موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
الأحد السابع والعشرون (ج)
مُقدّمة
قد ننسى في أوقات الوحدة والتحديات البشريّة هذا الحضور الإلهيّ والغير الـمرئي. ففي هذا الوقت بالتحديد مدعويّن أنّ ننشط بذرة إيماننا الباطنيّة بالرّبّ الّذي يبحث عـمَن يضع إيمانه فيه. لذا تأتينا رسالة النبيّ حبقوق (2: 2- 4)، بالعهد الأوّل، الّذي يستغيث ويصرخ بسبب شعوره بغياب الله عنه. ولكن يدعونا الرّبّ معه، في إجابته بالتحلّي بفضيلة خاصة سنتعرف عليها لاحقًا، لندخل مع النبيّ في مخططه الإلهيّ. وبناء على هذا تأتينا كلمات يسوع بحسب لوقا (17: 5- 10) مجيبًا على تساؤل تلاميذه فاتحًا أمامهم بابًا جديداً، يتميز به اللّاهوت اللُوقاويّ، ويتمثل في إيمان الرّبّ بالإنسان. يا للعجب الإلهي يؤمن بالبشري! نعم إخترنا هذا العنوان كثمرة لحبّ الله الّذي لا ينطر إلى إيماننا البشري سواء كان كثيراً أم قليلاً بل يراعي نوعيّة وجودة إيماننا به. مدعويّن في ذات الوقت لنترك ذاوتنا لنكون موضع إيمان الرّبّ بنا في أدق أوقات حياتنا وصراعتنا البشريّة.
1. وحدة وإستغاثة نبيّ الرّبّ (حب 1: 1- 2. 2: 2-4)
يأتينا الـمقطع الّذي يرويه النبيّ حبقوق، وهو أحد الأنبياء الصغار، باستغاثته الشخصيّة من خلال رؤيا أُوحيّت له من الرّبّ ليتيقظ الشعب من غفلته ويعود للإيمان بالرّبّ. في هذا الوقت يستغيث النبيّ بالرّبّ رافعًا صرخته قائلاً: «إلامَ يا رَبُّ أَستَغيثُ ولا تَسمعَ أَصرُخُ إِليكَ مِنَ العُنفِ ولا تخَلِّص؟» (حب 1: 1- 2). نجد سؤالً النبي الـموجه إلى الله كسؤال البارّ الّذي يواجه الظلم الّذي يطبع تاريخنا البشري. تأتينا ببساطة إجابة الله بأنّ: "البارّ يحيا بإيمانه". إجابة تُنقش على الألواح، وننتظر تحقيقها بثقة. الإيمان أي الثقة هو ما يُمكّن البارّ من العيّش واجتياز تاريخ بشريّ يبدو أنّ الظلم يسود فيه. يحثنا هذا الرد إحياء "إيمان الله بنا" في داخلنا. في نهاية المطاف، الإيمان ما هو إلّا هبة مجانيّة وتُفسَّر هنا من منظور شخصي وبهدف الشهادة. النبيّ هو إنسان بشري مثلنا، يعاني الوحدة ويشعر وهو في حالة ضعف بشري بغياب الله. وها هو يتسأل لماذا لا يسمع ولا يستجيب الرّبّ؟ فتأتيه إجابة الرّبّ قائلاً: «اُكتُبِ الرُؤْيا واِنقُشْها على الأَلْواح حتَّى يُسرَعَ في قِراءَتِها. فإِنَّها أَيضاً رُؤْيا لِلْميقات تَصبو إِلى أَجَلِها ولا تَكذِب. إِن أَبطَأَت فاِنتَظِرْها فإِنَّها ستَأْتي إِتْياناً ولا تَتَأَخَّر. النَّفسُ غَيرُ الـمُستَقيمة غَيرُ أَمينَة أَمَّا البارُّ فبِأَمانَتِه يَحْيا» (حب 2: 2- 4). مما يؤكد الرّبّ بأجابته تلك بأنّه حاضر ويعيش معنا ما نعيشه بل يطلب منا أنّ نتحلى بفضيلة الصّبر. نعم، نعمته وإنّ أبطأت بحسب توقيتنا فهي ستأتي حتمًا بحسب توقيته الإلهيّ. مدعويّن مع النبيّ أنّ نتحلّى بالأمانة للرّبّ خاصة وقت الوحدة، فلا نجعل من مخاوفنا وقلق العالم يسرق منا ما زرعته يد الله من أمن وإيمان به. نعلم أنّ التحديات البشريّة لن تنتهي ولكن الحضور الإلهيّ أعظم وهو ثابت. نداء الرّبّ لنا من خلال رسالة حبقوق النبويّة بأنّ لا نتعجل بحسب توقيتنا بل نسعى للدخول في التوقيت الإلهيّ فهو ما يناسب مخطط الله. وهنا يمهد النبي أمامنا للعبور من بابًا هامًا وهو باب الإيمان، إذ لا نرتكز على قوانا بقدر ما نرتكز على إيمان الله بنا وإيماننا به. وهذا ما سيتناوله يسوع في تعليمه بحسب إنجيل لوقا.
2. بـَمن يؤمن الرّبّ؟ (لو 17: 5- 6)
بعد أنّ حذّر يسوع تلاميذه من الإنتباه لعدم الوقوع في الزلات وممارسة فضيلة الغفران (راج لو 17: 1- 4). يأتنيا تعليمه في هذه الآيات القليلة في شكل تعليق على قول الرسل القائلين: «"زِدْنا إِيماناً" قالَ الرَّبّ: "إِذا كانَ لَكم إِيمانٌ بِمقْدارِ حَبَّةِ خَردَل، قُلتُم لِهذِه التُّوتَة: اِنقَلِعي وَانغَرِسي في البَحر، فَأَطاعَتْكم"» (لو 17: 5- 6). بناءً على كلمات يسوع عن ضرورة ممارسة الغفران يوميًا (راج لو 17: 3- 4)، يطلب الرسل من يسوع أنّ: "يزداد إيماننا!". يهدف هذا الـمقطع الإنجيليّ بأكمله إلى الإجابة على هذا الطلب الّذي نطرحه، مع الرسل على يسوع فنحن كمسيحييّن، نُعد من جماعة الرسل أي من أولئك الّذين لديهم رسالة خاصة. إنّنا رسل، أي مُرسَلون. كما رأينا تساؤل النبي في الـمقطع السابق من نبؤة حبقوق.
في الـمثل الشهير بـ "حبة الخردل" والّتي ترمز للإيمان الّذي يطلب الرسل زيادته! مدعويّن، لقبول ما يُخبرنا به تعليم يسوع من جديد عن الإيمان. تأتينا كلمة يسوع بمثل تعلّيميّ من خلال أصغر البذور "إذا كان إيماني وإيمانك كحبة خردل". بإجابته هذه، يبدو أنّ يسوع يُؤكد بأنّ القضيّة لا تكمن في كمّ الإيمان - الّذي غالبًا ما يغيب عنا كتلاميذ الرّبّ اليّوم- بل في جودته. في الواقع، لو كان إيماننا حقيقيًا، حتى وإنّ كانت كمية ضئيلة كحبة خردل كافية لإحداث الـمعجزات بحياتنا اليوميّة. لذلك يقول يسوع: «إِذا كانَ لَكم إِيمانٌ بِمقْدارِ حَبَّةِ خَردَل، قُلتُم لِهذِه التُّوتَة: اِنقَلِعي وَانغَرِسي في البَحر، فَأَطاعَتْكم» (لو 17: 6). مما يؤكد بإن قضيّة الإيمان لا تكمن في الكمّ، بل في الكيّف. إيماننا بالرّبّ، قليل أم كثير، يعتمد على مدى قبولنا لإيمان الرّبّ بنا في أوقات حياتنا وبالأخص حينما نشعر بغيابه. فيأتي الإيمان البسيط والقليل ليبسط لـمسة إلهيّة تُشعرنا بحضور الرّبّ فتهرب الوحدة.
ومن جانب آخر يشير تعليم الرّبّ لقوة إيمانه بيّ وبك ويختارنا اليّوم لنكون رسله في مجتمعنا بالرغم من هشاشتنا وضعفنا إلّا إنّه يأتينا بقوة إيمانه الّتي يضعها فينا وبثقة فيكون حاضرًا فينا ومن خلالنا. نعم الرّبّ يؤمن بنا اليّوم، في كل مرة نضع جانبًا قدراتنا وجدراتنا وإمكانياتنا إذ يفاجئنا بسيادته وربوبيته فيكشف عن ذاته من خلالنا نحن الخدم الّذي لا نفع منا.
3. التغيّر الجذريّ (لو 17: 7- 10)
يفاجئنا يسوع، كما فاجأ تلاميذه بمثل جديد ولكنه لا نعتقد إنّه ينتمي إلينا كأسياد يمكن أنّ يكون لدينا خدم. ويخاطبنا بشكل مُباشر بقوله: «مَن مِنْكُم له خادِمٌ» (لو 17: 7). هذا وضعٌ غريبٌ جدًّا للاثني عشر ولنا الـملتفيّ، اليّوم حول يسوع. نعلم حقيقة واقعنا البسيط، فليس لنا الـمقدرة على أنّ يكون لدينا خادم، مثل تلاميذ الرّبّ. ربما لم يكن هذا وضعًا غريبًا على الجماعة الّتي يُخاطبها لوقا. على أي حال، في النص، يستخدم يسوع هذه الـمُقارنة، من جديد، ليخاطبنا عن مضمون الإيمان الّذي سأله عنه التلاميذ. إذن نحن بين إيمان السيّد وإيمان الخادم. في المثال الّذي قدّمه يسوع، من الواضح إنّه يُريد تسليط الضوء على عبثيّة الخادم، أو بالأحرّى العبد، الذي يُطالب سيده. عندما يعود الخادم في الـمساء من عمله، لا يُمكنه أنّ يتوقع من سيده أن يُحضّر له العشاء؛ بل عليه أنّ يُحضّر هو عشاء سيده قبل أنّ يأكل هو. ما يبدو جوهريّاً في مثل يسوع بالتحديد هو ليس على العبد الّذي يرمز للتلميذ وليّ ولك أنّ يتقدم بأيّة مطالب إلى مُرسِله، تمامًا كما فعل العبد في مثل يسوع التعلّيميّ.
في حديثه إلينا كرسله، أي المرسليّن لنشر رسالة يسوع، أشار الرّبّ إلى ضرورة تغيير جذريّ في نظرتنا. من هنا يبدأ الإيمان جنى لو قليل أنّ يتنقى ويصبح حقيقي بالرّبّ وليس بالّذات. دعوة يسوع هي الإنتقال من تديّن قائم على الجدارة بالّذات إلى علاقة مع الله تزدهر بالسخاء. نحن مُرسليّن الرّبّ مدعوين إلى أداء رسالتنا بحسب إيماننا، شاعرين بأننا عبيد. ففي نهاية يوم عمل شاق، لا نملك ما يطالب به سيّدنا، بل علينا بالفرح ببساطة لأننا أنجزنا ما كان يجب عليهم فعله. أي أنّ نعتبروا أنفسنا، كما يقول الـمعلّم: «خَدَمٌ لا خَيرَ فيهِم» (لو 17: 10).
تعبير "خَدَمٌ لا خَيرَ فيهِم" يمكننا ترجمته إلى "مجرد خدام". إنّه تغيير جذري في نظرتنا! في جماعة يسوع، كلّ مِن يقوم منا بخدمة ليس له ما يُطالب به لا أمام الله ولا أمام إخوته، بل عليه ببساطة أنّ يشعر بأنّه خادم أي خدام للرّبّ الّذي يرسله. رسالة الخادم لا تنبع منه، بل من دعوة حرة - لا تستند إلى أي جدارة - سبقته؛ وخدمته تُثمر بفضل كلمة حرّة دُعي إلى حملها وقبلها وهو ليس سيّدها، بل خادمها فقط. الخادم هو مَن لا يُضمن نجاح خدمته باستراتيجياته الرعويّة أو التواصليّة، بل بالعمل الحرّ للرّوح القدس الّذي يعمل بحرية في قلوبنا كنساء كرجال مؤمنيّن بالرّبّ.
4. خطر السيّادة (لو 17: 7- 10)
هذا التغيير في المنظور من شأنه أن يُحدث ثورة في علاقاتنا كتلاميذ يسوع وكمرسلين إلى إخوتنا كخدام لهم وليسوا أسيادهم! لفظ سيّد kyriosتنتمي لـمن له السيّادة والربوبيّة. علينا بالإنتباه بألّا نضع أنفسنا مكان السيّد والرّبّ الواحد، وهو المسيح. هذه مخاطرة كبيرة لنا كمرسلين بأنّ نصبح عقبة وليس قدوة في رسالتنا كمرسليّن من الرّبّ للجميع.
يمكننا إضافة ملاحظة أخيرة عن «خَدَمٌ لا خَيرَ فيهِم» (لو 17: 10)، حيث إستخدم لوقا على لسان يسوع مُصطلحًا يونانيًا محددًا للغاية وهوdoulos ، ويعني باليونانيّة عبد. كان بإمكانه إستخدام مصطلح يُقبل بمعناه التقني للإشارة إلى الخدمة الكنسيّة، وهوdiakonos ويعني خادم. في جوهره، هو دؤر الشماس الإنجيلي أي الخادم بحريّة. هو بالتأكيد شخص يؤمن ويعتمد على مَن يخدمه، ولكنه ليس مُلزمًا بخدمته؛ أما لفظ doulos أي العبد، فهو مَن يخدم بدافع الواجب؛ لا يسعه إلّا أنّ يقوم بعمله لينال أجره. وفي عصر يسوع كان هذا العبد مِلكُ لسيده. لا يخدمه باختياره، بل بدافع الضرورة؛ يخدمه لأنّه لا يستطيع فعل شيء سوى هذا النوع من العمل. يمكننا أنّ نستنتج من خلال تعليم يسوع، أنّ كلّا منا كرسول له حريّة الإختيار ليكون خادمًا حقيقيًا أو لا. حيث يصبح بُعد الخدمة جزء من هويته. إنّه ينتمي إلى سيّده، ولا يسعه إلّا أنّ يكون "مجرد خادم". وإلا، فإنه يقصر في كونه رسولاً. يدعونا يسوع مع تلاميذه، وخاصةً كرسله، إلى الإيمان النابع من الرّبّ فينا وثقته الّتي يوكلّ إلينا رسالة لنحمل ملكوته لعالـمنا وبالأحرى لقلوبنا. هذه النظرة الجديدة والـمُتغيرة تدعونا لنكون مجرد خدام فقط ولا غير!
الخلّاصة
ناقشنا جزء من نص حبقوق النبي (2: 2- 4) الّذي إختبر رؤيا ونال إجابة من الرّبّ بعد أنّ وجه له تساؤله الـمشير عن غيابه. ويفاجئنا الرّبّ بفضيلتي الصّبر وبالإيمان. ويتوازي تعليم يسوع بحسب لوقا الإنجيلي (17: 5- 10)، حيث في لقاء حميمي بين الرّبّ والتلاميذ الّذين يمثلونا جميعًا، إذ كشف عن سيادته كرّبّ بمثلين حبة الخردل، إذ أشار إلى جودة والنوعيّة الإيمان وليس الكثرة أو القلة. ثم أشار إلى نوعيّة قلب الـمرسل الّذي ينتمي للرّبّ إذ عليه أنّ يكشف لـمَن يذهب إليهم إيمان وأمانة الرّبّ له في حياته فيكون شاهد عيّان وخادم أمين للّرب الّذي ينحني علينا ويؤمن بنا كأبناء ويستخدم هشاشتنا ليرسلنا في عالـمنا فيكون حاضراً من خلالنا ونعلن عن إيمان الرّبّ بنا. دُمتم في مسيرة من قبول إيمان الرّبّ وإستمرار ليرسلنا شهوداً له فيزاد إيماننا به يومًا بعد يوم.