موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ٨ ابريل / نيسان ٢٠٢٤

عِيد بِشَارة العَذْراء في النَاصِرَة

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
عِيد بِشَارة العَذْراء في النَاصِرَة (لوقا 1: 26-38)

عِيد بِشَارة العَذْراء في النَاصِرَة (لوقا 1: 26-38)

 

النَّص الإنجيلي (لوقا 1: 26-38)

 

26 وفي الشَّهرِ السَّادِس، أَرسَلَ اللهُ الـمَلاكَ جِبرائيلَ إلى مَدينَةٍ في الجَليلِ اسْمُها النَّاصِرَة، 27 إلى عَذْراء مَخْطوبَةٍ لِرَجُلٍ مِن بَيتِ داودَ اسمُهُ يوسُف، وَاسمُ العَذْراءِ مَريَم. 28 فدَخَلَ إلَيها فَقال: ((إفَرحي، أَيَّتُها الـمُمتَلِئَةُ نِعْمَةً، الرَّبُّ مَعَكِ)). 29 فداخَلَها لِهذا الكَلامِ اضطرابٌ شَديدٌ وسأَلَت نَفسَها ما مَعنى هذا السَّلام. 30 فقالَ لها الـمَلاك: ((لا تخافي يا مَريَم، فقد نِلتِ حُظوَةً عِندَ الله. 31 فَستحمِلينَ وتَلِدينَ ابنٍا فسَمِّيهِ يَسوع. 32 سَيكونُ عَظيمًا وَابنَ العَلِيِّ يُدعى، وَيُوليه الرَّبُّ الإِلهُ عَرشَ أَبيه داود، 33 ويَملِكُ على بَيتِ يَعقوبَ أَبَدَ الدَّهر، وَلَن يَكونَ لِمُلكِه نِهاية)) 34 فَقالَت مَريَمُ لِلمَلاك: ((كَيفَ يَكونُ هذا وَلا أَعرِفُ رَجُلًا؟)) 35 فأَجابَها الـمَلاك: ((إِنَّ الرُّوح القُدُس سَينزِلُ عَليكِ وقُدرَةَ العَلِيِّ تُظَلِّلَكِ، لِذلِكَ يَكونُ الـمَولودُ قُدُّوسًا وَابنَ اللهِ يُدعى. 36 وها إِنَّ نَسيبَتَكِ أَليصابات قد حَبِلَت هي أَيضًا بِابنٍ في شَيخوخَتِها، وهذا هو الشَّهرُ السَّادِسُ لِتِلكَ الَّتي كانَت تُدعى عاقِرًا. 37 فما مِن شَيءٍ يُعجِزُ الله)). 38 فَقالَت مَريَم: ((أَنا أَمَةُ الرَّبّ فَليَكُنْ لي بِحَسَبِ قَوْلِكَ)). وَانصرَفَ الـمَلاكُ مِن عِندِها.

 

 

المقدمة

 

يصف لوقا الإنجيلي بشارة الملاك جبرائيل للعذراء في النَّاصِرَة بانها ستكون أمُّا للمسيح المخلص (لوقا 1: 26-38). وبهذه البشارة تبدأ مرحلة تحقيق وعد الله بالخلاص، كما جاء في سفر التكوين "وأَجعَلُ عَداوةً بَينَكِ وبَينَ المَرأَة وبَينَ نَسْلِكِ ونَسْلِها فهُوَ يَسحَق رأسَكِ وأَنتِ تُصيبينَ عَقِبَه"(التكوين 3: 15). ومن هنا تكمن أهميَّة البحث في وقائع حدث البشارة (لوقا 1: 26-38) وتطبيقاته.

 

 

أولاً: وقائع النَّص الإنجيلي (لوقا 1: 26-38)

 

26 وفي الشَّهرِ السَّادِس، أَرسَلَ اللهُ الـمَلاكَ جِبرائيلَ إلى مَدينَةٍ في الجَليلِ اسْمُها النَّاصِرَة

 

تشير عبارة "الشهر السَّادس" إلى حمل اليصابات "لِتِلكَ الَّتي كانَت تُدعى عاقِرٍا"، (لوقا 1: 36). فربط لوقا الإنجيلي حدث بشارة ميلاد يوحنا مع بشارة ميلاد يسوع في تاريخ الخلاص. فانطلق الخلاص من الله الذي "أرسل". الله هو الذي اتخذ المبادرة، "لَسنا نَحنُ أَحبَبْنا الله بل هو أَحَبَّنا فأَرسَلَ ابنَه كَفَّارةً لِخَطايانا" (1 يوحنا 4: 10). أمَّا عبارة "المَلاك جِبْرائيلَ" اسم عبري גַּבְרִיאֵל (معناها رجل الله أو "قوّة الله") فتشير إلى اسم لملاك ذي رتبة رفيعة أرسل ليفسر رؤيا لدانيال النَّبي (دانيال 8: 16 -27) وبعث مرة في زيارة لنفس النَّبي ليعطيه فهمٍا وليعلن له نبوة السَّبعين أسبوعًا (دانيال 9: 21 -27). وقد أرسل إلى اورشليم ليحمل البشارة لزكريا في شأن ولادة يوحنا المعمدان (لوقا 1: 11 -22). وأرسل هنا أيضٍا إلى النَّاصِرَة ليبشر العذراء مريم بأنها ستكون أمَّا للمسيح (لوقا 1: 26 -38) وقد وصفت جبرائيل نفسه بانه واقف أمام الله (لوقا 1: 19). فهو الكائن الرُّوحانيّ الّذي يرسله الله دومًا ليحمل رسالة؛ فحضوره هو ضمانة لتدخل الله في تاريخنا. وهو القوّة نفسها التي وعد الله بها مريم كضمانة لتحقّيق الوعد "قوّة العلي تظلّلك". أمَّا عبارة " مَدينَةٍ " فتشير إلى النَّاصِرَة كمدينة كما أطلق عليها لوقا الإنجيلي كسائر قرى بيت لحم (لوقا 2: 4) وكفرناحوم (لوقا 4: 31) ونائين (لوقا 7: 11). ولذلك ينتقل لوقا من الهيكل في اورشليم في اليهودية إلى النَّاصِرَة في الجليل التي احتقرها معاصرو يسوع لأنها كانت محط أنظار التجار الوثنيون والجنود الرُّومانيون لوقوعها على طريق تجاري كبير (يوحنا 1: 46). أمَّا عبارة " الجَليلِ " اسم عبري גָּלִילָ (معناها دائرة أو مقاطعة فتشير إلى القسم الشِّمالي من بين الثلاثة الأقسام التي قسمت إليها فلسطين في زمن المسيح في عصر الدَّولة الرُّومانيَّة. وفي الحروب اليهوديَّة عام 70 للميلاد كانت الجليل مقسمة إلى قسمين وهما: الجليل العليا والجليل السُّفلى. وكانت هذه المنطقة خصبة جدًّا وكثيرة السُّكان. وكان بها خليط من الأجناس أدى إلى نبرات خاصة في لغتهم كما هو واضح من إنجيل مرقس (14: 70 ولوقا 22: 59) سكنها قديمًا أربعة أسباط وهم يساكر، زبولون، نفتالي، وأشير. ومعظم رسل المسيح كانوا من الجليل. وكان يسوع يعرف بأنه الجليلي (متى 26: 69) ففيها نشأ وترعرع وخدم في حدودها الشَّرقيَّة عند بحر الجليل وداخل منطقتها في كورزين وبيت صيدا وكفرناحوم ونايين وقانا والنَّاصِرَة.  يبلغ طول مقاطعة الجليل 31 كم وعرضها 40 كم، على العموم هي جبليَّة خصبة تنمو فيها الحبوب وتكثر فيها الجبال مثل الكرمل وجلبوع وطابور. أمَّا عبارة " النَّاصِرَة " في الأصل اليوناني Ναζαρέτ من لفظة(נֵ֫צֶר) وتعني زهرة أو قضيب أو غصن لكثرة غاباتها ونضارة أغصانها في الماضي. ومن هنا قول أشعيا: يخرج قضيب من جذر يسى وينمو من أصوله" (أشعيا 11: 1) فتشير إلى مدينة في الجليل. وهي تقوم على جبل مرتفع (لوقا 4: 29)، ويرى منها جبل الشَّيخ والكرمل وطابور ومرج ابن عامر، وتبعد نحو 23 كم إلى الغرب من بحيرة طبريا، 31 كم شرقي عكا، 138 كم إلى الشِّمال من القدس، وكانت على الحافة الشِّماليَّة من مرج بن عامر وهي ذات حجارة بيضاء، وتحيطها كروم التين والعنب والزيتون. ولم تكن النَّاصِرَة ذات أهميَّة في الأزمنة القديمة، لذلك لم يرد لها أي ذكر في العهد القديم، ولا كتب يوسيفوس ولا الوثائق المصريَّة والأشوريَّة والحيَّة والآراميَّة والفينيقيَّة السَّابقة للميلاد. وأول ما ذكرت في الإنجيل. وكانت حتى ذلك الحين محتقرة كما نستشف من قول نَتَنائيل إلى فيلُّبس: أَمِنَ النَّاصِرَةِ يُمكِنُ أَن يَخرُجَ شيء صالِح؟ (يوحنا 1: 46). وقد ذكرها العهد الجديد 29 مرة. فقد كانت مسقط رأس يوسُف ومريم (لوقا 2: 39). وفيها ظهر الملاك لمريم مبشِّرا إيَّاها بأن ستكون ام المسيح (لوقا 1: 26). واليها عادت مريم مع خطيبها من مصر (متى 2: 23). وفيها نشأ المسيح وترعرع (لوقا 4: 16) وصرف القسم الأكبر من الثلاثين السَّنة الأولى من حياته (لوقا 3: 23)؛ متى 4: 13)، ولذلك لقب يسوع النَّاصري، نسبة إليها (متى 21: 11) وذلك أيضًًا لقب تلاميذه بالنَّاصرين. وكان يسوع ينمو فيها بالحكمة والقامة والنِّعمة عند الله والنَّاس (لوقا 2: 52). ولكنه ما أن بدأ رسالته حتى رفضه أهلها مرتين (لوقا 4: 28-31). وتشتهر النَّاصِرَة بانها أكبر مدن منطقة الجليل، وفيها عدد كبير من الأديرة والكنائس. وأشهر ما فيها دير الفرنسيسكان. وفيها أيضًا عدة مواقع تاريخيَّة، منها عين العذراء، والموضع الذي فيه أتتها البشارة، وتسمى اليوم كنيسة البشارة، وبالقرب منها، جبل القفزة الموضع الذي عنده أراد أهل النَّاصِرَة أن يطرحوا يسوع إلى أسفل.

 

27 إلى عَذْراءَ مَخْطوبَةٍ لِرَجُلٍ مِن بَيتِ داودَ اسمُهُ يوسُف، وَاسمُ العَذْراءِ مَريَم

 

 تشير عبارة " عَذْراءَ" في الأصل اليوناني παρθένος (معناها فتاة غير متزوجة) إلى بتوليَّة مريم؛ ويعلق القديس أوغسطينوس "لا تكرم البتوليَّة من أجل ذاتها، وإنما لانتسابها لله". وهكذا يُبعد لوقا الإنجيلي كل التباس عن زواجها ويُمهِّد الحبل العجائبي بيسوع (لوقا 1: 34).  ويعلق القديس أمبروسيوس "فهي عذراء لأنها لم تعرف رجلًا، وزوجة حتى تُحفظ ممَّا قد يشوب سمعتها". أمَّا عبارة "مَخْطوبَةٍ" فتشير إلى مريم التي كانت متزوجة شرعا ليوسُف لكن المساكنة لم تتم بعد (لوقا 1: 34)، إذ كانت العادة اليهوديَّة تنص عن مهلة شهرين أو ثلاثة من عقد الخطبة (لوقا 2: 5)، قبل أن تُزف العروس إلى بيت عريسها (متى 25: 1-13). ولذلك كانت مريم مرتبطة بيوسُف حسب الشَّريعة، ولكنها لم تنتقل بعد إلى بيته للحياة المشتركة.  وبما أنَّ الخطبة كانت تعادل الزواج ح في كل شيء ما عدا العلاقات الجسديَّة، لهذا دعيت القدّيسة مريم "امرأة يوسُف (متى 1: 20). وبما أنَّ مريم نسيبة اليصابات فهي من نسل كهنوتي، ويوسُف هو من نسل ملوكي، نسل داود الملك، فقد اجتمعت الملوكيَّة والكهنوت في يسوع. وأن الوعد الذي وُعد به داود قد تمّ بوساطة يوسُف. ويُعلق العلامة أوريجانوس" بأن وجود خطيب أو رجل مريم ينزع كل شكٍ من جهتها عندما تظهر علامات الحمل عليها". أمَّا عبارة "بَيْت" فتشير إلى أهل البيت أو العائلة (التكوين 12: 17) أو العشيرة (لوقا 2: 4). أمَّا عبارة " داودَ " اسم عبري דָּוִד (معناه محبوب) فتشير إلى ابن يسى وكان أصغر ابن بين ثمانية بنين (1 صموئيل 16: 10)، وكان داود أشقر وحسن المنظر (1 صموئيل 16: 12) وتمتع بمواهب موسيقيَّة وأنشأ المزامير والأناشيد. خدمة الملك شاول (1 صموئيل 16: 14-18). وتحدى جُليات الجبار الفلسطيني في مبارزة وكله ثقة بالله (1 صموئيل 17: 54) فأظهر من البطولة والشَّجاعة والتواضع والتقوى ما جعله محببًا إلى نفس يوناثان ابن شاول فتعلقت نفسه بداود وأحبه كنفسه (1 صموئيل 18: 1) فبقي في بيت أبيه شاول (1 صموئيل 18: 2). وكلما ازدادت شهرة داود كلما خاف شاول على ملكه منه ولم يخفِ قصده في قتله (1 صموئيل 18: 29) فأصبح داود طريدا الملك شاول. فهرب إلى نوب ثم إلى جتّ وطلب حماية أخيش ملكها (1 صموئيل 21: 10) فألقى الملك القبض عليه (1 صم 21: 14 56) ثم ورجع إلى يهوذا وأقام في مغارة عدلام (1 صموئيل 22: 1) ولكنه اخذ أبويه لإقامة في موآب (1 صموئيل 22: 3 و4) واجتمعت إليه جماعة متعددة كان الكاهن ابياثار من ضمن هؤلاء وكذلك النَّبي جاد (1 صم 22: 5). وإذ تهيأ شاول لمهاجمته هرب إلى بريَّة يهوذا (1 صموئيل 23: 14). فذهب إلى عين جدي حيث كاد الملك شاول أن يقع في قبضة داود لولا أنه عفا عنه وأنقذ حياته (1 صموئيل 24). بعد موت شاول اختار سبط يهوذا داود ملكًا عليه وأصبح ثاني ملوك بني إسرائيل.  واخضع الموآبين والأراميين في صعوبة ودمشق والعمونيين والأدميين والعمالقة (2 صموئيل 8 و10). وختم حكمه بتثبيت سليمان على العرش وارثًا له (1 ملوك 1) وحكم أربعين سنة، منها سبع سنين ونصف سنة في حبرون وثلاثة وثلاثين سنة في اورشليم (2 صموئيل 2: 11). وقد دفن داود في مدينة داود اليبوسيَّة. وينسب على داود ثلاثة وسبعون مزمورًا وقد كان داود حلقة على غاية ما يكون من الأهميَّة في سلسلة انساب من هو ابن داود، يسوع المخلص (متى 22: 41 -45). أمَّا عبارة " مَريَم "   اسم مصري (معناه في الأصل المصري محبوبة (الأناشيد 8: 10) والبعض يرجح انه اسم عبري מִרְיָם (معناه عصيان) فتشير إلى العذراء، مريم أم يسوع المسيح -جاءت هي ويوسُف من سبط يهوذا من نسل داود (لوقا 1: 32، ومتى 1: 16). وكان لمريم العذراء أخت واحدة (يوحنا 19: 25) سالومي زوجة زبدي وأم يعقوب ويوحنا (يوحنا 19: 25). وكانت العذراء مريم تتصل بصلة القرابة مع اليصابات أم يوحنا المعمدان (لوقا 1: 36). وذهب يوسُف ومريم معًا من الجليل، من مدينة النَّاصِرَة إلى بيت لحم (لوقا 2: 4 وما يليه). وفي بيت لحم وفي المغارة وضعت مريم ابنها البكر. وهي مباركة من النِّساء (لوقا 1: 28). ويقدمها لنا الكتاب المقدس كمثل أعلى للأمهات وللنساء قاطبة (لوقا 2: 27).

 

28 فدَخَلَ إلَيها فَقال: ((إفَرحي، أَيَّتُها الـمُمتَلِئَةُ نِعْمَةً، الرَّبُّ مَعَكِ)).

 

تشير عبارة " إفَرحي" في الأصل اليوناني Χαῖρε (معناها سلام أو فرح) إلى مريم التي هي المنعم عليها بشكل فائق. قيلت هذه التحيَّة قبلا لأورشليم، بنت صهيون (صفنيا 3 :14) في سياق عن الوعد الإلهي بالخلاص. ورد هذا الفعل حوالي 80 مرة في الترجمة السَّبعينيّة للعهد القديم، تُرجم نصفها "يفرح" والنِّصف الآخر استخدم للتعبير عن فرح شعب الله بعمل خلاصهم. ومن هذا المنطلق، تعتبر مريم بنت صهيون الحقيقيَّة المطلوب منها أن تتكلم باسم الشَّعب لقبول الوعد. فحدث البشارة هو حدث نعمة وفرح، يبدأ مع مريم لكي يتحقّق بملئه بالمسيح المولود منها ويُطال البشريَّة بأسرها. أمَّا عبارة "أَيَّتُها الـمُمتَلِئَةُ نِعْمَةً" في الأصل اليوناني κεχαριτωμένη فتشير إلى لقب في صيغة المجهول أطلق على مريم ويدل على الله الّذي ملأها نعمةً. ولا يرد في الكتاب المقدس ألاَّ في سفر يشوع بن سيراخ (18: 17) ورسالة بولس إلى أفسس (1: 6). أمَّا عبارة" نِعْمَةً " فتشير في العهد القديم اليوناني إلى حظوة الملك (1صموئيل 16: 22) ثم إلى حُب الحبيب (أناشيد 8/10). فإنَّ مريم نالت نعمة الرَّبّ وحبَّه. وأمَّا عبارة "الرَّبُّ مَعَكِ" فتشير إلى عبارة مألوفة لتشجيع مريم المدعوة لحمل رسالة الرَّبّ وتحمل مسؤوليتها مثل موسى (خروج 3: 12) وجدعون (قضاة 1: 8) وارميا (6: 12) وتحديدا إنَّ الله معهم حيثما اتجهوا (التكوين 28: 15)، ولكن مع مريم بشكل فريد. " إِذا كانَ اللّهُ معَنا، فمَن يَكونُ علَينا؟  " يقول بولس الرَّسول؟ (رومة 8: 31). ويعلق ثيودوسوس أسقف أنقرة " سمعت القدّيسة مريم الملاك يقول لها: "الرَّبّ معكِ"، وكان لهذا التعبير مفهومه الخاص بالنِّسبة لها، فقد ذاقت معيَّة الله على مستوى فريد، إذ حملت كلمة الله في أحشائها، وقدَّمت له من جسدها ودمها". ولم تتم البشارة بيسوع بين كهنة، ولا في داخل الهيكل، ولا على مستوى الجماعة، إنما في بيت مجهول في قرية فقيرة بطريقة سريَّة مع فتاة فقيرة.

 

29 فداخَلَها لِهذا الكَلامِ اضطرابٌ شَديدٌ وسأَلَت نَفسَها ما مَعنى هذا السَّلام؟

 

تشير عبارة "داخَلَها لِهذا الكَلامِ اضطرابٌ شَديدٌ" إلى سلام الملاك الذي أشْعَرها بدعوتها الفريدة. وأمَّا عبارة "سأَلَت نَفسَها ما مَعنى هذا السَّلام" فتشير إلى مريم التي أخذت تفكّر في بلاغ الملاك وتحاول فَهم سر هذا الوحي الذي لم تكن تتوقعه وتنتظره.

 

30 فقالَ لها الـمَلاك: ((لا تخافي يا مَريَم، فقد نِلتِ حُظوَةً عِندَ الله

 

تشير عبارة "لا تخافي" إلى كلمة محوريَّة في الإنجيل. وهي لا تعني ستكون حياتك سهلة ودون تضحيات، بل تعني ثقي بالله وبقدرته. هي كلمة يوجّها الملاك عبر مريم إلى كلّ تلميذ، يدعوه للثّقة والاستسلام بين يدي الله. أمَّا عبارة "حُظوَةً " في الأصل اليوناني χάρις (معناها النِّعمة) فتشير إلى الفرح والنِّعمة التي هي رسالة لاهوتيَّة مسيحانيَّة لا مريميَّة فحسب، وتسيّر النَّص بأسره، وتختصر حدث البشارة السَّارة.

 

31 فَستحمِلينَ وتَلِدينَ ابنًا فسَمِّيهِ يَسوع.

 

تشير " فَستحمِلينَ وتَلِدينَ " إلى استخدام الكتاب المقدس هذه العبارة ليُنْبئ عن المواليد في العهد القديم، لا سيما ولادة إسحاق (التك وين17: 19). وبهذه الآية قد حان أوان تحقيق نبوءة أشعيا القائل: "إِنَّ العذراء تَحمِلُ فتَلِدُ آبنًا وتَدْعو آسمَه عِمَّانوئيل"(أشعيا 7: 14). ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " وُلد من امرأة، لكي تصير أنت ابنًا لله".   أمَّا عبارة " يَسوع" في العبريَّة יֵשׁוּעַ (معناها الله يخلص متى 1: 21) إلى الاسم الذي بشّر به الملائكة الرُّعاة (لوقا 2: 11)، وقد كُشف هذا الاسم ليوسُف أيضًا (متى 1: 21). وهكذا تكون أبعاد لقب المسيح " لله معنا ليخلصنا" هوَ الَّذي يُخَلِّصُ شَعبَه مِن خَطاياهم"(متى 1: 21)، إذ كما جاء في أعمال الرُّسل "لا خَلاصَ بأَحَدٍ غَيرِه، لأَنَّه ما مِنِ اسمٍ آخَرَ تَحتَ السَّماءِ أُطلِقَ على أَحَدِ النَّاسِ نَنالُ بِه الخَلاص" (أعمال الرُّسل 4: 12). وهذا الاسم يسوع يحمل صفات المُخلِّص: كالسُّلطة (يشوع بن نون) والقدرة (اليشاع النَّبي) والرَّحمة (هوشع النَّبي) والقداسة (أشعيا) والحكمة (يشوع بني سيراخ). وهكذا تصوّر الآية رسالة يسوع بصورة المسيح التقليديَّة كما ورد في أشعيا (أشعيا 7: 14).

 

32 سَيكونُ عَظيمًا وَابنَ العَلِيِّ يُدعى، وَيُوليه الرَّبُّ الإِلهُ عَرشَ أَبيه داود،

 

 تشير عبارة " َابنَ" إلى النَّعت التقليدي المُطلق على الملك ابن داود. وبهذا يكون يسوع قد حقَّق الوعد الذي عقده الرَّبّ لداود بقوله "أقيمُ مَن يَخلُفُكَ مِن نَسلِكَ الَّذي يَخرُجُ مِن صُلبكَ" (2 صموئيل7: 14). وأمَّا عبارة "العَلِيِّ" فتشير إلى الله العلي، وهذا اللقب مألوف في الكلام على الله في الأدب اليوناني وفي العهد القديم، ولا يُستعمل في العهد الجديد إلاَّ عند مؤلفات لوقا (لوقا 1: 35)، أعمال الرُّسل 7: 84). وتوضح هذه الآية إجابة الملاك على تساؤل مريم بان الله هو الآب لهذا الابن المزمع أن يولد منها. كانت هذه الآية تحقيقا لنبوءة النَّبي ناتان إلى داود، إذ في ميلاد يسوع تمَّ وعد الله الذي أعطاه لداود الوعد بعرش وملكوت لا نهاية لهما.

 

33 ويَملِكُ على بَيتِ يَعقوبَ أَبَدَ الدَّهر، وَلَن يَكونَ لِمُلكِه نِهاية

 

تشير عبارة "بَيْت" فتشير إلى أهل البيت أو العائلة (التكوين 12: 17) أو العشيرة (لوقا 2: 4). أمَّا عبارة "يَعقوبَ" اسم عبري יַעֲקב (معناها يعقب، يمسك العقب، يحل محل) فتشير إلى أحد الآباء الثلاثة الكبار للعبرانيين. وهو ابن اسحق ورفقة وتوأم عيسو. وأن رفقة والدته أحبت يعقوب أكثر من عيسو احتالت مع يعقوب، فغشا اسحق، واخذ يعقوب بركة أبيه بدلًا من عيسو (التكوين 27) وأصبح وارث المواعيد. وتزوج من ليئة وراحيل فوُلد له من امرأتيه وسريتيه أحد عشر ابنًا وابنة (التكوين 31). وعند نهر يبوق (وادي زرقا)، باركه الله وغيَر اسمه إلى إسرائيل (التكوين 32: 22-) مؤكدًا له العهد الذي أقامه مع إبراهيم. ويطلق اسمه يعقوب وإسرائيل على كامل أمته (تثنية الاشتراع 33: 10). أمَّا عبارة " وَلَن يَكونَ لِمُلكِه نِهاية" فتشير إلى وعد الله الملك داود أن يدوم ملكه إلى الأبد بقوله:" يَكونُ بَيتُكَ ومُلكُكَ ثابِتَينِ لِلأبدِ أمام وَجهِكَ، وعَرشُكَ يَكونُ راسِخًا لِلأَبَد " (2صموئيل 7: 16). وقد تمَّ هذا الوعد لما جاء يسوع من نسل داود مباشرة لاستمراريَّة مُلك داود إلى الأبد. يملك يسوع أولا على شعبه في شخص يعقوب أي الشَّعب اليهودي ثم ينتقل إلى الأمم " نورًا يتجلى للوثنيين" (لوقا 2: 32). وهكذا ينتقل النَّص من الخلاص إلى اليهود إلى نظرة شاملة للخلاص للعالم كله.

 

34 فَقالَت مَريَمُ لِلمَلاك: " كَيفَ يَكونُ هذا وَلا أَعرِفُ رَجُلًا؟

 

يشير عبارة "َأَعرِفُ" في إطار الكتاب المقدس إلى إقامة علاقة زوجيَّة (التكوين 4: 1). أمَّا عبارة " كَيفَ يَكونُ هذا وَلا أَعرِفُ رَجُلًا؟" فتشير إلى استفسار مريم: كيف يمكن لمن لم تعرف رجلًا أن تحبل؟ وعليه اعترضت مريم بان ليست لها علاقات زوجيَّة مع يوسُف وأنها عذراء (لوقا 1: 27). وسؤالها لا يدل على شك أو عدم إيمان كما حدث في سؤال زكريا الكاهن (لوقا 1: 18)، إنما يدل على إيمان يحاول أن يكشف النُّور حول سر يسوع.  ويعلق القديس أمبروسيوس" لا تنم سؤال مريم عن الشَّك في الأمر قط، إنما هو تساؤل عن كيفيّة إتمام الأمر. إنها تحاول أن تجد حلًا للقضيّة". ويؤكد لوقا الإنجيلي أن مريم "عذراء" وذلك ليعلن أن السَّيِّد المسيح ليس من زرع بشر.

 

35 "فأَجابَها الـمَلاك: " إِنَّ الرُّوح القُدُس سَينزِلُ عَليكِ وقُدرَةَ العَلِيِّ تُظَلِّلَكِ، لِذلِكَ يَكونُ الـمَولودُ قُدُّوسًا وَابنَ اللهِ يُدعى"

 

تشير عبارة " الرُّوح القُدُس سَينزِلُ عَليكِ" إلى كشف عن سرّ عمل الله فيها لتحقيق هذه الولادة. فان الرُّوح القُدُس يُجري عمل الله الخالق كما كان في بداية الخليقة (تكوين 1: 2). ولذلك فإنَّ التجسد ليس حلولا في جسد سابق الوجود، بل هو خلق جسد إنساني دون زرع بشري، فكان لا بد من حلول الرُّوح القُدُس على العذراء ليولد المسيح. مريم حبلت بالرُّوح لا بالزواج أمَّا عبارة "قُدرَةَ العَلِيِّ تُظَلِّلَكِ" فتشير إلى حضور الله في وسط شعبه وإلى قوّته تعالى المرافقة للشعب في خروجه من أرض العبوديّة (خروج 40: 34-35)، وإلى حضور الآب السَّماوي لدى تجلي المسيح أمام تلاميذه " ظهَرَ غَمامٌ ظَلَّلهُم" (لوقا 9: 34). أمَّا عبارة " قُدُّوسًا " في الأصل اليوناني ἅγιος (معناها المنزه عن كل خطيئة) إلى القداسة التي هي ميزة الله الخاصة (مزمور22: 4). وفي العهد الجديد أول اعتراف بألوهيَّة المسيح بعد العنصرة كان بكلمة "قدوس" تفوه بها بطرس لليهود " أَنكَرتُمُ القُدُّوسَ" (أعمال الرُّسل 3: 14). مع كون يسوع من جنس آدم لحما ودما ولكنه ولد بلا خطيئة كرئيس لجنس جديد، ولم يخطأ أبدًا (2 قورنتس 5: 21). أمَّا عبارة " َابنَ اللهِ " فتشير في نظر لوقا وفي نظر العهد القديم إلى المسيح، صورة ابن الله المثالي (رومة 4: 1).  وهذا اللقب يدل على سر يسوع بكامله وبنوته الإلهيَّة. كلمات الملاك تدعم البنوة الإلهيَّة للطفل المولود من مريم على كونه حُبل به من الرُّوح القُدُس. ولوقا يجعل من هذه اللقب تعبيرا عن الصلة الخفيَّة التي تربط يسوع بالله. ولا يجعل هذه اللقب في إنجيله على لسان البشر، بل على لسان الآب (لوقا 3: 22) والملائكة (لوقا 1: 35) والأرواح الشَّيطانيَّة لوقا 4: 3) ويسوع نفسه (لوقا 10: 22). كشف الملاك سر يسوع الذي هو ابن الله ومسيح شعبه. وتؤكد لنا هذه الآية شخصيَّة يسوع، وتثبت لنا أنه هو الله بالذات. وهذه الآية أول إعلان واضح في الكتاب المقدس للثالوث: الآب يظلل العذراء بقدرته، الرُّوح القُدُس ينزل عليها، الابن يتجسد في أحشائها. يا له من سرّ إلهي فائق فيه يًعلن الله حبُّه العجيب للإنسان وتكريمه له.

 

36 وها إِنَّ نَسيبَتَكِ أَليصابات قد حَبِلَت هي أَيضًا بِابنٍ في شَيخوخَتِها، وهذا هو الشَّهرُ السَّادِسُ لِتِلكَ الَّتي كانَت تُدعى عاقِرًا.

 

عبارة " ألِيصَابَات" صيغة يونانيَّة Ἐλισάβετ لاسم لفظه في اللغة العبريَّة אֱלִישֶׁבַע (معناها الله قسم) تشير إلى اسم امرأة تقيَّة نفس اسم امرأة هارون من نسبط لاوي. وكانت اليصابات هذه زوجة زكريا وصارت فيما بعد أم يوحنا المعمدان الذي ولدته بعد أن كانت قد تقدمت بها السِّن. ومع أنها كانت من سبط يختلف عن السِّبط الذي جاءت منه مريم في النَاصِرَة إلا أنهما كانتا قريبتين. وقد زارت العذراء مريم اليصابات في أرض يهوذا الجبليَّة. وقد أوحي إلى اليصابات بالرُّوح القُدُس فرحبت بمريم داعية إياها "أم ربي (لوقا 1: 5-45). أمَّا عبارة " وهذا هو الشَّهرُ السَّادِسُ لِتِلكَ الَّتي كانَت تُدعى عاقِرًا" فتشير إلى إعطاء ملاك لمريم علامةً. لقد استطاع الرَّبّ العمل في الحشا الميت، فكيف لا يعمل الرُّوح في الحشا البتول؟

 

37 فما مِن شَيءٍ يُعجِزُ الله

 

تشير عبارة " فما مِن شَيءٍ يُعجِزُ الله " إلى استخدام الملاك نفس إلى سارة للدلالة على حبل سارة العجائبي بإسحاق "هَل مِن أَمْرٍ يُعجِزُ الرَّبّ؟ (التكوين 18: 14)؛ لا شيء مستحيل عند الله يقول الملاك، ومن صار تلميذ الرَّبّ لا يخاف المستحيل، فالله هو سيد المستحيل، وهو يحوّل عقمنا إلى حياة، ومرارتنا إلى رجاء، ويطهّر جسدنا المهشّم بالخطيئة ويجعله هيكلًا لحلول الرَّبّ.

 

38 فَقالَت مَريَم: أَنا أَمَةُ الرَّبّ فَليَكُنْ لي بِحَسَبِ قَوْلِكَ. وَانصرَفَ الـمَلاكُ مِن عِندِها

 

تشير عبارة " أَنا أَمَةُ الرَّبّ" إلى جواب مريم الذي يعبِّر عن إيمانها الواعي وتكريس ذاتها وطاعتها. ويعلق البطريرك بييرباتيستا "جوابُها سمحَ لله بأن يدخلَ في واقعِ هذا العالم، باتخاذِه جسدًا مثل جسدِنا. هنا أخذَ كلمةُ الله إنسانيَّتَنا، كلَّها، ما عدا الخطيئة" (غبطة في كنيسة البشارة 25/3/2021). وشهدت اليصابات على إيمان مريم بقولها: "طوبى لِمَن آمَنَت: فسَيَتِمُّ ما بَلَغها مِن عِندِ الرَّبّ (لوقا 1: 45). وبذلك أدَّى خضوعها وطاعتها إلى خلاصنا. وأخذت "جميع الأجيال تطوِّبها". آمنت مريم بكلمات الملاك وقبلت أن تحمل الطفل حتى في الظروف بشريَّة مستحيلة على العكس ردود فعل سارة أمرأه إبراهيم التي ضحكت ولم تؤمن بهذه البشرى (تكوين 18: 9-15) بينما زكريا شكَّ (لوقا 1: 18). فجاء قول القديس برنادس أجمل تعبير عن جواب مريم " أيتها العذراء المباركة، افتحي للثقة قلبك، وللرضى شفتيك، وللخالق بطنك" فان الله قادر أن يعمل المستحيل. فينبغي أن نتجاوب مع ما يطلبه الله لا بالضحك أو بالخوف أو بالشَّك بل بإيمانٍ واعٍ وطاعة ومحبة.

 

ثانيًا: تطبيقات النَّص الإنجيلي (لوقا 1: 26-38)

 

بعد تحليل وقائع النَّص الإنجيلي يمكننا أن نتعمق في نقطتين: بُعد حدث البشارة، والنُّقطة الأخرى إيمان مريم في البشارة نموذج لإيماننا.

 

1) بُعد حدث بشارة الخلاص:

 

شهدت مغارة البشارة تحيَّة الملاك جبرائيل. فيها رئيس الملائكة، نزل من عند عرش الله ليحي العذراء مريم، المنعم عليها. فكانت لحظة الدَّعوة والاختيار، مقدسة للسماء والأرض. مريم اختيرت لتكون والدة ابن الله " إِنَّ الرُّوح القُدُس سَينزِلُ عَليكِ وقُدرَةَ العَلِيِّ تُظَلِّلَكِ، لِذلِكَ يَكونُ الـمَولودُ قُدُّوسًا وَابنَ اللهِ يُدعى." (لوقا 35:1). هذا الحدث لا ينحصر بشخص مريم وينتهي في قولها "فليكن لي بحسب قولك"، بل هو ينطلق من كون مريم مملوءة نعمة ليعطي النِّعمة للبشريَّة بأسرها.

 

فحدث البشارة إنجيل مصغّر، يحتوي على قصة الله مع شعبه، ويعلن بشرى فرح ونعمة. هي النِّعمة الأزليَّة، كلمة الله الأزلي حلّت في حشا مريم لتعطي الخلاص للأمم بأسرها. فالهدف من خلال البشارة كان تحضير الإنسان العاقل والحر حتى يتقبل بإيمانه وطاعته كلمة الرَّبّ التي توجه إليه. وعليه فإنّ مريم هي مثال لنا بعقلها المستنير التي تسعى إلى معرفة الله وتمييز إرادته بكل حريَّة وقواها، لا الرُّوحيَّة فحسب، بل العقليَّة أيضًا. صارت مريم في حدث البشارة معلمّة لنا في استخدامها لعقلها ولفكرها بحرّيتها، وبتمييزها، للخضوع لإرادة الله. وعلمت أن ما يتمّ معها يتخطّى قوى عقلها وإدراكها، فخضعت بطاعة الإيمان، واثقة أن الله يهيئ لها النَّصيب الأفضل. وجعلت ذاتها "أمة لله" حين علمت أن ما يحدث معها هو مستحيل، ولكنّها في علاقة مع الله المستحيل.

 

واضطراب مريم هو صورة لاضطراب بشريّتنا إزاء المستحيل، فكم من مرّات نتساءل "كيف يكون هذا؟"، ونشكّك في قدرة الله على العمل في حياتنا؟ مريم تعلّمنا أن نقبل إله المستحيل، فما من شيء لديه مستحيل. مريم هي ضمانة قيمة فكرنا، فالإنسان مخلوق على صورة الله، يميّزه عقله عن سائر المخلوقات، وبحريّته يقدر أن يقبل مخطّط الله أو أن يرفضه.

 

كيف يمكن لمن لم تعرف رجلًا أن تحبل؟ وهو سؤالنا اليوميّ نحن الّذين يدعوهم المسيح إلى الاشتراك معه في خلاص العالم: كيف يمكن لي أنا الضعيف الخاطئ أن أكون تلميذ المسيح؟ وكيف يمكن للإنسان المجرّب المتألّم أن يحمل في داخله بشرى الخلاص؟ وكيف لي، أنا الّذي تملأ حياتي الآلام والمشاكل أن أبشرّ بإنجيل الفرح والرَّجاء؟ جواب الملاك لمريم، أن هو عمل الرُّوح القُدُس الّذي جعل البتول تحمل المسيح هو جواب لنا نحن أيًضًا: الرُّوح القُدُس هو القادر على تحويل حياتنا، ويجعلنا هياكل له مقدّسة، لنحمل يسوع بوح كما حملته مريم بالجسد، ونستحقّ أن نكون له تلاميذ. فإنجيل البشارة هو مدرسة إنجيل.

 

2) إيمان مريم في البشارة نموذج لإيماننا.

 

في مغارة البشارة في النَاصِرَة حيّا الملاك مريم النَّاصريَّة على أنَّها الممتلئة نعمة، وهنا قالت "نعم" مسلمة ذاتها لإرادة الله. والعذراء أصبحت بقوة الرُّوح القُدُس أمَّ الكلمة الإلهي. فصارت مريم المعلمّة لنا في الإيمان. مريم تُعلمنا كيف نعيش إيماننا. "تعلمنا أن ننظر، وان نوازن بين الأمور، وان ننفذ إلى المعنى الحقيقي والسِّرِّي لظهور ابن الله، الذي هو غاية في البهاء وغاية في التواضع والبساطة" كما جاء على لسان البابا القديس بولس السَّادس في عظته لدى زيارته النَاصِرَة عام 1964.

 

إنها سمعت وعدا عجيبا من الله؛ وهو أن تكون أمَّا لابنٍ، هو مسيح الرَّبّ "فَستحمِلينَ وتَلِدينَ ابنًا فسَمِّيهِ يَسوع" (لوقا 1: 31). كان وعد الله أمرًا غير متوقع حوّل مسار حياتها اليوميَّة وأقلق رتابة حياتها وتطلعاتها العاديَّة إذ وبدا هذا الوعد الله امرًا عسيرا "كَيفَ يَكونُ هذا وَلا أَعرِفُ رَجُلًا؟" (لوقا 1: 34).

 

ويُطلب من مريم أن تقول نعم لأمر لم يحدث قط من قبل، لكن الملاك جبرائيل يُطمْئِن مريم العذراء "وها إِنَّ نَسيبَتَكِ أَليصابات قد حَبِلَت هي أَيضًا بِابنٍ في شَيخوخَتِها،" (لوقا 1: 36). فتضع مريم ثقتها في الله الذي دعاها وهي لا تسأل هل الوعد ممكن، بل كيف سيتم ولهذا تجيب في نهاية الأمر " أَنا أَمَةُ الرَّبّ فَليَكُنْ لي بِحَسَبِ قَوْلِكَ" (لوقا 1: 38)؛ وبهذه الكلمات أصبحت أُمَّا للمسيح، وأُمَّا لكل المؤمنين.

 

مريم أصبحت في البشارة رمز للنفس المؤمنة ومعلمّة لنا في الإيمان، في التواضع، في الطاعة وفي شجاعة الاستجابة. تعلّمنا الشَّجاعة في الإيمان، وعدم الخوف من حضور الله في حياتنا، وتعلم كيف نظر الرَّبّ ونستعد لمولده في قلبنا. فهو الّذي يحرّرنا، ويقدّسنا، ويجعلنا آنيَّة مقدّسة تحلّ فيها نِعَم روحه، ويحقّق في حياتنا المستحيل. لقد اختارنا ونقّانا منذ خلقنا، لنكون هيكل الله الطاهر يحلّ فينا ليفدي البشر. ولنعلم أنّنا بمعموديّتنا دخلنا مدرسة إله المستحيل، وأن حياتنا ملكه، نضعها في خدمة إنجيله أينما كنّا، لنعلن كلّ يوم للّذين نلتقيهم أن الله هو عمّانوئيل، الله معنا، وهو لا يتركنا. لندع حياتنا أن تكون استسلاما غير مشروط لإرادة الله القدوس ولقيادته.

 

 

3) كنيسة البشارة في النَاصِرَة تحي بشارة الملاك

 

كنيسة البشارة هي الكنيسة الأولى التي تجذب نظر من يزور النَاصِرَة. وتقع في الطرف الجنوبي من النَاصِرَة القديمة. وتذكر هذه الكنيسة ما يرويه القديس لوقا في إنجيله (1/26-28) عما جرى هناك، وهو بشارة الملاك لمريم و"تأنس" كلمة الله على أثر تلك البشارة. وهذه الكنيسة مكرسة لتكريم مريم العذراء أم الله وكلمة الله المتجسد.

         

الحفريات التي اجريت1955-1960 بإشراف الأب باغاتي أضفت نورا على تاريخ الكنائس التي تعاقبت في هذا المكان المقدس: تأتي في الطليعة مغارة البشارة التي كانت تؤلف جزءا من مسكن مريم وتحول هذا البيت إلى بيت – كنيسة (أو مجمع) كما تشير الكتابات. ثم أقيمت كنيسة بيزنطيَّة مرصوفة بالفسيفساء سنة 427م وفيها درج ينزل من القسم الشِّمالي منها إلى المغارة التي شاهدها سائح سنة570 فكتب فيها: "أن بيت مريم هو الآن بازليك". وفي أوائل القرن الثاني عشر إقام الصليبيون على أنقاض الكنيسة المذكورة كنيسة أكبر منها وكانت المغارة ضمن القسم الشِّمالي من الكنيسة وينزل إليها بدرج. وقد صلى القديس لويس التاسع ملك فرنسا في هذه الكنيسة سنة 1254م.

 

وفي سنة 1730 بنى الآباء الفرنسيسكان كنيسة خالية من كل مظهر فني وتتجه من الجنوب نحو المغارة. والكنيسة الحاليَّة تمَّ بناؤها من 1960 إلى 1969 وقد أسهم العالم الكاثوليكي في هذا المشروع واقبل مختلف الفنانين الدَّوليين على جعل الكنيسة الجديدة جديرة بالذكريات الإنجيليَّة التي أقيمت لها.

 

شيدت كنيسة البشارة الحاليَّة في الأعوام 1960 – 1969 بالإسمنت المسلح المكسوّ بالحجارة المنحوتة. وقد صمَّمها المهندس الإيطالي "يوحنا موتزيو". وهي أكبر كنائس الشَّرق الأوسط مساحة. يتوج الواجهة الأماميَّة تمثال يسوع الفادي المصنوع من البرونز، تحته مشهد البشارة، مع كتابة باللاتينيَّة Angelus Domini  nuntiavit Marie ومعناه " ملاك  الرَّبِّ بشَّر مريم العذراء " ثم صورة الأناجيل الأربعة وتحتها كتابة باللاتينيَّة: Verbum Caro factum est et Habitavit in Nobis     ومعناها "الكلمة صار بشرا وسكن بيننا". وعلى الجانبين من واجهة الكنيسة عبارتان من العهد القديم تشيران إلى مجيء المخلص يسوع. من اليمين العبارة ماخودة من سفر التكوين وهذه نصها: Ait Dominus ad serpentem ipsa conteret caput tuum et tu insiduaberis calcaneo eius.

ومعناها: "فقالَ الرَّبُّ الإِلهُ لِلحيَّة. هُوَ يَسحَق رأسَكِ وأَنتِ تُصيبينَ عَقِبَه"(التكوين 3: 15) . وأما من جهة اليسار فنقشت نبوءة أشعيا: "ها إِنَّ العذراء تَحمِلُ فتَلِدُ آبنًا وتَدْعو آسمَه عِمَّانوئيل". (اشعيا7/14). أما في الواجهة الجنوبيَّة فنقشوا عليها صلاة Salve Regina   "السَّلام عليك يا سلطانة..." باللاتينيَّة.  وباب الكنيسة الرَّئيسي مصنوع من البرونز والنُّحاس ومنقوش عليه رسومات تروي تاريخ الخلاص. وهو من صنع الفنان Roland Friederichensen.

وتتألف كنيسة البشارة الجديدة من الكنيسة السُّفلى والكنيسة العليا وطولهما معا 76،85م وعرضهما 28.60م، وعلوهما 20م مع قبة علوها 57م.

 

الكنيسة السُّفلى:

 

عندما باشر الآباء الفرنسيسكان توسيع الكنيسة 1955 -1959 ظهرت حسب حفريات عالم الآثار الأب "باغاتي" الفرنسيسكاني عام 1955 معالم الكنيسة الصليبيَّة من القرن الثاني عشر التي تبلغ مساحتها 75 x30م. ولا يزال ظاهرًا للعيان جدارها الشِّمالي والزاوية الشِّماليَّة الشَّرقيَّة مع درجها اللولبي ومقاييس حنايا الكنيسة الثلاث. ويعرض في متحف دير الفرنسيسكان ستة تيجان لأعمدة صليبيَّة عليها مشاهد من حياة المسيح والرُّسل. صنعها نحاتون من شمال فرنسا لم يتمكن الصليبيون من استخدامها في الكنيسة لأنهم فوجئوا بالاحتلال العربي في معركة حطين، فلذلك وضعوهم في مكان آمن ولم تُكتَشف إلا في أثناء الحفريات.

 

وظهرت تحت أساسات الكنيسة الصليبيَّة أثار كنيسة بيزنطيَّة تعود إلى القرن الخامس (جدران وتيجان وأعمدة)، يبلغ مساحتها 18X8م. وإلى جانب الكنيسة دير بيزنطي من جهة الجنوب. وأما في الجهة الغربيَّة فتوجد ساحة. وأرضيَّة الكنيسة مكسوة بالفسيفساء وفيها حوض مربع ينزل إليه بسبع درجات منقوش على جداره بعض الكتابات تشير بأنه كان يستخدم كجرن للعماد يعود تاريخه إلى ما قبل قسطنطين.

 

وعلى مقربة من هذا الجرن لوحة فسيفساء يشير اتجاهها شمال – جنوب بان تاريخها يعود الى ما قبل الكنيسة البيزنطية. ويزين هذا الفسيفساء رسم يمثل إكليلًا من الزهر رمز الانتصار مع غصنين، رمز الفردوس، يحيطان بأول أحرف من لفظة الصليبmonogram  وهي باليونانية (ιστος) XP، وصلبان منتشرة في القطعة الفسيفسائية كلها متجهة نحو المغارة، ويعود تاريخ كل ذلك الى القرن الرابع قبل بناء الكنيسة البيزنطية. وعلى مقربة من هذه الفسيفساء يوجد بركة لها درج محفور في الصخر كانت تستخدم للعماد امام المغارة. وترتبط هذه القطعة الفسيفسائية مع درج يؤدي الى قطعة فسيفساء أخرى مربعة الشكل مكتوب عليها باللغة اليونانية (Κονον οc Διακ ιεροcολυμον) "هدية من كونون، شماس القدس" وتعود هذه الكتابة الى القرن الخامس عثر عليها عام 1730. والمغارة الصغيرة القريبة من الفسيفساء مكرسة للشهيد كونون. وهذه الكنيسة الأخيرة تقوم حولها مغارة ومخازن قمح. ربما أقيمت الكنيسة البيزنطية فوق كنيس أو مجمع يعود تاريخه الى القرنين الثاني والثالث.

 

أن الكنيسة السفلى خالية من الزينة لأنها ترمز الى فقر العذراء وتواضعها بعكس الكنيسة العليا التي تذيع أمجاد مريم أم المسيح وزينتها الروحية. وفيها أيضًا بقايا الكنائس السابقة التي ما زالت حتى ألان تشهد على مقدار تكريم الأجيال المتعاقبة للسيدة مريم العذراء في بيتها، وفي بشارتها محور كل هذه التحفة الفنية. وتزين الكنيسة السفلى لوحة تمثل لقاء قداسة البطريرك المسكوني اثيناغورس، بطريرك القسطنطينية وقداسة البابا بولس السادس الذي زار هذه الكنيسة وخاطب فيها العالم كله سنة1964. في سقف الكنيسة السفلى فتحة كبيرة تمكن من رؤية المغارة من الكنيسة العليا. والقبة التي تعلو السقف تخيم على المغارة. وتحتوي الكنيسة السفلى على الآثار التالية:

1) مذبح في الوسط لذكرى سر التجسد ويعلوه سقف يتدلى منه صليب نحاس من عمل الفنان الإسرائيلي بن شالوم.

 

2) مذبح من جهة اليمين على اسم الملاك جبرائيل. وفوق المذبح صورة البشارة تمثل العذراء والملاك جبرائيل وحمامة رمز الروح القدس.

 

3) مذبح من جهة اليسار على اسم يواكيم وحنة والدي العذراء يزينه تمثالان للقديسين يواكيم وحنة من صنع الفنان الايطاليAngelo Biancini . وهو الذي صمم تمثال يسوع الذي يعلو واجهة الكنيسة كما صمم أيضا لوحات مراحل درب الصليب. الجدران وجزء من الشباك تعود الى عهد الصليبيين وكذلك الجدار الطويل (رقم 4) الذي يقوم وراء المغارة.

 

4) مذبح الاحتفالات يقوم على 4 أربعة تيجان صليبية. ويقع المذبح على أرضية الكنيسة البيزنطية ولكن في مستوى اوطى من المستوى الأصلي للكنيسة البيزنطية.

 

5) حائط من بقايا الكنيسة البيزنطية: لهذه الكنيسة ثلاثة أجنحة ويبلغ مساحتها 19،50x8م ولم يبق منها سوى ألحنية الوسطى وبقايا من قطع فسيفساء في الجناح الشمالي والجنوبي. وللكنيسة فناء في جهة الغرب وأضيف دير من جهة الجنوب تبلغ مساحته 48X27م.

 

6) مغارة الشماس "كونون" في الجهة الشمالية الغربية وهي مدفن لهذا الشماس الذي استشهد من اجل المسيح سنة248 في أسيا الصغرى في عهد داقيوس (249-251)، إذ أعلن إيمانه بالمسيح امام القاضي في المحكمة: "أنا من ناصرة الجليل من أقرباء يسوع وأنا اعبده كما عبده أجدادي".

 

7) جرن المعمودية في عهد الجماعة المسيحية الأولى مع رموز مسيحية.

 

8) مغارة البشارة: كانت المغارة تستخدم للسكن منذ العصر الحديدي وحتى الحقبة الرومانية. تبلغ مساحتها 5.49 م2 وعلوها حوالي 2.74 م. فكما يبدو من تجويف الصخر الأبيض أنها كانت مسكنًا أصليًّا وتشكل جزءا من القرية القديمة. وعثر من كل جهة من مدخل المغارة على مخزن من الحبوب المختلفة silo. وأما السقف الداخلي للمغارة فهو محفور بشكل مستدير كقبة كنيسة صغيرة. وعلى مر العصور أقيم في السقف فتحات للتهوية ومُتَنفَّس لدخان المصابيح.

من جهة الشرق يوجد في المغارة حنية صغيرة لها سبعة وجوه من التلييس. وكان فيها مذبح استخدم من العصر البيزنطي حتى عام1730. وهناك صدع في الجهة العليا من ألحنية سببه أساسات عمود بناه الصليبيون بقرب جدار المغارة. وفي الجهة المقابلة وضع الصليبيون ثلاثة أعمدة عمودان من غرانيت خارج المغارة لوضع دعامة للكنيسة، وأما العمود الثالث فكان لدعم سقف المغارة. وعندما أعيد ترميم السقف بقي العمود بلا جدوى في الزاوية. ويصف لويس دها ؟؟ بتاريخ 1621 في مقام البشارة معبدًا ينزل إليه بست درجات وفيه عامودان أحدهما للدلالة على موقف العذراء حين بشرها الملاك والأخر على موقف الملاك نفسه".

 

والقسم الداخلي من المغارة له شكل نصف دائري ادخلت عليه تعديلات كثيرة ولا سيما في عهد الصليبيين. ويوجد في المغارة حجران متقوسان كانا يستخدمان كأساس للحنية الصليبية في الجدار الشمالي. وأما الدرج في داخل المغارة فأقامه الآباء الفرنسيسكان عام 1730 للنزول مباشرة من الدير الى المغارة. وكان سابقا نفقًا للوصول الى مغاور أخرى التي كانت تستخدم معصرة للنبيذ. وأما المذبح في داخل المغارة فهو من صنع الفن الاسباني ويعود الى عام 1730. وهناك مظلة فوق المغارة مزينة بنقوش نحاسية مذهبة تمثل البشارة والملائكة متخشعين. وعلى جانبي المغارة عامودان يعودان إلى الكنيسة الصليبية.

وهذه المغارة هي البيت التي كانت تقيم فيه سيدتنا مريم العذراء. وتنعم بإكرام خاص من أيام الرُّسل، كما يدل على ذلك صليب مخروطي الشَّكل، وكتابات منقوشة على الجدران، وأهمها كتابة يونانيَّة (XE MAPIA) أي " السَّلام عليك يا مريم..." منقوشة على قاعدة عامود، وكتابة تنص: "هنا مكان مريم المقدس"، وكتابات أخرى يزيد عددها على المائة وهي عبارات تقويَّة منها " أنا فاليريا قدمت هنا إلى بيت مريم لأسجد ليسوع ابن الله". يتوسطها مذبح نقش عليه "هنا الكلمة صار جسدا" شكلها الحالي يرقي إلى الصليبيين، وتبدو المغارة خارجيا كوحدة سكنيَّة مستقلة عن باقي المغاور السَّكنيَّة المجاورة. وأما الدَّرج في داخلها فقد أنشأه الفرنسيسكان عام 1700.

 

وراء المغارة يوجد مغارة أخرى يُقال إنها مطبخ العذراء وفي سقفها من الشَّرق ثقب يقال انه مدخنة المطبخ، وعن يمينك في الجهة الشَّرقيَّة باب يقال إن العذراء كانت تخرج منه إلى العين لتستقي. وفي رواق ساحة الكنيسة السُّفلى تعرض70 لوحة من الفسيفساء والسِّيراميك والخشب تمثل المزارات المكرسة لسيدتنا العذراء مريم في العالم.

 

الكنيسة العليا

 

تبلغ مساحة الكنيسة العليا 45X27م. تعلوها قبة ترتفع 40 مترا. مصنوعة من الإسمنت المسلح المغطى بالحجارة وسقفها مغطى بالنُّحاس ويعلو القبة فانوس. وتمثل القبة شكل زنبقة مقلوبة، جذورها في السَّماء منفتحة باتجاه الأرض، ترمز إلى انسكاب النِّعمة والنُّور على البشريَّة التي تنشقت عبير السَّماء عندما قبلت مريم أن تصبح أم المسيح. ويزين القبة حروف M بشكل سلسلة. وهذا الحرف يمثل أول حرف من كلمة مريم في اللغة اللاتينيَّة(aria)M. وتتصدر حنيَّة الكنيسة لوحة ضخمة من الفسيفساء الحديث تشيد بكنيسة المسيح في ضوء المجمع الفاتيكاني الثاني(1962-1965) وتمثل العذراء" أم الكنيسة" فوقها باللغة اللاتينيَّة Catholicam Apostolicam Unam Sanctam كنيسة واحدة مقدسة جامعة رسوليه". ويظهر في صدر الفسيفساء صورة المسيح، ومعه بطرس على جبل صهيون. يقول يسوع وهو فاتح ذراعيه "تعالوا إلى يا جميع المرهقين والمتعبين وأنا أريحكم"(متى11/28) وإلى خلفه لجهة اليمين مريم العذراء الملكة مستوية على عرشها وتتشفع لأبنائها. ويحيط بها جميع أعضاء الكنيسة من القديس بطرس حتى البابا بولس السَّادس وقد اتجهوا نحو المسيح. وهي من صنع الفنان الإيطالي Salvatore Fiume.

 

وأما المذبح الرَّئيسي فهو مصنوع من رخام احمر، بشكل قارب يعلوه بيت القربان، مطلي بالفضة. وهناك مذبحان جانبيان: مذبح إلى اليمين مكرس للقربان الأقدس، والآخر إلى اليسار مكرس للرهبنة الفرنسيسكانيَّة. وتزين جدران الكنيسة لوحات تمثل درب الصليب تستخدم لرعية الكنيسة اللاتينيَّة في النَّاصِرَة ولوحات فنيَّة تبرعت بها شعوب الدُّول المسيحيَّة، تمثل هذه اللوحات صورة سيدتنا مريم العذراء ماثلة على جدران الكنيسة بحسب فن كل شعب. والجدير بالمشاهدة صورة العذراء بالزي الياباني عليها معطف مصنوع من 4،50 كيلو غرام من اللؤلؤ الأصلي.

 

ومما يجذب النَّظر في الكنيسة العليا أيضا الرُّسوم التي فرشت بها أرضها والتي تذكر بالمجامع المسكونيَّة التي كان موضوع الدِّراسة فيها العذراء مريم أم المخلص ووالدة الإله.

 

 

1) أمومتها الإلهيَّة

 

عقيدة والدة الله -Theotokos)  (De Divina Maternitate، العذراء مريم والدة الإله لأنها أم كلمة الله الأزلي، ابن الله. وقد أعلن مجمع أفسس(431):"من لا يعترف بان عمانوئيل (المسيح) هو إله حقا، وان العذراء هي، لهذا السَّبب، ولدت الله حقا، لأنها ولدت، بحسب الجسد، الكلمة المتجسد المولود من الله، فليكن محروما".

 

لقب العذراء "بالكليَّة القداسة" (.(De perfecta Sanctitate ويقول البابا بيوس الثاني عشر في رسالته Ad Regina caeli 1954)): ليس من شك في أن مريم العذراء السَّاميَّة القداسة تفوق مقاما كل المخلوقات".

 

2) امتيازات مريم العذراء والدة الإله:

 

- الحبل بالعذراء بدون دنس الخطيئة الأصليَّة De Immacolata Concepitone   

أعلن البابا بيوس التاسع في 8/12/1854 عقيدة الحبل بمريم بدون دنس الخطيئة الأصليَّة: “إن الطوباويَّة مريم العذراء حفظت طاهرة من دنس الخطيئة الأصليَّة، منذ اللحظة الأولى من الحبل بها، وذلك بامتياز ونعمة فريدة من الله القدير، بالنَّظر إلى استحقاقات يسوع المسيح"

 

- عقيدة العذراء الدَّائمة البتوليَّة De perpetua Virginitate   

أعلن المجمع اللاتران عام649 عقيدة البتوليَّة بقوله عنها: "القديسة مريم الدَّائمة البكارة والبريئة من الدَّنس. وفي عام1553 أعلن البابا بولس الرَّابع: "أن مريم العذراء الكليَّة الطوبى بقيت بتولا قبل الولادة وفي الولادة وما الولادة على الدَّوام ".

 

- عقيدة انتقال العذراء إلى السَّماء De Mariae Virgini Assumptione  

أعلن البابا بيوس الثاني عشر 1/5/1946:"إن مريم العذراء الدَّائمة البتوليَّة، أم الله، بعد أن أنهت حياتها على الأرض، رفعت بالنَّفس والجسد إلى المجد السَّماوي".

 

- العذراء سلطانة السَّماء والارض De Universali Regalitate، يقول القديس يوحنا الدِّمشقي: “العذراء تملك على الخلائق كلها، لأنها خادمة الخالق وأمه". (في الإيمان المستقيم 14:4).

 

3) اشتراك مريم في عمل الفداء:

 

- العذراء الوسيطة لجميع النِّعم De Universali Mediatione، يقول توما الأكويني: "للمسيح وحده أن يجمع في وحدة تامة بين الله والنَّاس. ولهذا فالمسيح وحده هو الوسيط الكامل بين الله والنَّاس، لأنه بموته أجرى المصالحة بينهما. إلا أن ذلك لا يحول دون إقامة وسطاء آخرين بين الله والنَّاس، ينعم الله عليهم بأن يقدموا عونًا سابقًا وخدمة سابقة للوساطة الرَّئيسة في اتحاد البشر بالله. (توما3/1:26). ويقول القديس أفرام إن "مريم هي، بعد الوسيط، الوسيطة للعالم بأسره".

 

- العذراء أم بالرُّوح للبشريَّة كلها De Spirituali Maternitate.

 

ويغطي أرضيَّة الكنيسة بلاط رخامي عليه شعارات الباباوات الذين تكلموا عن أمجاد مريم عبر العصور. وأمَّا النَّوافذ الزجاجيَّة للكنيسة والقبة فتحمل صورا للآباء والقديسين الذين ساهموا في اللاهوت المريمي.

 

دعاء

 

لنجدد إيماننا في العمق، فلا يبقى إيماننا موقفًا مبهمًا في الحياة، بل يكون اعترافا واعيا وشجاعا بما نؤمن به في قانون الإيمان "تجسد بقوة الرُّوح القُدُس من مريم العذراء وتأنس". ولنتأمل بكل ذلك كلما تلونا صلاة التبشير " السَّلام الملائكي. ولنردِّد أخيرًا صلاة البابا القديس يوحنا بولس الثاني في مغارة النَّاصِرَة: "يا أم الكلمة المُتجسد لا تردّي طلباتي، بل اصغي إليَّ بحنانك، واستجيبي لدعائي. أمين.