يكن يسوع مجرد واحدٍ من الأنبياء، بل ابنُ الله الوَحيد الذي يفوق كل سلطانهم وقوتهم. إنَّه الابن الحبيب المُتسامي المَقام الذي يَملك مَجْد الله نفسه. إن هذا المَجْد يُثير خوفَ التَّلاميذ، وهو خوفٌ دينيٌ يعتري كلَّ إنسان إزاء كل ما هو مقدس وإلهي (لوقا 1: 29-30)، إلاّ أنه يُثير لدى بُطْرُس فرحَه أمام مَجْد المسيح الموعودِ به، كما اعترف به في قَيصَرِيَّةِ فيلِبُّس "أَنتَ المسيح" (مرقس 8: 29). إن التَّجلي يجعلنا نشاهد يسوع في أبهى ساعة من ساعات حياته على الأرض ويدعونا إلى الاستماع دومًا إليه.

 

ابن الإنسان: حادثة التَّجَلِّي تكشف أيضًا أنَّ يسوع هو ابن الإنسان، إن التَّجَلِّي يسبق ويرمز إلى الحَدث الفصحى، الذي عن طريق الصَّليب سيُدخل المسيح في كامل ازدهار مَجْده وكامل كرامته النُّبويَّة. لقد كان بوسع يسوع أن يتوِّج حياته الأرضيَّة بصعوده عن طريق جَبَل التَّجَلِّي، لكنَّه نزل من الجَبَل ليسير في طريق الصَّليب، وهكذا ينجز فداء العَالَم. وكان العبور بالألم والموت ضروري لدخول المَجْد، كما جاء على لسان يسوع " أَنَّ ابنَ الإِنسانِ يَجِبُ علَيه أَن يُعانيَ آلامًا شديدة، وأَن يرْذُلَه الشُّيوخُ وعُظماءُ الكَهَنَةِ والكَتَبَة، وأَن يُقتَل، وأَن يقومَ بَعدَ ثَلاثةِ أَيَّام" (لوقا 24: 25-27).

 

عبد الله المتألم: حادثة التَّجَلِّي تكشف أخيرًا أنَّ يسوع هو عبد الله المتألم.  تَمَّم مشهد التَّجَلِّي نبوءات أشعيا عن "عبد الله المتألم". والواقع أن البُعد الرَّمزي للقِيَامَة يجعلنا نستشف نورَ القِيَامَة بناء على قول أشعيا أنَّ "عبد الرَّبّ" الذي يمرّ في الألم، سوف يرى النُّور (أشعيا 53: 11). إن خاتمة الصَّليب الأخيرة ليست الفشل، بل العبور إلى المَجْد وحياة الآب. إن التَّجَلِّي يؤيد الاعتراف الصَّادر في قيصريّة فيلبس بأنه ابن الإنسان المتألم والمُمجد (مرقس 8: 29). وعندما دنا الرَّبّ يسوع من الموت والصَّلب، قال: "ابْنُ الإِنْسَانِ سيُسَلَّمُ إلى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ، وَيُسَلِّمُونَهُ إلى الأُمَمِ لِكَيْ َيَصْلِبُوهُ" (متى 20: 18-19).

 

باختصار يذكّرنا صوت الآب الآتي من الغَمَام بثلاث نبوات من العهد القديم: الأولى، تخصُّ المسيح وبنوته الإلهيّة  "أَنتَ اْبني وأَنا اليَومَ وَلَدتُكَ" (مزمور 2: 7)، والثانية تتعلق ب"عبد الله المتألم" واختياره كما جاء على لسان النَّبي أشعيا "هُوَذا عَبدِيَ الَّذي أَعضُدُه مُخْتارِيَ الَّذي رَضِيَت عنه نَفْسي" (إشفيا 42: 1)، والثَّالثة يعلن فيها عن موسى جديد كما جاء على لسان النبي موسى : يُقيمُ لَكَ الرَّبّ إِلهُكَ نَبِيًّا مِثْلي مِن وَسْطِكَ، مِن إِخوَتكَ، فلَه تَسْمَعون، ((تثنية الاشتراع 18: 15) "فالسِّماع له هو في الواقع السِّماع للكلمة الذي صار جسدًا، والذي يرى فيه المؤمن مَجْد الله (يوحَنَّا 1: 14). وهكذا اظهر التَّجَلِّي أنَّ فكرة المسيح المُتألِّم لم تكن مناقضةً لإعلان العهد القديم، بل كانت مُطابقةً تمامًا لشهادة الشَّريعة والأنبياء الذي كان موسى وإيليا يمثلانهم، ومطابقة أيضًا لشهادة الآب السَّماوي.

 

نستنتج مما سبق أنَّ التَّجَلِّي يسبق ويرمز إلى الحدث الفصحى، الذي عن طريق الصَّليب سيُدخل المسيح في كامل ازدهار مَجْده وكامل كرامته النَّبويّة، وأنّ خاتمة الصَّليب هي العبور إلى المَجْد، فالمَجْد هو نهاية طريق الآلام. فمن جهة، يُشدّد التَّجَلِّي على الألم، دون أن ينسى القِيَامَة، ومن جهة أخرى، يشدّد التَّجَلِّي على المَجْد، دون أن ينسى طريق الألم التي تقود إليه.

 

2) التَّجَلِّي في حياة الرُّسل الثَّلاثة بُطْرُس ويعقوب ويوحَنَّا

 

لعب التَّجَلِّي دورًا هامًا ليس في حياة يسوع فحسب، إنَّما أيضا في التَّنشئة الرُّوحيّة للرُّسل.  حيث كان يتعَذَّر على التَّلاميذ أن يفهموا لماذا اختار معلمُهم طريق َالآلام والموت (متى 16: 22). ومن هذا المنطلق، كان الهدفُ الرَّئيسيُّ من التَّجَلِّي إزالةَ الشَّكِّ إزاء عار الصَّليب من قلوبِ رسله الثَّلاثة. إذ اختار يسوع الرُّسل الثَّلاثة بُطْرُس ويعقوب ويوحَنَّا، لأنّهم سوف يُعاينون وحدَهم نزاعه الأليم في بُستان الزَّيتون قبل أن يتألّم ويُصلب ويموت. فأرادَ أن يشدِّد إيمانَهم به، لما سوف يرون عليه من علامات الرَّهبة والحُزْن والكآبة أمام عذاب الصَّليب (مرقس 14: 33)، واكتفى بثلاثةٍ من تلاميذه ليَضمن كتمان الخبر إلى ما بعد قيامته من بين الأموات.  ويُعلق البابا القديس لاون الكبير: "كانَ الهدفُ الرَّئيسيُّ من التَّجَلِّي إزالةَ الشَّكِّ من قلوبِ التَّلاميذِ بسببِ الصَّليب. فبعدَ مشاهدِتهم جلالَ كرامةِ المسيحِ المَخفيّةِ لن يضطربَ إيمانُهم عندما يرَون مذلَّةَ الآلامِ التي سيتحمَّلُها طوعًا" (موعظة القديس لاون الكبير البابا في التَّجَلِّي)، ولا يخجلون من آلامه، ولا يعتبروها عارًا بسبب ذلّ آلامه طوعًا على الصَّليب وبالتالي لا يتزعزع إيمانهم. ويضيف مار إفرام السِّرياني: " صعد بهم إلى جبل عال لكي يُظهر لهم أمجاد لاهوته فلا يتعثّروا فيه عندما يرونه في الآلام التي قبلها بإرادته، والتي احتملها بالجسد من أجلنا".

 

حققت حادثة التَّجَلِّي وعد يسوع لبعض رسله "الحَقَّ أَقولُ لَكُم: في جُملَةِ الحاضِرينَ ههُنا مَن لا يَذوقونَ المَوت، حتَّى يُشاهِدوا مَلكوتَ اللهِ آتِيًا بِقُوَّة" (مرقس 9: 1) أو " الحَقَّ أَقولُ لكم: مِنَ الحاضِرينَ ههُنا مَن لا يَذوقونَ الموتَ حتَّى يُشاهِدوا ابنَ الإِنسانِ آتِيًا في مَلَكوتِه " (متى 16: 28). وقد حقَّق يسوع وعده هذا لثلاثة من تلاميذه الذين كانوا معه، وهم بُطْرُس ويعقوب ويوحَنَّا. قصد المسيح أن يرى التَّلاميذ الثَّلاثة هذا المجيء الإلهي حتى يعرفوا نوع المَجْد الذي سيأتي به المسيح في مجيئه الثَّاني. ويعلق مار أفرام السِّرياني: "إنَّ أولئك القوم الذين قال عنهم الرَّبّ أنَّهم لن يذوقوا الموت حتى يروا مثال مجيئه، هؤلاء هم الذين أخذهم معه إلى الجَبَل وأراهم الحالة التي سيأتي بها في اليوم الأخير، وهذا المَجْد الذي ظهر في التَّجَلِّي هو مَجْد القِيَامَة". 

 

كشف يسوع لرُسلِه من خلال التَّجَلِّي كيانَه العميق ومُهمّته الإلهيّة؛ فأراهم شيئا من مَجْده كي يُساندهم عند مشاهدتهم سرَّ الصَّليب، ويُسلّحهم بقوّة وثبات يسمحان لهم بحمل صليبهم الخاصّ دون خوف أو تردُّد. وفي هذه الصَّدد قال توما الأكويني: "إن المُخلص، بعد أن أوصى تلاميذه وجميع المؤمنين أنَّه لا بدَّ لكل منهم أن يحمل كل يوم صليبه ويتبعه، أراد أن يُريهم لمحةً من المَجْد المُعَد لحاملي ذلك الصَّليب" كما جاء في تعليم بولس الرَّسول "إِذا مُتْنا مَعَه حَيِينا مَعَه وإِذا صَبَرنا مَلَكنا مَعَه " (2 طيموتاوس 2: 11-12). لهذا طلب صوت الآب من التَّلاميذ أن يستمعوا له (مرقس 9: 7)، وأمرهم بان يُصغوا إلى تعليمه (متى 17: 5).

 

سلطت حادثة التَّجَلِّي الأضواء على صعود ابن الإنسان إلى أورشليم (متى 16: 21)، مركز تاريخ الخلاص لأنها مدينة الآلام والموت والقِيَامَة. فيسوع حقّق رحيله (أي الخروج الجديد) (لوقا 9: 31) بموته وقيامته وصعوده من أورشليم فمَكّن المؤمنين من الاقتراب من الله معه. ويتعذر على التَّلاميذ أن يفهموا لماذا اختار معلمهم ذلك الطَّريق (متى 16: 22)، فأراهم الله شيئًا من مَجْد ابنه، وأمرهم أن يصغوا إلى تعليمه (متى 17: 5). ولا يظهر معنى التَّجَلِّي إلاَّ في فكرة قِيَامَة المسيح المجيدة، وهو استباق لها.

 

على الرَّغم من الإنباء عن الآلام والتَّجَلِّي، فإنّ التَّلاميذ عاشوا الخِيانة (مرقس 14، 43)، والهَرب (مرقس 14، 50) وحتّى الإنكار (مرقس 14، 72) والخوف. وفي الواقع، رأى بُطْرُس ويعقوب ويوحَنَّا حقيقة شخصيّة يسوع وقوته كابن لله، ولكنَّهم لم يُدركوا هذه الحقيقة إلاَّ بعد قِيَامَة يسوع من الموت بمعونة الرُّوح القُدُس، كما قال يسوع لهم " ولكِنَّ المُؤَيِّد، الرُّوحَ القُدُس الَّذي يُرسِلُه الآبُ بِاسمي هو يُعَلِّمُكم جَميعَ الأشياء ويُذَكِّرُكُم جَميعَ ما قُلتُه لَكم" (يوحَنَّا 14: 26)، واكَّد بُطْرُس الرَّسول هذه الحقيقة بقوله "قد أَطلَعْناكم على قُدرَةِ رَبِّنا يسوعَ المسيح وعلى مَجيئِه، لا اتِّباعًا مِنَّا لِخُرافاتٍ سوفِسْطائِيَّة، بل لأَنَّنا عايَنَّا جَلالَه"(2 بُطْرُس 1: 16-18).

 

 ترك يسوع أثرًا بالغًا في الجماعة المسيحيّة الأولى وثبَّت إيمانها (مرقس 7: 33-34). وكان وقت التَّجَلِّي مُناسبًا ليحضّ صوت الله على أهميَّة الاستماع للمسيح (مرقس 9: 7)، خاصة عندما يتكلم عن آلامه المُقبلة، وهو أمر لم يكن بُطْرُس مُستعدًا أن يسمعه، كما نستشفه من قول يسوع له: " لأَنَّ أَفكارَكَ لَيسَت أَفكارَ الله، بل أَفكارُ البَشَر" (مرقس 8: 33).

 

3) التَّجَلِّي في حياة الكنيسة وكل مسيحي مؤمن.

 

التَّجَلِّي لا يغيّر يسوع، بل يكشف ألوهيته، "في وحدته مع الآب، يسوع نفسه هو نور من نور". وإذ يتأمل بُطْرُس ويعقوب ويوحَنَّا بألوهيّة الرَّبّ، يصبحون مُستعدين لمواجهة عار الصَّليب، ويصبحون لاحقا أعمدة الكنيسة، وكان لهم التَّأثير الكبير في نشر الكلمة وتأسيس الكنيسة كما يُرنَّم في نشيد قديم: "لقد تجسَّدت على الجَبَل، وتأمل تلاميذك بقدر استطاعتهم مَجْدك، أيها المسيح الله، لكي يستطيعوا عند رؤيتك مصلوبًا أن يفهموا أن آلامك طوعيّة ويعلنوا للعالم أنك حقًا إشراق الآب" (الليتورجيا البيزنطيّة، نشيد عيد التَّجَلِّي).

 

لعب التَّجَلِّي أيضا دورًا هامًا في رجاء حياة كلِّ مسيحي وحياة الكنيسة. حيث أراد الرَّبّ أن تكون كنيسته المقدّسة مبنيّة ًعلى أساس الرَّجاء، حتّى يفهم أعضاء جسد المسيح أي تحوّلات تحدث في داخلهم، بما أنّ كلّ واحد منهم مدعوّ إلى المشاركة في مَجْد الرَّبّ المُتجلّي. يريد الرَّبّ أيضا أن يكشف مَجْده لنا، نحن تلاميذه الأحبّاء.

 

يهدف التَّجَلِّي أيضًا لتأسيس الرَّجاء. إذ يدرك جميع أعضاء الكنيسة، التي هي جسد المسيح السِّري، أنّ هذا التحوّل سيتمّ فيهم يومًا ما، لأنّ الأعضاء هم موعودون بالمشاركة في المَجْد الّذي أشرق في الرَّأس وهو المسيح يُعلق البابا القديس لاون الكبير: " يبني التَّجَلِّي في كنيسة الرَّبّ يسوع الرَّجاءَ الَّذي يَهدِفُ إلى دَعمها، بطريقة يفهم فيها أعضاءُ جَسَدِ المسيح ما هو التَّغييرُ الَّذي سوفَ يَحدُثُ يومًا ما فيهم، بما أنّهم مدعوّون للتمتّع بتلكَ العَظَمَةِ الَّتي رأوه تشعّ في رأسهم" (موعظة القديس لاون الكبير البابا في التَّجَلِّي). وجاء في تعليم بولس الرَّسول "المسيح هُوَ رَأْسُ الْجَسَدِ: الْكَنِيسَةِ. الَّذِي هُوَ الْبَدَايَةُ، بِكْرٌ مِنَ الأَمْوَاتِ، لِكَيْ يَكُونَ هُوَ مُتَقَدِّمًا فِي كُلِّ شَيْءٍ" (قولسي 1،18). والرَّسول بولس أكّد من جهته: "أَرى أَنَّ آلامَ الزَّمَنِ الحاضِرِ لا تُعادِلُ المَجدَ الَّذي سيَتَجَلَّى فينا" (رومية 8: 18). وكتب في موضع آخر "لأَنَّكم قد مُتُّم وحَياتُكم مُحتَجِبةٌ معَ المسيحِ في الله. فإِذا ظَهَرَ المسيحُ الَّذي هو حَياتُكم، تَظَهَرونَ أَنتُم أَيضًا عِندَئِذٍ معَه في المَجْد" (قولسي3: 3-4).  ويؤكد لنا القديس بولس الرَّسول أننا "نَحنُ جَميعًا نَعكِسُ صورةَ مَجْدِ الرَّبّ بِوُجوهٍ مَكشوفةٍ كما في مِرآة، فنَتَحوَّلُ إلى تِلكَ الصُّورة، ونَزدادُ مَجْدًا على مَجْد، وهذا مِن فَضْلِ الرَّبّ الَّذي هو روح" (2 قورنتس 3: 18)). وباختصار، إنَّ يسوع المسيح الذي مات من أجلنا هو حيّ معنا اليوم، وهو مصدر حياتنا ورجانا "وَهُوَ رَأْسُ الْجَسَدِ: الْكَنِيسَةِ. الَّذِي هُوَ الْبَدَايَةُ، بِكْرٌ مِنَ الأَمْوَاتِ، لِكَيْ يَكُونَ هُوَ مُتَقَدِّمًا فِي كُلِّ شَيْءٍ" (قورنتس 1: 18).

 

يكشف التَّجَلِّي على رؤية سابقة لمَجْد السَّماء. حيث أنَّ المَجْد الذي رآه التَّلاميذ على الجَبَل المقدس ما هو إلاّ رؤية سابقة للمَجْد الذي أعدّه المسيح لأتباعه بعد عناء هذه الدُّنيا. ويُعلق أحد المفسّرين: " لم يكن بهاء اللاهوت بل كان مَجْد النَّاسوت الكامل الذي هو بلا خطيئة، وان الرَّبّ في تلك اللحظة كان مستعدًا للرجوع إلى السَّماء بدون الموت، ولكنه للمرة الثَّانيّة ولىّ ظهره للسماء لكي يشترك كانسان فكمّل في سر الموت البشري". لا يرينا التَّجَلِّي فقط حالة المَجْد التي سيأتي بها المسيح في مجيئه الثَّاني، ولكنَّه يرينا أيضًا الحالة التي سيكون عليها أولاد الله في الدَّهر الآتي عند مجيء المسيح، وهذا ما يصرّح به يوحَنَّا الرَّسول " نَحنُ مُنذُ الآنَ أَبناءُ الله ولَم يُظهَرْ حتَّى الآن ما سَنَصيرُ إِليه. نَحنُ نَعلَمُ أَنَّنا نُصبِحُ عِندَ ظُهورِه أَشباهَه لأَنَّنا سَنَراه كما هو" (1 يوحَنَّا 3: 2).

 

الحياة الحقيقيّة هي بمثابة حياة إنسانيّة مُغلّفة بالمَجْد، يسكنها الرَّبّ. وهذه الحياة يمنحها الرَّبّ للمؤمنين به. إذ أصبح المسيحيون بالعماد شركاء في سر القِيَامَة، الذي كان التَّجَلِّي رمزًا له، فإنَّهم مدعوُّون منذ الآن أن يتجلُّوا على الدَّوام، أكثر فأكثر، بقوة الرَّبّ (2 قورنتس 3: 18)، انتظارًا لتجلِّيهم الكامل مع أجسادهم يوم مجيء المسيح الثَّاني المجيد،  كما أعلنه بولس الرَّسول : " الَّذي سيُغَيِّرُ هَيئَةَ جَسَدِنا الحَقير فيَجعَلُه على صُورةِ جَسَدِه المَجيد بما لَه مِن قُدرَةٍ يُخضِعُ بِها لِنَفْسِه كُلَّ شيَء"(فيلبي 3: 21)؛ وذلك من خلال مشاركتهم لآلام المسيح كما جاء في تعليم بولس الرَّسول "أَرى أَنَّ آلامَ الزَّمَنِ الحاضِرِ لا تُعادِلُ المَجدَ الَّذي سيَتَجَلَّى فينا" ( رومة 8: 18) . أنّ هذا التَّحوّل سيتمّ فينا يومًا، لأنّ أعضاء الكنيسة موعودون بالمشاركة في المَجْد الّذي أشرق في الرَّأس يسوع الذي أعلن: "الصِّدِّيقونَ يُشِعُّونَ حِينَئذٍ كالشَّمْسِ في مَلَكوتِ أَبيهِم" (متى 13: 43).

 

أخيرًا التَّجَلِّي يكشف لنا مستقبلنا السَّعيد في الملكوت السَّماوي. إنّ السَّعادة التي شعر بها بُطْرُس لمدّةٍ قصيرة وهو على الجَبَل، سوف نشعر بها مدى الأبديّة عندما نكون في السَّماء، ونحن نتمتّع بجمال يسوع الرَّائع، من دون أيّ خوف على فقدانه. أراد الرَّبّ أن تكون كنيسته المقدّسة مَبنيّة على أساس الرَّجاء، حتّى يفهم أعضاء جسد المسيح أي تحوّلات تحدث في داخلهم، بما أنّ كلّ واحدٍ منهم مدعوّ إلى المشاركة في مَجْد الرَّبّ المُتجلّي.

 

فمشهد التَّجلي يُعلّمنا أن مستقبل الإنسان هو على وجه الابن الوحيد يسوع المسيح الذي شَعَّ عليه مجد الله. وهو يشعّ على وجوهنا أيضًا منذ الآن شرط أن نستمع للابن.

 

تدعونا الكنيسة اليوم لنُلقي عنَّا كلّ خوف من هذا العَالَم، ونتسلّح بالثَّبات والإيمان في مسيرتنا الأرضيّة التي لن تخلوَ من الصِّعاب والتَّجارب. واليوم يشرق النور نفسه على وجه يسوع، ويكشف لنا سرّ من أسرار الله، حتى نتمكن من معرفته بشكل أفضل. ونختم بقول البابا لاون الكبير "فلْيَثبُتْ إذًا إيمانُ الجميعِ بحسبِ تعليمِ الإنجيلِ المقدَّس، ولا يَخجَلْ أحدٌ بصليبِ المسيحِ الذي به فدى العَالَم. ولا يَخَفْ أحدٌ أن يتألَّمَ من أجلِ البِرِّ، ولا يشُكَّ في الوعودِ المُقبِلة، لأنَّ المؤمنَ يعبُرُ من التَّعبِ إلى الرَّاحة، ومن الموتِ إلى الحياة. إذا ثبَتْنا نحن في الاعترافِ به وفي محبَّتِه انتصَرْنا بنَصرِه وقبِلْنا كلَّ ما وعدَ به" موعظة القديس لاون الكبير البابا في التَّجَلِّي). فنحن لا نبلغ قمة المَجْد إلاّ بالتَّضحية والصَّليب. هكذا يلتحم الصَّليب بالمَجْد، فمن يتألم معه يتمَجْد أيضًا معهُ " وإِذا شارَكْناه في آلامِه، نُشارِكُه في مَجْدِه أَيضًا"(رومة 17:8).

 

 

الخلاصة

 

كان التَّجَلِّي إعلانًا خاصًا عن ألوهيّة يسوع لثلاثة من تلاميذه، كما كان تأكيدًا من الله لكلِّ ما فعله يسوع، ولكلِّ ما كان على وشك أن يفعله من آلامه وموته وقيامته وصعوده إلى السَّماء وإرساله الرُّوح القُدُس.  وفي هذا الصَّدد يقول بولس الرَّسول "النِّعمَةِ الَّتي وُهِبَت لَنا في المسيحِ يسوعَ مُنْذُ الأَزَل، وكُشِفَ عنها الآنَ بِظهورِ مُخَلِّصِنا يسوعَ المسيحِ " (2 طيموتاوس 1، 9-10). لذا لا يجوز فصل الصَّليب عن المَجْد، لانَّ سر الخلاص التي تمَّ على الجَبَل يجمع في الوقت نفسه موت المسيح ومَجْده. وإذا أردنا أن نختبر هذا السِّر مع التَّلاميذ الذين اختارهم وتجلّى أمامهم، يجب أن نسمع الصَّوت الإلهي الذي يدعونا بإلحاح من قمَّة الجَبَل المقدس. ويُعلق القدّيس أمبروسيوس: "هلم نصعدْ على الجَبَل، ونتضرّع إلى كلمة الله ليَكشف لنا عن ذاته في مجده وبهائه".

 

لذلك كان المسيحيُّون الأوائل يعتبرون إنجيل التَّجَلِّي أساسيًا للتنشئة المسيحيّة في تحضير "الموعوظين"، لأنَّه على جَبَل طابور تجلى ابن الله وظهرت حقيقته لتلاميذه، فمن خلال الرُّسل الثَّلاثة، تعلّمت الكنيسة جمعاء ممّا رأوا بعيونهم وسمعوا بآذانهم: "هذا هُوَ ابنِيَ الحَبيب، فلَهُ اسمَعوا".

 

أخيرًا يُذكّرنا التَّجَلِّي في الزَّمن الأربعيني بما يأتي بعد الصَّليب، أي بمَجْد الرَّبّ يسوع القائم من الموت. وأنّ الرَّبّ قرّر أن يكون مَجْد التَّجَلِّي لكلّ واحد منّا في الحياة الآخرة لكن بدون الإيمان الحَيِّ العامل بالمَحبَّة لن نستطيع معاينة مَجْده وهذا الأمر يُوحي لنا أننا لا نسير إلى المَجْد إلاَّ بإيماننا وببذل حياتنا. وإيمانُنا يجعلنا نتذوّق نورَ مَجْد الرَّبّ مسبقًا (1 قورنتس 13، 12). ولكن إذا لم يتبدَّل قلبنُا الآن فلن يتمَّ تبدّل جسدِنا يوم القِيَامَة.

 

 

دعاء

 

أيها الآب السَّماوي، امنحنا النِّعمة أن نصعد إلى القِمَّة مع رسلك لنتعرف على مَجْد ابنك الحبيب يسوع في جَبَل طابور يشع أمامنا، ويسكن في "خِيَم" قلوبنا، ويُثبِّت إيماننا من خلال صلاتنا والإصغاء إليه، فنستطيع أن ننزل من الجيل حاملين صليب الخدمة على خطى المسيح حتى الآلام والصَّليب، ونشاركه يوما في مَجْده " ونَعكِسُ صورةَ مَجْد الرَّبّ بِوُجوهٍ مَكشوفةٍ كما في مِرآة، فنَتَحوَّلُ إلى تِلكَ الصُّورة، ونَزدادُ مَجْدا على مَجْد" (2 قورنتس 3: 18).  أيَّها القديسون، بُطْرُس ويعقوب ويوحَنَّا، مقربي يسوع، صلوا لأجلنا.