موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
الأحد الرابع والعشرون (ج)
مُقدّمة
مقالنا بهذا الأسبوع يتوافق مع عيد الصّليب منبع "شلال الحبّ الإلهيّ"، وهو ما يمثل جوهر إيماننا الـمسيحي. بكلمات كُتاب العهدين سنلتقي بمسيرة حبّ تتواصل من العهد الأوّل وخاصة زمن موسى، بحسب كاتب سفر العدد (21: 4- 9) إذ نجد الله الـمخلص الّذي ينقذ ويُتمم نجاة شعبه الـمُتمرد وتصير الحيّة النحاسيّة رمزاً مُسبقًا لصليب يسوع أي رمز الخلاص الّذي أتمّه يسوع في ذاته. وبالتوازي يعلن يسوع صراحة في نهاية حواره مع نيقوديموس، بحسب يوحنّا الإنجيليّ (3: 13- 17) معنى الصّليب الّذي سيُرفع عليه ابن الإنسان. مدعويّن أنّ نتوقف لنتأمل عظمة سرّ الحبّ الإلهيّ الّذي يستمر في خلاص الشعب وفي تقدمة ابنه الوحيد ليمنح "شلال الحبّ" بخلاصه ليّ ولك ولبشريتنا جمعاء.
1. الحيّة النحاسيّة! (عد 21: 4- 9)
بعد خروج بني إسرائيل من أرض مصر بيد الله القويّة بقيادة موسى. إستمر الشّعب في السير نحو الأرض الّتي وعدهم الله بها. وأثناء سيرهم يؤكد كاتب سفر العدد على إرهاق الشعب بل يشير بأنه: «نَفَدَ صَبرُ الشَّعبِ في الطَّريق. وتَكَلَّمَ الشَّعبُ على اللهِ وعلىِ موسى وقالوا: "لِماذا أَصعَدتَنا مِن مِصرَ لِنَموتَ في البَرِّيَّة؟ فإنَّه لَيسَ لَنا خُبزٌ ولا ماءٌ، وقد سَئِمَت نُفوسُنا هَذا الطَّعامَ الزَّهيد". فأَرسَلَ الرَّب على الشَّعبِ الحَيَّاتِ اللاَّذعة، فلَدَغَتِ الشَّعب وماتَ قَومٌ كَثيرونَ من إِسْرائيل» (عد 21: 4- 6). مدعويّن للتنبه وعدم الوقوع في الإعتقادات الخاطئة تجاه الله. تمرد الشعب ضد الله وموسى هو السبب في أنّ يساعد الله الشعب وينبهه بأنّه الله وليس بإنسان! حدث الحيّة اللاذعة الّتي كانت سبب لإعتراف بين إسرائيل بخطئتهم وعودتهم للرّبّ بقلب تائب وبدون تمرد ضده هو الوسيلة الّتي إستخدمها الله ليستعيد العلاقة بشعبه. لذا يقبل الرّبّ توبة شعبه الّذي: «فأَقبَلَ [الشّعب] على موسى وقالوا: "قد خَطِئنا، إِذ تَكَلَّمْنا على الرَّبَ وعلَيكَ، فصلِّ إِلى الرَّبَّ فيُزيلَ عَنَّا الحَيَّات". فصِّلَى موسى لأَجلِ الشَّعْب» (عد 21: 7). أمام صّلاة موسى وتوبة الشعّب الحقّة بسبب آلامه من لذعة الحيّة يتدخل الّرب رافعًا هذا الألم ومخلصًا شعبه إذ يروي الكاتب الحوار التالي: «فقال الرَّبّ لِموسى: "اِصنَعْ لَكَ حَيَّةً لاذِعَةً واجعَلْها على سارِية، فكُلّ لَديغٍ يَنظر إِلَيها يَحْيا". فصَنَعَ موسى حيَةً مِن نُحاس وجَعَلَها على سارِيَة. فكانَ أَيُّ إِنْسانٍ لَدَغَته حَيَّةٌ ونَظَرَ إِلى الحّيَّةِ الْنّحاسِيَّةِ يَحيا» (عد 21: 8- 9). فالحيّة هي سبب الـموت والألم بلذعتها هكذا تصير لعنة الصليب الّتي بحسب الـمفهوم اليهودي سبب لحكمة الله الخلاصيّة للعالم. أمام توبة الشعب وطاعة موسى يعلن الرّبّ تدخله الخلاصيّ لصالح شعبه بشكل لم يُفهم حقيقته إلاّ بناء على ما أتمّه الابن الإلهي على الصّليب كما يرويه مُسبقًا يسوع بحسب إنجيل يوحنّا كما سنرى.
2. الإيمان بمَن؟ (يو 3: 13- 15)
تأتينا كلمات يسوع في ختام حواره مع نيقوديموس معلم الشريعة اليهوديّ (راج يو 3: 1- 12) وهي الّتي تكشف حقيقة إلهيّة جديدة إذ يزيل يسوع الستار عن معنى الحيّة اللاذعة بالعهد الأوّل وسيكمل معناها في جسده الـمائت على الصّليب الّذي سينوه عنه يسوع في بدء رسالته العلنيّة (راج يو 19). لذا تأتي كلمات يسوع بهذه الآيات القليلة، مُؤكدة بأنّ العودة أو الدخول إلى السّماء ليست إمكانيّة مُتاحة للكلّ، بل لشخص فريد يُتمّم معنى حدث الحيّة النحاسيّة ويكمله. يستكمل يسوع حديثه قائلاً: «فما مِن أَحَدٍ يَصعَدُ إِلى السَّماء إِلاَّ الَّذي نَزَلَ مِنَ السَّماء وهو ابنُ الإِنسان. وكما رَفَعَ مُوسى الحَيَّةَ في البَرِّيَّة فكذلِكَ يَجِبُ أَن يُرفَعَ ابنُ الإِنسان لِتَكونَ بهِ الحَياةُ الأَبديَّةُ لِكُلِّ مَن يُؤمِن» (يو 3: 13- 15). لن نرفع على الصّليب بسبب خطايانا ولن تلدغنا الحيّات ولكننا مدعويّن لنؤمن بأنّ يسوع الّذي تمّ رفعه على الصّليب من أجلنا هو الّذي تممّ الخلاص لكلّ البشريّة. نعم حبّ يسوع هو الدافع الّذي جعله يكشف بتفسيره لنيقوديموس معنى الرفع وتقديم تفسير مُكمل لما بدأه الله بتاريخ شعبه. لذا إيمان الإنسان هو ردّ الفعل الوحيد الّذي يتوجب علينا أنّ نمارسه وبثقة ليُتتم لنا يسوع خلاصه لنا اليّوم. كما ذكر ق. أغسطينوس في إحدى كتاباته قائلاً: "لقد خلقك الله بدون إرادتك ولكن لن يخلاصك بدون إرادتك". هنا يصير الإيمان بمثابة تعبيرنا نحن الإراديّ والإختياريّ لقبولنا لخلاص الرّبّ الـمجاني.
3. بلسم الحبّ (يو 3: 13-17)
تأتينا كلمات يوحنّا الإنجيلي بهذا الـمقطع كالبسلم الّذي يلمس القلب قبل الحياة. إذ يكشف على لسان يسوع عظمة حبّ الله للعالم من جانب وعظمة العالم بالنسبة لله من الجانب الآخر. فالعالم بحسب الفكر اليوحنّاويّ له ثلاث معاني:
3.1. الأوّل: العالم بمعنى إيجابي
لفظ "العالم" يعني من اليونانيّ أي cosmos وهو ما يشير إليه بهذا المقطع والّذي يؤكد بأنّ العالم هو موضع حبّ الله قائلاً: « فإِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة فإِنَّ اللهَ لَم يُرسِلِ ابنَه إِلى العالَم لِيَدينَ العالَم بل لِيُخَلَّصَ بِه العالَم» (يو 3: 16- 17). هنا العالم يصير مُخلّصًا بفضل إختيار الله له ووضع حبّه فيه من خلال إرسال إبنه لإتمام رسالته الخلاصيّة الّتي ستتم بحسب يوحنّا حينما يعلق يسوع على الصّليب (راج يو 19). حيث أنّ ساعة موت الابن الإلهي هي ساعة مجده الّتي يُتمم فيها الخلاص للعالم أجمع. وهذا الـمعني يؤكد بشدة، أنّ شلال الحبّ الإلهي لن ينقطع إذ نغرف منه لإدراكنا بحبّ الرّبّ الفريد لنا بينما يعطي حياته يوميًا لنا ونلمس هذا الحضور الإلهي بحاضرنا.
3.2.الثاني: العالم بالـمعنى الـمُحايد
أما بالنسبة للمعنى الثاني بحسب الفكر اليوحنّاويّ فيأتينا بالعنى الـمُحايد الّذي يشير إلى العالم بأنه موضع للحياة البشريّة لكلّ إنسان بقوله: «كَمَا أَرسَلَتني إِلى العالَم فكَذلِكَ أَنا أَرسَلتُهم إِلى العالَم» (يو 17: 18). فنحن بالفعل نحيا في العالم البشريّ ولكن علينا بالإنتباه لئلا يسود رّوح العالم علينا إذ لسنا من العالم وأهوائه الأرضية الّتي لا تنتمي لله. وهنا عنصر الإيمان هو الّذي يصير بمثابة الـمنّار الّذي ينير لنا الطّريق فنحيا حياتنا البشريّة بالعالم ولكن قلوبنا تنتمي لله. مدعوين بالإنتباه إذ إنّ شلال الحبّ يتدفق علينا ونحن في العالم فنكون بالعالم ولا يسود علينا رّوح العالم ودسائسه بل نقبل شلال الحبّ الإلهي برّوح البنوة للرّبّ إلهنا مُدركين أنّ حضورنا بالعالم هو علامة وإشارة عن حضوره الحيّ فينا.
3.3. الثالث: العالم بالمعنى السلبي
الـمعنى الثالث للفظ العالم يأتينا منذ بدء البشارة اليوحنّاويّة، أي منذ الآيات الأوّلى لكاتب الإنجيل الرابع، وبالتحديد في الـمُقدمة لبشارته (راج يو 1: 1- 18) حيث يؤكد الإنجيلي على جهلنا كعالم بشري لا يعترف ولا يعرف هذا الحضور السرّيّ لابن الله الآتي حاملاً إليه النّور الحقيقيّ بقوله: «كانَ [الكلمة] في العالَم وبِه كانَ العالَم والعالَمُ لَم يَعرِفْهُ» (يو 1: 11). من خلال عدم الـمعرفة أي الجهل وهو إشارة يوحنّا التأكيديّة لرفض الكثيريّن ليسوع في حياته البشريّة كابن الله وكمخلص للعالم بكامله. نكتشف بهذا الـمعنى الأخير بأنّنا أمام خطر كبير فقد نحيا في العالم ونجهل حذور الرّبّ في عالمنا فننتمي بهذا الـمعنى السلبي للعالم إذ نرفض بجهلنا ابن الله الآتي للخلاص لذا نحكم على ذاوتنا برفض خلاصه بسبب هذا الرفض النابع عن الجهل وعدم معرفة ابن الله كمخلص. هنا نعوق بسبب الجهل تدفق شلال الحبّ في حياتنا إذ لا نتنبه بأنّ حبّ الله أقوى من حبّنا للعالم.
الخلّاصة
ناقشنا في هذا الـمقال، مضمون فريد شمل كِلاّ العهديّن وهو شلال الحبّ الـمُتدفق في الصّليب. ففي العهد الأوّل من خلال كلمات كاتب سفر العدد (عد 21: 4- 9) حيث تعمقنا في عمل الله الخلاصي لشعبه الـمُتمرد بالبرّيّة من خلال الحيّة النحاسيّة، لكلّ من ينظر فقط إليها، الّتي صارت رمزاً مُسبقًا عن خلاص البشريّة. هكذا أعلن يسوع في ختام حواره مع نيقوديموس بحسب يوحنّا (3: 13- 17) بأنّ كلّ إنسان هو موضع حبّ الله بل أنّ العالم بالمعنى الإيجابي يتمكن من قبول شلال الحبّ الخلاصي في كلّ مرة يقبل يسوع مخلصًا له. من خلال معاني العالم الّتي ذكرناها، الإيجابي والمحايد والسلبي، بحسب اللّاهوت اليوحناوي مدعوين أنّ ننتمي للمعنى الإيجابي حتى نتمتع ببلسم الحبّ الإلهي الّذي نناله في خلاص يسوع الّذي هو مركز سخاء الله على بشريتنا إذ يرسل ليّ ولك ولعالمنا البشريّ ابنه الإلهيّ ليضمن خلاصنا الأبدي والدافع هو حبّ الله لنا. إذنّ هذا الشلال الخلاصيّ الّذي يُتممه الابن يتحد فيه الله الآب من خلال قراره بارسال ابنه حبًا بنا فنغرق في شلال الحبّ بشكل أبديّ. دُمتم في الإنغماس في شلال حبّ الله الأبدي من هنا والآن.