موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
الأحد الخامس والعشرون (ج)
مُقدّمة
ما يشغل الإنسان، على مرّ العصور هو إهتمامه بالأساسيّات لحياته وبضمانات مستقبله، وهذا طبيعي. ولكن الخطر أنّ تنغلق حياته وعلاقاته فقط على جمع الـمال كضمان وسند له ويهمل العلاقات. لذا نتناول في موضوعنا اليّوم موضوعًا إخترنا له عنوانًا في صيغة سؤال "الضمان في الأموال أم في شيء آخر؟" كمضمون بين نصيّن متوازيين لهذا الإسبوع. ففي العهد الأوّل سنتناول واقع النبي عاموس (8: 4- 7) حيث في آيات قليلة تكشف رسالته النبويّة جشع بعض اليهود ضد إخوتهم الفقراء فيقعوا في فخ جمع الـمال وتأتي الرسالة النبويّة بنبرة تحذير، كما سنرى، محذراً بني إسرائيل لتصير علاقته بالله مرتبطة بعلاقة خيّرة بالآخر. أما بالنسبة لنص العهد الثاني وكثيراً ما أجد تساؤلات حول هذا الـمثل الغريب الّذي يعلمه يسوع بحسب لوقا (16: 1- 13) إذ ينصحنا بالعلاقات حتى ولو بصداقات من "الـمال الحرام"! وسنناقش أيضًا لماذا إستخدم يسوع هذا اللفظ بل فضّل العلاقة مع الآخر كقيمة عن جمع الأموال وإعتبارها ضمان للمستقبل! نهدف من خلال هذا الـمقال إلى التدرب على التحرر من كلّ الضمانات الـماديّة إذ لا قيمة لها، فالقيمة والبحث عن الضمان الّذي سنكتشفه اليّوم على ضوء كلمة الله.
1. تنديد الرّبّ (عا 8: 4- 7)
لم يكن زمن النبيّ عاموس، وهو أحد الأنبياء الصغار، مختلفًا كثيرًا عن زمننا، حيث يتبادل بين زمن إزدهار وزمن أزمات معًا. زمنٌ إغتنى فيه بعض الأغنياء على حساب البعض الآخر وهو الضعفاء، الّذين لم يكن لهم صوت ولا وسيلة للدفاع عن حقوقهم. في عصر النبيّ عاموس إرتفع صوت رسالته النبويّة مُناديًا بالعدل فقال: «إِسمَعوا هذا يا دائِسي الفَقير لِإِفناءَ وُضَعاءَ الأَرْض قائلين: مَتى يَمْضي رأسُ الشَّهر فنَبيعَ الحُبوب والسَّبتُ فنُصَرِّفَ القَمْح مُصَغِّرينَ الايفَةَ ومُكَبِّرينَ الـمِثْقال ومُستَعمِلينَ مَوازينَ غِشّ. مُشتَرينَ الضُّعَفاءَ بِالفِضَّة والفَقيرَ بِنَعلَين وبائِعينَ نُفايَةَ القَمْح؟» (عا 8: 4- 6). من خلال النبي، تأتينا الرسالة الإلهيّة حيث يُندد الرّبّ بجشع الأغنياء الّذين ينتظرون بفارغ الصّبر نهاية الأعياد الدينيّة وأيام السّبت ليتمكنوا من إستئناف أعمالهم التجاريّة ليستغلوا الضعفاء منهم. فالأغنياء لا يقومون ببناء علاقات مع الفقراء بل يستغلونهم كإستغلالهم للأشياء. بالنسبة لهم، فإن زمن الراحة والحريّة، ذلك الزّمن الّذي وضعه الله منذ البدء، لتذكيرنا نحن البشر بأنّ حياتنا لا تعتمد على الخيرات الماديّة وثمار أعمالنا وحدها. بل إنّ الإستقلال بحياتنا بعيداً عن الـمخطط الإلهي، ما هو إلاّ مضيعة للوقت لا فائدة منه. بالنسبة لبعض الأغنياء الّذيّن لا وقت لديهم لبناء علاقات تتسم بالسخاء وبالصداقة وبفضيلة الإحسان خاصة مع الأكثر عوزاً منا. لقد وصلوا، في زمن عاموس النبي، إلى حد التزوير وممارسة أعمال الغش للإحتيال على الفقراء وإثراء أنفسهم ظُلماً على حساب إخوتهم الفقراء. لدرجة إنهم أجبروا إخوتهم على بيع أنفسهم مجانًا، بعد أنّ جردوهم من كلّ ما لديهم فوصلوا إلى حافة اليأس. يصف هذا الوضع، ليس فقط ظلم الأغنياء المتميّزين بالجشع، بل قدرتهم الفاسدة على تجريد الفقراء حتى من إنسانيتهم، فيبيعوا ذواتهم كعبيد لدى الأغنياء ليتمكنوا من العيش. يختتم النبي حديثه بهذه الكلمات على لسان الرّبّ القائل: «لا أَنْسى عَمَلاً مِن أَعْمالِهم لِلأبَد» (عا 8: 7). تؤكد هذه الرسالة النبويّة على حالة البؤس البشريّ الّذي ينبع من وصفه لـمَن يغتنون ظُلمًا. ومن المهم أيضًا تركيزنا على وقت الصّوم، في الديانة اليهوديّة حيث إنّه الوقت الّذي يحفظ أعمق وأصدق أبعاد الحياة البشريّة، الّتي قد لا نعرف كمؤمنين اليّوم كيف نحياها! لذا تأتي هذه الكلمات النبويّة لترشدنا إلى فهم النص الإنجيلي لنتعرف بعمق على أهميّة وقيمة العلاقات بالله الّتي تتجسد في العلاقة بالآخر وتصير العلاقات بمثابة سند وضمان لا بديل عنها.
2. بناء علاقات صداقة (لو 16: 1- 13)
تكشف كلمات لوقا الإنجيليّ الّذي يضع على لسان يسوع مثل "الوكيل الغير الأمين" وهو مثل تعليميّ. يوجهه يسوع فقط للتلاميذ أي لجماعته الحميمة الّتي تتمثل فينا. يرشدنا الـمعلّم بأهميّة الصداقة الّتي تكون كسند وضمان ليّ ولك يمكننا أنّ نشارك من خلالها مشاركة حياتنا مع بعض مَن يحيطوا بنا والّذين نلتقي بهم على طريق حياتنا اليوميّ. ويجيب يسوع عن تساؤل قد نعتقد إنه غريب قائلين: كيف يكون الوكيل الـمُهان قدوة ومثل لنا كمؤمنين؟ إنّه في نظرنا هذا الوكيل غير أمين ومُستغِل إلاّ إنّه أبدع في أنّ يعرف كيف يعيش الوقت القليل الـمُتبقي له بحكمة لضمان مستقبل حياته من خلال إكتنازه لأصدقاء وليس لأموال. يعلمنا هذا الوكيل بفطنته كيف أنّ للعلاقات البشريّة قيمة وأهميّة أكثر من الأموال، فالاموال بلا فائدة إذ أنّ العلاقة بالآخر تبقي هي السند والضمان الّذي لا ينتهي خاصة في وقت الإحتياج. قيمة علاقات الصداقة لها تأثير حتى في الحياة الأبديّة وهذا هو الجديد الّذي يكشفه يسوع الـمعلّم من خلال هذا الـمثل:
كانَ رَجُلٌ غَنِيٌّ وكانَ لَه وَكيلٌ فشُكِيَ إِلَيه بِأَنَّه يُبَذِّرُ أَموالَه. فدَعاهُ وقالَ له: ما هذا الَّذي أَسمَعُ عَنكَ؟ أَدِّ حِسابَ وَكالَتِكَ، فلا يُمكِنُكَ بَعدَ اليَومِ أَنْ تَكونَ لي وَكيلاً. فقالَ الوكيلُ في نَفْسِه: ماذا أَعمَل؟ فَإِنَّ سيِّدي يَستَرِدُّ الوَكالَةَ مِنّي، وأَنا لا أَقوى على الفِلاحة، وأَخجَلُ بِالاستِعطاء. قد عرَفتُ ماذا أَعمَلُ حتَّى إِذا نُزِعتُ عنِ الوَكالَة، يَكونُ هُناكَ مَن يَقبَلونَني في بُيوتِهم.
فدَعا مَديني سَيِّدِه واحِداً بَعدَ الآخَر وقالَ لِلأَوَّل: كم عَلَيكَ لِسَيِّدي؟ قال: مِائةُ كَيْلٍ زَيتاً: فقالَ له: إِلَيكَ صَكَّكَ، فاجلِسْ واكتُبْ على عَجَلٍ: خَمسين. ثُمَّ قالَ لآخَر: وأَنتَ كم عَليكَ؟ قال: مِائةُ كَيْلٍ قَمحاً. قالَ له: إِلَيكَ صَكَّكَ، فَاكتُبْ: ثَمانين.
فأَثْنى السَّيِّدُ على الوَكيلِ الخائِن، لِأَنَّه كانَ فَطِناً في تَصَرُّفِه. وذلِك أَنَّ أَبناءَ هذهِ الدُّنيا أَكثرُ فِطنَةً مع أَشباهِهِم مِن أَبْناءِ النُّور. وأَنا أَقولُ لَكم: اِتَّخِذوا لكم أَصدِقاءَ بِالمالِ الحَرام، حتَّى إِذا فُقِدَ قَبِلوكُم في الـمساكِنِ الأَبَدِيَّة. مَن كانَ أَميناً على القَليل، كانَ أَميناً على الكثيرِ أَيضاً. ومَن كانَ خائِناً في القَليل كانَ خائِناً في الكَثيرِ أَيضاً. فَإِذا لم تَكونوا أُمَناء على الـمالِ الحَرام، فعَلى الخَيرِ الحَقِّ مَن يَأَتَمِنُكم؟ وإِذا لم تكونوا أُمَناءَ على ما لَيسَ لَكم، فمَن يُعطيكُم ما لَكم؟ "ما مِن خادِمٍ يَستَطيعُ أَن يَعمَلَ لِسَيِّدَيْن، لِأَنَّه إِمَّا أَن يُبغِضَ أَحَدَهُما ويُحِبَّ الآخَر، وإِمَّا أَن يَلَزمَ أَحَدَهما ويَزدَرِيَ الآخَر. فأَنتُم لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا لِله ولِلمال".
3. الـمال الحرام! (لو 16: 1- 13)
والآن إذا تسألنا عن معنى تعبير لوقا الإنجيلي ونصيحته بأنّ نسعى لتكوين علاقات صداقة "بِالـمالِ الحَرام" (لو 16: 9)؟ يشير هذا التعبير على الأرجح إلى الخيرات الماديّة، الّتي ترتبط دائمًا بالظّلم وبزيادة الـمال بطريقة غير مشروعة. في اليونانيّة، يُستخدم مصطلح من أصل عبريّ، يُترجم عادةً بلفظ mammona أي الـمال. فالجذر العبريّ لهذا الـمُصطلح هو "آمين"، أي "حقًا" إنّه يدل على شيء يمكننا الإعتماد عليه، أي على ضماناتنا ويقيننا. لكن الأمان أو لفظ آمين لا يرتبط بضمانات ماديّة فقط، تلك الّتي نعتقد إننا نستطيع الإتكال عليها، بل تعني مشاركة ما لدينا والسخاء مع مَن يفتقرون ممَن يحيطون بنا، إلى هذا الأمان، ولا شيء نعتمد عليه. تشير الضمانات بهذا النص إلى العلاقات مع الأصدقاء. شخصية لعازر الجالس على باب الغنيّ، هو الصديق، هو شخص الّذي بالعلاقة معه سيستقبلنا في الخيام الأبديّة. مثل الـمديونييّن لصاحب الوكالة حيث لا حاجة لأي ضمان سوى الله الّذي من خلال علاقتنا به تتجذر كلّ علاقاتنا البشريّة مع الآخرين.
بخلاف عدم التحلي بالسخاء وبالـمشاركة كصفات إنسانية وتبديلها بصفات بشريّة كالإكتناز والأنانيّة اللّذين وصفهما عاموس في نص العهد الأول الّذي نوهنا إليه سابقًا. نجد أنّ الطّريق الذي أشار إليه يسوع لنا كتلاميذه اليّوم، من خلال هذا الـمثل الإنجيليّ هو حياتنا الإنسانية ذاتها فهي الّتي تُبيّن كيف نعيشها بإنسانية وبحكمة، مُكتشفين الحقائق الّتي يمكننا الإعتماد عليها والّتي من الخيّر لنا إستثمارها، حتى الماديّة منها في هذه الحياة. مدعويّن لنكون من أولئك الّذين يتبعون هذا الطّريق لننمو في أنّ نحيا من خلال علاقات ترتكز على الـمشاركة والعطاء بسخاء، فيصير هذا الزّمن زمن العلاقات الّتي تصير ضمانًا وسنداً تحملنا من الله إلى القريب ومن القريب إلى لله. هذا هو الزّمن الّذي نكتشف فيه الحقائق الّتي ترتكز عليها حياتنا حقًا. وهنا همسة يسوع لي ولك بقوله: «اِتَّخِذوا لكم أَصدِقاءَ بِالمالِ الحَرام، حتَّى إِذا فُقِدَ قَبِلوكُم في الـمساكِنِ الأَبَدِيَّة» (لو 16: 9).
منبع العلاقات في حياتنا، هي علاقتنا بسرّ القربان المقدس الّذي نحتفل به في كلّ أسبوع للإتحاد بالرّبّ. يصير القربان بالتحديد جوهر علاقتنا بالله وبالآخرين الّذين ينتتمون للرّبّ في سرّ القربان ومعًا نتحد فيه. ففي القربان نجد أنفسنا فيه مُدعميّن وتعتمد تغذيتنا على هذا العطاء السخي من يد الله. لذا لنطلب من الرّبّ الحكمة لـمعرفة كيفية نحيا برّوح العلاقات الّتي تبثّ رّوح التضامن والـمشاركة!
4. ما وراء الـمال (عا 8: 4- 7؛ لو 16: 1- 13)
تعرفنا في نص العهد الأوّل بحسب نبؤة عاموس على واقع، يشبه واقعنا الـمنغلق، إذ أنّ الجشع والأنا المنتفخ الّذي يدوس على الآخر ولا يهتم سوى بزياده أمواله لدرجة أنّه ينزع صفة الإنسانيّة عن أخيه الإنسان. مما جعل الله لا ينسى هذا الفعل البشريّ الغشيم الّذي ينحاز ليختار الـمال على العلاقات الصحيّة الّتي هي بمثابة إذن لدخول الحياة الأبديّة. وبما إنّ شعب الله كان يجهل أنّ العلاقة بالآخر الـمرئي ومشاركته بالخيرات البشريّة هي تعبير عمليّ عن العلاقة بالله الغير مرئي، أتى يسوع برسالة واضحة، بحسب لوقا في العهد الثاني، لتذكرنا بجوهريّة العلاقة بالرّبّ وبالآخر معًا. فمدح يسوع الوكيل بالرغم من عدم أمانته إلا إنّه نجح في أنّ يُكوّن دائرة من الأصدقاء الّتي ضمنت له حياة بعد أنّ أعلن صاحب الوكالة الإستغناء عنه فتصير قلوبهم مفتوحة له قبل بيوتهم. لقد نجح بإمتياز هذا الوكيل في بناء علاقات بشريّة مع مديونيّن صاحب العمل فكسب ثقتهم. فضّل هذا الوكيل في عمقه العلاقات عن الأموال. هكذا يأتي تعليم يسوع لنا اليّوم أنّ نسعي ببناء دائرة علاقات إنسانيّة تحيينا بل تضمن لنا الحياة في الـمساكن الأبديّة. نعم، العلاقات البشريّة هي الأساسيّة وهي الّـتي تهيئنا للدخول في الـمساكن الأبديّة.
الخلّاصة
لقد سرنا معًا مسيرة ضد الجشع الإنسانيّ والعلائقيّ سواء مع الرّبّ أم مع الآخر. من خلال نص نبؤة عاموس (8: 4-7)، أدركنا أنّ الله لا ينسى بل يتذكر الأعمال التي نقوم بها تجاه إخوتنا سواء أعمال تنبع عن حب ومشاركة أم العكس. إن تنديد الرّبّ هو لنا اليّوم، ليحذرنا من أعمال لا تليق بالبشريّة وبالأخوّة، كإكتناز الـمال،... إذ أنّ الاأولويّة هي علاقتنا بالفقراء كأخوة ومَن يستغل ضعفهم يكشف عن جشعه الّذي لا يرضي الرّبّ. هكذا تتوازي أهميّة العلاقات البشريّة كضمان أكثر من الإنغلاق على الـمال في المثل الّذي قدمه يسوع من خلال ثنائه للوكيل الّذي بفكره بني دائرة علاقات مع مديونين صاحب الوكالة فضمن مستقبله بعد تركه عمله بوكالة سيده. هكذا كشف يسوع أنّ الدهاء البشريّ، في هذه الحالة، هو نافع إذ ضمن الوكيل بعلاقاته حياة جديدة بفضل معاملته مع الـمديونيّن. مدعويّن أنّ نبني دائرة علاقات من الصداقة الّتي تكون ضمان حيّ وسند لا يفني بل يبقى وبقائه إلى الأبد. دُمتم في بناء مستمر لعلاقات حيّة مع الرّبّ ومع الآخرين.