موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
الأحد الثالث والعشرون (ج)
مُقدّمة
في سلسلتنا الكتابيّة والّتي سنناقش فيها هذا الأسبوع مضمون "فن التخليّ". التخلي من خلال مقطع العهد الأوّل بسفر الحكمة (9: 13- 18) حيث يتناول الحكيم في كلماته تأهيلنا لننال نعمة الخلاص من خلال الحكمة الّتي ينعم علينا بها الرّب مجانًا في كل مرة نطلبها منه. هنا تأتينا دعوة الحكيم لنتخلى عن شيئين سنتعرف عليهما لاحقًا لنتحلى برّوح الحكمة. وفي كلمات يسوع للجموع بحسب إنجيل لوقا (14: 25- 33) يكشف يسوع صراحة ما يتوجب على التلميذ التخلي عنه من علاقات وأشياء لتكون هناك أوّلويّة أساسيّة لـمن يرغب في تبعيته ليصير تلميذاً له. يتناول يسوع توجيهاته لنا اليّوم من خلال مثليّن ليكشف من خلالهما عما يتوجب أنّ نقوم به لنكون تلاميذ بالحياة وليس بالكلام. نهدف من خلال هذا الـمقال أنّ نتعلم فن التخليّ لنكون أكثر تبعيّة وحبًا للرّبّ إلهنا.
1. بالحكمة ننال الخلاص (حك 9: 13- 18)
تأتينا كلمات كاتب سفر الحكمة بنور جديد لقلوبنا وحياتنا. في هذه الآيات الّتي يختتم بها الحكيم صلاته للرّبّ لنوال الحكمة والّتي تُعدّد بعض التساؤلات البلاغيّة، لأنّها بمثابة تساؤلات، في واقع الأمر، نعرف إجاباتها. إلّا أنّ الكاتب يشير في كلماته على الفرق الواضح بين أفكار الله الّتي تشير إلى اللا محدوديّته وأفكار ومحدوديّة الإنسان. نعم يشير الكاتب إلى الكثير من الإختلافات إذ يقول: «فأَيُّ إنسانٍ يَعلَمُ قَضاء الله أَو مَنِ الَّذي يَتصَوُّر ما يُريدُ الرَّبّ؟ لأَنَّ أَفْكارَ البَشَرِ مُتردِّدة وخَواطِرَنا غَيرُ راسِخَة فإنَّ الجَسَدَ الفاسِدَ يُثَقِّلُ النَّفْس والخَيمَةَ التّرابِيَّةَ عِبءٌ لِلعَقلِ الكَثيرِ الهُموم» (حك 9: 13- 15). القضاء الإلهيّ والإرادة الربانيّة لا يمكن للإنسان أنّ يعرفها لأنّها فوق قدراته فهي تنتمي لله فقط. بسبب محدوديّة الإنسان سواء في أفكاره الـمُصابة بالتردد وخواطره الّتي تتسم بالّلاثبات مما يوضح طبيعة الإنسان الهشّة والـمُثقلة بالأعباء لأنّه بشر. هذه الطبيعة البشريّة تتناقض مع الطبيعة الإلهيّة إذ أنّ الرّبّ يتميز بالثبات والأمانة والإلوهيّة وفي ذات الوقت اللامحدوديّة.
كلمات الحكيم، دامجًا ذاته في واقع البشريّة، تحملنا لقبول واقعنا حيث إننا لسنا بآلهة، وتأكيده في الأسئلة التاليّة تكشف عن السبب اللّاهوتي الأعمق ألّا وهو: «ونَحنُ بِالجَهْدِ نَتَكَهَنُ بِما على الأَرض وبِالكَدِّ نَهتَدي إلى ما بَينَ أَيدينا فما في السمواتِ مَنِ الَّذي اْكتَشَفَه؟ ومَنِ الَّذي عَلِمَ بمَشيئَتِكَ لو لم تُؤتِ الحِكمَة وترسِلْ مِنَ العُلى رُوحَكَ القُدُّوس؟» (حك 9: 16- 17). نعمة هي الحكمة الّتي تحلّ علينا والّتي يمنحها الرّبّ بمجانيته هي الّتي تكشف الـمشيئة الإلهيّة الساميّة وليس جهد أو كدّ الإنسان بل ما يرسله الرّبّ القدوس من سمائه وهي حكمته الّتي تكشف لنا كبشر فكر وقضاء وإرادة الله. ويختتم الحكيم صلاته الإشارة إلى أنّ الحكمة هي باب الخلاص لكلّاً منا متى طلبناها بكلّ قلوبنا من الرّبّ قائلاً: «هكذا قُوِّمَت سُبُلُ الَّذينَ على الأَرض وتَعَلَّمَ النَّاسُ ما يُرضيكَ وبِالحِكمَةِ نالوا الخَلاص» (حك 9: 18).
2. تفصيل الرّبّ (لو 14: 25- 27)
يستمر التوازي اللّاهوتيّ بين فكر الحكيم حيث فتح لنا بابًا لخلاصنا عن طريق الحكمة الّتي تأتينا بفضل رّوح الله القدوس وفكر الإنجيليّ لوقا الّذي يُجسد الحكمة في شخص يسوع مُعلّمنا (راج 1كور 1). على هذا الـمنوال يُعلّم يسوع الجموع كفئة كثيرة وعديدة. بينما كانت تبعيّة الجموع ليسوع كبيرة من كلّ النواحي، يأتي تعلّيمه مؤكداً على نوعيّة العلاقات الّتي يتوجب علينا الإهتمام بها وإعلان الضروري الّذي يجب على أتباعه تفضيله في حياتهم قائلاً:
مَن أَتى إِلَيَّ ولَم يُفَضِّلْني على أَبيهِ وأُمِّهِ وامَرأَتِه وبَنيهِ وإِخوَتِه وأَخواتِه، بل على نَفسِه أَيضاً،
لا يَستَطيعُ أَن يكونَ لي تِلميذاً
ومَن لم يَحمِلْ صَليَبهُ ويَتبَعْني،
لا يَسْتَطيعُ أَن يكونَ لي تِلميذاً.
هناك حقيقتين لّاهوتيتين كخطوتيّن أساسيّتين يوجهما يسوع للجموع الّتي أتت إليه لتتبعه. الحقيقية الأوّلى وهي تفضيل العلاقة مع الرّبّ على العلاقات الأسريّة مع الأب والأم والأبناء والإخوة والأخوات بل على الّذات أيضًا هي بمثابة أوّل خطوة يرشدنا يسوع لنتبعه كتلاميذ حقيقييّن. هنا يتضح أنّ التخلي ليس فقط عن الأقارب والأحباء الّذين من الدرجة الأوّلى بل حتى التعلق بهم كناحيّة عاطفيّة وتفضيلهم عن تبعيّة الرّبّ لا يساعد على النمو في طريق التلميذة الحقّة. لأنّه قبل أنّ نتبع مشاعرنا وعواطفنا العائليّة مدعويّن في الأولويّة لتبعيّة الرّبّ.
والخطوة الثانيّة مرتبطة بالأوّلى إذ في إتخاذ قرار واضح بإحتضان بل بحمل الصّليب، بدون هروب منه أو إنكاره بل بالتدريب على قبوله برّوح التلمذة. مدعويّن بناء على دعوة يسوع أنّ نتعلم كيف نحتضن الصّليب وراء الـمعلم الّذي عُلقّ على الصّليب حبّاً بنا. سواء التخلي عن عائلتنا الحميمة لتبعيّة الرّبّ أم التميّيز لحمل الصّليب ما هما إلّا تعبيرات تشير عن إمانتا بالرّبّ الّذي نتبعه. يكشف يسوع عن هذا الوحيّ الإلهي قبل إتمامه سرّ الآلام والـموت والقيامة. إلّا إنّه سيُتمم قوله هذا بعد إتخاذ قراره وأثناء توجهه نحو أورشليم ليتبع مشيئة الله الآب بل يتممها في جسده بالـموت والقيامة.
3. توجيهات الـمعلّم (لو 14: 28- 32)
تأتينا كلمات يسوع ليس كمعلّمًا جالسًا وحوله تلاميذه بل أثناء سيره نحو أورشليم. يوجه يسوع اليّوم تعلّيمه ليّ ولك بمثلييّن من حياته الـمعاصرة. الـمثل الأوّل، عمَن يرغب في بناء حياته بتشبيه خاص عن الّذي يرغب في بناءه لبرجًا خاصًا به قائلاً: «فمَن مِنكُم [أنا وأنت]، إذا أَرادَ أَن يَبنِيَ بُرجاً، لا يَجلِسُ قَبلَ ذلِكَ ويَحسُبُ النَّفَقَة، لِيَرى هل بِإِمكانِه أَن يُتِمَّه، مَخافَةَ أن يَضَعَ الأَساسَ ولا يَقدِرَ على الإتمام، فيأخُذَ جَميعُ النَّاظِرينَ إِلَيه يَسخَرونَ مِنه ويقولون: هذا الرَّجُلُ شَرَعَ في بِناءٍ ولَم يَقْدِرْ على إِتْمامِه» (لو 14: 28- 30). يُقدّر كلّ إنسان كلام الآخرين وأرائهم عن أفعاله. لذا يسوع يأخذ في إعتباره من خلال هذا الـتعليم بالـمثل، شعور الإنسان حينما يسخر منه الناس لعدم تميّيزه وحكمته فيقول صراحة أنّ الإستعداد والجلوس لحساب تكلفة عمل ما ونفقته لهو أمر هام. هكذا مَن يرغب في تبعيّة الرّبّ عليه أنّ يُميّز جيداً ما يودّ إتمامه دون أنّ يتسرع في إتخاذ قرار ما ليس بمقدرته إتمامه.
أما بالنسبة للـمثل التعليميّ الثاني وهو أيضًا ليّ ولك فيقول: «أَم أَيُّ مَلِكٍ يَسيرُ إِلى مُحارَبَةِ مَلكٍ آخَر، ولا يَجلِسُ قَبلَ ذلك فيُفَكِّرُ لِيَرى هل يَستَطيعُ أَن يَلْقى بِعَشَرَةِ آلافٍ مَن يَزحَفُ إِلَيه بِعِشرينَ أَلفاً؟ وإِلاَّ أَرسَلَ وَفْداً، مادام ذَلك الـملِكُ بعيداً عنه، يَسْأَلُه عن شُروطِ الصُّلْحِ» (لو 14: 31- 32). يشجعنا يسوع في هذا الـمثل على الرّوح العمليّة وتحضير مشروع ثانٍ في حالة فشل أو عدم إتمام الـمشروع الأوّل. من خلال الـملك الّذي يود الإنتصار في الحرب ولكنه مدعو بأنّ يُميز بين إمكانيّة الإنتصار إذا كان جيشه مهيأ حقيقة دون أنّ يخدع ذاته، أم عليه بإمكانيّة طلب الصلح مع عدوه والسبب هو تحققه بإنّ امكانيات جيشه لن تصل به للإنتصار في الحرب! ومرة أخرى يسوع، بمثل جديد يؤكد نوعيّة التبعيّة للرّب فهي تتطلب التمهلّ والصبر دون التسرع في الإقدام على أي خطوة قد تدمر خطة أي منا حينما عليه بأنّ يتمهل ويجلس مع الرّبّ ويطلب مشورته برّوح الحكمة لُيتمم ليس ما بحسب فكره كما قال الحكيم بل بحسب فكر ومشيئة الرّبّ الّتي لا تنفصل عن مشيئته بل تؤكد رغباته بحكمته. تدعونا توجيهات يسوع الـمعلّم من خلال هذين المثليّن بالتمهل والتحليّ برّوح التميّيز النابع من الحكمة الإلهيّة.
4. فن تخليّ التلميذ (لو 14: 33)
تكشف كلمات يسوع النهائية، بحسب لوقا، للجموع عن الجوهر الأساسيّ الّذي لابد وأنّ يبذل التلميذ الّذي يرغب في تبعيّة الـرّبّ مشيراً بوضوح بهذه الكلمات: «وهكذا كُلُّ واحدٍ مِنكم لا يَتَخَلَّى عن جَميعِ أَموالِه لا يَستَطيعُ أَن يكونَ لي تِلْميذاً» (لو 14: 33). يصير التخليّ الحرّ من إرادتنا ككلمة السرّ الّتي عليّ وعليك كأُناس من بين الجمع نرغب في التلميذة للرّبّ ليصير سلاحنا إذ نجلس مع أنفسنا ونعد قائمة بالأشياء الثميّنة وهي الأموال. وهنا ينتقل يسوع بشكل تدريجي بعد التخلي عن العلاقات الأسريّة والعاطفيّة بالعائلة والتمهيد بالتفكير الـمُتمهل في إتخاذ قرار تبعيّة الرّب. بعد أنّ وضع أمامنا كيف يكون التميّيز عامل للتفكير بخطة أخرى أنّ يكون قلبنا حراً حتى من الأشياء الّتي ترتكز على جمع الـمال وإهدار الصحة في العمل وإنتهاء العمر كله دون أنّ نُفضل حقيقة العلاقة مع الرّبّ فيعوق حياتنا العلاقة بالأسرة والأشياء.
التحرر لأجل الرّب هو رسالة كلّ مسيحي يرغب حقيقة بأنّ يتبع الرّبّ بقلب حرّ خالي من العواطف الّتي تعوقه وتفوق عواطفه تجاه الرّبّ. ثم التحرر من التعلق الـممبالغ فيه بالـمال الّذي يحرمنا من التمتع برفقة الرّبّ والـمبالغة في العمل لكسب الـمزيد وإهجار سنوات العمر وراء ما يضمن الحاجات الماديّة لا غير.
يدعونا الـمعلّم بأن نتعلم فن التخلي الحقيقي عن العلاقات الأسريّة أو الـماديّة بحكمة لنتمكن حقيقة من التعلق بالرّبّ فتكون تبعيتنا له هي إرادته وإرادتنا إيضًا دون التسرع بل برّوح التمييز طالبين نعمة الحكمة. الحكمة تصير الباب لخلاصنا إذ تبعنا على الطريق الصحيح لتبعيّة الرّبّ ومشورته.
الخلّاصة
ناقشنا بمقالنا هذا أهميّة تدريبنا كمؤمنين على "فن التخليّ" يصير رّوح التخليّ بمثابة "فن" نتمكن من إتقانه يومًا بعد يوم لتبعيتنا للرّبّ إلهنا. تناولنا من خلال مقطع سفر الحكمة (9: 13- 18) حيث سلمنا الحكيم سلاحًا ليؤهلنا لننال نعمة الخلاص من خلال طلبنا لنعمة الحكمة من الرّب. دعوة الحكيم لنتخلى عن أفكارنا وخططنا لنقبل أفكار ومشيئة الله من خلال التحلى برّوح الحكمة. كما كشف يسوع في كلماته لنا بحسب إنجيل لوقا (14: 25- 33) ما يتوجب علينا التلميذ بأنّ التخلي عنه من علاقات ثانويّة وأشياء لا قيمة لها ومنحنا نعمة تفضيل حب الرّبّ كأوّلويّة مطلقة وأساسيّة ليّ ولك نحن الّذين نرغب في تبعيته ونصير تلاميذه. تناول يسوع في تعليمه مثليّن عمليّين كشف من خلالهما أهميّة التميّيز لننال الحكمة والتلمذة معًا من خلال التخلي عما هو بشريّ وماديّ بتدريبنا على "فن التخليّ" لنكون تلاميذ أكثر تبعيّة وحبًا للرّبّ إلهنا. دُمتم في نمو وإستمرار في التخليّ النابع من رّوح التميّيز الّذي يجلب الحكمة وتبعيّة الرّبّ.