موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
الأحد السادس والعشرون (ج)
مُقدّمة
في مقالنا بهذا الأسبوع نستكمل الفكر اللّاهوتي لنفس الكاتبين بمقالنا الأخير وهما النبي عاموس (6: 1. 4- 7) الّذي يستمر في الـمناداة بالعدالة الإجتماعيّة ويرفض بشدة الطبقيّة الّتي تفصل بين الأخوّة. تحمل رسالته النبويّة الكشف عن مصير الـمنغمسيّن في غناهم الفاحش ولا يفكرون إلّا بذاوتهم داعيًا للتحرر. على هذا النمط تأتينا رسالة يسوع من خلال مثل جديد، بحسب لوقا الإنجيلي (16: 19- 31) يكشف به عن أهميّة الآخر في حياتنا إذ لا ينفعنا في نهايّة حياتنا الأرضيّة إلّا كنز العلاقات مع الآخرين فتكون الإنتباه لهم ومحبتنا وتقديرنا لكلّ إنسان آخر بمثابة بوابة عبور تساعدنا على التمتع بحياة الله. نعم، لن تنفعنا الأموال أو الخيرات الـماديّة بقدر ما تأتينا هذه العلاقات لتنجدنا وترفعنا مما هو أرضيّ فنصير فيما هو للآب، مصدر كلّ علاقة خيّرة، من هنا والآن. أي لا ننتظر الـملكوت بعد الـموت بل أنّ نحياه مع الآخرين بدون إنغلاق على الذات أو العيش فقط للعمل وللإكتناز لضمان الـمستقبل. نهدف من هذا الـمقال بأنّ نميّز قيمة العلاقات الّتي تفوق أي شئ آخر خاصة الـماديّات.
1. التحذير الإلهيّ (عا 6: 1. 4- 7)
نعم تأتينا نبؤة عاموس للمرة الثانية على التوالي بنبرة حادة وشديدة اللهجة خاصة للأغنياء أو لـمن يرغبون الإغتناء على حساب الفقراء وبدون رحمة. فتأتي كلمة الرّبّ في شكل تحذير حيث يُندد، من جديد، من خلال عاموس النبي ترف العظماء الزائف من الإنتباه للآخر وأمنّهم الكاذب. يفتتح عاموس هذا الإصحاح بقوله: «وَيل لِلمُطمَئِنِّينَ في صِهْيون والآمِنين في جَبَلِ السَّامِرَة لِوُجَهاءِ أُولى الأُمَم الَّذينَ يَذهَبُ إلَيهم بَيتُ إِسْرائيل!» (عا 6: 1). هناك فئة من بني إسرائيل تتنعم الأمان والطمأنينة على حساب طبقة فقيرة وليست بغريبة عنهم بل هم من بني إسرائيل إلّا إنّهم فقراء. هؤلاء الفقراء لا شيء لهم سوى الرّبّ فتأتي كلمة الرّبّ لتطالب بحقوقهم وتحذر الأغنياء منهم على كلّ جشع وإنتهاك لحقوقهم إذ يقول عنهم عاموس: «يَضَّجِعونَ على أَسِرَّةٍ مِن عاج وَينبَطِحونَ على أَرائِكِهم ويأكُلونَ الحُمْلانَ مِنَ الغَنَم والعُجولَ الـمُخْتارَةَ مِنَ الـمَعلَف ويَرتَجِلونَ على صَوتِ العود ومِثلَ داودَ يَختَرِعونَ آلاتِ الطَّرَب ويَشرَبونَ الخَمرَ بِالكُؤُوس ويَدَّهِنونَ بِالأَدهانِ النَّفيسَة ولا يَكتَئِبونَ لِانكِسارِ يوسُف. لِذلك يُجلَونَ الآنَ في رَأسِ الـمَجلُوِّين فيَزولُ فُجورُ الـمُنبَطِحين» (عا 6: 4- 7). تبدأ إعلان رسالة السبي لهؤلاء الّذين يسعون للإغتناء والتنعم بكل ظروف الحياة الـمُريحة والـمُفضلة ولكن يتناسون إنكسار فئة يطلق عليها يوسف. وهو يوسف الأخ الصغير الّذي تم بيعه من أخوته، لتجار مصريين بسبب غيرتهم منه (راج تك 37: 28ت). تتكرر الروايّة وتسود الأنانيّة على قلب الأخ فيكتنز ويغتني مُتعاليًا على حساب أخيه الفقير. ومع ذلك لا يتدخل الأخ لحماية أخيه بل يكون هو السبب في كسره ومذلته. هؤلاء سيكونون في مقدمة الـمسبييّن أي تركهم مجبرين لكلّ شيء بيد أعدائهم الّذين يستولون على بلادهم وخيراتهم. إلهنا لا ينتقم بل يعطي كلّ إنسان نتيجة أعماله.
2. الطبقيّة (لو 16: 19- 22)
يقدم يسوع تعليمه لنا بحسب لوقا، في حضور بعض من الرافضين له إذ: « وكانَ الفِرِّيسِيُّونَ، وهُم مُحِبُّونَ لِلمال، يَسمَعونَ هذا كُلَّه وَيَهزَأُونَ بِه» (لو 16: 14). وبعد تحذيره التعلّيمي عن الـمال في مثل أوّل (راج لو 16: 1- 13)، يتابع يسوع كلامه عن الزواج والطلاق (راج لو 16: 18). وها هو يكشف عن الفقر كسرّ لـمّن يتمتع بالـملكوت. من خلال مثل آخر، حيث يُندد يسوع فئة الأغنياء الّذين يحرصون على مستوى الطبقيّة الرفيع إذ كانت سائدة عصر يسوع بشكل مخيف.
ماذا يقصد يسوع بهذا الـمثل الجديد "مثل الغني لّعازر"؟ «كانَ رَجُلٌ غَنِيٌّ يَلبَسُ الأُرجُوانَ والكَتَّانَ النَّاعِم، ويَتَنَعَّمُ كُلَّ يَومٍ تَنَعُّماً فاخِراً. وكانَ رَجُلٌ فَقيرٌ اسمُه لّعازر مُلْقى عِندَ بابِه قد غطَّتِ القُروحُ جِسْمَه. وكانَ يَشتَهِي أَنّ يَشبَعَ مِن فُتاتِ مائِدَةِ الغَنيّ. غَيرَ أَنَّ الكِلابَ كانت تأتي فتَلحَسُ قُروحَه. وماتَ الفَقيرُ فحَمَلَتهُ الـملائِكَةُ إِلى حِضْنِ إِبراهيم. ثُمَّ ماتَ الغَنيُّ ودُفِن» (لو 16: 19- 22). حيث تكشف مقدمة الـمثل عن شخصيتين، الأوّلى رجل غني بلا اسم والثانية شخصيّة الفقير اسمه لّعازر أي "الله يعيّن". قد نظن بأنّ مثل يسوع يركز على مسألة العلاقة بالثروات، حيث نتسأل اليّوم عن كيف ينبغي لتلميذ يسوع أنّ تكون شكل علاقته بالممتلكات والثروات؟ هذا الموضوع حاضر بلا شك في مقطع الإنجيل. ولكن، هل يمكننا القول إنّه جوهر رسالة يسوع، وليس مجرد نتيجة منطقية لها. أم يكون محور هذا الـمثل هو العقاب أو الـمكافأة بعد الـموت، بمعني عدالة جزائية تكافئ الصالحيّن وتعاقب الأشرار. ولكن يبدو أنّ هذا أيضًا ليس محور تعليم يسوع من خلال هذا الـمثل.
في الواقع، عند قرأتنا لوقت موت الشخصيّتين، يُذكر أنّ الرجل الفقير، الـمُحاط عادةً بالكلاب، كان برفقة الملائكة إلى جانب إبراهيم، بينما يُقال بدون تفاصيل عن الرجل الغني قد مات ودُفن. هناك فعل إيجابي من الله تجاه الرجل الفقير، الّذي تمّ إستقباله في حضن إبراهيم؛ ولكن لا يوجد أي رد فعل من الله تجاه الرجل الغني. يبدو وكأنّه يتلاشى في الهواء، وتكون نتيجة حياته هي النتيجة المنطقية لأسلوب حياته. يمكننا القول إنّه في موت كليهما، ينكشف الوجه الحقيقي لما اختبراه كلاّ منهما بحياتهم بناء على الطبقة الّتي قرر أنّ ينتمي لها بحياته.
3. الـمحور الجوهري للـمثل (لو 16: 23- 25)
علينا من الآن البحث عن إجابة للتساؤل الوارد وهو ما الّذي يُمكن أنّ يكون محور مثل يسوع التعليمي إذن؟ يبدو أنّ يسوع، بسرده لهذا الـمثل، يُريد تذكيرنا بما تبقى في الحياة. إذ يدعونا في تعليمه بهذا الـمثل بالتحديد بألاّ نعيش حياة مشتتة وغير مبالٍيّة، دون أنّ نُتنبه للآخرين، الواقفين على أبوابنا كلّ يوم. الّذي يُكلِّمنا في كتب الشريعة والأنبياء، هو الله ذاته وهو اليّوم يوجه كلِمته لنا وليس لـمعاصريه فقط. لنتنبه للواقفين على طريق حياتنا. فإذا لاحطنا أنّ الرجل الغني ليس أحدًا أي بال هويّة، بمعنى إنّه ليس له اسم بالـمثل بل كما قرأنا نجد فقط صفته وهي الغنى الّتي سعيّ أنّ يكون مشهوراً بين الناس بهذا اللقب. لأنّه عاش، إنّ جاز التعبير، دون أنّ يُدرك إنّه حيّ. لهذا السبب، هو بلا هوية، وعندما يموت، كأنّه لم يكن موجودًا قط؛ إنه ببساطة يُدفن. لكن هذا ليس نتيجة عقاب من الله، بل نتيجة حياة عاشها دون أنّ يُدرك إنّها حياته وعليه أنّ يحياها. للأسف، في حياته إهتم فقط بجمع الـمال وإكتناز الثروات.
في الحوار بين إبراهيم والغني، نجد أيضًا إشارة تحذيريّة لكشف خطر الإنشغال بالغنى، وخطر عدم الانتباه للآخرين، والله، والحياة نفسها: «فرَفَعَ عَينَيهِ وهوَ في مَثْوى الأَمْواتِ يُقاسي العَذاب، فرأَى إِبْراهيمَ عَن بُعدٍ ولّعازر في أَحضانِه. فنادى: يا أبتِ إِبراهيمُ ارحَمنْي فأَرسِلْ لّعازر لِيَبُلَّ طَرَفَ إِصبَعِه في الماءِ ويُبَرِّدَ لِساني، فإِنِّي مُعَذَّبٌ في هذا اللَّهيب. فقالَ إِبراهيم: يا بُنَيَّ، تَذَكَّرْ أَنَّكَ نِلتَ خَيراتِكَ في حَياتِكَ ونالَ لّعازر البَلايا. أَمَّا اليَومَ فهو ههُنا يُعزَّى وأَنت تُعَذَّب» (لو 16: 23- 25). يفكر الغني في إخوته الأحياء، فيطلب من إبراهيم أنّ يرسل لّعازر ليُحذرهم حتى يعيشوا حياةً مختلفةً عن الحياة الّتي عاشها هو حتى لا ينتهي بهم الأمر في عذابٍ مثله بعد حياتهم الأرضيّة. لكن في هذه المرحلة، يُصرّح إبراهيم بأنّه لا داعي لرحيل لّعازر، لأنّها ليست الأعمال الإعجازيّة هي الّتي تُغيّر قلب الإنسان، بل الكتب المقدسة، وموسى (الشريعة) ورسالة الأنبياء، هي الّتي تُغيّر قلب الإنسان. هذا درسٌ بالغ الأهميّة! نحن اليّوم، كثيرًا ما ننشغل بالأحداث المثيرة مثل الظهورات والمعجزات والآيات الخارقة للطبيعة، لكن هذا النص يدعونا بأنّ هذه الأحداث الإعجازيّة لا تكفي لهدايّة قلوبنا البشريّة. ما يُحسم هو قوة الكلمة الـمُغيّرة، الّتي هي أقوى من السيف وتخترق أعماقنا. إنّها كلمة الله الخلّاقة الّتي تُعيد خلق قلوبنا من جديد.
4. كنز العلاقات (عا 6: 1. 4- 7؛ لو 16: 19- 31)
يؤكد يسوع بقوله في هذا الـمثل: «إِن لم يَستَمِعوا إِلى موسى والأَنبِياء، لا يَقَتَنِعوا ولو قامَ واحِدٌ مِنَ الأَموات» (لو 16: 31). في واقع الأمر، قام ابن الإنسان من بين الأموات بل خرج حيّاً، وهو ابن الله الـمُتجسّد، من القبر. ومع ذلك، حتى قيامته لا يتوجب علينا قرأتها بل هي تُصبح جوهر إيماننا حينما نتمكن من أنّ نصير رفقاء القائم ونتركه يُفسّر لنا الكتب المقدسة الّتي أتمّمها لأجلنا (راج لو 24: 27). إنّ الكتب المقدّسة هي الّتي تُنتبهنا لنعيش حقًا حياة مع إخوتنا، ومع الله ومع ذاوتنا ككنوز في هذه العلاقات. فهذا هو نوع الحياة هو الّذي يتميز بالعلاقة الحياتيّة، وهو الّذي يُمكّننا من تميّيز صوت القارع على بابنا (راج رؤ 3: 20). دعانا الخبر السّار بالنص الإنجيليّ في الـمقال السابق، بحماس إلى الصداقة حتى ولو بالـمال الحرام، أي السعي بكل حياتنا في لبناء علاقات حتى نغتني بالآخريّن. الغني هو مّن ينغلق على خيراته الـماديّة ولا يتمكن من مصادقة أحدًا؛ فلو لاحظ هذا الغني وجود لّعازر الجالس على باب بيته، لكان هو ذلك الصديق الّذي أنقذه من عزلته، وضمّه إليه، برفقة الملائكة، إلى جوار إبراهيم. مدعويّن من خلال هذا الـمقال بالإنفتاح على كلمة الله الّتي نسمعها حتى تُعيننا على الانتباه إلى حياتنا، فنجد أنفسنا يومًا ما محاطيّن بأصدقاء كثيرين إلى جانب إبراهيم.
الخلّاصة
النقطة اللّاهوتيّة الّتي يشترك فيها كلا النصيّين، في قرائتنا فيما بين العهديّن هي اكتشاف السرّ الإلهي في الآخرين. فالآخرين مخلوقيّن مثلنا على صورة الله ومثاله ولهم الحقّ في الحياة مثلنا. ناقشنا فكر عاموس (6: 4- 7) كيف أن الطمأنينة الخادعة هي الّتي يتمتع بها الأغنياء الـمنافقين، ولكن مصيرهم كمصير الغنيّ في الـمثل التعليميّ الّذي رواه يسوع بحسب لوقا (16: 19- 31) حيث شاركنا بقيمة وأهميّة العلاقات مع الآخر أي إنّ كان مستواه الطبقيّ. ففتح يسوع بهذا التعليم كنزاً إلهيًا جديداً وهو كنز العلاقة بالآخرين في الحياة كتعبير عن العلاقة الإيمانيّة بالله الّتي يحياها كلاً منا في الخفاء وفي باطن قلبه. مدعويّن أن نخرج من دائرة الطمأنينة الكاذبة والتخلي عن الجشع والغنى السريع على حساب آخرين وضعهم الرّبّ بحياتنا ليكونوا كنوزاً لنا فننال الـملكوت ونحن بحياتنا البشريّة. الإنفتاح على الآخرين ككنوز وليس كمنافسين هو السرّ الّذي أراد أنّ يكشفاه لنا عاموس النبيّ ولوقا الإنجيلي من خلال الكلمة بالعهديّن. دُمتم نساء ورجال يكتنزوا علاقات حيّة بالآخرين تكشف عن العلاقة بالرّبّ.