موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٦ ابريل / نيسان ٢٠٢٤

يسوع المسيح وهَيكَل أُورَشَليم

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحَد الثَّالث من الصَّوم: يسوع المسيح وهَيكَل أُورَشَليم (يوحنا 2: 13-25)

الأحَد الثَّالث من الصَّوم: يسوع المسيح وهَيكَل أُورَشَليم (يوحنا 2: 13-25)

 

النَّص الإنْجيلي (يوحنا 2: 13-25)

 

13 وكانَ فِصحُ اليَهود قَريبًا، فصَعِدَ يسوعُ إلى أُورَشَليم، 14 فوَجَدَ في الهَيكَل باعةَ البقَرِ والغَنَمِ والحَمامِ والصَّيارِفَةَ جالِسين. 15 فَصَنَعَ مِجلَدًا مِن حِبال، وطَرَدَهم جَميعٍا مِنَ الهَيكَل مع الغَنَمِ والبَقَر، ونَثَرَ دَراهِمَ الصَّيارِفَةِ وقلَبَ طاوِلاتِهم، 16 وقالَ لِباعَةِ الحَمام: ((اِرفَعوا هذا مِن ههُنا، ولا تَجعَلوا مِن بَيتِ أَبي بَيتَ تِجارَة)). 17 فتَذَكَّرَ تلاميذُه أَنَّه مَكْتوب: ((الغَيْرَةُ على بَيتِكَ ستَأكُلُني)). 18 فأجابَه اليَهود: ((أَيَّ آيةٍ تُرينا حتَّى تَعمَلَ هذه الأَعْمَال؟)) 19 أَجابَهم يسوع: ((اُنقُضوا هذا الهَيكَل أُقِمْهُ في ثَلاثَةِ أَيَّام!)) 20 فقالَ اليَهود: ((بُنِيَ هذا الهَيكَل في سِتٍّ وأَربَعينَ سَنَة، أوَأَنتَ تُقيمُه في ثَلاَثةِ أيَّام؟)) 21 أَمَّا هو فكانَ يَعْني هَيكَل جَسَدِه. 22 فلمَّا قامَ مِن بَينِ الأَموات، تذكَّرَ تَلاميذُه أَنَّه قالَ ذلك، فآمنوا بِالكِتابِ وبِالكَلِمَةِ الَّتي قالَها يسوع في أورَشَليم. 23 ولمَّا كانَ في أُورَشَليمَ مُدَّةَ عيدِ الفِصْح، آمَنَ بِاسمِه كثيرٌ مِنَ النَّاس، لمَّا رَأَوا الآياتِ الَّتي أَتى بِها. 24 غَيرَ أَنَّ يسوعَ لم يَطمَئِنَّ إِلَيهم، لِأَنَّه كانَ يَعرِفُهم كُلَّهم 25 ولا يَحتاجُ إلى مَن يَشهَدُ لَه في شَأنِ الإنْسَان، فقَد كانَ يَعلَمُ ما في الإنْسَان.

 

 

المقدمة

 

يصف الإنْجيل في الأحد الثَّالث للصوم دخول يسوع إلى الهَيكَل، وطرْده للباعة والصَّيارفة (يوحنا 2: 13-25). ورد هذا المشهد في الأناجيل الأربعة، فهي بالتَّالي رواية موثوقة بدرجة عالية.  وكشف يسوع من خلال هذا المشهد العِبَادة التي تليق بآبيه السَّماوي في الهَيكَل الجديد أي جسد المسيح المائت والقائم "اُنقُضوا هذا الهَيكَل أُقِمْهُ في ثَلاثَةِ أَيَّام". وبهذا أصبح جسده السِّرِّي (أي الكنيسة)، الهَيكَل الجديد للقاء الإنْسَان بالله، كما جاء في تعليم بولس الرَّسول "أَنَّكُم هَيكَل الله" (1 قورنتس 3، 16). ويدعونا يوحنا الإنْجيلي إلى الهَيكَل الجديد، وذلك بالاتِّحاد مع المسيح القائم من بين الأموات من خلال كنيسته؛ ومن هنا تكمن أهميَّة البحث في وقائع النَّص الإنْجيلي وتطبيقاته.

 

 

أولًا: وقائع النَّص الإنْجيلي (يوحنا 2: 13-25)

 

13 وكانَ فِصحُ اليَهود قَريبًا، فصَعِدَ يسوعُ إلى أُورَشَليم:

 

تشير عبارة "فِصحُ" بالعبريَّة פֶּסַח إلى أحد الأعْياد الرَّئيسيَّة السَّنويَّة الذي يحتفل به كلُّ ذكرٍ يهودي في أورَشَليم (تثنية الاشتراع 16: 16)، وذلك لإحياء ذكرى خروج شعب العهد القديم، بني إسرائيل من مصر وتحريرهم (خروج 12: 11-23). وكان عيد الفصح يُحتَفل به في الهَيكَل لمدة أسبوعٍ كاملٍ في يوم الفصح وبعيد الفطير بقيَّة أيام الأسبوع. كان هذا أول فصح يُذكر في إنْجيل يوحنا بعد عماد السَّيد المسيح. وأمَّا الفصح الثَّاني فقد ورد في إنْجيل لوقا (لوقا 6: 1)، والفصح الثَّالث ورد في إنْجيل يوحنا (يوحنا 6: 4) الفصح الرَّابع   صلب فيه السَّيد المسيح (يوحنا 11: 55). وفي أثناء العشاء الأخير أعطى يسوع للفصح اليهودي معنى جديدًا يرتبط بالذَّبيحة على الصَّليب بقوله لتلاميذه "هذِه الكَأسُ هي العَهدُ الجَديدُ بِدمي الَّذي يُراقُ مِن أَجْلِكم" (لوقا 22: 20). أمَّا عبارة "فِصحُ اليَهود" فتشير إلى الفصح حسب فكر اليهود البشري، وليس حسب الفكر الكتابي الإلهي، لأنَّه عندما يعلن الله عن رفضه للشعب يُنسب الأصوام والأعياد إليهم لا إليه سبحانه تعالى، كما جاء في سفر أشعيا النَّبي "رُؤُوسُ شُهورِكم وأَعيادكم كَرِهَتها نَفْسي صارَت عَلَيَّ حِملًا وقد سَئِمتُ احتمالها"(أشعيا 1: 14). ويعلق العلامة أوريجانوس " هل يوجد احتفال بفصح آخر غير فصح اليهود؟ ويجيب أنه "ربما كان بعض اليهود يحتفلون بالفصح حسب فكرهم البشري، وليس حسب الفصح الذي ورد في سفر الخروج: "إنه فصح للرَّبِّ" (خروج 12: 11)، ولم يقل "إنه فصحكم" في أي موضع". بعد استقرار الفصح المسيحي الجديد انتهى الفصح اليهودي ولم يصبحْ له معنى؛ لان المسيح هو الفصح الجديد. أمَّا عبارة " فصَعِدَ يسوعُ " فتشير إلى وقوع أورَشَليم على ارتفاع عالٍ (لوقا 19: 45)، حيث يرتفع قمة جبل الزيتون عن سطح البحر 826 مترًا. وهي أعلى منطقة في القدس. أمَّا عبارة "أُورَشَليم" فتشير إلى مركز ديني وسياسي آنذاك في فلسطين، وهي الموضع الذي يُنتظر مجيء المسيح إليّه. وفيه كان الهَيكَل، علامة حضور الله الفائق الوصف وغير المرئي، كما يترنَّم صاحب المزامير "أَنا بِكَثرَةِ رَحمَتِكَ أَدخُلُ بَيتَكَ وبِخَشيَتكَ أَسجُدُ في هَيكَل قُدسِكَ"(مزمور 5: 8)، وإليه يأتي اليهود من كل أنحاء العالم ليحتفلوا بعيد الفصح. وكان العيد مناسبة ًمُلائمة للافتتاح الرَّسمي لخدمة يسوع العلنيَّة.

 

14 فوَجَدَ في الهَيكَل باعةَ البقَرِ والغَنَمِ والحَمامِ والصَّيارِفَةَ جالِسين

 

تشير عبارة "وَجَدَ في الهَيكَل" إلى كل ما رآه يسوع في الهَيكَل من أشياء زال عهدها، حيث لم تعد هناك الحاجة إلى تلك الذَّبائح في التَّدبير الإلهي الجديد. ودخل يسوع الهَيكَل وكأنَّه "بيته"، كما صرّح لمريم أمِّه ويوسف قبل حوالي عشرين سنة، وكان له من العُمر اثنا عشر عامًا عندما وجداه في الهَيكَل" أَلم تَعلَما أَنَّه يَجِبُ عَليَّ أَن أَكونَ عِندَ أَبي؟ " (لوقا 2: 49). أمَّا عبارة "الهَيكَل" في الأصل اليُوناني ἱερός,  ( معناها مَقْدِس) وبالعبريَّة הֵיכַל فتشير إلى الهَيكَل الأول الذي بناه سليمان الملك (نحو 949 ق.م) على جبل يُشرف على المدينة إلاّ أنَّ ذلك الهَيكَل الذي هدمه البَابليُّون (2 ملوك 25)، وقد أُعيد بناؤه على يد زُربابل حاكم يهوذا بعد السَّبي، سنة 515 ق. م. (عزيا 3: 1-6). ثم قام هيرودس الكبير بتوسيعه وترميمه.  ويُشار بالهَيكَل هنا بالتَّحديد إلى الفناء الخارجي الكبير المُسمَّى فناء الأُمم الذي يقف فيه الوثنيُّون الذين يشاركون في الصَّلاة (متى 21: 21)، وهكذا لا يكون الهَيكَل وقفًا على اليهود، بل يأخذ بُعدًا شُموليًا: هو بيت لجميع الشُّعوب، كما صرّح يسوع "بيتي بَيتَ صَلاةٍ يُدعى لِجَميعِ الأُمَم"(مرقس 11: 17). كان قد أُنشئ هناك في أجنحة الهَيكَل سوقٌ لبيع الحيوانات المُخصَّصة للذَّبائح في رواق الأمم يفصله حاجزٌ عن رواق اليهود، وعليه كتابة (موجودة في متحف إسطنبول) تُهدِّد بالموت كل أُمَمِي (غير مختون) يتجاوز الحاجز (أعمال الرُّسل 21: 28)، وكانت تنصُّ عليه كتابة ٌ باللغتين اليُونانيَّة     والعِبريَّة محفورةٌ على 13 عمودًا. وتَّم العثور على إحدى هذه الكتابات باللغة اليونانيَّة، وهي محفوظة حاليًا في متحف اللوفر في باريس، ونسخة عنها في متحف أورَشَليم القدس، وهذا نصُّها: "يُحرم على الغُرباء تخطي الحاجز المحيط بالهَيكَل، ومن قبض عليه مُتخطيًا الحاجز فهو مسئول عن موته المحتوم". والجدير بالذِّكر أنَّ رواق الوثنيين لا يقلّ قداسة عن فناء اليهود (مرقس 11: 15). أمَّا عبارة "باعةَ" فتشير بحسب مفهوم العلاَّمة أوغسطينوس إلى" هؤلاء الذين يطلبون ما لذواتهم في الكنيسة ولا يطلبون ما للمسيح. يحسبون كل شيء موضوع بيع". أمَّا عبارة "البقَرِ والغَنَمِ" فتشير إلى الحيوانات المُعَدَّة للذَّبائح المطلوب من اليهود تقديمها تكفيرًا عن الخطايا. ويُعلق القديس يوحنا الذَّهبي الفم " تلك الذَّبائح في الهَيكَل كان يجب أن يقدِّمها النَّاس بسبب ميولهم الجسديَّة وقلوبهم الحَجريَّة، فكان الجميع يعتقدون أن هذه ليست خطيئة عظيمة أن يبيعوا في الهَيكَل ما يقدِّم كذبائح في الهَيكَل". ولقد سمح رئيس الكهنة قيافا وحنان بهذه التِّجارة في الهَيكَل، فكانت أرباحهما منها ضخمة. أمَّا عبارة "الحَمامِ " فتشير إلى تقدمة الفقراء إلى الهَيكَل حيث كانوا يقدِّمون زَوجَي يَمامٍ أَو فَرخَي حَمام، كما جاء في شريعة موسى "فإِن لم يَكُنْ في يَدِ المرأة ثَمَنُ حَمَل، فلْتأخُذْ زَوجَي يَمامٍ أَو فَرخَي حَمام، أَحَدُهما مُحرَقةٌ والآخَرُ ذَبيحةُ خَطيئَة، فيُكَفِّرُ عنها الكاهِنُ فتَطهُر (الأحبار 12: 8). وقد عثر علماء الأثار في القُدْس على أكثر من ثلاثين برج من أبراج الحَمام القديمة مِمَّا يؤكد أهميَّة الحمام كتقدمة للهَيكَل (لوقا 24: 2)؛ وأمَّا عبارة "الصَّيارِفَةَ" فتشير إلى الصَّيارفة الجالسين في أروقة فناء الوثنيِّين في الهَيكَل لتغيير النَّقد اُّلرُّوماني إلى نقد يهودي للحصول على نقود مُرخّصة للتَّقادم حيث كانت ضريبة الهَيكَل تُدفع بالعُمْلَة اليهوديَّة. وكانت ضريبة الهَيكَل لا تدفع إلا بعُمْلَة “شيكل القدس"، وكانت تُساوي عشرة قروش، وهو مبلغ كبير آنذاك، إذا ذكرنا أن أجرة العامل اليومي في ذلك الوقت لم تكن تتعدى القرشين يوميًا.  وكان على كل يهودي في كل سنة أن يدفع هذه الضَّريبة، وكان الصَّرافون يمكّنون اليهود الآتين من الخارج أن يصرفوا أموالهم، إمَّا لشراء تقدمتهم (حمامة مثلا)، وأمَّا لدفع الدِّرهمين، وهما ضريبة الهَيكَل، وبالتَّالي كان الحجَّاج يتعرضون للغش. فكان الجَّميع يعتقد أنَّها ليست خطيئة عظيمة البيع في الهَيكَل ما يُقدّم كذبائح في الهَيكَل. ويُبرِّر رؤساء الكهنة السِّماح للصَّيارفة وللباعة والتِّجَّار داخل "فناء الأمم" على أنَّه راحة للمُصلِّين وزيادة دخل الهَيكَل. إلاَّ أن ذلك يؤدِّي إلى الاستهتار بحُرمة الهَيكَل، موضع عِبَادة الله التي هي الغرض الرَّئيسي لزيارة الهَيكَل علمًا أنَّ فناء الوثنيين لا يقلّ قداسة عن فناء اليهود في الهَيكَل، كما جاء في قول الرَّبّ على لسيان أشعيا النَّبي " أَفصارَ هذا البَيتُ الَّذي دُعِيَ بِآسْمي مَغارةَ لُصوصٍ أَمامَ عُيونِكم؟" (ارميا 7: 11).  فلا عجب إذن من ردِّ فعل يسوع لدى دخوله فناء الأمم الوثنيين في الهَيكَل. لقد أُسِيء استخدام الهَيكَل، إذ حوّله النَّاس إلى سوق تجاريٍّ، ونسوا أو لم يأبهوا ببيت الله أنَّه مكان العِبَادة، وليس سوقًا تجاريَّا للرِّبح علمًا أنَّ الذَّبائح أصبحت بلا فائدة مع مجيء المسيح.

 

15 فَصَنَعَ مِجلَدًا مِن حِبال، وطَرَدَهم جَميعًا مِنَ الهَيكَل مع الغَنَمِ والبَقَر، ونَثَرَ دَراهِمَ الصَّيارِفَةِ وقلَبَ طاوِلاتِهم:

 

تشير عبارة "فَصَنَعَ مِجلَدًا مِن حِبال" إلى سَوط للدَّلالة على سُلطة المسيح في بيت الله، كما هو مخوّل للشُّرطة باستخدام الأسلحة وحجز النَّاس.  فقد استولى الغضب المقدس على المسيح ضِدَّ الخطيئة، وضِدَّ الازدراء بالله. فالمسيح يُحبُّ شعبه ويؤدِّبه، كما جاء في تعليم صاحب الرِّسالة إلى العبرانيين " فمَن أَحَبَّه الرَّبُّ أَدَّبَه، وهو يَجلِدُ كُلَّ ابنٍ يَرتَضيه" (العبرانيين 12: 6). وهذا هو مفهوم تطهير الهَيكَل بمِجلَد مِن حِبال علمًا أنَّ الصِّيغة المُستخدمة تشير أن المسيح لم يضرب أحدًا به. ويوحنا هو الوحيد بين الإنْجيليين الأربعة الذي أشار لِمِجلَدًا مِن حِبال في يد المسيح كرمز يسمح بها الله ليُطهِّر أولاده غير القادرين على تطهير أنفسهم. وأمَّا عبارة "طَرَدَهم جَميعًا مِنَ الهَيكَل " فتشير إلى التَّطهير الأول للهَيكَل في بداية رسالة يسوع. طرد يسوع الباعة الذين يبحثون عن لله بل عن منفعتهم الشَّخصيَّة في الهَيكَل، كما جاء في تعليم بولس الرَّسول: "كُلُّهم يَسعى إلى ما يَعودُ على نَفْسِه، لا إلى ما يَعودُ على يسوعَ المسيح" (فيلبي 2: 21). وجعل القديس يوحنا الإنْجيلي هذا الحدث في بداية رسالة ربنا يسوع العامة ليؤكِّد لهم أنَّه هو الهَيكَل الجديد الذي يحتل مركز الهَيكَل القديم، وأنه الذَّبيحة الفريدة التي تحتلُّ مركز الذَّبائح الدَّمويَّة الحيوانيَّة، لذلك من أجل ذلك قام المسيح بطَرْد البقر والغنم مع الباعة. فالذين لا يريدون أن يُفتدوا بدم المسيح، يكون لهم كلُّ شيءٍ للبيع.  ولم يكن عمل يسوع بطرد الباعة عنيفًا، بدليل أنه لم يؤدِّي إلى تدخّل حرّاس النِّظام العام في الهَيكَل! ولم يستطع أحد أن يتصدَّى له، أو يمنعه مما كان يفعله، دلالة على أنَّه عملٌ خاصٌ بالأنبياء الذين كثيرًا ما ندّدوا، باسم الله، بسوء المعاملة والتَّجاوزات.  وفي الواقع، إنَّ العمل الذي قام به يسوع يُحقق نبوءة زكريا "ولا يَكونُ مِن بَعدُ تاجِرٌ في بَيتِ رَبِّ القُوَّات في ذلك اليَوم"(زكريا 14: 21). وهنا يتذكر يوحنا الرَّسول أقوال حزقيال النَّبي الذي يتوقَّع أن يكون كل شيء مقدسًا في أورَشَليم عندما تأتي الأزمنة المسيحانيَّة (حزقيال 8: 7-18)، حيث أنَّ الباعة يُفصلون عن الهَيكَل كالتِّينة التي لا تُعطي تمرًا (مرقس 11: 12). وهنا ترمز التِّينة إلى الهَيكَل الذي لا يجد فيه المسيح ثمرًا " سأُبيدُهم إِبادةً، يَقولُ الرَّبّ لا عِنَبَ في الكَرمَةِ ولا تينَ في التِّينة. والوَرَق قد ذَوى وأَجعَلُ علَيهم مَن يَدوسُهم"(ارميا 8: 13).  أمَّا التَّطهير الثَّاني للهَيكَل فقد حدث في نهاية خدمته، أي بعد ذلك بثلاثة أعوام في نهاية خدمته يوم الاثنين من أسبوع الآلام قبل الفصح الأخير، وقد سجَّله الإنْجيليون الآخرون (متى 21: 12-17، ومرقس 11: 12-19، ولوقا 19: 45-48). وهذا التَّطهير يدلَّ على إظهار لسلطة يسوع المسيح وإعلان عن عمله، إذ هو أتى ليُطهِّر ما قد فسد (جسدنا= هَيكَلنا)، وانه سيّد الهَيكَل في الأزمنة المسيحانيَّة، وأنَّه مَلك في خدمة آبيه السَّماوي مؤتمِّنًا على عِبَادة تليق به (لوقا 21: 12)، وبكلمة أخرى ، هو الهَيكَل الجديد؛ أمَّا عبارة " قلَبَ طاوِلاتِهم " فتشير إلى انقلاب سُلَّم القيم، قلب الأمور رأسًا على عقب، انقلاب بين الدُّنيوي والمقدّس، بين بيت تجارة وبيت الآب السَّماوي، بين مغارة اللصوص وبيت الصَّلاة، وبين الهَيكَل القديم والهَيكَل الجديد حيث صار الله مصدر غنى وسلطة.  تدل هذه الآية على قيام يسوع بحركة نبوية (زكريا 14: 12).

 

16 وقالَ لِباعَةِ الحَمام: "اِرفَعوا هذا مِن ههُنا، ولا تَجعَلوا مِن بَيتِ أَبي بَيتَ تِجارَة:

 

تشير عبارة "اِرفَعوا هذا مِن ههُنا" إلى أمر يسوع الذي لم يخالفْه أحدٌ، بل أطاعه الجميع. أمَّا عبارة "بَيتِ أَبي" فتشير إلى وحدانيَّة يسوع المُنسجمة مع الآب، ويُعلق القديس يوحنا الذَّهبي الفم "لم يقل المسيح لا تجعلوا البيت المقدس لكنه قال:" ولا تَجعَلوا مِن بَيتِ أَبي "، فها هو يدعو الله أباه" في حين الأناجيل الأخرى أُطلق يسوع على الهَيكَل "بيت صلاة"(متى 21: 13، مرقس 11: 17، لوقا 19: 46)؛ ويُعلق القديس كيرلس الكبير " قال: " بَيتِ أَبي "، ولم يقل "بيت أبينا"، حيث أن "الكلمة" يسوع يعرف أنه من جوهر اللَّه الآب وليس في عداد أولئك الذين هم أبناء بالنَّعمة. لذلك فهو يفصل نفسه عن الباقين، ويدعو اللَّه أبَاه". أمَّا عبارة "بَيتَ تِجارَة" فتشير إلى انتقاد يسوع لِما يحدث في حرم الهَيكَل من عمليات بيع وشراء بما فيها من كسب وربح وكذب وغش وسرقة وطمع وجشع من قبل الصَّيارفة والباعة. وكان ينبغي ألاَّ يمارسوا أعمالهم وتجارتهم في الهَيكَل ذاته حيث أن وجودهم كان سبب سُخرية بالهَيكَل الذي هو مكان عِبَادة الله. ويُعلق العلامة أوريجانوس " كان يجب عليه أن يطرد من هذا الهَيكَل، الّذي هو جسد الرَّبّ يسوع المسيح، كلّ من يرفض العدل ويهتمّ بالتِّجارة، حتّى لا يبقى هذا الهَيكَل بعد الآن بيت التِّجّار". وقد سمّى يسوع الهَيكَل "بيت تجارة" لكي يُظهر أن تجارتهم كان فيها عدم تقوى وفساد. ونفهم تصرّف يسوع على أنه إمَّا عمل سلطة تُلغي ذبائح الهَيكَل، وإمّا رمز لتطهير الهَيكَل، وكان اليهود ينتظرونه منذ أن دنَّسه انطيوخس ابيفانوس الملك السَّلوقي (167ق.م.) وبومبي القائد الرُّوماني (63 ق.م.)، وإمَّا احتجاج على تجاوزات التِّجار والصَّرّافين الذين حرموا رواق الوثنيين في الهَيكَل من قدسيته. نستنتج من كل ذلك أنَّ مغزى عمله يشير إلى وظيفة المسيح، كما ورد في نبوءة ملاخي "يَأتي فَجأَةً إلى هَيكَله السَّيِّدُ الَّذي تَلتَمِسونَه، ومَلاكُ العَهدِ الَّذي تَرتَضونَ بِه. ها إِنَّه آتٍ، قالَ رَبُّ القُوَّات" (ملاخي 3: 1)، يحلّ الرَّبّ بغتة في هَيكَله وبدأت الدَّينونة في بيت الله. وهنا يسوع يُعيد إلى الهَيكَل غايته الحقيقيَّة، وهي العِبَادة لله والصَّلاة مُحقِّقا نبوءة أشعيا "لِأَنَّ بَيتي بَيتَ صَلاةٍ يُدْعى لِجَميعِ الشُّعوب" (أشعيا 56: 7).  أعاد يسوع إلى الهَيكَل غايته الحقيقيَّة، بيت الآب، "بيت صلاة" (أشعيا 56: 7)، لا "بيت تجارة" أو "مغارة لصوص". يدل عمل يسوع على توقير مكان الصَّلاة والعِبَادة للأمم حيث كان غضبه غضب الابن لشرف أبيه، ولشرف بيت أبيه.  ولم يكن من السَّهل أن يُعرض يسوع نفسه لعداء السُّلطات الدِّينيَّة وغيظ التِّجار ووحشيَّة الباعة الذين شعروا بتهديد لمصالحهم الماليَّة، لولا اختياره التَّألم من أجل كرامة بيت الله. وباختصار، إن احتجاج يسوع لا يتعلق في الحقيقة بباعة الغنم والبقر والحمام والصَّيارفة، إنَّما يتعلق بالأحرى برؤساء الكهنة الذين سمحوا بدافع الجشع بوصول إلى التِّجارة في ساحة الهَيكَل.  قد نكون صيارفة وبائعي حيوانات في هَيكَل حياتنا معتبرين أنّ كلّ شيء على ما يُرام، ولكنّنا في الحقيقة بحاجة إلى الرَّبّ يسوع كي يُبيّن لنا ما هو الصَّحيح وما هو خطأ؛ ومن هذا المنطلق، علينا تجنُّب أو مَنْع أي ممارسات تتعارض مع عِبَادة الله.   

 

17 فتَذَكَّرَ تلاميذُه أَنَّه مَكْتوب: الغَيْرَةُ على بَيتِكَ ستَأكُلُني:

 

تشير عبارة "تَذَكَّرَ تلاميذُه " إلى عدم فهم التَّلاميذ ما عمله يسوع في ذلك الوقت. لكنهم تذكّروا ما ورد في الكتاب المقدس في سفر المزامير "لأَنَّ غَيرةَ بَيتكَ أَكَلَتني وتَعْييراتِ مُعَيَريكَ وَقَعَت علَيَّ" (مزمور69: 10). وعلى ضوء القيامة أدركوا البُعد المَسيحاني لهذا العمل النَّبوي. أمَّا عبارة " مَكْتوب:” فتشير إلى ما ورد في أسفار العهد القديم أو أُقتبس منه حيث أنَّ كل سفر يُفسِّر الآخر ويوضِّحه، لانَّ كل سفر هو كلمة الله (يوحنا 6: 45). ومن هنا تأتي أهميَّة معرفة الكتاب المقدس. لا عجب أن يسوع أمر في ذلك "تَتصَفَّحونَ الكُتُب تظُنُّونَ أَنَّ لكُم فيها الحَياةَ الأَبديَّة فهِيَ الَّتي تَشهَدُ لي" (يوحنا 5: 39). أمَّا عبارة " الغَيْرَةُ " فتشير إلى تعلُّق شديد بشخص الحبيب، وحَميَّة في القيام بأمر بإخلاص وتضحية. إن الغَيْرَةُ التي أظهرها يسوع هي من خصائص المسيح حيث أنَّ تلك الغَيْرَةُ على بيت الله أعظم علامة على فضيلته. لقد ملأته الغَيْرَةُ ضِدَّ الخطيئة وضِدَّ الازدراء بالله. حيث اعترض على عدم احترام العِبَادة في الهَيكَل وروحانيَّتها.  حيث اعتبر يسوع الأعمال التِّجاريَّة في الهَيكَل إهانة لله، وهكذا لم يتعامل بفتور أو تراخ ٍ بل بغضبٍ. والغضب قد يكون دافعه الانتقام أو الغَيْرَةُ البَارة. وكان هذا العمل تطهيرًا لكل النِّظام الذَّبائحي. فالهَيكَل هو بيت الرَّبّ. وبيت الرَّبّ له قدسيته، وهذه القدسيَّة واجب الحفاظ عليها. فمن الصَّواب أن نغضب على الظلم والخطيئة، لكن من الخطأ أن نغضب على اعتداءات شخصيَّة تافهة. أمَّا عبارة " ستَأكُلُني " فقد تكون إشارة مستورة لموت يسوع وذلك لاستعمال صيغة المستقبل وسياق الكلام. والواقع إن علامة التَّطهير تقوم على ذبيحة جسده. إنَّ يسوع بطرده الباعة من الهَيكَل وتوبيخهم يحقِّق ما قاله صاحب المزامير "الغَيْرَةُ على بَيتِكَ ستَأكُلُني"(مزمور69: 10). وعلى ضوء القيامة أدرك التَّلاميذ البعد المسيحاني لهذا العمل النَّبوي، ورأوا فيه إعلانا عن آلام يسوع وموته وقيامته. ورأت الكنيسة في ذلك إنباء بالآلام في إطار الإنْجيل العام واستعمال صيغة المستقبل "ستَأكُلُني". ويُعلق القديس أوغسطينوس "حقًا غَيْرَةُ بيت الآب أي الكنيسة قد التهبت في قلب يسوع المسيح الذي أحبها وأسلم نفسه لأجلها، لكي يهبها الحياة الأبديَّة فتشاركه مجده". ألم تكن تلك الغَيْرَةُ على بيت الله أعظم علامة على فضيلة يسوع؟ يسوع كله في خدمة أبيه، ليقدِّم له عِبَادة تليق به.

 

18 فأجابَه اليَهود: أَيَّ آيةٍ تُرينا حتَّى تَعمَلَ هذه الأَعْمَال؟

 

تشير عبارة "اليهود" إلى رؤساء اليهود الذين يُكنّون العَداوة ليسوع وما أرادوا أن يفهموه (يوحنا 8: 48)؛ ويتَّضح هذا المفهوم في إنْجيل مرقس الإزائي " فسَمِعَ عُظَماءُ الكَهَنَةِ والكَتَبَة، فجَعلوا يَبحَثونَ كيفَ يُهلِكونَه" (مرقس 11: 18). وقد وردت لفظة اليهود 71 مرة في إنْجيل يوحنا دلالة على أهميتها. أمَّا عبارة "أَيَّ آيةٍ تُرينا حتَّى تَعمَلَ هذه الأَعْمَال؟" فتشير إلى سؤال اليهود الذي وجّهوه إلى يسوع كي يُثبت أنه مرسل من الله كونه يصنع معجزة كما حدث مع موسى اعتقادًا منهم أنَّ الذي له سلطان على الهَيكَل هو المسيح (ملاخي 3: 1). يطلب اليهود من يسوع شهادة منظورة لسلطته للقيام بهذه الأمور، كي يمنعوه عما يفعله معهم، وهم يظهرون أنفسهم أنهم أصحاب السُّلطة ويتسألون إذا كان ما فعل يسوع باسم الله، فلتأتِ آية (عمل خارق) عند الله تشهد لِمَا عمل يُثبت سلطته في أمور الهَيكَل.  لأنه في نظر اليهود، لا بدَّ أن يأتي يسوع بعمل خارق (1 قورنتس 1: 2) يُثبت سلطته في أمور الهَيكَل كما جاء في إنْجيل مرقس " فَأَقبلَ الفِرِّيسِيُّونَ وأَخَذوا يُجادِلونَه فطَلَبوا آيةً مِنَ السَّماءِ لِيُحرِجوه" (مرقس 8: 11). ويربط المحاورون سلطة يسوع بمشهد الخوارق العظيمة، حيث يتوجب على المسيح المنتظر، في نظرهم، أن يجري من المعجزات ما يفوق ما عرفه شعب العهد القديم، وسيما معجزات سفر الخروج (مرقس 8: 11). ويسوع يُلبّي هذه المطلب على وجه غير منتظر في صليبه، كما جاء في تعليم بولس الرَّسول " لَمَّا كانَ اليَهودُ يَطُلبونَ الآيات، واليونانِيُّونَ يَبحَثونَ عنِ الحِكمَة فإِنَّنا نُبَشِّرُ بِمَسيحٍ مَصْلوب، عِثارٍ لِليَهود وحَماقةٍ لِلوَثنِيِّين" (1 قورنتس1: 22). ويُعلق القديس يوحنا الذَّهبي الفم" لقد تميَّز موقف التَّلاميذ إذ تذكَّروا " أَنَّه مَكْتوب: الغَيْرَةُ على بَيتِكَ ستَأكُلُني". أمَّا اليهود فلم يتذكروا النَّبوءة، فقالوا: " أَيَّ آيةٍ تُرينا؟" متوقِّعين بذلك أن يوقفوه، وراغبين في تحدِّيه بصنع معجزة، ليجدوا عِلَّة عليه". اليهود طلبوا آية أمَّا نحن فلا نطلب معجزات، بل بالإيمان نثق أن الله موجود ويعمل.

 

19 أَجابَهم يسوع: اُنقُضوا هذا الهَيكَل أُقِمْهُ في ثَلاثَةِ أَيَّام!

 

تشير عبارة "اُنقُضوا هذا الهَيكَل أُقِمْهُ في ثَلاثَةِ أَيَّام" إلى العَلامة الوحيدة التي أعطاها المسيح لليهود ردًا على سؤالهم. وبهذه العلامة كان يتكلم يسوع عن صلبه وقيامته التي بها سيُطهِّر الهَيكَل. وفي الوقت نفسه يُخبر اليهود عما سيفعلونه به كنبوءة ويُعلّق القديس أمبروسيوس " قدَّم يسوع لليهود آخر آية ٍ يصنعها يسوع المسيح نفسه قبل صعوده إلى السَّماء وهي قيامته. يجب أن يموت، لكنَّ لا يستطيع الفساد أن يحلَّ به، كما يترنَّم صاحب المزامير "لأَنَّكَ لن تَترُكَ في مَثْوى الأَمْواتِ نَفْسي ولَن تَدَعَ صَفِيَّكَ يَرى الهوة" (مزمور 16: 10). لكن اليهود لم يفهموا معنى كلامه "اُنقُضوا هذا الهَيكَل أُقِمْهُ في ثَلاثَةِ أَيَّام" بل اتَّخذوه ضِدَّه في محاكمته أمام مجلسهم (مرقس 14: 58)، لأنَّهم ظنَّوا أنَّ يسوع يشير إلى الهَيكَل حرفيًا، ولم يكونوا مُلمِّين بفكرة جسده كهَيكَل لله، بل نظروا إلى الهَيكَل الحجري الذي عمل هيرودس في بنائه لمدة 46 سنة. أمَّا يسوع فنظر إلى جسده الذي يمرّ في الموت والقيامة (ثلاثة أيام). حيث أنَّ جسده القائم لا يكون رمزًا إلى حضور الله فحسب، إنما أيضا إلى الله بالذَّات بعد أن صار الكلمة بشرًا، حيث قال "مَن رآني رأَى الآب " (يوحنا 14: 9).  وفي الواقع، لمَّا شُفي الأبرص جاء إلى يسوع لكي يُمجِّد الله، ولم يمضِ إلى الهَيكَل (لوقا 17: 18). أمَّا في الأناجيل الإزائيَّة نجد صيغة مختلفة باختلاف محاوريه " فأَجابَ يسوع عُظَماء الكَهَنَةِ وشُيوخ الشَّعبِ: ((وأنا أسأَلُكم سُؤالًا واحِدًا، إن أَجَبتُموني عَنه، قُلتُ لَكم بِأَيِّ سُلطانٍ أَعمَلُ هذه الأعْمال (متى 21: 24، مرقس 11: 28، ولوقا 20: 3). أمَّا عبارة "اُنقُضوا" فلا تشير إلى يسوع الذي يهدم الهَيكَل الحجري، كما اتهمه اليهود في محاكمته قبل موته "نَحنُ سَمِعناهُ يقول: إِنِّي سَأَنقُضُ هذا الهَيكَل الَّذي صنَعَته الأَيدي، وأَبْني في ثَلاثَةِ أَيَّامٍ هَيكَلًا آخَرَا لم تَصنَعْه الأَيدي مرقس 14: 58)؛ وفي الواقع، لم يُنسب يسوع إلى نفسه أبدًا دور الذي ينقض الهَيكَل، بل صرَّح أنَّه سيد الهَيكَل (متى 26: 61)؛ أمَّا اليهود فهم الذين يهدمون الهَيكَل الجديد الذي هو جسد يسوع وذلك بقتله على الصَّليب. ويسوع يُعيد بناءه، في فترة قصيرة من الزمن، حيث سيقيم ثانية "المقدس" الذي نقضوه (أعمال الرسل 6: 14). ويُعلق العلامة أوريجانوس "يلزم أن يُنقض هذا الهَيكَل بواسطة أولئك الذين يخطِّطون ضِدَّ كلمة الله، وبعد نقضه يقوم في اليوم الثَّالث. فبعد تدمير هَيكَل الرَّبّ (جسد المسيح) من قبل أولئك الّذين يرفضون كلمة الله، يقوم في اليوم الثَّالث ". ولكن كلام المسيح ينطوي على تهديد لليهود حيث أنَّ ساعة قتله سيحكمون على هَيكَلهم وأمتهم بالخَراب، أمَّا هو فسيقوم.  أمَّا عبارة "ينقض " و"يقيم" فتدلان على إشارة مزدوجة إلى الفعلين: "نقض" باليونانيَّة λύω (معناه هدم) يشير إلى هدم المباني المبنيَّة بالحجارة كبيت أو الهَيكَل، كما جاء في رسالة بولس الرَّسول "نَحنُ نَعلَمُ أَنَّه إِذا هُدِمَ بَيتُنا الأَرْضِيّ" (2 قورنتس 5: 1) أو انحلال جسم الإنْسَان، كما ورد في رسالة بولس الرَّسول (رومة 4: 25)، بينما الفعل "يقيم" باليونانيَّة ἐγείρω (معناه أقام) يشير إلى تشييد مبنى (الهَيكَل) أو قيامة جسد. والجدير بالإشارة أنَّ يسوع قال أقيمه وليس أبنيه، واليهود هم فهموا كلامه هنا أنه سيقوم بعد أن يقتلوه بثلاثة أيام (متى 27: 62-64). هكذا يعبِّر يسوع بآية قيامته عن سر سلطانه في تطهير الهَيكَل وسلطانه أن يقيم نفسه فهو ابن الله؛ أمَّا عبارة " ثَلاثَةِ أَيَّام " فتشير إلى رقم من الأرقام الكاملة، رقم للكمال الإلهي، وهذا الرَّقم هو رقم القيامة، فالمسيح قام في اليوم الثَّالث، ويونان خرج من جوف الحوت بعد ثلاثة أيام كما ورد في الإنْجيل " كما بَقِيَ يُونانُ في بَطنِ الحُوتِ ثَلاثةَ أَيَّامٍ وثلاثَ لَيال، فكذلكَ يَبقى ابنُ الإنْسَان في جَوفِ الأَرضِ ثَلاثةَ أَيَّامٍ وثلاثَ لَيال (متى 12: 40).

 

20 فقالَ اليَهود: بُنِيَ هذا الهَيكَل في سِتٍّ وأَربَعينَ سَنَة، أوَ أَنتَ تُقيمُه في ثَلاَثةِ أيَّام؟

 

تشير عبارة " سِتٍّ وأَربَعينَ سَنَة " إلى المدَّة التي بدأ فيها هيرودس الكبير بتوسيع الهَيكَل سنة 19 / 20 ق.م. بحسب المؤرخ فلافيوس يوسيفوس، إضافة إلى خدمة يسوع العلنيَّة، الخدمة التي حدّدها الإنْجيل نحو سنة 26م أو سنة 27م، حيث أنَّ المسيح ولد سنة 4 ق.م. فيكون قد مضت نحو (46) سنة على بداية توسيع الهَيكَل الثَّاني الذي بناه زربابل بين أعوام 520-515 ق. م.  ولم ينتهِ العمل في الهَيكَل إلاَّ سنة 63م على يد هيرودس أغريباس الثَّاني. ولذا فان كلمات يسوع عن هدم الهَيكَل وإعادة بنائه في ثلاثة أيام كانت مثيرة للدهشة.  أين هو هذا الهيكل؟ فتنبأ عنه يسوع بالخراب "هذا الَّذي تَنظُرونَ إِلَيه سَتأتي أَيَّامٌ لن يُترَكَ مِنه حَجَرٌ على حَجَر مِن غَيرِ أَن يُنقَض" (لوقا 21: 6). ومن هذا المنطلق يرى القديس أوغسطينوس تفسيرًا رمزيًا لرقم 46 الذي يعادل حروف اسم آدم في اليوناني Aδαμ حيث أنَّ ألفا (A)تعادل رقم 1، ودلتا (Δ) تعادل رقم 4، ومو (M) تعادل رقم 40. فكلمة آدم تعادل 1+4+1+40=46. هذا هو الهَيكَل أو الجسد الذي أخذه الكلمة يسوع من آدم فنقضه ليقيمه في ثلاثة أيام ليتمتع بالأبديَّة، إذ أقامه الآب بإرادته والابن بقوته، والرُّوح القدس بكونه روح القيامة".

 

21 أَمَّا هو فكانَ يَعْني هَيكَل جَسَدِه

 

 تشير عبارة "فكانَ يَعْني" إلى تعليق يوحنا الإنجيلي عن عدم فهم اليهود أحد أقوال يسوع الكثيرة التي لم تكن واضحة لهم عندما نطق بها، وقد تم فيهم نبوءة أشعيا " فَقَدْ غَلُظَ قَلبُ هَذَا الشَّعبِ، وأَصَمُّوا آَذَانَهم، وأَغمَضُوا عُيونَهم، لِئَلاَّ يُبْصِروا بِعيونِهم، ويَسْمَعُوا بِآذانِهم، ويَفهَموا بِقُلوبِهم، ويَرجِعوا" (متّى13: 15). ويُعلق القديس يوحنا الذَّهبي الفم عن سبب صمت المسيح عن إيضاح "اُنقُضوا هذا الهَيكَل "لأنَّه لو وضَّح قوله هَيكَل جسده بدل هذا الهَيكَل لما قبلوا قوله". ويُعلق القديس يوحنا الذَّهبي الفم عن سبب صمت المسيح عن إيضاح "اُنقُضوا هذا الهَيكَل "لأنَّه لو وضَّح قوله هَيكَل جسده بدل هذا الهَيكَل لما قبلوا قوله ".  أمَّا عبارة "هَيكَل جَسَدِه" فتشير إلى طبيعة يسوع البشريَّة التي هي مكان حضور الله وتجلِّيه بين البشر: فيسوع هو الهَيكَل الحقيقي، وسترتبط العِبَادة به بعد اليوم "والكَلِمَةُ صارَ بَشَرًا فسَكَنَ بَينَنا فرأَينا مَجدَه " (يوحنا 1: 14)؛ ومن هذا المنطلق، إن جسد المسيح هو الهَيكَل الحقيقي حيث أنَّ قيامة المسيح، بمثابة إعادة بناء هَيكَل جسده في ثلاثة أيام (يوحنا 1: 18). تحقَّق هذا القول بموت المسيح وقيامته في اليوم الثَّالث، ولا يزال يتحقَّق في جسده الذي هو الكنيسة، وفي كل مؤمن كعضوٍ في جسد المسيح، كما جاء في تعليم بولس الرَّسول "أَوَ ما تَعلَمونَ أَنَّ أَجسادَكُم هي هَيكَل الرُّوحِ القُدُس" (1قورنتس 6: 19). وهَيكَل جسده هو الحجارة الحيَّة التي هي نحن (أي كنيسته)، كما جاء في تعليم بطرس الرَّسول " أَنتم أَيضًا، شأنَ الحِجارَةِ الحَيَّة، تُبنَونَ بَيتًا رُوحِيًا فَتكونونَ جَماعَةً كَهَنوتيَّة مُقدَّسة، كَيْما تُقَرِّبوا ذَبائِحَ رُوحِيَّةً يَقبَلُها اللهُ عن يَدِ يَسوعَ المسيح" (1 بطرس 2: 5)، وهو حياتنا كما اختبره بولس الرَّسول " الحَياةُ عِندي هي المسيح" (فيلبي 21:1). هذه الشِّهادة فهمها التَّلاميذ بعد قيامة المسيح.

 

22 فلمَّا قامَ مِن بَينِ الأَموات، تذكَّرَ تَلاميذُه أَنَّه قالَ ذلك، فآمنوا بِالكِتابِ وبِالكَلِمَةِ الَّتي قالَها يسوع:

 

تشير عبارة "فلمَّا قامَ مِن بَينِ الأَموات" إلى رؤية يسوع الأحداث مُسبقًا قبل وقوعها. حيث أنَّ حقيقة عدم فهم التَّلاميذ لا تعني أن خطاب يسوع لا فائدة منه، لآنَّ يوحنا الإنْجيلي يتوقع أنَّ قيامة يسوع ستُذكّر التَّلاميذ بكلماته وأفعاله، وبالتَّالي يؤمنوا لاحقًا. فقيامة يسوع هو الحدث الأساسي الذي يساعد التَّلاميذ على الفهم حيث يذكّرهم الرُّوح القدس جميع الأشياء الذي قالها لهم يسوع "لكِنَّ المُؤَيِّد، الرُّوحَ القُدُس الَّذي يُرسِلُه الآبُ بِاسمي هو يُعَلِّمُكم جَميعَ الأشياء ويُذَكِّرُكُم جَميعَ ما قُلتُه لَكم" (يوحنا 14: 26). أمَّا عبارة "تذكَّرَ تَلاميذُه" فتشير إلى التَّلاميذ الذين سيفهمون الكتاب المقدس (أي العهد القديم) وكلام يسوع على ضوء قيامته وعطيّة الرَّوح القدس، كما ورد في إنْجيل يوحنا "هذهِ الأَشياءُ لم يَفهَمْها تَلاميذُه أَوَّلَ الأَمرِ، ولَكِنَّهم تَذَكَّروا، بَعدَما مُجِّدَ يسوع، أَنَّها فيهِ كُتِبَت، وأَنَّها هي نَفسُها لَه صُنِعَت" (يوحنا 12: 16). ويُعلق القديس يوحنا الذَّهبي الفم "كثيرٌ من النَّبوات لا يمكن إدراكها إلاَّ بعد إتمامها. هكذا لم يستطع حتى التَّلاميذ أن يدركوا ما قاله في ذلك الحين إذ كانوا لا يزالون أطفالًا في المعرفة. عند قيامته فتح أذهانهم كي يفهموا الكتب، وألهب قلوبهم بالمعرفة الصَّادقة للنبوات (لوقا 24: 45).   ومن هذا المنطلق، فهم المسيحيون أن يسوع هو الهَيكَل الحقيقي والعِبَادة تُقدّم له، كما كانت تُقدم لله في الهَيكَل (لوقا 2: 27). وقد أوضَّح يسوع هذا القول إلى المرأة السَّامريَّة: "إِنَّ اللهَ رُوح فعَلَى العِبادِ أَن يَعبُدوهُ بِالرُّوحِ والحَقّ "(يوحنا 4: 24). أمَّا عبارة " فآمنوا بِالكِتابِ " فتشير إلى نبوءات العهد القديم عن موت المسيح وقيامته حيث أنَّ القيامة شدَّدت إيمان التَّلاميذ إذ استعلنت حقيقة ابن الله.

 

23 ولمَّا كانَ في أُورَشَليمَ مُدَّةَ عيدِ الفِصْح، آمَنَ بِاسمِه كثيرٌ مِنَ النَّاس، لمَّا رَأَوا الآياتِ الَّتي أَتى بِه

 

 تشير عبارة "آمَنَ بِاسمِه" في الأصل اليوناني πίστευσαν εἰς τὸ ὄνομα αὐτοῦ إلى الاسم الذي يدل على الشَّخص. وهنا تلمح العبارة إلى الإيمان بالسَّيد المسيح؛ أمَّا عبارة "رَأَوا الآياتِ" فتشير إلى ملخّص عن الآيات لم يدوّنها يوحنا الرَّسول في إنْجيله (يوحنا 12: 37)، التي جعل موقع حدث معظمها في أورَشَليم علمًا أنَّ الإيمان الذي ولَّدته هذه الآيات لايزال غير كامل. في حين جعل متى، مرقس، ولوقا موقع حدث الآيات في الجليل (متى 4: 23).

 

 24 غَيرَ أَنَّ يسوعَ لم يَطمَئِنَّ إِلَيهم، لِأَنَّه كانَ يَعرِفُهم كُلَّهم

 

تشير عبارة" لم يَطمَئِنَّ إِلَيهم" في الأصل اليوناني οὐκ ἐπίστευεν αὐτὸν (معناها لم يثق بهم) إلى إيمان التلاميذ غير صحيح وغير ثابت بدليل أن يسوع لم يأتمنهم على نفسه، لان يسوع لا يثق بأناس تحمّسوا لصانع المعجزات حماسًا لأنَّهم أبعد ما يكون عن الإيمان بالكلمة المُتجسد، فولم يثق فيهم، لأنَّهم قد ينقلبون عليه في أي لحظة، وهذا ما حدث فصاحوا " اِصْلِبْهُ! اِصْلِبْهُ"(يوحنا 19: 6).

 

25 ولا يَحتاجُ إلى مَن يَشهَدُ لَه في شَأنِ الإنْسَان، فقَد كانَ يَعلَمُ ما في الإنْسَان.

 

تشير عبارة "كانَ يَعرِفُهم كُلَّهم" إلى معرفة يسوع ما في قلب اليهود ، وما في نفوسهم، فهم معه اليوم لانبهارهم بمعجزاته، ولكنهم سينقلبون عليه إذا اكتشفوا أن إرادتهم لا تتوافق مع إرادته، وأفكارهم ليست كأفكاره،؛  أمَّا عبارة " فقَد كانَ يَعلَمُ ما في الإنْسَان " فتشير إلى معرفة يسوع القلوب معرفة عميقة، وهذا ما لاحظه نتنائيل (يوحنا 1: 48)، ولاحظته أيضا المرأة السَّامريَّة بان يسوع عالم بخفايا حياة الإنْسَان (يوحنا 4: 16-19)، إنَّه فاحص القلوب والكُلى كما يترنَّم صاحب المزامير " إِنَّكَ فاحِص القُلوبِ والكُلى أيّها الإِلهُ البارّ" (مزمور 7: 10).

 

 ثانيًا: تطبيقات النَّص الإنْجيلي (يوحنا 2: 13-25)

  

بعد دراسة موجزة عن وقائع النَّص الإنْجيلي (يوحنا 2: 13-25)، يمكن الاستنتاج أَّن النَّص يتمحور حول ثلاث نقاط: مفهوم الهَيكَل وتاريخه، الهَيكَل في حياة يسوع والهَيكَل في حياة الكنيسة وكل مسيحي.

 

1) مفهوم الهَيكَل وتاريخ بنائه:

 

أ) مفهوم الهَيكَل

 

تعتبر جميع الأديان الهَيكَل بمثابة المكان المقدس، حيث يفترض أن يكون الله حاضرًا بين البشر، كي يتقبل عِبادتهم ويُشركهم في نعمِه وحياتِه. وتسرَّبت هذه العقليَّة إلى العهد القديم، حيث وردت لفظة الهَيكَل في الكتاب المقدس في معنى هَيكَل الرَّبّ كعلامة لحضور الله بين البشر (1 ملوك 8: 13).

 

إن كلمة "هَيكَل" הַהֵיכָל هي لفظة سومريَّة معناها "البيت الكبير" أي مكان عِبَادة الله. لكن اليهود لم يُطلقوا اسم الهَيكَل على كل مكان عِبَادة، بل على مكان واحد كبير في أورَشَليم. أمَّا باقي أماكن العِبَادة فكانت تُسمَّى مجامع לְבֵית הַכְּנֵסֶת. أمَّا في العهد الجديد فوردت كلمة هَيكَل في اللفظة اليونانيَّة ἱερός؛ وتشير هذه الكلمة إلى مجموعة من الأبنية التي لها صلة بالعِبَادة المُقامة في "قُدس الأقداس" وعلى المذبح القائم في السَّاحة.

 

في زمن الآباء: إبراهيم ويعقوب وإسحاق، لم يكن للعبرانيِّين هَيكَلٌ، بل كان لهم أماكن مقدسة يدعون فيها باسم الرَّبّ مثل: بيت أيل (تكوين12: 8)، وبئر السَّبع (تكوين 26: 25)، وشكيم (تكوين 33: 18-20). 

 

وفي زمن الخروج، اعتبرت سيناء هي أيضًا مكانًا مقدسا بتجلِّي الله فيها (خروج 3: 19-20). لكن فيما بعد، اتَّخذ العبرانيِّين خلال الصَّحراء خيمة الاجتماع (الخروج 26 -27) كمكان لقاء الشَّعب مع الرَّبّ (عدد 1: 1، 7: 89). فيها يسكن الرَّبّ بين الكروبين فوق الغشاء الذي يغطّي تابوت العهد. ويعلن منها أوامره، واستعملت اللفظة "خيمة الاجتماع وأطلق عليها أيضا "خيمة الشِّهادة "(1 صموئيل 1: 9)، لأنها تحتوي على تابوت العهد" (خروج 38: 21).

 

بعد إقامة الشَّعب العبراني في أرض كنعان، استقرَّ تابوتُ العهد، أولًا في الجلجال قرب أريحا (يشوع 4: 19) ثم في شكيم (يشوع 8: 30-35)، وأخيرًا في شيلو (1 صموئيل 1 إلى 4). ومما لا شكّ فيه أنّ الله نفسه ليس مقيّدًا بهذه العلامة المحسوسة التي تشير إلى حضوره: لا تسعه السَّماوات، فكيف ببيت على الأرض (1ملوك 8: 27). وأخيرًا حلّ الهَيكَل مكان خيمة الشِّهادة.

 

ب) تاريخ الهَيكَل

 

مرّ بناء الهَيكَل في ثلاث مراحل: الهَيكَل الأول في زمن سليمان والهَيكَل الثَّاني في زمن زرُبَّابَلُ ثم توسيع الهَيكَل الثَّاني في زمن هيرودس الكبير. 

 

الهَيكَل الأول، هَيكَل سليمان الحكيم:

 

بدا بناء الهَيكَل مع احتلال داود الملك (1010–970ق.م.) لمدينة أورَشَليم الذي اتَّخذها عاصمة سياسيَّة ودينيَّة. حيث أنَّ داود ابتاع بيدر ارنان (ارونا) اليبوسي، وبنى هناك مذبحًا للرَّبِّ (1 اخبار21:25-26)، ثم نقل إليه تابوت العهد بناء على رؤية (2 صموئيل 6: 12-17)، وأراد أن يُشيد لله هَيكَلا يقيم الله فيه (2 صموئيل 7: 1-3).

 

 لمَّا تُوفي الملك داود خلفه ابنه سليمان الملك (970 -931). وما أن اعتلى العرش حتى شرع ببناء الهَيكَل عام 959ق.م. كما ورد في الكتاب المقدس " بَنَيتُ البَيتَ لآسمِ الرَّبِّ إِلهِ إِسْرائ.   وجَعَلتُ هُناكَ مَكانًا لِلتَّابوتِ الَّذي فيه عَهدُ الرَّبِّ الَّذي قَطَعَه لِاَبائِنا، حينَ أَخرَجَهم مِن أَرضَ مِصْر" (1 ملوك 8: 20-21)، وأكمله في سبع سنين (1ملوك 6:38). وهكذا أصبح هَيكَل أورَشَليم امتدادًا لخيمة الشِّهادة حتى يسمح الله لشعبه بملاقاته بصورة أكيدة.   فقد اختار الله الهَيكَل باعتباره "بَيت يَكونُ آسْمه فيه" (1 ملوك 8: 16). وهكذا أصبح هَيكَل أورَشَليم المركز الأساسي لعِبَادة الله حث يكنّ له المؤمنون أروع حبٍّ، كما يترنم صاحب المزامير "أسجُدُ نَحوَ هَيكَل قُدسِكَ. وأَحمَدُ اْسمَكَ لأجْلِ رَحمَتِكَ وحَقِّكَ لأَنَّكَ عَظَّمتَ قَولَكَ فَوقَ كُلِّ اسمٍ لَكَ"(مزمور 138: 2)؛ وهم يعرفون أن مسكن الله "في السَّماوات " (مزمور 2: 4)، إلاّ أن الهَيكَل هو بمثابة المقابل الأرضي لقصره السَّماوي (خروج 25: 40)، الذي به يصير بنوع ما حاضرًا على الأرض.

 

كان يُعد الهَيكَل قلب الأمة اليهوديَّة ومركز الحياة الدِّينيَّة، يأتي إليه الجميع من كل أنحاء البلاد "ليحضروا أمام الله" (مزمور 42: 3) طلبًا لغفران الخطايا، إمَّا بتقديم الذَّبائح أو بإقامة الشَّعائر الطقسيَّة. فهو بيت صلاة (أشعيا 56: 7)، والمكان الشَّرعي الوحيد الذي يحق للكهنة اليهود أن يقدِّموا فيه الذَّبائح. وفيه تجد أركان الدِّين اليهودي الثَّلاثة: النُّبوءة والعِبَادة والملوكيَّة، جذورها بحسب لاهوت أشعيا النَّبي.

 

الهَيكَل الثَّاني، هَيكَل زرُبَّابَلُ

 

لم يتوانَ النَّبي أشعيا (1: 11-17، والنَّبي إرميا (6: 20) والنَّبي حزقيال عن التَّنديد بالصُّورة السَّطحيَّة التي عليها تُقدّم العِبَادة في الهَيكَل، وبالممارسات الوثنيَّة التي تتسرّب إليه (حزقيال 8: 7-18) وأخيرًا، فإنهم توقعوا تخلّي الله عن هذا البيت الذي كان قد اختاره، وأنذروا بخرابه، عقابًا على خطيئة الأمة (إرميا 7: 12 -15، حزقيال 9: 10).

 

حاصر نبوخذنصر، أحد الملوك الكلدان الذين حكموا بابل، أورَشَليم مرتين الأولى في سنة 597 ق م والثَّانية في سنة 587 ق م، وأحرق الهَيكَل وجميع بيوت أورَشَليم وأجلى سكانها (2 ملوك 8:25-23). وفي عام 538 أصدر قورُش، مَلِكِ فارِس، منشورًا يسمح بعودة اليهود إلى أورَشَليم وإعادة بناء الهَيكَل، فأسرع زرُبَّابَلُ بنُ شألْتيئيلَ (عزرا 2:5) حاكم اليهوديَّة إلى بناء الهَيكَل عام 514، بتشجيع من النَّبيين: حجاي وزكريا (عزرا 3إلى 6).

 

في عام 169 احتل انطيوخس ابيفانوس السلوقي أورَشَليم، وغزا الهَيكَل في سنة 167، وحوّله معبدًا للأوثان. إذ دشَّنه على اسم زوس الأولمبي (مكابى 21:1 -51). وفي عام 146 تمكّن يهوذا المكَّابي من استرداد الهَيكَل لتطهيره وإعادة عِبَادة الآباء فيه (1 مكابى 36:4-43)، فبنى مذبحًا جديدًا للتقادم (1 مكابى 59:4). وذكرى لهذا الانتصار يحتفل اليهود بعيد حانوكا (חֲנֻכָּה) ويُعرف بعيد الأنوار وعيد التَّدشين أو الأنوار.

 

توسيع هيرودس الهَيكَل الثَّاني:

 

وفي السَّنة 20 ق.م. شرع هيرودس الكبير بتوسيع الهَيكَل ليس بدافع ديني، بل بُغية العظمة ونيل رضى اليهود، كما جاء في كتابات يوسيفوس فلافيوس والأناجيل المقدسة حيث قال اليَهود ليسوع: " بُنِيَ هذا الهَيكَل في سِتٍّ وأَربَعينَ سَنَة، أوَ أَنتَ تُقيمُه في ثَلاَثةِ أيَّام؟"(يوحنا 20:2). ولقد استغرق بناء المنشآت الأساسيَّة فيه (10) سنوات إلاَّ أن العمل في التَّوسيع لم ينتهَ إلاَّ عام 64م. في عهد هيرودس أغريباس الثَّاني. فجاء في غاية الفخامة والعظمة، فوصفه التَّلمود بقوله: "من لم يشاهد بناء الهَيكَل الذي أقامه هيرودس، فهو إنسان لم يشاهد قط الأبنيَّة الجميلة".

 

وفي الواقع، أثار بناء الهَيكَل إعجاب الرُّسل أيضًا حتى صرخ أحدهم قائلا ليسوع: "يا مُعَلِّمُ انظُر! يا لَها مِن حِجارَة ويا لَها مِن أَبنِيَة" (مرقس 1:13) إلاَّ أن المسيح تنبَّأ بخرابه بقوله " أَتَرونَ هذا كُلَّه؟ الحَقَّ أَقولُ لكم: لن يُترَكَ هُنا حَجَرٌ على حَجَر، مِن غَيرِ أَن يُنقَض" (متى 24: 2). لقد أتي يسوع ليُطهِّر الهَيكَل، ولمَّا رفض اليهود التَّطهير تركه لهم خرابًا، كما تنبَّأ عنه " هُوَذا بَيتُكم يُترَكُ لَكم قَفْرًا" (متى 23: 38)، وهكذا يعمل الله على تطهير أجسادنا وحياتنا، وإذا رفضنا نفسد، لانَّ من يُفسد هَيكَل الله يُفسده الله " مَن هَدَمَ هَيكَل اللهِ هَدَمَه الله، لأَنَّ هَيكَل اللهِ مُقدَّس، وهذا الهَيكَل هو أَنتُم " (1 قورنتس 3: 17).

 

قاطع أعضاء الجماعة الأسينيَّة في قمران قرب البحر الميت الهَيكَل الذي تدنّس بسبب عدم شرعيَّة الكهنوت فيه في نظرهم، فأعدّوا ذواتهم هَيكَلًا روحانيًا يتقبّل فيه الرَّبّ العِبَادة اللائقة به باعتبار أن العِبَادة الرُّوحانيَّة التي يطلبها الرَّبّ، تمشيا مع قول الأنبياء هي "عِبَادة المساكين والقلوب المُنسحقة" (أشعيا 66: 1-2)، وهذا العبادة تستقيم أكثر مع حضور الرَّبّ الرُّوحي المُجرّد من العلامات المحسوسة. فالله يقيم في السَّماء ومنها يستمع إلى صلوات مؤمنيه المرفوعة له من كل جهة (طوبيا 3: 16).

 

على أثر اندلاع الثَّورة اليهوديَّة الأولى سنة 66م، جاء القائد الرُّوماني طيطس عام 70م، وحاصر المدينة وهدمها، وأحرق الهَيكَل ولم يبقَ منه إلا حائط المبكى، فتمَّت الآية التي تفوه بها السَّيد المسيح " الحَقَّ أَقولُ لكم: لن يُترَكَ هُنا حَجَرٌ على حَجَر، مِن غَيرِ أَن يُنقَض " (متى 24: 2). ومن أجل ذلك، ترك المسيحيُّون موضع الهَيكَل خرابًا، ولم يبنوا عليه كنيسة، كما فعلوا في أماكن أخرى حيث مرّ يسوع أو صنع معجزة. أمَّا اليهود فحاولوا التَّعويض عن الهَيكَل ببناء المجامع لإقامة ليتورجيا الكلمة، لانَّ الذَّبائح لا تُقدّم إلاَّ في هَيكَل أورَشَليم.

 

3) الهَيكَل في حياة يسوع

 

يدور البحث عن الهَيكَل في حياة يسوع حول نقطتين: دور الهَيكَل في حياة يسوع ثم رؤية يسوع عن الهَيكَل.

 

ا) دور الهَيكَل في سيرة يسوع

 

لعب الهَيكَل دورًا كبيرًا في حياة يسوع المسيح كما تشهد على ذلك النُّصوص الإنْجيليَّة. حيث ان يسوع يكنَّ له، أسوة بالأنبياء، احتراما عميقا. وفيه بشّر الملاك جبرائيل زكريا الكاهن بمولد يوحنا المعمدان ورسالته (لوقا 1: 5-22). وهناك تمّت تقدمة يسوع لله حيث دخل أبواه مريم العذراء ويوسف إلى الهَيكَل ليؤدِّيا عنه ما تفرضه الشَّريعة (لوقا 2: 22 – 39). كما تمّ لقاء يسوع للعلماء في الهَيكَل لمَّا بلغ اثنتي عشرة سنة (لوقا 2: 41-50). وكان يسوع يتردَّد على الهَيكَل للصلاة أو لتعليم الشَّعب (متى 21: 24) أو لمناظرة الفرِّيسيين (لوقا 2: 66) أو كان يقصده بمناسبة الأعياد الدِّينيَّة: عيد الفصح (يوحنا 2: 13) وعيد المظال أو الأكواخ (يوحنا 7: 2 – 8،59) وعيد حانوكا (חֲנֻכָּה) ويعرف بعيد الأنوار وعيد التَّدشين أو تجديد الهَيكَل (يوحنا 10: 22). وكان يسوع يؤيّد الممارسات الطقسيَّة التي تمَّت فيه، مع تنديده بالشَّكليات التي تفسد (متى 5: 23–24).

 

 في ساحة الهَيكَل، تمّت جدالات بين يسوع والكهنة والكتبة، حيث قام بتعنيفهم (متى 21: 23-23)؛ وأنذر يسوع بخراب الهَيكَل، لأن إسرائيل رفض أن يرى في شخصه مرسلَ الله (لوقا 21: 6). وأخيرًا لعب الهَيكَل دورًا خاصة في الأسبوع الأخير من حياة يسوع على هذه الأرض قبل موته على الصَّليب. فبعد دخوله إلى أورَشَليم في أحد الشَّعانين (متى :21: 109) طرد الباعة من الهَيكَل (لوقا 21: 12).  وأثناء محاكمة يسوع، أتّهمه اليهود: " نَحنُ سَمِعناهُ يقول: إِنِّي سَأَنقُضُ هذا الهَيكَل الَّذي صنَعَته الأَيدي، وأَبْني في ثَلاثَةِ أَيَّامٍ هَيكَلًا آخَرَ لم تَصنَعْه الأَيدي" (مرقس 14: 58)، وتلصق به نفس التُّهمة بشماتة أثناء نزاعه على الصَّليب (متى 27: 39 -40). وفي غضون ذلك، يُبيّن "انشقاق المَقدِسِ (الهَيكَل) شَطْرَيْنِ مِن الأَعلى إلى الأَسْفَل" أثناء لفظه الرُّوح، (مرقس 15: 38)، عندئذٍ فَقَد الهَيكَل اليهودي طابعه القدسي، ولم يعدْ بعد علامة للحضور الإلهي، وحل محلّها في العهد الجديد علامة من نوع آخر، ألا وهي جسد المسيح وكنيسته.

 

أشار يسوع إلى جسده العظيم الذي سيقوم من بين الأموات بعد ثلاثة أيام (يوحنا 2: 19) إلى الهَيكَل الجديد ومكان اللقاء الجديد بين الله والإنْسَان، بين الله وكل إنسان.  ويعلق الكاردينال شارل جرنيه " إنّ الهَيكَل الذي اختاره الله لنفسه هو أوّلًا شعب إسرائيل هذا؛ ويمثّله بناء الهَيكَل، وقد مثّل الهَيكَل مكانًا للسكَن الإلهيّ حيث اجتمع الشَّعب معًا للتضرّع إلى الله.  وبعد ذلك، في وقت معيَّن، لم يعد هذا الشَّعب هو الذي يمثّل الله ويكون مسكنه، بل صار الرَّبّ يسوع بدلًا منه؛ هو الذي صار الهَيكَل" (محاضرات ألقيت في جنيف 1972 -1974 حول إنْجيل القدّيس يوحنّا).  إذ انقلبت العلاقة مع الله: لم يَعدْ الإنسان مُجبرًا على تقديم التضحيات للحصول على نِعم الله، بل على العكس، يُقدِّم الله نفسه من أجلنا، يسفك دمه، ويبذل حياته في سبيل محبة الإنسان وفدائه.

 

نستنتج مما سبق إنّها عِبَادة الله لن تكون في جبل جرزيم أو في جبل أورَشَليم (يوحنا 4: 23) بل في المسيح يسوع، الكلمة المُتجسِّد.  وهو لدينا الآن في الإفخارستيا؛ في القربان المقدَّس، هذا هو مكان عِبادتنا حيث تتّصل الأرض بالسَّماء، المكان الذي اختاره هو لنفسه بتجسُّده.

 

ب) مفهوم الهَيكَل في رؤية يسوع: بيت الآب وبيت صلاة 

 

الهَيكَل بيت ألآب

 

الهَيكَل بيت الآب السَّماوي وليس بيت تجارة، كما صرّح يسوع لباعة الحمام" لا تَجعَلوا مِن بَيتِ أَبي بَيتَ تِجارَة (يوحنا 2: 16). ولم يتفوه يسوع بهذه الكلمات دون سبب.  كان من الواضح، أنَّه يجب أن تكون هناك حيوانات لتقديم ذبائح. ويجب أن يكون هناك الصَّيارِفَة.  لكن الموضوع تحوَّل لتجارة ونهب وغش كثير في الموازين والتَّلاعب في أسعار الذَّبائح وخداع للشَّعب في البيع والشِّراء، وكان رؤساء الكهنة يحصلون على جزء من الأرباح. ولقد وصف يوسيفوس فلافيوس المؤرخ فساد ابن حنان رئيس الكهنة حيث كان الهيكل له خزينة للنقود، واغتنى غناء فاحشًا، بل كان يغتصب بالعنف حقوق الكهنة الشَّرعيَّة. وسجل التَّلمود اللعنة على عائلة حنان رئيس الكهنة وعائلات رؤساء الكهنة الموجودين، قائلا عنهم "لقد كان الهَيكَل يصرخ في وجوههم. أخرجوا من هنا يا أولاد عالي الكاهن لقد دنستم هَيكَل الله". وكان هذا عثرة للشعب.

 

إنَّ الهَيكَل بمفهوم يسوع هو بيت الله، بيت أبيه، فلا بُدَّ من تطهيره. ويحتل تطهير الهيكل دورًا خاصًا في إنجيل القديس يوحنا. فقد ثار يسوع عندما رآه يتحوّل إلى مكان تجارة، فطرد منه باعةَ البقَرِ والغَنَمِ والحَمامِ والصَّيارِفَةَ لكي يُطهّره (يوحنا 2: 14)، وبهذا حقَّق يسوع نبوءة النَّبي زكريا " لا يَكونُ مِن بَعدُ تاجِرٌ في بَيتِ رَبِّ القُوَّات في ذلك اليَوم" (زكريا 14: 21). يقول يسوع إنَّ وقت “التِّجارة” مع الله وما ينطوي على ذلك النَّوع من العِبَادة قد انتهى، وأن أسلوبًا جديدًا من عيش الإيمان قد بدأ. لقد تمَّ الانقلاب على غرار قلب طاولات الصَّيارفة (يوحنا 2: 15). وبهذا أعطى يسوع المعنى الحقيقي إلى الهيكل من مكان لتحقيق المكاسب الشخصية إلى مكان العبادة والالتقاء بالله. وهنا أستعاد يسوع الإكرام لهيكل الله آبيه. وهنا يوحنّا يشير برسالة جوهريّة في ردّ فعل يسوع وهو تطهير الهيكل من النجاسة ومن كل ما هو لا ينتمي لله.

 

 كان هذا العمل علامة تطهير نبوي للهَيكَل لدى ظهور الرَّبّ، كما ورد في نبوءة ملاخي النَّبي " يَأتي فَجأَةً إلى هَيكَله السَّيِّدُ الَّذي تَلتَمِسونَه، ...فيُنَقِّي بَني لاوي ويُمَحِّصُهم كالذَّهَبِ والفِضَّة، فيَكونونَ لِلرَّبِّ مُقربينَ تَقدِمَةً بِالبِرّ" (ملاخي 3: 1-4). وهنا يطالب يسوع بطابع مُقدس لكل الهَيكَل، بما فيه رواق الأمم. لذلك لا يريد أن يُمارس فيه أي نشاط غير مقدس، إنه يريد قداسة الهَيكَل، حتى في رواقه المفتوح للأمم الوثنيَّة، كما ورد في إنْجيل مرقس " بيتي بَيتَ صَلاةٍ يُدعى لِجَميعِ الأُمَم " (مرقس 11: 17)، وبها العمل يهدم الحواجز بين اليهود والأمم، إذ أراد يسوع أن يُعيد الهَيكَل إلى نقاوته وقدسيته فمنع كلَّ نشاط غير مقدس في الهَيكَل بانتظار أن تصبح الأرض كلِّها مكرَّسة للرَّبِّ مثل هَيكَله.

 

لتفسير عمل يسوع الهادف إلى تطهير بيت الله، اقتبس يوحنا الإنْجيلي نصًّا من المزمور "غَيرةَ بَيتكَ أَكَلَتني" (مزمور69: 10)، هذا المزمور هو طلب مساعدة في حالة خطر شديد بسبب كراهيَّة الأعداء: الحالة التي سوف يعيشها يسوع في آلامه. يعلق البابا فرنسيس "إن الغَيرَة على الآب وعلى بيته ستقوده حتى الصَّليب: غَيرَته هي غَيرة المحبّة التي تقود على التَّضحية بالذَّات، وليست الغَيرَة الكاذبة التَّي تَدَّعي خدمة الله من خلال العنف". ويعطي يسوع "علامة" موته وقيامته "اُنقُضوا هذا الهَيكَل أُقِمْهُ في ثَلاثَةِ أَيَّام"(يوحنا 2: 19) كدليل على سلطته على الهَيكَل وسلطانه على بيت الله.

 

الهَيكَل بيت صلاة

 

الهَيكَل بيت صلاة وليس مغارة اللصوص كما صرَّح يسوع "بيتي بَيتَ صَلاةٍ يُدعى لِجَميعِ الأُمَم وأَنتُم جَعلتُموهُ مَغارَةَ لُصوص" (متى 21: 13، مرقس 11: 17 ولوقا 19: 46)؛ إنَّ الهَيكَل الذي هو مكان صلاة وطلب الغفران (1ملوك 8: 30-40) صار ترسًا يحمي اليهودي من غضب الله ويُنجيه من عقابه.  ومن هذا المنطلق، جاءت عبارة " مغارة اللصوص ".  فاللصوص يسرقون ويختبئون في مغارة لئلا يُكشفوا. واليهود يلجؤون إلى الهَيكَل، حيث يعتبرون أنَّ نفوسهم بأمان مع انهم أغاظوا ربَّ الهَيكَل.

 

لا يتَّهم يسوع بعبارة " مغارة اللصوص " الذين في الهَيكَل بأنهم سارقون، بل يُشبّههم بلصوص يبحثون عن ملجأ في مغارة. تحميهم من العقاب الذي يستحقونه نتيجة لسلوكهم، ولكن الله يعرف حياتهم، ويرى في تقواهم ذريعة لكي يُخفوا جورهم، كما جاء في نبوءة ارميا "ما لي والبَخورُ الآتي مِن شبأ وقَصَبُ الأَطْيابِ مِن أَرضٍ بَعيدة؟ إِنَّ مُحرَقاتِكم غَيرُ مَرضِيَّة وذَبائِحَكم لا تَلَذُّ لي" (ارميا 6: 20).  وفي موضع آخر، يوضّح ارميا النَّبي هذا الكلام القائل: "أَفصارَ هذا البَيتُ الَّذي دُعِيَ بِآسْمي مَغارةَ لُصوصٍ أَمامَ عُيونِكم؟ (ارميا 7: 11).  وبهذا يوبّخ أرميا الشَّعب لأنَّهم نقضوا العهد: يسرقون، ويقتلون، ويزنون، ويحلفون كذبًا ويتبعون الآلهة الغريبة، وبعد ذلك يحضرون أمام الله في الهَيكَل ويقدّمون فيه الذَّبائح ويقيمون في الاحتفالات. ويقولون " نحن في أمان".  فيجيبهم أرميا النَّبي: الله معكم إذا عشتم معه، إذا احترمتم عهده، وتمَّمتم إرادته. باختصار، يشجب إرميا النَّبي أمانًا كاذبًا لعِبَادة كاذبة. 

 

قام يسوع بتجديد الهَيكَل في وظيفته كبيت صلاة مُحقِّقا ما تنبأ تنبتنبَّأ بنأ به أشعيا "آتي بِهم إلى جَبَلِ قُدْسي وأُفَرِّحُهم في بَيتِ صَلاتي وتَكونُ مُحرَقاتُهم وذَبائِحُهم مَرضِيَّةً على مَذبَحي لِأَنَّ بَيتي بَيتَ صَلاةٍ يُدْعى لِجَميعِ الشُّعوب" (أشعيا 56: 7). واستعاض المسيح عن الذَّبائح بالصَّلاة حين قال " بَيتي بَيتَ صَلاةٍ يُدْعى " كما جاء في ترنيمة صاحب المزمور" تَكُنْ صَلاتي بَخورًا أَمامَكَ ورَفعُ كَفَّيَّ تَقدِمةَ مَساء" (المزمور 141: 2)؛ يؤكد أن العِبَادة بالمال لا ترضى الله، إذ هي عِبَادة أوثان.

 

جاء يسوع ليوبّخ اليهود منوَّهًا إلى أرميا النَّبي لاهتمامهم الزائد بالشكليات الخارجيَّة. حيث لم يعُد الله يرضى عن شعائر العِبَادة التي لا تؤثِّر في الحياة العاديَّة المليئة بظلم الضُّعفاء والسِّرقة والكَذب. وحيث أن معاصري يسوع أفسدوا الغاية التي من أجلها أُقيم الهَيكَل، كما فعل معاصرو ارميا النبي الذي وُهب لهم هذا الهَيكَل ليكون مكان التَّشفع والغُفران (1ملوك 8: 3-40) فجعلوا منه مأوى عن غضب الله وضَمانًا لهم للإفلات من العقاب. وهكذا جاء يسوع يُؤسس العِبَادة الحقيقة بدلاً من عِبَادة المال، لان محبَّة المال تُفسد نقاوة العِبَادة، كما جاء في تعليم بولس الرَّسول "بعض القوم فَسُدَت عُقولُهم فحُرِموا الحَقَّ وحَسِبوا التَّقْوى وَسيلةً لِلكَسْب.لأَنَّ حُبَّ المالِ أَصْلُ كُلِّ شَرّ" (1 طيموتاوس 6: 5-10). أمَّا العِبَادة الحقيقيَّة التي يريدها الله فهي الطاعة لكلمته "اِسمَعوا لِصَوتي فأَكونَ لَكم إِلهًا وتَكونوا لي شَعْبًا" (ارميا 7: 23) ولا تكتمل هذه العِبَادة في الهَيكَل، ولكن في الحياة اليوميَّة.

 

4) الهَيكَل في حياة الكنيسة وكل مسيحي

 

كانت الجماعة المسيحيَّة الأولى في نشأتها تلازم الهَيكَل كل يوم بقلب واحد (أعمال الرُّسل 2: 46)، ولكن بيّن انشقاق حجاب الهَيكَل (متى 27: 51) أنه لم يُعد هَيكَل أورَشَليم علامة لحضور الله بين البشر، وحلّت محلها في العهد الجديد علامة من نوع ٍ آخرٍ، وهي جسد المسيح وكنيسته (عبرانيين 6: 19). ومن هذا المنطلق، كان َ هَيكَل أورَشَليم قد هيّا هَيكَل المسيح وكنيسته، وهذا الهَيكَل النِّهائي لم تصنعه الأيدي (يوحنا 2: 19-21). هذا هو الهَيكَل الذي أخذه المسيح، كلمة الله ليسكن فيه بين بني البشر (يوحنا (1: 14)، ولكن، حتى تبطل قيمة الهَيكَل الحجري، ينبغي ليسوع نفسه أن يموت وأن يقوم من بين الأموات. لان هَيكَل جسده سوف يتهدّم ويُعاد بناؤه ثانيةً، تلك هي إرادة آبيه السَّماوي (يوحنا 10: 17-18). وبعد قيامته، سيشكّل هذا الجسد علامة الحضور الإلهي على هذه الأرض، التي تسمح له أن يجعل ذاته حاضرًا في كل الأمكنة وعلى مدى الأجيال، من خلال الاحتفال بالإفخارستيا. ومن هذا المبدأ فإن الهَيكَل القديم لن يبق إلاّ أن يزول. وفي الواقع، في عام 70 م تمّ خراب أورَشَليم الذي يُظهر، بصفة حاسمة، نهاية دور الهَيكَل الحجري في التَّخطيط الإلهي.

 

أخذ المسيحيون الأوائل يُدركون رويدًا رويدًا أَّهم هم أنفسهم الهَيكَل الجديد، الهَيكَل الرُّوحاني الذي هو امتداد لجسد المسيح، أي الكنيسة وفقًا لتعليم الرَّسول بولس "وهذا الهَيكَل هو أَنتُم" (1قونتس 3: 17) "ألا يُقيم المسيحُ في قُلوبِكم بالإِيمان"؟ (أفسس3: 17).  ومن هذا المنطلق، أصبحت الكنيسة هَيكَل الله، المبني على المسيح بصفته الأساس والرَّأس وحجر الزاوية (1 قورنتس 3: 16- ) وفيها يجد كلُّ إنسانٍ، دون ما تمييز، سبيلًا إلى الله في روح ٍواحدٍ (أفسس 2: 14-22).  وخير مثال على ذلك، هي سيدتنا مريم العذراء التي التقت بالله في منزلها في الناصرة (لوقا 1: 21-38)، والمرأة السامرية التي دخلت في علاقة جديدة مع الآب، لا من خلال الذبائح، بل مع الاستعداد المتواضع لاستقبال هبة الله، وروحه، ورحمته (يوحنا 4: 1-30). 

 

لا يرغب الله الآب في مكان اللقاء معنا بقدر أنّ نلتقي به في ابنه يسوع، فنصير أبناء وهياكل حيَّة. كل مسيحي هو نفسه هَيكَل الله، كونه عضوًا في جسد المسيح (1 قورنتس 6: 15، 12: 27)، وجسده هو هَيكَل للرُّوح القدس "أَوَ ما تَعلَمونَ أَنَّ أَجسادَكُم هي هَيكَل الرُّوحِ القُدُس" (1 قورنتس 6: 19). وما دام جسد يسوع القائم من الأموات هو هَيكَل الله الأمثل، يعتبرُ المسيحيون أنفسهم أعضاء هذا الجسد الذين يكوّنون معه الهَيكَل الرُّوحاني، لذلك ينبغي لهم أن يساهموا في نموّه بالإيمان والمحبَّة (أفسس 4: 1 -16).

 

 كما أن المسيح هو الحجر الحي الذي اختاره الله، وأرذله النَّاس كذلك المؤمنون هم أيضًا بمثابة أحجار حيّة، يشكّلون معه بيتًا روحيًا للكهنوت المقدس، في سبيل تقديم ذبائح روحيَّة (1 بطرس 2: 4-5). هذا هو الهَيكَل النِّهائي الذي لم تصنعه يدُ إنسان. وهكذا أصبحت الكنيسة هَيكَل الرَّبّ، والمسيح هو حجرها الأساسي (1 قورنتس 3: 10-17)، وهي مجال اللقاء بين الله والنَّاس وعلامة الحضور الإلهي على الأرض، وهي الحقيقة التي كان يرمز إليها الهَيكَل القديم بصورة مؤقتة وناقصة (رؤيا 11: 1-2). وأمَّا في نهاية الأزمنة، فلن تَعد الكنيسة بحاجة إلى الهَيكَل حيث أنَّ الهَيكَل سوف يكون الرَّبّ نفسه والحَمَل، كما جاء في رؤية يوحنا الحبيب "لَم أَرَ فيها هَيكَلًا، لأَنَّ الرَّبّ الإلهَ القَديرَ هو هَيكَلها، وكذلك الحَمَل" (رؤيا 21: 22)

 

 

الخلاصة

 

فيما يسرد الأناجيل الإزائية (متى ومرقس ولوقا) موضوع يسوع والهيكل بالقرب من نهاية حياة يسوع، أيّ بعد دخوله المنتصر إلى أورشليم، يسرد يوحنا موضوع يسوع والهيكل مباشرة بعد مقدّمة أنجيله المقدمة (1: 1-18)، واختيار تلاميذه الأوائل (يوحنا 35-51) وبعد حضور تلاميذه أوّل معجزة في عرس قانا الجليل مُبيّتا جوهر رسالة يسوع وهو تطهير الهيكل من النجاسة ومن كل ما هو لا ينتمي لله.

 

يقدم لنا إنْجيل يوحنا السَّيد المسيح هَيكَلا جديدًا وعِبَادة جديدة تنبا عنه زكريا "هُوَذا الرَّجُلُ الَّذي آسمُه ((النَّبْت)). إِنَّه يَنبُتُ حَيثُ هو، وَيبْني هَيكَل الرَّبّ" (زكريا 12:6)، وهذا الهَيكَل الجديد هو جسده أي الكنيسة وهذ الأمر يُشجِّعنا أن نبحث عن الله في هَيكَل كنيستنا بغَيْرَةِ المسيح على بَيتِ الله: كما بحثت مريم ويوسف عن يسوع ووجداه في الهَيكَل، كذلك لنبحث نحن أيضًا مُتَلَهِّفَيْن عن الرَّبّ يسوع في هَيكَل الله، لنبحث عنه في الكنيسة، لنبحث عنه لدى العلماء الموجودين في الهَيكَل والذين لا يبرحونه. إذا بحثنا سنجده كما وجده مريم ويوسف "جالِسًا بَينَ المُعَلِّمين، يَستَمِعُ إِلَيهم ويسأَلُهم "(لوقا 2: 46). والآن أيضًا، الرَّبّ يسوع موجود هنا؛ هو يسألنا ويسمعنا نتكلّم.

 

ولنحاول أن نبحث عن الرَّبّ أيضًا في هَيكَل اجتماعاتنا. "حين يجتمع اثنان أو ثلاثة باسمك (متى18: 20) فهم يشكّلون كنيسة. احفظْ، يا ربّ، آلاف المجتمعين هنا وهناك في كنيستك: فقد حضّرت قلوبهم لك هَيكَلًا قبل أن تشيّد أيدينا هذا الهَيكَل لمجد اسمك. ليكنْ الهَيكَل الدَّاخليّ جميلًا بقدر الهَيكَل المصنوع من الحجارة. تنازلْ واسكنْ في أحدهما كما في الآخر؛ قلوبنا حُفِر اسمك عليها. إنّك تسكن في وسطنا وأنت تجذبنا برباط المحبّة (هوشع 11: 4)؛ هوذا هَيكَلك، هوذا عرشك... نعم، في القلب نلقى الرَّحمة؛ في القلب يسكن الرَّبّ يسوع المسيح، وفي القلب يهمس كلمات السَّلام لشعبه، ولقدّيسيه ولجميع أولئك الذين يدخلون إلى قلوبهم. ولنحذر أن نحضر إلى الكنيسة بسلوكٍ خاطئة حيث نستخدمها للاتصالات الشَّخصيَّة أو للعمل، بل علينا أن نحضر إليها لنلتقي بالله كي نعبده ونشكره ونستغفره ونطلب نعمه.

 

أخيرًا كما طرد يسوع الباعة من الهَيكَل، غيرة لبيت الله، كذلك يتوجب علينا نحن أيضًا أن نطهرَ أجسادنا هياكل الرُّوح القدس، كما جاء في تعليم بولس الرَّسول (1 قورنتس 6: 19). فنحن هَيكَل الله وينبغي أن نرفع كل فكر رديء أو شهوة رديئة أو نظرة رديئة، داخل الكنيسة أو خارجها. ولنقِّي ذواتنا من ضجيج هذا العالم: ضجيج الإعلانات وضجيج الأغاني والصَّخب والبرامج التَّلفزيونيَّة الفاسدة، وضجيج المخدرات والأعمال الفاسدة. لأننا في وسط هذا الضَّجيج لا نعد نسمع صوت الله، بل نسمع صوت الباعة الّذين يحاولون إغراءنا بشتّى الوسائل، ويروّجون الاستهلاك والطمع والشَّراهة والإباحيَّة. وهكذا نستطيع أن نقف في حضرة القدّوس مستعدّين لسماع صوته والعمل بإرادة الله القدوسة وكلنا غَيرَة على بيت الله وبيت هَيكَل قلبنا.

 

 

دعاء

 

أيها الآب السَّماوي، نطلب إليك باسم يسوع ابنك، أن تُطهّر أجسادنا من الخطيئة كي تُصبح "هَيكَل الرُّوحِ القُدُس" (1 قورنتس 6، 19)، وأن تطرد منها الرَّغبات والشَّهوات والانفعالات كي لا تصبح مثل سوق لتجارة الخطيئة والفساد، وأن تقلب طاولات قلوبنا الماديَّة قبل أن تقلبنا هي وتضيع أبديتنا، وان تضع غيرة لبيت الله فينا وفي كنائسنا لنعيش حياتنا، لا في البحث عن مصالحنا الشَّخصيَّة، بل في محبّة سخيّة ومتضامنة لك، أنت السَّاكن في قلوبنا وأرواحنا وأجسادنا،  فنعبدك بالرُّوح والحقّ وندنو من عرش رحمتك ونعمتك بامتنان وفرح لك العزة والمَجد والتَّسبيح . آمين.