موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٣ ابريل / نيسان ٢٠٢٤

حِوار حول الإيمَان والدَّينونَة بين يسوع ونيقوديمس

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحَد الرَّابع من الصَّوم: حِوار حول الإيمَان والدَّينونَة بين يسوع ونيقوديمس (يوحنا 3: 14-21)

الأحَد الرَّابع من الصَّوم: حِوار حول الإيمَان والدَّينونَة بين يسوع ونيقوديمس (يوحنا 3: 14-21)

 

النَّص الإنجيلي (يوحنا 3: 14-21)

 

يسوع يكشف عن سر الرُّوح لنيقوديمس - الإنْسَان الجديد

 

14 وكما رَفَعَ مُوسى الحَيَّة في البَرِّيَّة فكذلِكَ يَجِبُ أَن يُرفَعَ ابنُ الإنْسَان 15 لِتَكونَ بهِ الحَياة الأبديَّة لِكُلِّ مَن يُؤمِن. 16 فإِنَّ اللهَ أَحبَّ العَالَم حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحَياة الأبديَّة 17 فإِنَّ اللهَ لَم يُرسِلِ ابنَه إلى العَالَم لِيَدينَ العَالَم بل لِيُخَلَّصَ بِه العَالَم 18 مَن آمَنَ بِه لا يُدان ومَن لم يُؤمِنْ بِه فقَد دِينَ مُنذُ الآن لِأَنَّه لم يُؤمِنْ بِاسمِ ابنِ اللهِ الوَحيد. 19 وإِنَّما الدَّينونَةُ هي أَنَّ النُّورَ جاءَ إلى العَالَم ففضَّلَ النَّاسُ الظَّلامَ على النُّور لأَنَّ أَعْمَالهم كانت سَيِّئَة. 20 فكُلُّ مَن يَعمَلُ السَّيِّئات يُبغِضُ النُّور فلا يُقبِلُ إلى النُّور لِئَلاَّ تُفضَحَ أَعْمَاله. وأَمَّا الَّذي يَعمَلُ لِلحَقّ فيُقبِلُ إلى النُّور 21 لِتُظهَرَ أَعْمَاله وقَد صُنِعَت في الله)).

 

المقدمة

 

يدور إنجيل الأحد الرَّابع للصَّوم عن حوار ليلي بين يسوع ونيقوديمُس، أحد أعضاء المجلس الأعلى لليهود (يوحنا 3: 10)، وكان فِرِّيسيِّا يبحث عن الحقّ فذهب ليلاً إلى يسوع ليجد الإجابة. فكشف يسوع عن الحق من خلال رَفْعه على الصَّليب. فلكل من يؤمن بهذه الحقيقة ويقبلها بنعمة الرُّوح القُدُس لا يهلك بل يُصبح إنسانًا جديدًا (يوحنا 3: 14-21)؛ فجاء تعليم يسوع هذا في شرح السَّرّ الفصحى "كما رَفَعَ مُوسى الحَيَّة في البَرِّيَّة فكذلِكَ يَجِبُ أَن يُرفَعَ ابنُ الإنْسَان" (يوحنا 3: 14). ومن هنا تكمن أهميَّة البحث في وقائع النَّص الإنجيلي وتطبيقاته.

 

 

أولًا: وقائع النَّص الإنجيلي (يوحنا 3: 14-21)

 

14 وكما رَفَعَ مُوسى الحَيَّة في البَرِّيَّة فكذلِكَ يَجِبُ أَن يُرفَعَ ابنُ الإنْسَان:

 

تشير عبارة "رَفَعَ مُوسى الحَيَّة في البَرِّيَّة" إلى النَّص الذي ورد في سفر العدد "صَنَعَ مُوسى حيَّةً مِن نُحاس وجَعَلَها على سارِيَة. فكانَ أَيُّ إِنْسانٍ لَدَغَته حَيَّةٌ ونَظَرَ إلى الحَيَّة الْنّحاسِيَّةِ يَحيا" (عدد 20: 9). رأى يسوع في هذه الحادثة نبوَّة لصلبه. وما فعله مُوسى كان رمزًا نبويًا لِما يفعله يسوع على الصَّليب.  فكما حوّل الإسرائيليُّون المُشرفون على الموت عيونَهم إلى الحَيَّة الْنّحاسِيَّةِ ونالوا الشِّفاء هكذا النَّاس الذين تحت دينونة الخطيئة ينالون الحَياة الأبديَّة والشِّفاء برفع نظرهم تجاه يسوع المخلص المرفوع على خشبة الصَّليب.  وهكذا المسيح المرفوع على خشبة الصَّليب يُخلصنا من لعنة الشَّريعة التي صارت كلدغات الحيَّات النَّاريَّة القاتلة، كما جاء في تصريح بولس الرَّسول "إنَّ المسيحَ افتَدانا مِن لَعنَةِ الشَّريعة إِذ صارَ لَعنَةً لأَجْلِنا" (غلاطية 3: 13). ويعلق القدّيس أوغسطينوس "ما حصلَ رمزيًّا في الماضي، استعاده الرَّبّ حين قالَ: "وكما رَفَعَ مُوسى الحَيَّة في البَرِّيَّة فكذلِكَ يَجِبُ أَن يُرفَعَ ابنُ الإنْسَان. أخذَ الرَّب يسوع المسيح الموت، وعلّقَه على الصَّليب، فتحرَّرَ البشر الفانون من الموت" (عظات عن إنجيل القدّيس يوحنّا). أمَّا عبارة " رَفَعَ" فتشير إلى وضع ابن الإنْسَان على ارتفاع كي يتمكّن الجميع، القريب والبعيد، من رؤيته، كما يصرّح يوحنا الإنجيلي "سَيَنظُرونَ إلى مَن طَعَنوا "(يوحنا 19: 37). ويُعلق القديس أوغسطينوس "هناك فرق بين الصُّورة الرَّمزيَّة والشَّيء الحقيقي، الرَّمز يبعث حياة وقتيَّة، والحقيقة التي لها الرَّمز تبعث حياة أبديَّة". وهناك معنى مزدوج في فعل "رفع " في نص إنجيل يوحنا: رُفع يسوع على الصَّليب (يوحنا 3: 14) ورُفع في المَجْد " كما ورد في صلاة يسوع الكهنوتيَّة "مَجِّدْني الآنَ عِندَكَ يا أَبتِ بِما كانَ لي مِنَ المَجدِ عِندَكَ قَبلَ أَن يَكونَ العَالَم" (يوحنا 17: 5). فالصَّليب موضع ارتفاع يسوع في مَجْد الآب، كما صرّح يسوع " متى رَفَعتُمُ ابْنَ الإنْسَان عَرَفتُم أَنِّي أَنا هو" (يوحنا 8: 28)؛ فرَفْع يسوع على الصَّليب هي علامة وسبيل ارتفاعه في المَجْد؛ فيسوع الذي رُفع على الصَّليب وفي المَجْد، يفتح للبشر أبواب الخلاص، إذ يهبهم حياته بالذَّات ومَجْده، كما تنبَّا يسوع قبل موته وقيامته قائلا: "وأَنا إِذا رُفِعتُ مِنَ الأَرض جَذَبتُ إِلَيَّ النَّاسَ أَجمَعين"(يوحنا 12: 32).  وأصبحت علامة الحَيَّة الملتوية على عمود من الخشب المرسومة على لوحة كل صيدليات العَالَم علامة على أنّ هناك في الصَّيدليَّة دواء لشفاء المريض؛ فهذه العلامة مأخوذة من الحَيَّة الْنّحاسِيَّةِ التي صنعها مُوسى ليشفي الله كلَّ من ينظر إليها من الذين لدغتهم الحَيَّة السَّامية، وهي آخر معجزة صنعها مُوسى النَّبي قبل نياحته في البَرِّيَّة لشِفاء الشَّعب من لدغات الحيَّات (عدد 21: 6-9).  فكم بالأولى أن ننظر إلى يسوع المسيح المُعلَّق على خشبة الصَّليب، فهو الطَّبيب العظيم الذي يشفينا من سَمِّ الخطيئة، ويُنقذنا من الموت، كما جاء في الرِّسالة إلى العبرانيِّين " مُحَدِّقينَ إلى مُبدِئِ إِيمانِنا ومُتَمِّمِه، يسوعَ الَّذي، في سَبيلِ الفَرَحِ المَعْروضِ علَيه، تَحَمَّلَ الصَّليبَ مُستَخِفًّا بِالعار، ثُمَّ جَلَسَ عن يَمينِ عَرْشِ الله" (العبرانيين 12: 2). أمَّا اسم "مُوسى " فيشير إلى اسم مصري معناه "وُلِد" وبالعبري משֶׁה معناه "مُنتشل"، وهو قائد الأُمَّة العبرانيَّة، وتصفه كتب الشَّريعة بأنَّه "لم يَقُم مِن بَعدُ في إِسْرائيلَ نَبِيٌّ كمُوسى الَّذي عَرَفَه الرَّبُّ وَجْهًا لِوَجْه " (تثنية الاشتراع 34: 10). وفي الواقع، ظهر مُوسى مع إيليا على جبل التَّجلي فتكلما مع المسيح (لوقا 9: 31). وكان مُوسى رمزًا للمسيح، فإنَّه أبى أن يُدعى ابن ابنة فرعون، لأنَّه لم يقدر أن يبقَ في هذا المنصب مع حفظ ديانته. كما أبى المسيح أن يقبل ممالك العَالَم، لأنَّه لم يمكنه قبولها دون الإذعان لمطالب الشَّيطان. وكما كان مُوسى مُحرِّرًا لشعبه كذلك المسيح حرِّر تابعيه من عبوديَّة الخطيئة. إذا كان مُوسى قد أنشأ ناموس وصايا الحَياة الإنْسَانيَّة، فيسوع وهب ناموس الحَياة الرُّوحيَّة. وكان مُوسى نبيًا، أمَّا يسوع فهو نبي أعظم منه (العبرانيين 3: 1-6). وكما كان مُوسى وسيطًا بين الله وشعب بني إسرائيل، هكذا المسيح هو "الوَسيطَ بَينَ اللهِ والنَّاسِ " (1 طيموتاوس 2: 5). أمَّا عبارة "الحَيَّة "في العبريَّة נָחָשׁ (حَنَش) فتشير إلى الموت، كون الموت أتى من الحَيَّة (تكوين 3). والحَيَّة هي رمز سُموم الشَّر والشَّرير الّتي تحيط بنا والّتي تحرمنا من التَّمتع بإنسانيتنا. ويُعلق القدّيس أوغسطينوس " إلامَ ترمزُ الحيّات التي تلسَع؟ إنها ترمز إلى الخطايا التي تأتي من الجسد الفاني. وما هي الحَيَّة التي رُفِعَت؟ إنّه موت الرَّبّ على الصَّليب. في الواقع، كون الموت أتى من الحَيَّة (تكوين 3)، فقد رُمِزَ إليه برسم حَيَّة. لدغة الحَيَّة تعطي الموت؛ أمَّا موت الرَّبّ، فهو يعطي الحَياة" (عظات عن إنجيل القدّيس يوحنّا). هَزمَ موتُ المسيح على الصَّليب الخطيئة والموت، ونال الحَياة الأبديَّة لمن يؤمن (يوحنا 3: 15). وتدل الحَيَّة على أسفل الصليب، شجرة الحياة، على أن الشَّرير قد انْهَزم. ويُعلق العلاَّمة أوريجانوس "الحَيَّة التي رُفعت تمثل السَّيد المسيح حامل خطايانا من ناحية، وتُمثل الحَيَّة القديمة (الشيطان تكوين 3: 1-15) التي سمَّرها السَّيد المسيح بصليبه وجرَّدها من سلطانها على المؤمنين من ناحية أخرى. والحَيَّة النُّحاسيَّة التي رفعها مُوسى على السَّارية لها علاقة بمناجم "عربة" حيث كانوا يستعملون هذا المَعدن في القرن الثَّالث عشر قبل الميلاد. وقد عُثر في مدينة تِمْنَه في النَّقب على عدة حيّات نحاسيَّة صغيرة كانوا يستعملونها للاحتماء من الحيات السَّامة. ويُفسِّر سفر الحكمة حادثة الحَيَّة النُّحاسيَّة في البَرِّيَّة بمعنى الرَّحمة: "كانَت لَهم عَلامةُ خَلاص تُذَكرهم وَصِيَّةَ شَريعَتِكَ فكان المُلتَفِتُ إِلَيها يَخلُص لا بِذلكَ الَّذي كانَ يَراه بل بِكَ يا مُخَلِّصَ جَميعِ النَّاس. وبذلكَ أَثبَتَّ لأَعْدائِنا أَنكً أَنتَ المُنقِذُ مِن كُلِّ سوء" (الحكمة 16: 6-10). لم يكن للحيَّة النُّحاسيَّة قدرة في نفسها، إنَّما يجد المرء في هذه العلامة تذكير بالشَّريعة وعلامة الخلاص الذي يعرضه الله على جميع النَّاس، لأنَّ النَّظر إلى الحَيَّة الْنّحاسِيَّةِ يشفى المؤمن بالإيمان (عدد 9:21؛ يوحنا يو14:3). ومن هذا المنطلق، يعلّم صاحب سفر الحكمة أن لله القدرة المطلقة على الحَياة والموت، ولا يستطيع الله انتشال من أراد من خطر الموت فقط، بل يستطيع أن يُعيد إلى الحَياة الجسديَّة النَّفس التي نزلت إلى مثوى الأموات. ويُعلق القديس أفرام السِّرياني "كان على بني إسرائيل أن يتعلّموا أن الثُّعبان الذي قاد آدم إلى الموت، قادهم أيضًا نحو الهلاك. لذا، علّق مُوسى الثُّعبان على الخشبة حتى يعود بهم بهذا التَّشبيه إلى ذكرى شجرة معرفة الخير والشَّر. وهؤلاء الذين أداروا نظرهم إليه خَلِصوا، لا بفضل الثُّعبان، إنّما بفضل توبتهم. لأنَّهم عندما كانوا ينظرون إلى الثُّعبان ويتذكّرون خطيئتهم فينتابهم الشُّعور بالنَّدم، لأنّهم لُسعوا، ومرّة أخرى خُلصوا". حفظ بنو إسرائيل الحَيَّة الْنّحاسِيَّةِ وهم يجولون في البَرِّيَّة وأتوا بها إلى الأرض المقدسة ثم اتخذوها وثنًا وعبدوها فكسرها حزقيا الملك (2 ملوك 18: 4).  أمَّا عبارة " البَرِّيَّة " فتشير إلى بريَّة فاران جنوب جبل هور تجاه جبال أدوم (عدد 10 :12؛ 12 :16؛ 13 :3-26)؛ فالبرية كمكان جغرافي هي أرض لم يباركها الله: تندر فيها المياه والنباتات (تكوين 2: 5)، وتستحيل فيها الحياة (أشعيا 6: 11). وفي هذه الأرض القاحلة تسكن الأرواح الشريرة (لوقا 8: 29) والشياطين، (الأحبار 17: 7) والوحوش المؤذية الأخرى (أشعيا 13: 21). أراد الله أن يجتاز شعبه هذه "البَرِّيَّةِ العَظيمةِ المُخيفةِ" (تثنية 1: 19) للدخول به إلى الأرض التي تفيض لبناً وعسلاً. أما عبارة " فكذلِكَ يَجِبُ " فتشير إلى إفاءة متطلبات شريعة الله والعدل بمقتضى قضاء الله الأزلي ونبوءات الكتاب المقدس، كما يؤكد ذلك بولس الرَّسول " لِيُظهِرَ بِرَّه في الزَّمَنِ الحاضِر فيَكونَ هو بارًّا وُيبَرِّرَ من كانَ مِن أَهلِ الإِيمانِ بِيَسوع" (رومة 3: 26)، وفي موضع آخر يقول بولس "يسوع الَّذي في صُورةِ الله لم يَعُدَّ مُساواتَه للهِ غَنيمَة بل تَجرَّدَ مِن ذاتِه مُتَّخِذًا صُورةَ العَبْد وصارَ على مِثالِ البَشَر وظَهَرَ في هَيئَةِ إِنْسان فَوضَعَ نَفْسَه وأَطاعَ حَتَّى المَوت مَوتِ الصَّليب. لِذلِك رَفَعَه اللهُ إلى العُلى ووَهَبَ لَه الاَسمَ الَّذي يَفوقُ جَميعَ الأَسماء" (فيلبي 2: 5-9). واكَّد صاحب الرسالة للعبرانييِّن أنّه: " ما مِن مَغفِرَةٍ بِغَيرِ إِراقَةِ دَم" (عبرانيين 9: 22(. في حين انتظر نيقوديمُس أن يُرفع المسيح على العرش الملكي باحتفالٍ وقوةٍ ومَجْد، لكن المسيح صرَّح له انه ينبغي أن يُرُفع أولا على صليب العَار ثم يُرفع بذلك ملكًا ومخلصًا على عرش المَجْد السَّماوي (أَعْمَال الرُّسل 4: 30). أمَّا عبارة "ابن الإنْسَان" فتشير إلى لقّب يسوع الذي في شخصه "تُفتح السَّماوات على الأرض (أشعيا 63: 19)، ويُصبح الاتِّصال بالله حقيقة دائمة (يوحنا 1: 51). فإنه السَّبيل المفتوح للبشر لنيل الحَياة الأبديَّة (يوحنا 6: 27)، إذ أتى يسوع لملاقاة الإنْسَان وكشف له عن " ابن الإنْسَان"، أي ذاك الذي أتى من السَّماء لجَمع شمل البشر والارتفاع بهم إلى المشاركة في حياة الله، كما عمل مع شفاء الأعمى في اورشليم (يوحنا 9: 35)؛ ويقوم ابن الإنْسَان بعمل الدَّيَّان الأعظم أيضًا (دانيال 7: 13). أمَّا عبارة "يُرفَعَ ابنُ الإنْسَان" فتشير إلى موت يسوع على الصَّليب حيث انه يُرفع عليه ويُرفع في مَجْد القيامة ليقدِّم الخلاص للبشريَّة (أَعْمَال الرُّسل 4: 30-31) كما تنبأ أشعيا بقوله "كَشَفَ الرَّبُّ عن ذراعِ قُدسِه على عُيونِ جَميعِ اَلأُمَم فتَرى كُلُّ أَطْرافِ الأَرضِ خَلاصَ إِلهِنا" (أشعيا 52: 10). الصَّليب هو ما يريدنا يسوع أن نراه: لا يمكننا أن نعرفه إلاَّ إذا رأيناه مُعلَّقاً عليه. ويُعلق القديس يوحنا الذَّهبي الفم: "هناك كان المُعلَّق نُحاسًا بشكل حَيَّة، وهنا المًعلق هو جسد السَّيد المسيح". ومعنى هذه العبارة كمعنى قول يوحنا المعمدان في المسيح "هُوَذا حَمَلُ اللهِ الَّذي يَرفَعُ خَطيئَةَ العَالَم" (يوحنا 1: 29). وكشف يسوع سر الصَّليب إلى نيقوديمُس أنه مَحَبَّة وتضحية: "إِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد" (يوحنا 3: 16). وفي كل ذبيحة قداس يرفع الكاهن الخبز الذي يتحوّل إلى جسد الرب، والخمر التي تتحول إلى دم الرب إحياء لذبيحة الخلاص التي قدَّمها الرب يوم رُفع على الصليب قرباناً لتكون به الحياة الأبدية لكلِّ من يؤمن به.  أمَّا فعل" يُرفَعَ " في الأصل اليوناني ὑψωθῆναι (معناها الرفع أو الصُّعود بهدف الوصول لذروة الخلاص إذ تكرر هذا الفعل ثلاث مرات) فيشير إلى الصَّليب كعلامة وسبيل ارتفاع في المَجْد الصَّليب الذي هو موضع ارتفاع يسوع في المَجْد (يوحنا 8: 28-30) حيث صرّح يسوع "وأَنا إِذا رُفِعتُ مِنَ الأَرض جَذَبتُ إِلَيَّ النَّاسَ أَجمَعين. وقالَ ذلك مُشيرًا إلى المِيتَةِ الَّتي سَيَموتُها" (يوحنا12: 32-33). وتقبل يسوع الموت برضى كوسيلة لإتمام الفداء للعَالَم. فكان ما فعله مُوسى رمزًا نبويًا: جعل الله يسوع المسيح المُعلق على الصَّليب حَيَّة الحَياة. فنظرة واحدة إلى المسيح المُعلّق على الصَّليب هي حقًا وسيلة شِفاءٍ وضمانة للخلاص والحَياة، وبهذا يترنَّم صاحب المزامير "كلَّت عَينايَ اْنتِظارًا لِخَلاصِكَ ولأَقوالِ بِرِّك "(مزمور 119: 123). لقد قام يسوع بتمجيد الآب بطاعته في الخدمة الوضيعة حتى الموت، فأشركه الآب في مَجْده الأبدي بالقيامة (يوحنا 13: 31-32). وخلاصة القول، أعلن يسوع لنيقوديمس في هذه الآية عن مَحَبَّة الله للعَالَم وذلك بخلاص النَّاس لا بارتفاع ابنه يسوع المسيح على عرش المَجْد والسُّلطان بل على الصَّليب وتحديدًا من خلال آلامه وموته.

 

15 لِتَكونَ بهِ الحَياة الأبديَّة لِكُلِّ مَن يُؤمِن

 

تشير عبارة" لِتَكونَ بهِ" إلى يسوع الذي سيتألم وسيموت، ولهذا فهو الذي يهب للذين يؤمنون به الحَياة الأبديَّة. ولم يُصمَّم موت المسيح بإرادة الإنْسَان، لكن بمَحَبَّة الله، الذي بذل ابنه الوحيد ذبيحة شاملة عن العَالَم. أمَّا عبارة "الحَياة الأبديَّة" في الأصل اليوناني ζωὴν αἰώνιον فتشير إلى ملكوت الله، إذ يُفضِّل يوحنا الإنجيلي أن يتكلم عن الحَياة الأبديَّة بدل ملكوت الله، وهي تظهر للمرة الأولى في إنجيل يوحنا.  والحَياة الأبديَّة هي حياة الصَّداقة مع الله التي تبدأ على الأرض وتدوم إلى الأبد، كما وصفها القديس يوحنا: "نُبَشِّرُكمِ بِتلكَ الحَياة الأبديَّة الَّتي كانَت لَدى الآب فتَجلَّت لَنا ذاكَ الَّذي رَأَيناه وسَمِعناه، نُبَشِّرُكم بِه أَنتم أَيضًا لِتَكونَ لَكَم أَيضًا مُشاركَةٌ معَنا ومُشاركتُنا هي مُشاركةٌ لِلآب ولاَبنِه يسوعَ المسيح" (1 يوحنا 1: 2-3). الحَياة الأبديَّة هي "حَياةِ اللّهِ"(أفسس 4: 18) المُتجسّدة في المسيح القائل "أَنا الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة"(يوحنّا 14: 6). ويعلق القدّيس غريغوريوس النيصيّ " إنّ الحَياة الأبديَّة هي رؤية الله. وإذا كان الله هو الحَياة، فمَن لا يراه، لا يرى الحَياة أيضًا " (عظات عن التَّطويبات). آه لو استطعنا إيقاظ النَّاس من لامبالاتهم، وأن نستيقظ معهم، لكي نحب الحَياة الأبديَّة بمقدار محبّتنا لهذه الحَياة الفانية! أمَّا عبارة "لِكُلِّ مَن يُؤمِن" فتشير إلى كل البشر بلا استثناء. فالخلاص بالإيمان بالمسيح معروضٌ على كل إنسان في البشريَّة. لا يكفي أن يرتفع يسوع على الصَّليب لكي نُشفى، بل علينا أن ننظر إلى عظمة مَحَبَّة الله للإنسان بثقة وإيمان. هبة الحَياة الأبديَّة مقدَّمة لكلّ المؤمنين كضمان لكونهم سوف يَحيون إلى الأبد. ويرتبط الإيمان بالحَياة الأبديَّة، إذ أنَّ يسوع تألم ومات ليَهب الحَياة الإلهيَّة للذين يؤمنون به.  ويكفي نظرة واحدة بإيمان إلى المسيح، وهو معلّق على الصَّليب، كوسيلة للشِّفاء وضمانة للخلاص والحَياة.  والإيمان المراد به هنا ليس مجرد تصديق العقل وجود المسيح ولاهوته وموته من اجل الخطأة، بل قبوله بالقلب والإرادة مُخلصًا وتسليم النَّفس إلى يديه، كما قال بولس الرَّسول إلى السَّجَّان:"آمِنْ بِالرَّبِّ يسوع تَنَل الخَلاصَ أَنتَ وأَهلُ بَيِتك" (أَعْمَال الرُّسل 16: 31). وكما أنَّه لم يكن سبيل إلى شفاء الذين لدغتهم الحيَّات من شعب العهد القدم إلاَّ بنظرهم إلى الحَيَّة الْنّحاسِيَّةِ كذلك لا سبيل إلى نوال الحَياة الأبديَّة إلاَّ بالإيمان بيسوع المسيح. وبهذه النَّظرة الموجَّهة للمصلوب علينا أنّ نرفع قلوبَنا وعيونَنا لنُعلن إيمانَنا به طالبين الخلاص والشِّفاء. تدعونا هذه الآية ألاَّ ننظر لبشريتنا وسمومها، بل إلى الشَّخص الوحيد الـمُعطي الحَياة الأبَديَّة.

 

16 فإِنَّ اللهَ أَحبَّ العَالَم حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحَياة الأبديَّة

 

تشير عبارة "اللهَ أَحبَّ العَالَم" إلى مبادرة إلهنا الذي يُحبُّ، فهو إله مَحَبَّة، إله وأب في آن واحد. لقد أحبَّ الله البشريَّة حُبًا فائقًا، وبلغ حًبُّه إلى اقصى الحدود. والحبُّ هو مصدر الخلاص، إذ دفع حبُّ الآب السَّماوي أن يعطي العَالَم أعز ما لديه، ابنه الوحيد يسوع المسيح. وفي هذا الصَّدد أعلن يوحنا الرَّسول " ما ظَهَرَت بِه مَحَبَّة اللهِ بَينَنا هو أَنَّ اللهَ أَرسَلَ ابنَه الوَحيدَ إلى العَالَم لِنَحْيا بِه. وما تَقومُ عَلَيه المَحَبَّة هو أَنَّه لَسنا نَحنُ أَحبَبْنا الله بل هو أَحَبَّنا فأَرسَلَ ابنَه كَفَّارةً لِخَطايانا" (1 يوحنا 4: 9-10). ويُعلق القدّيس أوغسطينوس "يحبُّ الرَّبّ كلَّ واحد منّا وكأنّ ليس هناك من يُحبّه سواه". ولن يكون ممكنًا أن نحبَّ بعضنا بعضًا إلاَّ إن آمنَّا بأن الله أحبَّنا أولاً. أمَّا عبارة " العَالَم " فتشير إلى جميع الأمم وليس فقط اليهود، كما زعم نيقوديمُس. إنَّ المسيح مخلصُ الجميع، كما يؤكد ذلك بولس الرَّسول " ذلك بِأَنَّ اللهَ كانَ في المَسيحِ مُصالِحًا لِلعالَم وغَيرَ مُحاسِبٍ لَهم على زَلاَّتِهم، ومُستَودِعًا إِيَّانا كَلِمَةَ المُصالَحَة" (2 قورنتس 5: 19).  وعِلة عطيَّة المسيح للعَالَم ليست مَحَبَّة العَالَم لله بل مَحَبَّة الله للعالم.  أمَّا عبارة " جادَ بِابنِه الوَحيد " فتشير إلى الله الذي بذل ابنه -الكلمة-بالطَّبيعة وليس بالتَّبنّي، لأنّه وُلِد من الآب بطريقة جوهريّة. الآب، وهو الإله الحق، وَلَد الابن المُساوي له في الجوهر، "إلهًا حقًّا من إلهٍ حق" كما ورد في قانون الإيمان. وبرَّهن الله عن حُبِّه بانَّه جاد بابنه يسوع ليُعطينا الحَياة؛ ويُعلق القديس يوحنا الذَّهبي الفم: "جادَ بِابنِه الوَحيد، وليس بخادمٍ، ولا بملاكٍ ولا برئيس ملائكة. لا يُظهر أحد اهتمامًا بابنه كما يُظهر الله نحو عبيده ".  يسوع المسيح هو عطيَّة الله " فالشُّكرُ للهِ على عطائِه الَّذي لا يُوصَف" (2 قورنتس 9: 15) والحَياة هي أكبر ثروة يستطيع أن يمتلكها المرء. فدفع الله الثَّمن حياة ابنه، وقَبِلَ يسوع عنَّا عقابنا ودفع ثمن خطايانا، وقدَّم لنا الحَياة الأبديَّة. وقد تكون محرقة إبراهيم هي التي أوحت بهذا الكلام حيث قال الله له" خُذِ اَبنَكَ وَحيدَكَ الَّذي تُحِبُّه، إِسحق، وآمضِ إلى أَرضِ المورِيِّا وأَصعِدْه هُناكَ مُحرَقَةً على أَحَدِ الجِبالِ الَّذي أريكَ " (التَّكوين 22: 2). وحبًا لنا حقَّق الله تضحية ابنه التي طُلبها سابقًا من إبراهيم أبي المؤمنين. فما لم يقبله الله لإبراهيم، قبله لنفسه مِن أجل أن يحيا العَالَم. ويتساءل الأسقف ثيودورس المصّيصي "كيف "أنّ الله جاد بابنه الوحيد"؟ من الأكيد أنّ الله لا يمكن أن يتألّم. لكنّ إنسانيّة المسيح وألوهيّته، بفضل اتّحادهما، تشكّلان كيانًا واحدًا.  سمى المسيح نفسه في هذه الآية: "ابن الله" كما سمَّى نفسه سابقا" ابنُ الإنْسَان" (يوحنا 3: 14). لذلك، على الرغم من أنّ الإنْسَان وحده هو الذي يتألّم، فإنّ كلّ ما يمس إنسانيّته يُنسَبُ أيضًا إلى ألوهيّته". أجل يسوع المسيح تجسّد وأصبح مثلنا شبيهًا بنا في كل شيء ما عدا الخطيئة. ويُعلق المجمع الفاتيكاني الثَّاني "بتجسُّدِهِ اتَّحَدَ ابن الله نوعًا ما بكلِّ إنسان. لقد اشتغل بيدي إنسانٍ وفكر كما يُفكر الإنْسَان وعمل بإرادة إنسانٍ وأحبَّ بقلبِ الإنْسَان. لقد وُلِدَ من العذراء مريم وصار حقًا واحدًا منَّا شبيهًا بنا في كلِّ شيء ما عدا الخطيئة (دستور رعائي، الكنيسة في عالم اليوم، 22). ظهر يسوع في اعلى المستوى على الصَّليب من أجلنا، وبذل حياته عنا على الصَّليب وبهذا البذل عبَّر عن حبِّه الأبدي لنا. أنّ مَحَبَّة الله اللامتناهية للعَالَم هي المصدر الّذي منه تُولد رسالة يسوع وهبة حياته على الصَّليب. ويُعلمنا حبُّ الله أن نَحبَّ الآخرين، وأن نبذل نفوسنا في سبيلهم. وباختصار، ترتبط جوهر رسالة يسوع بحبِّ الله الآب. إنّه الحُبُّ الّذي لا يستحوذ على المَحبوب، بل هو الّذي يبذل.  أمَّا عبارة "لِكَي لا يَهلِكَ " فتشير إلى يسوع الذي هو كفارة. عرَفَ القدِّيسُ يوحنا الإنجيلي هذه الكفَّارةَ بقوله " فقالَ "يَا بَنِيَّ، أكتُبُ إلَيكُم بِهَذَا لِئَلا تَخطَأُوا. لَنَا شَفِيعٌ عِندَ الآبِ، وَهُوَ يَسُوعُ المَسِيحُ البَارُّ، إنَّهُ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا" (1 يوحنا 1:2). وذكَرَ بولسُ أيضًا هذه الكفَّارةَ لمّا قالَ في المسيح: "ذَلِكَ الَّذِي جَعَلَهُ الله كَفَّارَةً فِي دَمِهِ بِالإيمَانِ" (روما 3: 25). ويومُ الكفَّارةِ باقٍ لنا إلى أن يَبلُغَ العَالَم نهايتَه. ويعلق البابا فرنسيس: "أنَّ الرَّب لم يأتِ كي يدين العَالَم بل ليُخلصه. لنفكر في أنفسنا، نحن الذين كثيرًا ما نُدين الآخرين" (11/3/2024)، أمَّا عبارة " الحَياة الأبديَّة " فتشير إلى " حَياةِ اللّهِ" (أفسس4: 18) المُتجسدة في المسيح (يوحنا 14: 6) والمعطاة الآن لكل المؤمنين.  وليس في تلك الحَياة موت ولا مرض ولا أعداء ولا شر ولا خطيئة بل سعادة وقداسة دائمة في السَّماء وحيث أنَّ الله يريد أنّ نكون في شركة معه إلى الأبد ووارثة لمَجْد السَّماء وغناها، فإِنَّه تعالى لَم يُرسِلِ ابنَه إلى العَالَم لِيَدينَ العَالَم بل لِيُخَلَّصَ بِه العَالَم" (يوحنا 3: 17).  فالله هو إله الخلاص، ولا يريد موت الخاطئ. وبالصَّليب يعلن الآب حُبَّه لكلِّ البشريَّة ببذل ابنه لكي يتمتَّع العَالَم بالحَياة الأبديَّة. ومن هذا المنطلق، تاريخ الله مع البشر تاريخ مَحَبَّة وخلاص. إن مَحَبَّة الله اللامتناهية للعَالَم هي المصدر الّذي منه تُولد رسالة يسوع وهبة حياته على الصَّليب، لذلك على هذه الآية يرتكز الإنجيل كله.

 

17 فإِنَّ اللهَ لَم يُرسِلِ ابنَه إلى العَالَم لِيَدينَ العَالَم بل لِيُخَلَّصَ بِه العَالَم"

 

تشير عبارة "إِنَّ اللهَ لَم يُرسِلِ ابنَه إلى العَالَم لِيَدينَ العَالَم" إلى غاية الله من مجيء المسيح لا للدَّينونة، بل للخلاص. وقد تكرَّرت هذه العبارة أكثر من خمسين مرة في إنجيل يوحنا. ولأنَّ تاريخ الله مع البشر تاريخ خلاص، فقد أرسل ابنه لا ليدين العَالَم ويقضي عليه، بل ليُخلص العَالَم. وقد اكّد ذلك بولس الرَّسول هذه الحقيقة بقوله: "إِنَّ الَّذي لم يَضَنَّ بابْنِه نَفسِه، بل أَسلَمَه إلى المَوتِ مِن أَجْلِنا جَميعًا، كَيفَ لا يَهَبُ لَنا معَه كُلَّ شَيء؟" (رومة 8: 32). استحقَّ العَالَم الدَّينونَة فكان من الحق والعدل لو أرسل الله ابنه ليدين العَالَم، لكنه اختار أن يُظهر رحمته للخطأة بإرسال ابنه ليُعدَّ له الخلاص. لذلك هدف المجيء الأول للمسيح هو منح الخلاص لكل من يؤمن به، وأمَّا مجيئه الثَّاني فغايته ليدين غير المؤمنين (أَعْمَال الرُّسل 17: 31). يكشف الرب عن الشَّر في قلوبنا لا لدينونتنا، بل ليمكِّننا من النَّظر إليه فتشفى قلوبنا. أمَّا عبارة " لِيُخَلَّصَ بِه العَالَم " فتشير إلى رسالة يسوع الذي تنحصر في الخلاص، والله الذي هو إله الخلاص، لا يريد موت الخاطئ بل خلاصه. ولكن على العَالَم مسؤوليَّة الإيمان لنيل الخلاص، ولعلَّ هذا هو السَّبب قول " لِيُخَلَّصَ بِه العَالَم " وليس " ليخلُص العَالَم.  وفي هذا الصَّدد تنبأ حزقيال "يَقولُ السَّيِّدُ الرَّبّ، لَيسَ هَوايَ أَن يَموتَ الشِّرِّير، بل أَن يَرجعَ عن طَريقِه فيَحْيا" (حزقيال 33: 11). وهذا الأمر أكّده السَّامريون للمرأة السَّامريَّة "لا نُؤمِنُ الآنَ عن قَولِكِ، فقَد سَمِعناهُ نَحنُ وعَلِمنا أَنَّهُ مُخَلِّصُ العَالَم حَقًا" (يوحنا 4: 42). فرغبة الله الوحيدة ومخططه الوحيد هو "خلاص البشر، كما أوضح ذلك بولس الرَّسول "إنَّ إنسَانَنَا القَدِيمَ قَد صُلِبَ مَعَهُ، لِيَزُولَ هَذَا البَشَرُ الخَاطِئُ، فَلا نَظَلَّ عَبِيدًا لِلخَطِيئَةِ" (رومة 6: 6).  وعندما نُحبُّ، نريد كل خير للذين نُحبّهم، فكم بالأحرى الله تعالى الذي يُحبُّنا ويريد خلاصنا. إنّ الخلاص مفتوح للجميع، ولكن قد يحدث أن نعيش دون أن نعرف أنّنا مُخلّصون. وهذه هي المُصيبة الكبرى للإنسان، وهي مصيبة أكبر من الخطيئة ذاتها: ألاَّ نعرف وألاَّ نؤمن بأنّه قد غُفر لنا. لان مَنْ يؤمن يخرج من دائرة الدَّينونَة التي أتى من أجلها المسيح (يوحنا 9: 39)؛ أمَّا من يدان ـ فلأنَّه خرج من دائرة الحُبِّ والإيمان، لأنَّ "اللهَ لَم يُرسِلِ ابنَه إلى العَالَم لِيَدينَ العَالَم". ويُعلق أحد مفسّرين الكتاب المقدس "لم يأتِ المسيح لكي يُصلَب، بل أتى ونحن الّذين صلبناه. لذلك نتحمّل كامل مسؤوليَّة هذه الجريمة البشعة". هذه الآية هي إنجيل مختصر.

 

18 مَن آمَنَ بِه لا يُدان ومَن لم يُؤمِنْ بِه فقَد دِينَ مُنذُ الآن لِأَنَّه لم يُؤمِنْ بِاسمِ ابنِ اللهِ الوَحيد

 

تشير عبارة "مَن آمَنَ بِه لا يُدان" إلى تبرير الإنْسَان المؤمن بالمسيح ونيل مغفرة خطاياه وانتقاله من الموت إلى الحَياة " نَحنُ نَعلَمُ أَنَّنا انتَقَلْنا مِنَ المَوت إلى الحَياة " (1 يوحنا 3: 14). يُدان الإنْسَان عندما يقف أمام صليب يسوع ولا يؤمن؛ في حين رأى اليهود أن الدَّينونَة تتم في نهاية التَّاريخ. أمَّا عبارة " ومَن لم يُؤمِنْ بِه" فتشير إلى ذاك الإنْسَان الذي لا يضع ثقته في عمل يسوع الخلاصي، ويرفض الوحي الذي يقدِّم له.  أمَّا عبارة "فقَد دِينَ مُنذُ الآن لِأَنَّه لم يُؤمِنْ بِاسمِ ابنِ اللهِ الوَحيد " إلى دينونة حاضرة وليست مستقبليَّة التي هي الحكم على من يرفض الإيمان به، كما صرّح يسوع "أَمَّا على الدَّينونَة فَلأَنَّ سَيِّدَ هذا العَالَم قد دِين" (يوحنا 16: 11). واستنادًا على ذلك، تُقسم البشريَّة إلى قسمين: أولئك الذين يتقبلون النُّور، وأولئك الذين يرفضون النُّور، ويُفضّلون الظَّلام (الشَّر والخطيئة) على النُّور الذي هو يسوع، نور العَالَم (يوحنا 9: 39-40). ومن هذا المنطلق، يقوم الإيمان على الاعتراف بالمسيح على انه ابن الله والاعتراف بقدرته والدُّعاء إليه بثقة "أَمَّا الَّذينَ قَبِلوه وهُمُ الَّذينَ يُؤمِنونَ بِاسمِه فقَد مَكَّنَهم أَنْ يَصيروا أَبْناءَ الله "(يوحنا1: 12). توجد دينونة قبل دينونة اليوم الأخير وهي دينونة الإنْسَان لنفسه. وتكمن هذه الدَّينونة في عدم الأصغاء والعناد تجاه الكلمة الإلهيّة، كما حدث مع بني العهد القديم "فَسخِروا مِن رُسُلِ الله، وآزدَرَوا كَلامَه وهَزِئوا مِنِ أَنبِيائه" (2 أخبار 36: 16). نحن اليّوم، علينا أنّ نتوقف عن عنادنا ونقبل كلمة الله الّتي تدعونا للتغيير والتَّوبة. أمَّا عبارة "يُؤمِنْ بِاسمِ ابنِ اللهِ الوَحيد" فتشير إلى ثقة الإنْسَان في عمل يسوع وقدرته على خلاص الإنْسَان، إذ جاء يسوع ليُخلص العَالَم كما يدلُّ اسمه " يسوع، لأَنَّه هوَ الَّذي يُخَلِّصُ شَعبَه مِن خَطاياهم " (متى 1: 21). وهنا يكمن جوهر خيارنا: إما أن نؤمن بالمسيح أو لا نؤمن؛ إمَّا أن نكون معه أو ضده. فتقع المسؤوليَّة على عاتق كلِّ إنسان واختياره. الله يريد خلاصنا، غير أنَّ بعض النَّاس يرفضون هذا الخلاص، ويحكمون على أنفسهم. فمن يرفض رسالة يسوع يحكم على نفسه بالهلاك، ذلك بان ليس هناك سبيل آخر إلى الخلاص، كما صرّح بطرس الرَّسول أمام مجلس اليهود " لا خَلاصَ بأَحَدٍ غَيرِه، لأَنَّه ما مِنِ اسمٍ آخَرَ تَحتَ السَّماءِ أُطلِقَ على أَحَدِ النَّاسِ نَنالُ بِه الخَلاص" (أَعْمَال الرُّسل 4: 12). أمَّا عبارة "ابنِ اللهِ الوَحيد" فتشير إلى يسوع المسيح وحده، إذ ليس لله ابنٌ آخر ليأتي للخلاص إذا رفض. وهكذا تُقسم هذه الآية العَالَم إلى شطرين: المُذْنبين والمُبرَّرين، وذلك باختيارهما رفض المسيح أو قبوله. وبمقتضى ذلك لا يحق للإنسان أن يلوم إلاَّ نفسه، لأنَّه لم يؤمن بالمسيح الذي يرفع الخطيئة وينجو به من كل دينونة.  فالنَّاس هم الذين يدينون أنفسهم برفضهم المسيح.

 

19 وإِنَّما الدَّينونَةُ هي أَنَّ النُّورَ جاءَ إلى العَالَم ففضَّلَ النَّاسُ الظَّلامَ على النُّور لأَنَّ أَعْمَالهم كانت سَيِّئَة

 

تشير عبارة "الدَّينونَةُ" في الأصل اليوناني κρίσις  (معناها الحكم) إلى فرز يتم بين النَّاس بسبب رسالة يسوع في هذا العَالَم التي تُحدث انقلابًا حقيقيًا بحسب مواقف الإنْسَان وقرارته واختياراته تجاه المسيح. هذا ما عبّر عنه العميان الذين يؤمنون بيسوع، فهم يُشفون ويبلغون معرفة الوحي، وأمَّا المتباهون بالتَّمتع بالنُّور فهم عاجزون عن رؤية الذي يأتي بنور الخلاص. فهم يُغلقون على أنفسهم للأبد في الظُلمَات والهَلاك، كما صرّح يسوع: "إِنِّي جِئتُ هذا العَالَم لإِصدارِ حُكْمٍ: أَن يُبصِر الَّذينَ لا يُبصِرون ويَعْمى الَّذينَ يُبصِرون" (يوحنا 9: 39). وغالبًا ننطلق من هذا المبدأ بالذَّات: إمَّا أن نعمل الخير أوان نعمل الشَّر. وكل من يصنع الخير فهو في شركة أكيدة مع الله. أمَّا عبارة "النُّور" فتشير إلى الكلمة المُتجسِّد، المسيح الآتي إلى العَالَم، وبإمكان كل إنسان أيًا كان أصله أو وضعه، أن يستنير به لتحقيق حياته، كما جاء في موضع آخر من إنجيل يوحنا " كان النُّورُ الحَقّ الَّذي يُنيرُ كُلَّ إِنْسان آتِيًا إلى العَالَم "(يوحنا 1: 9). فالإنْسَان الّذي يتصرّف بعداوة تجاهه، يكون قد حكم على نفسه بأنّه أحبّ الظُّلمَة أكثر من النُّور، حيث أنَّ النُّور هو أداة التَّمييز. أمَّا عبارة " النُّورَ جاءَ إلى العَالَم " فتشير إلى المسيح الذي "جاءَ إلى بَيتِه " (يوحنا 1: 11) معلنًا طرق الخلاص ومُشرقًا نور الإنجيل (متى 6: 16).  وبمجيئه تمَّت دينونة العَالَم، لأنَّ الخلاص والدَّينونَة اجتمعا في شخص يسوع حيث أنَّ ظهور يسوع يكوَّن ازمه في حياة العَالَم ويضطر النَّاس، إمَّا قبول النُّور، إمَّا البقاء في الظُّلمَة. أمَّا عبارة "ففضَّلَ النَّاسُ الظَّلامَ على النُّور" في الأصل اليوناني καὶ ἠγάπησαν οἱ ἄνθρωποι μᾶλλον τὸ σκότος  τὸ φῶς، (معناها أحب النَّاس الظُّلمَة أكثر من النَّور) فتشير إلى مَحَبَّة النَّاس الخطيئة والضَّلال وكل ما هو مضاد للحق الذي يؤدِّي إلى عدم الإيمان والابتعاد عن النُّور (رومة 1: 28)، لأنّهم لا يريدون تغيير حياتهم؛ ولا أن يرفعوا أعينهم إلى الصَّليب ليؤمنوا بل يختبئوا. حيث أنَّ الإيمان هو ممارسة الحق والطَّاعة والانجذاب نحو النُّور. وبهذا الأمر فان عمل يسوع يُغربل الخير من الشَّر. أمَّا عبارة " أَعْمَالهم كانت سَيِّئَة " فتشير إلى الأَعْمَال البطالة الحقيرة التي تؤثر على الضَّمير فتبغض النُّور.  وهذه الأَعْمَال هي ترجمة أفكارهم وعواطفهم وشرِّ قلوبهم وليس جهلهم. ويصفها بولس الرَّسول بقوله: " الأَعْمَال الَّتي يَعمَلونَها النَّاس في الخُفْيَة يُستَحْيا حتَّى مِن ذِكرِها" (أفسس 5: 12)؛ أمَّا "أَعْمَالهم" فقد وردت هنا بصيغة الجمع حيث الدُّخول في سلسلة لا تنقطع من أَعْمَال الظُّلمَة وقد حاول بولس الرَّسول يذكر بعضها "الزِّنى والدَّعارةُ والفُجور وعِبادةُ الأَوثانِ والسِّحرُ والعَداوات والخِصامُ والحَسَدُ والسُّخطُ والمُنازَعاتُ والشِّقاقُ والتَّشيُّع والحَسَدُ والسُّكْرُ والقَصْفُ وما أَشبَه. وأُنبِّهُكم، كما نَبَّهتُكم مِن قَبْلُ، على أَنَّ الَّذينَ يَعمَلونَ مِثلَ هذِه الأَعْمَال لا يَرِثونَ مَلَكوتَ الله" (غلاطية 5: 19-21). فالسُّلوك بهذه الأَعْمَال هي رفض "النُّور" يسوع المسيح، مخلص العَالَم، وجلب النَّاس الهلاك على أنفسهم " لَمَّا لم يَرَوا خَيرًا في المُحافظةِ على مَعرِفةِ الله، أَسلَمَهُمُ اللهُ إلى فَسادِ بَصائِرِهِم ففَعَلوا كُلَّ مُنْكَر"(رومة 1: 28). عندما يًحبُّ الإنسان أعماله الشَّريرة، ولا يريد أن يخسرها، يُصبح عبدًا لها.

 

20 فكُلُّ مَن يَعمَلُ السَّيِّئات يُبغِضُ النُّور فلا يُقبِلُ إلى النُّور لِئَلاَّ تُفضَحَ أَعْمَاله.

 

تشير عبارة "مَن يَعمَلُ السَّيِّئات " إلى كل من يرتكب الشُّرور ولا يرجع عنها، أو إلى كل إنسان لم يتجدَّد قلبه. أمَّا عبارة " يُبغِضُ النُّور" فتشير إلى مَحَبَّة الأشرار للظلمة، لأنها أفضل وقت لممارسة شرِّهم، ويبغضون النُّور، لأنَّه يفضحهم؛ حيث أنَّ النُّور يعلن شرَّ الإنْسَان لنفسه فيؤنبه ضميره، ولا يرى وسيلة للرَّاحة إلاَّ بهربه منه، لأنَّ روح الله لا يتوافق مع روح العَالَم، كما قال الحكيم "السّاخِر لا يحِبّ أَن يوَبَّخ وإلى الحُكَماءِ لا يَذهَب" (أمثال 15: 12). أمَّا عبارة " النُّور " فتشير إلى نور قداسة الله. هذا النُّور ينزع القِناع عن الإنْسَان الذي يعمل الشَّر، ويغش نفسه. وكشْف القناع هو دينونة لمن يرفض الله وابنه يسوع الذي هو نور العَالَم. أمَّا عبارة "فلا يُقبِلُ إلى النُّور لِئَلاَّ تُفضَحَ أَعْمَاله " فتشير إلى كثيرين الذين لا يريدون أن تتعرَّض حياتهم لنور الله، لأَّنهم يخافون مما سيكشفه ويُعلنه.  وفي هذا الصَّدد يقول بولس الرَّسول "إِنَّ الأَعْمَال الَّتي يَعمَلونَها في الخُفْيَة يُستَحْيا حتَّى مِن ذِكرِها. ولكِن كُلُّ ما شُهِّرَ أَظهَرَه النُّور" (أفسس 5: 12-13). من لا يؤمن يُعرض عن النُّور، لأنَّه لا يريد أن يتغيّر. أمَّا الذي يؤمن يُقبل إلى النُّور ويمارس الحق ويكون في شركة مع الله.

 

21   وأَمَّا الَّذي يَعمَلُ لِلحَقّ فيُقبِلُ إلى النُّور لِتُظهَرَ أَعْمَاله وقَد صُنِعَت في الله

 

تشير عبارة "أَمَّا الَّذي يَعمَلُ لِلحَقّ" إلى عبارة يهوديَّة مألوفة تدلُّ على تكييف السُّلوك بالحق، وبالتَّحديد العمل بمشيئة الله. وفي نظر اليهود يظهر هذا الحق في الشَّريعة "فَإِذا أَرادَ أَحَدٌ أَن يَعمَلَ بِمَشيَئِته عَرفَ هل ذَاكَ التَّعليمُ مِن عِندِ الله أَو أَنِّي أَتَكَلَّمُ مِن عِندِ نَفْسي"(يوحنا 7: 17)، وبلغ يسوع بالشَّريعة إلى كمالها، كما صرّح أمام بيلاطس" فكُلُّ مَن كانَ مِنَ الحَقّ يُصْغي إلى صَوتي" (يوحنا 18: 37). وقد ورد "الحق" بصيغة المفرد، لأنَّه حياة واحدة في المسيح، وهي الالتصاق بشخصه، ويُعلق القديس أوغسطينوس " كيف تعمل الحق؟ إنك لا تدلل نفسك ولا تهادنها ولا تتملَّقها، ولا تقول: "إني بار"، بينما أنت غير بار؛ هكذا تبدأ تفعل الحق". أمَّا عبارة "فيُقبِلُ إلى النُّور "فتشير إلى ميل الإنْسَان إلى المسيح وإنجيله والسَّير بنوره " أَنا نُورُ العَالَم مَن يَتبَعْني لا يَمْشِ في الظَّلام بل يكونُ له نورُ الحَياة" (يوحنا 8: 12). وتبدأ طريقة حياة جديدة عندما يترك الإنْسَان الظَّلام خلفه، ويأتي إلى النُّور. أمَّا عبارة "لِتُظهَرَ أَعْمَاله وقَد صُنِعَت في الله" فتشير إلى من صنع الخير وعمل الأَعْمَال الصَّالحة في حضرة الرَّب وبعونه ونعمته. الله هو صاحب العمل الصَّالح، هو الذي يعطي قوة لهذا العمل والهدف منه هو تمجيد اسمه القدوس، كما جاء في تعليم بولس الرَّسول: "إِنَّ اللهَ هو الَّذي يَعمَلُ فيكُمُ الإِرادَةَ والعَمَلَ في سَبيلِ رِضاه" (فيلبي 2: 13). وفي هذا الصَّدد يوصي يسوع تلاميذه " هكذا فَلْيُضِئْ نُورُكُم لِلنَّاس، لِيَرَوْا أَعْمَالكُمُ الصَّالحة، فيُمَجِّدوا أَباكُمُ الَّذي في السَّمَوات" (متى 5: 16). الإيمان بيسوع المصلوب والعمل بمشيئته يُنقلنا من خوف الدَّينونَة إلى التَّمتع بالنُّور الإلهي.

 

 

ثانيًا: تطبيقات النَّص الإنجيلي (يوحنا 3: 14-21)

  

 بعد دراسة موجزة عن وقائع النَّص الإنجيلي وتحليله (يوحنا 3: 14-21)، يمكن الاستنتاج أنَّ النَّص يتمحور حول حوار بين يسوع ونيقوديمس في ثلاث نقاط، وهي: مفهوم الإيمان، والإيمان بيسوع ومفهوم الدَّينونَة.

 

1) مفهوم الإيمان

 

الإيمان هو منبع ومركز للحياة الدِّينيَّة. ولم ترد كلمة ((آمن)) אֱמוּנָה في العهد القديم إلا مرّات قليلة (يهوديت 14: 10، 2 مكابيين 8: 13؛ 15: 10) إلاَّ أن معناها يفهم ضِمْنًا في عبارات متنوعة مثل قوله: " تَوجَّهوا إِلَيَّ" (أشعيا 45: 22) و " أُرجُ الرَّبَّ (مزمور 27: 14)) و " المُعتَصِمينَ به " (نحوم 1: 7).  والإيمان في المفردات العبريَّة في العهد القديم يعود إلى أصلين: "أمان" الذي يوحي بالاستقرار، ومنها الفعل اللاتيني credere، و"בטח" الذي يوحى بالثِّقة ومنها الفعل اللاتيني   confidere

 

وفي العهد الجديد، وردت كلمة الإيمان باليونانيَّة πίστις مرارًا عديدة، وهي تعني ديانة المسيح وملكوت الله كما ورد سواء في أَعْمَال الرُّسل " كانت كَلِمَةُ الرَّبِّ تَنْمو، وعَدَدُ التَّلاميذِ يَزْدادُ كَثيرًا في أُورَشَليم. وأَخَذَ جَمعٌ كَثيرٌ مِنَ الكَهنَةِ يَستَجيبونَ لِلإِيمان"(أَعْمَال الرُّسل 6: 7)، أو في تعليم بولس الرَّسول " بِه نِلْنا النِّعمَةَ بِأَن نَكونَ رسولًا، فنَهدِيَ إلى طاعَةِ الإِيمانِ جَميعَ الأُمَمِ الوَثَنِيَّة، إِكرامًا لاسمِه" (رومة 1: 5).

 

الإيمان يعني العمل الذي يُمكننا من التَّمسك بصحة الإنجيل ويسوع المسيح وقوتهما فينا ولنا من ناحية ، والثِّقة بالخلاص الذي تمَّمه المسيح نيابة عنَّا  من ناحية أخرى، كما جاء في تعليم يسوع المسيح: "  فإِنَّ اللهَ أَحبَّ العَالَم حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحَياة الأبديَّة " (يوحنا 3: 16)؛  ويؤكد بولس الرَّسول هذا الكلام من خلال خبرته : "فإِنِّي لا أَستَحيِي بِالبِشارة، فهي قُدرَةُ اللهِ لِخَلاصِ كُلِّ مُؤمِن، لِليَهودِيِّ أَوَّلا ثُم لِليُونانِيّ" (رومة 1: 16).

 

وللإيمان مستويان: مستوى عاطفي ومستوى عقلي. على مستوى العاطفة، يقوم الإيمان على الثِّقة التي تتجه نحو شخص "أمين"، وتلزم الإنْسَان بكليته، على مثال إبراهيم أبي المؤمنين إذ كان جلّ اعتماده على الله (رومة 4: 11). "آمن بالله" وبكلمته (تكوين 15: 6)، فأطاع هذه الدَّعوة، والتزم في أسلوب معيشته (تكوين 22).

 

أمَّا على مستوى العقل فيسعى العقل الذي تتيح له كلمة أو بعض العلامات، بلوغ حقائق لا يعاينها، كما جاء في تعريف صاحب الرِّسالة إلى العبرانيين "فالإِيمانُ قِوامُ الأُمورِ الّتي تُرْجى وبُرْهانُ الحَقائِقِ الَّتي لا تُرى" (عبرانيين 11: 1). ومن هذا المنطلق، إنَّ الإيمان على طرف نقيض من الشَّك، كما قال يسوع لتلاميذه "الحَقَّ أَقولُ لكم: إِن كانَ لَكم إِيمانٌ ولم تَشُكُّوا"(متى 21: 21)، والإيمان لا يلازم العيان، كما يؤكِّد ذلك بولس الرَّسول "لأَنَّنا نَسيرُ في الإِيمانِ لا في العِيان"(2 قورنتس 5: 7).

 

وهناك فرقا بين الاعتراف بالإيمان، وعيش الإيمان. الاعتراف بالإيمان هو على صعيد العقل واللاهوت، ويقوم على القبول العقلي والعقلاني والوجداني للإيمان، وأمَّا عيش الإيمان فيقوم بالقبول الإرادي والوجودي للإيمان بعيش بالقداسة. حيث أنَّ عيْش الإيمان دون فهمه لا يطابق طبيعتنا البشريَّة العقلانيَّة، وفهم عقلانيَّة الإيمان دون الدُّخول في وجدان العيش المسيحي لا ينفع شيئًا، بل يُضحي نوعًا من فلسفة لا تُجدي نفعًا. صدق كاتب "الاقتداء بالمسيح" عندما قال: "لا ينفعك شيئًا فهم الثَّالوث الأقدس إذا خلوت من التَّواضع الذي يجعلك مَرضيًّا لدى الثَّالوث".

 

الإيمان دون أعمال ٍ مَيْتٌ، كما يقول يعقوب الرَّسول " فإِن لم يَقتَرِنْ الإِيمان بِالأَعمال كانَ مَيْتًا في حَدِّ ذاتِه" (يعقوب 2: 26)، لذا يتوجب أن يكون الإيمان مصحوبًا من ناحية بالمَحَبَّة كما يؤكد ذلك  بولس الرَّسول: "إِنَّما القِيمةُ لِلإِيمانِ العامِلِ بِالمَحبَّة " (غلاطية 5: 6)، ومن ناحية أخرى بالأعمال الصَّالحة، كما جاء في قول المسيح للمرأة المنزوفة "يا ابنَتي، إِيمانُكِ خلَّصَكِ" (لوقا 8: 48)، وفي قوله للأبرص:" قُمْ فامضِ، إِيمانُكَ خَلَّصَكَ"(لوقا 17: 19) وفي قوله أيضا لأعمى أريحا: " أَبصِرْ، إِيمانُكَ خَلَّصَكَ! "(لوقا 18: 42).  والأعمال الصَّالحة المتعلقة بالإيمان هي ثلاثة: الصَّلاةُ والصَّومُ والرَّحمةُ. الصَّلاةُ تَقرَعُ على البابِ، والصَّومُ يبتهلُ ويتوَسَّلُ، وَالرَّحمةُ تَنالُ. الصَّلاةُ والرَّحمةُ والصَّومُ، هذه الثَّلاثةُ هي أمرٌ واحِدٌ، وكلُّ واحدٍ يَسنُدُ الآخَرَ. الصَّلاةُ معَ الصَّومِ، وَالصَّدَقَةُ مَعَ البِرِّ خَيرٌ، وَهِيَ تُطَهِّرُ مِن كُلِّ خَطِيئَةٍ. وتُولِي الرَّحمةً والحَياة الأبديَّة.

 

متطلبات الإيمان هي ثلاث أمور: اقتناع الفهم، وتسليم الإرادة وأخيرًا ثقة القلب. والثِّقة هي عمدة الإيمان، ولاسيما حينما يكون مخلصنا يسوع المسيح موضوع الإيمان. وينبغي أن تقترن ثقتنا بالإقناع التَّامّ بصحة أقواله وتعاليمه وإلاّ كان إيماننا باطلًا.  ويؤهلنا الإيمان بالمسيح لإدراكه والتَّمسك به وبكل الفوائد النَّاجمة عن ذلك خاصة الحَياة الأبديَّة "مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحَياة الأبديَّة " (يوحنا 3: 16).

 

لا يمكننا أن نشارك المسيح في برِّه واستحقاقاته ما لم يكن لنا إيمان به، كما جاء في تعليم بولس الرسول: "إِنًّ البارَّ بِالإِيمانِ يَحْيا" (رومة 1: 17، وحبقوق 2: 4).  بالإيمان "نلبس المسيح" وبالإيمان نتبرَّر لا بالأعمال، لأنَّ خلاصنا قد تمَّمه لنا المسيح حين قال " تَمَّ كُلُّ شَيء "(يوحنا 19: 30). وقال الرَّسول بولس "بِالنِّعمَةِ نِلتُمُ الخَلاصَ بِفَضلِ الإِيمان. فلَيسَ ذلِك مِنكُم، بل هو هِبَةٌ مِنَ الله" (أفسس 2: 8)؛ ويُعلق القديس باسيليوس "لا يفتخر أحد ببِرِّه بل يعلم أنه مجرد من البِرِّ الحقيقي، لانَّ الإنْسَان يُبرَّر فقط بالإيمان بيسوع المسيح"، لذا جاء تصريح بولس الرَّسول "مَنِ افتَخَرَ فَلْيَفتَخِرْ بِالرَّبّ" (1قورنتس 1: 31).

 

2) الإيمان بيسوع المسيح

 

الإنجيل الرَّابع هو إنجيل الإيمان. ففيه يرتكز الإيمان في يسوع وفي مَجْده الإلهي. وكشف يسوع في حواره مع نيقوديمس سر ابن الله الوحيد الذي أرسله الآب لخلاص العَالَم من خلال رفعه على الصَّليب. والطَّريق الوحيد لبلوغ هذا الخلاص هو الإيمان الحقيقي بيسوع المَصلوب (يوحنا 3: 11-21). لم يُصمَّم موت يسوع بإرادة الإنْسَان ولكن بمَحَبَّة آبيه السَّماوي الذي بذل ابنه الوحيد ذبيحة عن العَالَم "فإِنَّ اللهَ أَحبَّ العَالَم حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحَياة الأبديَّة"(يوحنا 3: 16). وتقبل يسوع موته كوسيلة لإتمام فداء العَالَم، لذلك الإيمان بالمسيح يعني امتلاك المسيح في داخلنا، وبالتالي امتلاك الحَياة الأبديَّة. ويُعلق البابا فرنسيس "يسوع هو يد الآب، القويَّة والأمينة، الذي لا يتركنا أبدًا" (مقابلة يوم الأحد 9/8/2020).

 

كما حوّل بني إسرائيل المشرفون على الموت عيونهم إلى الحَيَّة النُّحاسيَّة ونالوا الحَياة، هكذا النَّاس الذين تحت دينونة الخطيئة ينالون الحَياة الأبديَّة والشِّفاء على يد المخلص يسوع المسيح المرفوع على الصَّليب كما جاء في إنجيل  يوحنا: "كما رَفَعَ مُوسى الحَيَّة في البَرِّيَّة فكذلِكَ يَجِبُ أَن يُرفَعَ ابنُ الإنْسَان لِتَكونَ بهِ الحَياة الأبديَّة لِكُلِّ مَن يُؤمِن" (يوحنا 3: 14-15)؛ يُعلق الأسقف اللاهوتي ثيودورس المصّيصي " في زمن مُوسى، كان ثعبان النُّحاس الأصفر، الذي لا يمتلك الحَياة، يُحرّر من الموت أولئك الذين يصوّبون أنظارهم إليه إثر تعرّضهم للدغة سامّة بفضل قوّة شخص آخر. وبالطَّريقة نفسها، أعطى الرَّب يسوع الحَياة للذين يؤمنون به، بالرَّغم من آلامه وهيئة الموت على محيّاه، بفضل القدرة التي تسكنه" (شرح لإنجيل القدّيس يوحنّا). يدعونا البابا فرنسيس بقوله: "لا تدعوا الصَّليب يُخيفكم، يقول الرَّبّ يسوع، ولا تدعوه يُشَكِّكُم في أقوالي. كما أنّ الحَيَّة التي رفعها مُوسى في البَرِّيَّة كانت فعّالة بسلطة الذي أمَرَه برفعها هكذا حَملَ الرَّبّ خطايا البشر وعانى آلام الصَّلب، ولكن بفضل القوّة التي تسكنه، جعل أولئك الذين يؤمنون به مستحقّين للحياة الأبديَّة" (وقفة تأمل عند كلمة الحَياة 13/3/2015).

 

تَمَّ موت يسوع على الصَّليب باختياره الحر، كما أعلن يسوع في العشاء الأخير: إنَّ الآبَ يُحِبُّني لِأَنِّي أَبذِلُ نَفْسي لأَنالَها ثانِيَةً ما مِن أَحَدٍ يَنتزِعُها مِنَّي بل إنّني أَبذِلُها بِرِضايَ. فَلي أَن أَبذِلَها ولي أَن أَنالَها ثانِيَةً وهذا الأَمرُ تَلَقَّيتُه مِن أَبي"(يوحنا 10: 18-19)، وذلك لتميم إرادة الله " يَجِبُ على ابنِ الإنْسَان أَن يُعانِيَ آلامًا شَديدة، وأَن يَرذُلَه الشُّيوخُ وعُظَماءُ الكَهَنَةِ والكَتَبَة، وأَن يُقتَلَ ويقومَ في اليَومِ الثَّالِث " (لوقا 9: 22).  المسيح لم يبحث عن الصَّليب، بل قبله بكل حبّ وحريَّة ووعي. وبالتَّالي الصَّليب هو صليب الحب، لا صليب الآلام، بمعنى أن الحبَّ جعل المسيح أن يقبل الصَّليب، دون أن أبحث عنه. وأصبح موضوع الصَّليب أساسي في الإيمان المسيحي.

 

يتطلب الخلاص فعل إيمان وذلك أولاً بالإقرار بالخطيئة الشَّخصيَّة، والحاجة الشَّخصيَّة للشِّفاء. وثانيًا: بتحويل أنظارنا من رؤية شرورنا وخطايانا إلى النَّظر على الصَّليب، النَّظر إليه من أجل شِفائنا ونيل الحَياة الأبديَّة. يقول سفر الحكمة بشكل واضح: " كَانَ الْمُلْتَفِتُ إِلَيْهَا يَخْلُصُ، لاَ بِذلِكَ الْمَنْظُورِ بَلْ بِكَ، يَا مُخَلِّصَ الْجَمِيعِ" (الحكمة 6: 16). وبهذا يفتخرُ بولس أنّه يزدري بِرَّ نفسِه. وإنّما يبحثُ عن البِرِّ الذي هو بالمسيحِ والذي هو من الله، عن البِرِّ في الإيمانِ، "لِيَعرِفَهُ ويَعرِفَ قدرةَ قيامتِه ويشارِكَ في آلامِه، فيصيرَ شبيهًا بموتِه، إن أرادَ منذ الآن أن يصلَ إلى قيامةِ الموتى". "مَن افتَخَرَ فَلْيَفتَخِرْ فِي الرَّبِّ" (1 قورنتس 1: 31).

 

 الخلاص ليس أمر يمكن أن يقوم به الإنْسَان بمفرده، بقواه الذَّاتيَّة، بل إنّه هبة من الرَّبّ. والتَّشبيه الذي قدّمه المسيح يبرهن عن ذلك " فالرِّيحُ تَهُبُّ حَيثُ تَشاء فتَسمَعُ صَوتَها ولكنَّكَ لا تَدْري مِن أَينَ تَأتي وإلى أَينَ تَذهَب. تِلكَ حاَلةُ كُلِّ مَولودٍ لِلُّروح" (يوحنا 3: 8)، إنَّ نفس اللفظة اليونانيَّة πνεῦμα تستعمل لكِلا الرِّيح والرُّوح. كما أنَّ وجود الرِّيح يُعرف بتأثيراته هكذا الرُّوح يتبيَّن بعمله. إنَّه هبة ينبغي التَّوق إليها وطلبها. الرُّوح القدس وحده يملك القدرة على خلق الإيمان وفتح عيون الإنْسَان على النُّور العُلْويِّ كما أعلن يسوع لنيقوديمس: “ما مِن أَحَدٍ يُمكِنَه أَن يَدخُلَ مَلَكوتَ الله إِلاَّ إِذا وُلِدَ مِنَ الماءِ والرُّوح"(يوحنا 3: 5). يدعو يسوع الإنْسَان كي يُحقِّق هذه دعوة التي تفوقه. وهذه الدَّعوة هي أساسيَّة للإنسان " مَن أَحَبَّ حياتَهُ فقَدَها ومَن رَغِبَ عنها في هذا العَالَم حَفِظَها لِلحَياةِ الأبديَّة" (يوحنا 12: 25)، ومع ذلك فهو لا يعرفها إلاَّ إذا كشفها له المسيح " إِنَّ الَّذي يأتي مِنَ عَلُ هو فَوقَ كُلِّ شَيء" (يوحنا 3: 31)، ولا يُحقق الإنسان هذا الدَّعوة إلاَّ بنعمة الرُّوح.

 

من هذا المنطلق، الإنْسَان بحاجة إلى الرُّوح القدس، لأنَّ هناك هوةٌ كبيرةٌ بين الجسد وبين الرُّوح، بين الخليقة وبين الله، (أشعيا 31: 3) ويستحيل اجتيازها ما لم يأتِ الله بروحه لنجدة الخليقة ويُجدِّدها تجديدًا كاملاً. وقد تنبأ العهد القديم عن تجديد الإنْسَان بروح الله على لسان حزقيال النَّبي " أُعْطيكم قَلبًا جَديدًا وأَجعَلُ في أَحْشائِكم روحًا. جَديدًا وأَنزِعُ مِن لَحمِكم قَلبَ الحَجَر، وأُعْطيكم قَلبًا مِن لَحْم" (حزقيال 36: 26)؛ عندئذ يشارك الإنْسَان في حياة سَماويَّة، ويقدر أن يفهم أمور السَّماء من خلال الرُّوح القدس، كما صرّح يسوع "فإِذا كُنتُم لا تُؤمِنونَ عِندَما أُكَلِّمُكم في أُمورِ الأَرْض فكَيفَ تُؤمِنونَ إِذا كلَّمتُكُم في أُمورِ السَّماء؟ (يوحنا 3: 12). كان الإنْسَان جسديًا فوُلد بالرُّوح القدس فأصبح مولودًا روحيَا، لان " مَولودُ الرُّوحِ يَكونُ روحًا" (يوحنا 3: 6). وبالولادة الرُّوحيَّة يتجدَّد الإنْسَان داخليًا فيصبح قادرًا أن يشترك في حياة يسوع الإلهيَّة. ولكن المصيبة الكبرى للإنسان عدم إيمانه بالمسيح المَصلوب الذي غفر له. 

 

نستنتج مما سبق أنَّه لا يجوز أن نكتفي على إيمان مؤسَّس على معجزات خارجيَّة كما كانت حالة بعض اليهود " آمَنَ بِاسمِه كثيرٌ مِنَ النَّاس، لمَّا رَأَوا الآياتِ الَّتي أَتى بِها. غَيرَ أَنَّ يسوعَ لم يَطمَئِنَّ إِلَيهم، لِأَنَّه كانَ يَعرِفُهم كُلَّهم " (يوحنا 3: 23-24) وكما هي حالة نيقوديمس أيضًا، كما صرّح هو نفسه ليسوع " راِّبي، نحنُ نَعلَمُ أَنَّكَ جِئتَ مِن لَدُنِ اللهِ مُعَلِّمًا، فما مِن أَحَدٍ يَستَطيعُ أَن يَأَتِيَ بِتِلكَ الآياتِ الَّتي تَأتي بِها أَنتَ إِلاَّ إِذا كانَ اللهُ معَه" (يوحنا 3: 2). لأنَّ يسوع يطلب إيمانًا ينمو في معرفته غير المنظور، كما صرّح بطرس الرَّسول ليسوع " نَحنُ آمَنَّا وعَرَفنا أَنَّكَ قُدُّوسُ الله" (يوحنا 6: 69)، وإيمانًا ينمو في تأمله بيسوع، كما قالَ يسوع لمرتا أخت لعازر الذي أقامه من القبر: "أَلَم أَقُلْ لَكِ إِنَّكِ إِن آمَنتِ تَرينَ مَجدَ الله؟" (يوحنا 11: 40).

 

بالرَّغم من الإيمان، في الواقع، يحتاج الإيمان إلى رؤية "آمَنَ بِاسمِه كثيرٌ مِنَ النَّاس، لمَّا رَأَوا الآياتِ الَّتي أَتى بِها" (يوحنا 2: 23)، ويحتاج الإيمان إلى لمس أيضًا كما قالَ يسوع لِتوما: "هَاتِ إِصبَعَكَ إلى هُنا فَانظُرْ يَدَيَّ، وهاتِ يَدَكَ فضَعْها في جَنْبي، ولا تكُنْ غَيرَ مُؤمِنٍ بل كُنْ مُؤمِنًا" (يوحنا 20: 27)، إلاَّ انه يجب أن يبلغ إلى الحقيقة غير المرئيَّة لمَجْد يسوع، دون ما حاجة إلى رؤية العلامات الكثيرة التي تُظهره ، كما قال يسوع لعامل الملك في كفرناحوم "إِذا لم تَرَوا الآياتِ والأَعاجيبَ لا تُؤمِنون؟" (يوحنا 4: 48).  فالإيمان بالسَّيد المسيح ليس عقيدة نظريَّة مجرَّدة، بل اتحاد عملي وشركه معه، وأكَّد يسوع ذلك بقوله " الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: مَن سَمِعَ كَلامي وآمَنَ بِمَن أَرسَلَني فلَه الحَياة الأبديَّة ولا يَمثُلُ لَدى القَضاء بلِ انتَقَلَ مِنَ المَوتِ إلى الحَياة" (يوحنا 5: 24).

 

3) الدَّينونَة

 

يركِّز يوحنا الإنجيلي على نتائج الإيمان غير المنظورة. فمن يؤمن لن تكون ثمة دينونة (5: 24)، فهو قائم من الموت منذ الآن (يوحنا 11: 25-26)، وهو يسلك طريقه في النُّور (يوحنا 12: 46)، ويتمتع بالحَياة الأبديَّة (يوحنا 3: 16). وعلى العكس، من لا يؤمن فقد حُكم عليه مُقدَّمًا (يوحنا 3: 18). وحيث أنَّ الإيمان هو انضمام الإنْسَان بثِقَة إلى شخص يسوع المصلوب، فهو الشَّرط الوحيد لنيل الحَياة الأبديَّة، في حين أن رفض الإيمان يُترك الإنْسَان بلا حماية أمام الدَّينونَة. يُعلق القدّيس يوحنّا الذَّهبيّ الفم: " في الماضي كان الصَّليبُ رمزًا للعقاب، أمّا اليوم فهو رمزُ الشَّرف.  في الماضي كان رمزًا للإدانة، أمّا اليوم فهو مبدأ الخلاص، لأنّه مصدر خيرات لا محدودة: لقد نجّانا من الخطيئة، وأنارَنا في الظَّلمَات، وصالَحَنا مع الله" (عظة عن الصَّليب وعن اللصّ). وعلى هذا النَّحو، للإيمان دورٌ في الاختيار بين الموت والحَياة، بين النُّور والظَّلام، وبالتَّالي في الدَّينونَة (يوحنا 3: 19-21). إنه اختيار أساسي يتعلق به حياة أو موت كل إنسان. إنه "نعم" الإنْسَان لدعوته الإلهيَّة في المسيح بواسطة الرُّوح القدس.  ولهذا السَّبب، يستطيع يسوع أن يختم كلامه محدِّدًا مجيئه إلى هذا العَالَم بدينونة " مَن آمَنَ بِه لا يُدان ومَن لم يُؤمِنْ بِه فقَد دِينَ مُنذُ الآن لِأَنَّه لم يُؤمِنْ بِاسمِ ابنِ اللهِ الوَحيد"(يوحنا 3: 18).

 

الدَّينونَة هي جزء لا يتجزأ من قانون الإيمان المسيحي حيث أنَّ كل إنسان يمثل أمام الرَّب ليقدِّم حسابًا عن أَعْمَاله كما جاء في تعليم بولس الرَّسول "لابُدَّ لَنا جَميعًا مِن أَن يُكشَفَ أَمرُنا أَمامَ مَحْكَمةِ المسيح لِيَنالَ كُلُّ واحِدٍ جَزاءَ ما عَمِلَ وهو في الجَسَد، أَخيرًا كانَ أَم شَرًّا. (2 قورنتس 5: 10). ويتنبأ دانيال النَّبي أن الدَّينونَة الأخيرة سوف تختتم الزمن وتفتتح ملكوت ابن البشر الأبديِّ (دانيال 7: 9-12). ويُعلق البابا بِندِكتُس السَّادس عشر: "يتحدَّث قانون إيمان الكنيسة في جزئه المحوري عن سرّ الرَّب يسوع المسيح منذ ولادته الأزليَّة من الآب إلى ولادته الزمنيَّة من العذراء مريم ليَصلَ مرورًا بالصَّليب إلى القيامة حتى عودته، ويختم بالعبارة: «... وسوف يأتي بمَجْد عظيم ليدين الأحياءَ والأموات». فإنّ الإيمان بالدَّينونَة الأخيرة هو قبل كلّ شيء فعل رجاء" (الرِّسالة العامّة بالرَّجاء مُخَلَّصون (Spe Salvi)، العدد 41).

 

يؤكد إنجيل يوحنا أن يسوع قد أقيم من الآب ديَّانًا في اليوم الأخير بوصفه ابن الإنْسَان (يوحنا 5: 26-30) بقوله: "مَن آمَنَ بِه لا يُدان ومَن لم يُؤمِنْ بِه فقَد دِينَ مُنذُ الآن لِأَنَّه لم يُؤمِنْ بِاسمِ ابنِ اللهِ الوَحيد"(يوحنا 3: 18). في حضرة المسيح-النُّور تنكشف القلوب، ويتميَّز بعضها عن بعض، وَفقًا لإيمانها أو لجحودها، لان الإنْسَان قادر أن يفصل الشَّر على الحقيقة، والظُّلمَة على النُّور. وفي هذا الصَّدد قال يسوع "كُلُّ مَن يَعمَلُ السَّيِّئات يُبغِضُ النُّور فلا يُقبِلُ إلى النُّور لِئَلاَّ تُفضَحَ أَعْمَاله"(يوحنا 3: 20). وبالعكس من يطابق سلوكه مع متطلبات الحقيقة الإلهيَّة، وأَعْمَاله مع إرادة الله فأنَّه "يَعمَلُ لِلحَقّ فيُقبِلُ إلى النُّور لِتُظهَرَ أَعْمَاله وقَد صُنِعَت في الله " (يوحنا 3: 21). 

 

في الواقع، تتمُّ الدَّينونَة منذ اللحظة التي يرسل فيها الآب الابن إلى العَالَم. وقد بدأت الدَّينونَة مع السَّاعة التي ظهر فيها يسوع في العَالَم، وتتم الدَّينونَة فورًا: فمن يؤمن لا يُدان، ومن لا يؤمن فقد يُدان، لأنه رفض النُّور (يوحنا 3: 18-20). أمَّا دينونة الأزمنة الأخيرة فهي حاضرة منذ تلك السَّاعة، وإن كان ينبغي انتظار عودة المسيح المجيدة، حتى نراها متمَّمة في ملئها.

 

هذا لا يعني أن الله أُرسل ابنه يسوع ليدين العَالَم، بل ليُخلصه (يوحنا 3: 17)، لكن تبعًا للموقف الذي يختاره كل إنسان تجاه المسيح. والدَّينونَة عبارة عن الموقف الّذي يختاره كلّ منّا لنفسه عندما يرفض حقيقة إله المُخلِّص، بموته على الصَّليب من أجل الجميع.  الدَّينونَة إذًا هي كشف خطايا القلوب البشريَّة، أكثر منها حكم إلهي. فالنَّاس الذين أَعْمَالهم شريرة، يفضّلون الظَّلام على النُّور (يوحنا 3: 9-20)، حيث يترك الله هؤلاء النَّاس المُكتفين بذواتهم، هؤلاء الذين يفتخرون بأنَّهم يرون الأمور بوضوح لكنَّهم في الواقع هم عُمْيان. وأمَّا الآخرون، فيأتي يسوع ليشفي عيوبهم (يوحنا 9: 39)، حتى إذا ما عملوا للحق، يُقبِلون إلى النُّور (يوحنا 3: 21).

 

أن موت يسوع يعني إدانة العَالَم وهزيمة إبليس (يوحنا 12، 31)؛ إنه ابتداءً من هذه اللحظة يستطيع أن يرسل لخاصته الرُّوحٍ القدس الذي دون ما انقطاع، يُبكت العَالَم، معلنًا أن رئيسه حُكم عليه بالهلاك (يوحنا 16: 8 و11). وحدَد الله يومًا ليدين العَالَم فيه بعدل بالمسيح الذي أقامه من بين الأموات، كما جاء في خطاب بولس الرَّسول: "لأَنَّه حَدَّدَ يَومًا يَدينُ فيه العالَمَ دَينونَةَ عَدْلٍ عن يَدِ رَجُلٍ أَقامَه لِذلكَ، وقد جَعَلَ لِلنَّاسِ أَجمَعينَ بُرهانًا على الأمْر، إِذ أَقامَه مِن بَينِ الأَموات "(أَعْمَال 17: 31). وسيدين الله كل واحد بحسب أَعْمَاله، دون ما محاباة للوجوه (1 بطرس 1: 17). وسيقع تحت وطأة هذه الدَّينونَة الصَّارمة: الزناة والفسّاق (عبرانِيين 13: 4)، وكل الذين يكونون قد رفضوا أن يؤمنوا، والذين تحيَّزوا للشَّرِّ (2 تسالونيقي 2: 12)، والمنافقون والمعلمون الكذبة (2 بطرس 2: 4-10)

 

والمسيح هو الذي سيقوم إذ ذاك بوظيفة ديَّان الأحياء والأموات (2 طيموتاوس 4: 1). ولكنّ الويل لمن يكون قد أدان القريب "فلا عُذر َلَكَ أَيًّا كُنتَ، يا مَن يَدين، لأَنَّكَ وأَنتَ تَدينُ غَيرَكَ تحكُمُ على نَفْسِكَ، ونحنُ نَعلَمُ أَنَّ قَضاءَ اللهِ يَجْري بالحَقِّ على الَّذينَ يَعمَلونَ مِثلَ هذِه الأَعْمَال" (رومة 2: 1-3)؟ إنه سيُدان هو نفسه طبقًا للمقياس الذي طبّقه على الآخرين "فَما بالُكَ يا هذا تَدينُ أَخاكَ؟ ومما بالُكَ يا هذا تَزدَري أَخاكَ؟ سَنمثُلُ جَميعًا أمامَ مَحكَمَة ... إِنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنَّا سيُؤدِّي إِذًا عن نَفْسِه حِسابًا لله" (رومة 14: 10-12).

 

 

الخلاصة

 

بعد أن كشف يسوع عن الحَياة الجديدة من خلال الخَمرة الجديدة في عرس قانا الجليل (يوحنا 2: 1-12) وهيكل جديد (يوحنا 2: 13-22)، كان لا بُدَّ من الكشف عن الإنْسَان الجديد في حواره مع نيقوديمس. وقد جذب هذا الحوار كثيرين من غير المؤمنين إلى الإيمان المسيحي. إذ من خلال هذا الحوار يتعرف الإنْسَان على الإمكانيات الجديدة الموهوبة له. إن الله في محبته للجميع لا يترك النَّاس الذين نعتبرهم بعيدي المنال ولا يمكن الوصول إليهم، إنَّما يعمل على تغييرهم.  ويؤكّد الحوار أنَّ العلاج مُتوفّر، ويَكمن بالنَّظر بإيمان إلى ابن الإنْسَان المرفوع على الصَّليب. ويستخدم يسوع هنا صورة مأخوذة من سفر العدد (21: 4-9) حيث يرفع مُوسى الحَيَّة النَّحاسيَّة على سارية: فَكُلُّ مَنْ لُدِغَ وَنَظَرَ إِلَيْهَا يَحْيَا". تصف هذه الصُّورة واقعنا كمخلوقات مرضى، وهذا المرض جدّي إلى حدّ أنّه يؤدّي إلى الموت، وبالتَّحديد فقدان الحَياة الأبديَّة. ومع ذلك فإنّ هذه الصُّورة تؤكّد أنّ العلاج مُتوفّر، وأنّه يتكوّن من النَّظر إلى ابن الإنْسَان المرفوع على الصَّليب: ليس هناك علاج آخر سواه.

 

يركِّز يوحنا الإنجيلي على هذا الإيمان طالبًا من قرّائه أن يشاركوه فيه بان "يسوع هو المسيح، ابن الله" (20: 31)، وعلى أن يصيروا أبناء الله بفضل الإيمان "بالكلمة" المُتجسِّد المتألم من أجلنا على الصَّليب (1: 9-14). وإن اختيار الإيمان يظل مُمكنًا خلال شهادة يوحنا الرَّاهنة (1 يوحنا 1: 2-3). وشهادة بولس الرَّسول (رومة 8: 31-39).

 

إزاء كلِّ هذه الصُّعوبات، حثَّ يوحنا الرَّسول المؤمنين على "الصَّبر وعلى التزام أمانة القديسين" حتى الموت (رؤيا 13: 10). وتقوم هذه الأمانة في أساسها على الإيمان بقيامة الرَّب؛ فمن يستطيع القول: "كنت ميتًا وهاءنذا حيّ أبد الدُّهور؟" (1: 18). ومن ثمة الإيمان الفصحى هو الذي سيعلن أيضًا "هذا هو الانتصار الذي غلب العَالَم: إنه إيماننا" (5: 4). ويوم ينتهي دور الإيمان، " لأَنَّنا سَنَرى الله كما هو"(1 يوحنا 3: 2).   فنحن جميعًا مدعوُّون مع نيقوديمُس إلى أن نقوم باختبار حبِّ المسيح المجَّاني، وذلك بان نعرض أنفسنا لنظرة المسيح المرفوع على الصَّليب من اجل خلاصنا وشفائنا.  لنذهبّ لقبول يسوع المصلوب والقائم من خلال النَّظر إليه، فهو لمّ يأت ليدينا بل ليُخلصنا ويمنحنا الحَياة الأبَديَّة.

 

 

دعاء

 

"أيّها الرَّبّ يسوع المسيح، حَمل لنا موتك على الصَّليب الحَياة والشِّفاء والمَغفرة. عَلّ محبّتك تلتهمنا، وتحوِّل حياتَنا كي نفضِّلك فوق كلّ شيء. ساعدْنا أن نُحبّ ما تَحبّ أنتَ، ونرغب ما ترغب أنتَ، ونرفض ما ترفض أنت. ربِّي وإلهي، انزع منّي كل ما يُبعدني عنك.  ربِّي وإلهي، امنحني كل ما يُقرِّبني منك. ربِّي وإلهي حرِّرني من نفسي واجعلني بكليتي لك.

 

 

قصة وعبرة: متحف الرُّسومات الفنيَّة

 

يُروى أنّ رجلاً قام بزيارة معرض كبير من معارض الفنّ لنخبة من روائع الرَّسّامين. وكانت تُعرض هناك قطع خالدة، آية في الإبداع، ولا تُقدّر بثمن. وأمام كلّ واحدة منها، كان يقف الدَّليل، شارحًا للزائر تاريخها، ونقاط الرَّوعة فيها. حتّى ما إذا انتهى الزائر من جولته، التفت إلى مُحدِّثه وقال: "إنّني لا أهتمّ بهذه الصُّور البَالية الّتي تعرضونها".

وجاء جواب الرَّجل في هدوء: "أحبّ أن أذكر يا سيّدي أنّ هذه التَّحف قد اجتازت الامتحان منذ أمد طويل. وها هي تمثّل هنا لا يُحكم عليها، بل لتَحكم هي على من يتأمّلها". إنّ تصرّف هذا الإنْسَان، يحكم عليه ويظهر جهله وعماه. هكذا إنّ الرَّبّ لا يتقدّم لدينونة الإنْسَان، بل اتّجه له برُوح الحُبّ. ولكن الإنسان هو الّذي حكم على نفسه بنفسه، هو الّذي دان نفسه بتصرّفه. إنّ تفاعل الإنْسَان تجاه الرَّبّ يسوع المسيح يكشف حقيقة الإنسان.

 

 

قصة وعبرة: إنقاذ قطة من البحيرة

 

رأى رجل قطةً في ماء البُحيرة تحاول الخروج من الماء ولا تنجح، لأنّ الرَّصيف على شاطئ البحيرة مرتفعفمدّ الرَّجل يده لينتشل القطة من الماء فخدشته الهر. مدّ يده ثانيةً وثالثة ورابعة، والقطة تخدشه في كلّ مرّة فقال له شخص كان يراقب المشهد: لقد حاولتَ إنقاذها مرارًا وهي تخدشك وتؤذيك. دعها تهلك ولا تكترث لها. أجابه الرَّجل: أن تخدشني فهذا طبعها وأخلاقها وأن أسعى بإلحاحٍ إلى إنقاذها فهذا طبعي وأخلاقي. المسيح هو هذا الرَّجل، والقطة تمثل نحن البشر. لقد مدّ ولا يزال يمدّ يده ليخلّصنا، ونحن صلبناه ولا نزال نصلبه كجوابٍ على مبادرته. المسيح أتى ليخلّصنا، ولكنّنا صلبناه، ومع ذلك خلّصنا.