موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ٣١ مايو / أيار ٢٠٢٢

"بلبلة أم وحدة الألسنّة؟" بين كاتبي سفر التكوين وأعمال الرسل

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
"بلبلة أم وحدة الألسنّة؟" بين كاتبي سفر التكوين وأعمال الرسل

"بلبلة أم وحدة الألسنّة؟" بين كاتبي سفر التكوين وأعمال الرسل

 

سلسلة قراءات كتابية بين العهدين (تك 11: 1-9؛ أع 2: 1- 12)

 

 

مقدّمة

 

نستعد ككنيسة لتكليل مسيرة فرح القيامة للإحتفال بعيد العنصرة المجيدة أيّ "فيض الرّوح القدس". هذا الرّوح الّذي بحلوله زَّلزَّلَ العُلية بل المسكونة كلها إذ فاض "رّوح الرّبّ" علينا وبيننا وفينا. لذا كمسيرة كتابيّة نسير مع الطقس هادفين في مقالنا لتقديم قراءة متوازية لنصين من كلا العهدين إذ نتعرف فيهما على دور الرّوح رغبة الله في بلبلة ألسنة بني نوح (سام وحام ويافث) إذ لم يفهم أحدهم الآخر لاستكمال عملهم الذي يرويّه كاتب سفر التكوين في 11: 1- 9، حيث إنهم قاموا بفعل غير متناسق مع الخطة الإلهية. إلا أنّه في زمن نشأة الكنيسة، بعد ولادتها من جنب المسيح مُباشرة، نجد النقيض تمامًا إذ أراد الله أن يُدعم أفراد الكنيسة الحيّة برّوح يتسم بالوحدة والبشارة. ويفاجئنا كاتب سفر الأعمال (2: 1- 12)، بالمقطع الثاني بالعهد الجديد إنّ الرسل يتحدثون بلغات مختلفة وكانت مفهومة بفضل امتلائهم بالرّوح القدس. وهذا ما سنتعمق فيه من خلال النصين. هدفنا من هذا المقال أنه بالرغم من التناقض المتباين بينهما إلا إنّه في النصّ الأوّل تمت بلبلة الألسنة من قِبل الله. أما في الثاني جاء فيض الرّوح إذ تحدث التلاميذ بلغات مختلفة معلنين البُشرى السارة ومع هذا توحدوا في جوهر بشارتهم بيسوع القائم بسبب فيض الرّوح القدس. الرّوح لازال يفيض حتى يومنا هذا، فنحن الكنيسة الّتي تُبشر بالمسيح الحي ولازال رّوح الله يفيض بعمق فينا.

 

 

1. تجزئة بابل نحو"باب الله" (تك 11: 1-9)

 

في الرواية الشهيرة "برج بابل" بحسب سفر التكوين نجد أن الرجال لم يفهمون بعضهم البعض بسبب كبريائهم ومحاولتهم الوصول إلى الله بقوتهم الخاصة إذ قالوا: «"تَعالَوا نَصنَعْ لَبِنًا ولْنُحرِقْه حَرْقًا". فكانَ لَهمُ اللَّبِنُ بَدَلَ الحِجارة، والحُمَرُ كانَ لَهم بَدَلَ الطِّين. وقالوا: "تَعالَوا نَبْنِ لَنا مَدينةً وبُرْجًا رَأسُه في السَّماء، ونُقِمْ لنا اسْمًا كَي لا نَتَفَرَّقَ على وَجهِ الأَرضِ كُلِّها"» (تك 11: 3- 5). تجزأت أفكار الإنسان وانحرف عن الفكر الإلهي إذ نسي إنه خُلق ليس من ذاته بل بقوة الكلمة الإلهية حينما قال الله: «لِنَصنَعِ الإِنسانَ على صُورَتِنا كَمِثالِنا» (تك 1: 26). هذا التجزأ هو مرض الإستقلال عن الله. وأعراض هذا التجزأ تتضح في عدم قدرة الرجال على التواصل في إتمام مشروعهم. لفظ بابل تعني من العبري "باب إيل" أيّ "باب الله". أراد الرجال الوصول إلى هذا الباب بمفردهم، ليبنوا طريقًا ذاتيًا لأنفسهم. لذلك نشأ الارتباك من رّوح الكبرياء، عندما سعى كل فرد إلى أسبقية ذاته. نتيجة هذا التجزأ والإنفراد بمشروع بشري بعيداً تمامًا عن المخطط الإلهي. تكمن التجزئة في تشتت المجتمعات، وتفكك الجماعات، وانهيار المجتمع بناء على فرض مشروع الفرد الخاص مُعتقدًا أنه الأفضل. ولذا يتم التوقف عن الاستماع الواحد للآخر وتبدأ حالة اللاتفاهم. حينئذ تتبلبل الإلسنة ويفاجأ الإخوة كلاً منهم في التحدث بلغته الخاصة ولا يتفاهمون فيما بينهم لذا لن يتم اكتمال مشروعهم الهادف للوصول إلى الله والاستقلال عنه.

 

قد تسود في عالمنا لليوم فوضى بابل، إذ يصعب فِهم بعضنا البعض، كانت بدورها عكس هدف خلق الله من خلال وضع النظام في حالة من الفوضى، والإنسان، بتظاهره بالسيطرة الخرقاء على الحياة، يعيد الفوضى في العالم. واليوم لم نعد نفهم بعضنا البعض. تصبح الخلافات عقبة بيننا فلا مجال للحوار أو للفهم. يعني إننا دائمًا غرباء عن بعضنا البعض وفي كل مرة نحاول فيها فهم بعضنا البعض، نبذل جهدًا لاستضافة بعضنا البعض في عالمنا.

 

 

2. بلبلة الألسنة: الإفراغ من الله (تك 11: 6- 9)

 

نسمع الصوت الإلهي متحاوراً باندهاش عن واقع البشر الذي خلقه حبّا يقول: «"هُوَذا هُم شَعبٌ واحِد ولجَميعِهم لُغَةٌ واحِدة، وهذا ما أَخَذوا يَفعَلونَه. والآنَ لا يَكُفُّونَ عَمَّا هَمُّوا بِه حتَّى يَصنَعوه» وفي هذا الوقت بالتحديد يأتي القرار الإلهي: «فلْننزِلْ ونُبَلْبِلْ هُناكَ لُغَتَهم، حتَّى لا يَفهَمَ بَعضُهم لُغَةَ بَعض". فَفَرَّقَهمُ الرَّبُّ مِن هُناكَ على وَجهِ الأَرض كُلِّها، فكَفُّوا عن بِناءِ المدينة. ولِذلِكَ سُمِّيَت بابِل، لأنَّ الرَّبَّ هُناكَ بَلبَلَ لُغَةَ الأَرضِ كُلِّها. ومِن هُناكَ فَرَّقهمُ الرَّبُّ على وَجهِ الأَرضِ كُلِّها» (تك 11: 6-9). إنفراد الإنسان بمشروع ما دون إستشارة الله يخلق عوالم منغلقة تعاني من عزلة تامة. وهدف الله من الإنسان المخلوق بيديه الإلهيتين إن يُبادله الحب ويعلن انتمائه له كإله خالق. "بلبلة اللغة" هي التشتت كعلامة مُعاكسة للهوية المفقودة، عندما لا يعرف الأخوة بعضهم! في بابل، اختبأ الكبرياء وراء الخير الظاهر وراء محاولة التوجه نحو "باب الله". ولكن وراء هذا العمل الصالح يتم إخفاء محاولة الوصول إلى الله بشكل مستقل، من خلال قوة الإنسان. هذه المحاولة ما هي إلّا فخ عدو الخير حينما يعتقد الإنسان أنه يتمكن من القيام بالأعمال بمفرده بل معتمداً على قوته الخاصة. هناك قوى معادية لرّوح الله منذ البدء تهدف إلى الإفراغ من رّوحه وحبه. البلبلة هي التشتت، قرار الإنسان الناتج عن انفصاله بالله واستقلاله عنه «هؤُلاءِ عَشائِرُ بَني نُوحٍ بِحَسَبِ سُلالاتِهِم وأُمَمِهِم. ومِنهُم تَشتَّتَتِ الأُمَمُ في الأَرضِ بَعدَ الطُّوفان» (تك 10: 32).

 

 

3. الجديد "فيض الرّوح" (أع 2: 1- 9)

 

وُلدت الجماعة المسيحية المتمثلة في التلاميذ الّذين «كانوا مُجتَمِعينَ كُلُّهم في مَكانٍ واحِد» (أع 2: 1). وهم يستمعون إلى صوت واحد، ينبض بالحياة في كل منهم بطرق مختلفة، كألسنة نار. هذا الصوت الذي يشبه الرعد يستحضر صوت الله الذي أعطى الشريعة في سيناء (راج خر 20: 1ت). فقد كان عيد العنصرة في التقليد اليهودي، هو الاحتفال بالعهد المقطوع مع الله ويوم للإحتفال بهبة الشريعة لإسرائيل. كانت الشريعة بمثابة مكان هوية بني إسرائيل. اليوم مع قيامة يسوع نتلمس ملء الشريعة. فجاء إعلان الإنجيل دون أنّ يفرض نفسه، "الخبر المٌفرح" يعلن التحرير ولا يمكن فرضه دون أن يناقض ذاته. في يوم الخمسين، وجدت الشعوب نفسها تعيش برّوح الوحدة على الرغم من الاختلاف بينهم. دائما ما يرتبط فعل "يفيض" أو "يملأ" بالروّح القدس. الفيض والملء هما سمات الرّوح القدس.

 

الرّوح هو فيض الحب الذي يمنح نفسه الحب الحقيقي لا يمكن كبته ولا كبحه، فهو يعطي ذاته. ندرك جميعًا في كل بيئة ما إذا كان هناك حب أو إذا كانت العلاقات مُنقسمة. الحب لا يترك الأشياء كما هي، بل يحولها ويشفي المرض البشري. هل يمكننا أن نفكر إذن أن المحبة بين الآب والابن تظل مغلقة فيهم ولا تُمنح لنا باستمرار؟ هذا هو المكان الذي يمكننا أن نبدأ فيه بالتفكير في فيض الرّوح القدس. لا يمكن للبشرية العزيزة على الله أن تُحَب. كل إنسان مخلوق بطريقة تستضيف حضور الله على صورته ومثاله، لأنه بدون هذه الربط لا يمكن للبشر ولا للأشياء أن توجد! الرّوح يسود كل شيء ويبقينا في الوجود. لكن كل شيء هو أيضًا إلهي لأنه يسكنه الرّوح. فالحب يقدم ذاته ولا يصمت، بل على العكس يُزعج ويملأ بل يفيض بالحياة. اجتمع التلاميذ في العلية للاحتفال بعيد العنصرة أيّ ذكرى نعمة الشريعة في سيناء، الّتي تحتوي على كلمات الله العشر لشعبه، وهي طريقة بقاء الأمين في العلاقة. وبعد أن كُشف الحب في تسليم الابن على الصليب، إذ هناك تجلّت شريعته الجديدة كمُحب، تطلب مكانها في قلب الإنسان. لذلك، لا يوجد إنسان لا تسكنه شريعة الحب هذا. لأن الرّوح بالتحديد هو حب وثمرته هو الوحدة والتغلب على كل الانقسامات.

 

 

4. الشفاء من بلبلة الألسنة (أع 2: 2- 4)

 

تستحضر صور نص سفر الأعمال، مسيرة الله الشفائية لخطأ الإنسان. فهناك لحظات من العهد تطرق حياتنا وقلوبنا بطاقة وقوة إلهية جديدة تشفي تشتتنا وانحرافنا عن مخطط الله. حينما أفاض الرّبّ من حبه: «فانْطَلَقَ مِنَ السَّماءِ بَغتَةً دَوِيٌّ كَريحٍ عاصِفَة، فمَلأَ جَوانِبَ البَيتِ الَّذي كانوا فيه، وظَهَرَت لَهم أَلسِنَةٌ كأَنَّها مِن نارٍ قدِ انقَسَمت فوقَفَ على كُلٍّ مِنهُم لِسان، فامتَلأُوا جَميعًا مِنَ الرّوح القُدس، وأَخذوا يتكلَّمونَ بِلُغاتٍ غَيرِ لُغَتِهِم، على ما وَهَبَ لهُمُ الرّوح القُدُسُ أن يَتَكَلَّموا» (أع 2: 2- 4). قبلاً كان الرّوح في الخليقة يُرفرف مثل الريح على وجه المياه (راج تك 1: 2)، في العبري مصدر اللفظين الريح والرّوح واحد. والآن، يمنحان قوة؛ كما كان الله حاضرًا في الرعد في سيناء، عند تسليم الشريعة لموسى، فهو يتجلى الآن في أصوات العاصفة. عيد العنصرة هو الاحتفال بالعهد بين مختلف الناس. في يوم الخمسين، في أورشليم، شُفي تبلل الألسنة الذي بدأ في بابل. في يوم الخمسين، يجعل التلاميذ أنفسهم مفهومين من قبل أولئك الذين يتحدثون بلغات مختلفة، ويترجمون الإنجيل حتى يمكن قبوله في الثقافات الأخرى، ويجدون طريقة لخلق الترحيب والضيافة. ربما صاروا مفهومين ليس من خلال ترجمة المقالات اللاهوتية، ولكن من خلال أساليب الحياة التي يمكن للجميع فهمها. لم تبدأ هذه البشارة الأولى بالترحال، بل بالبقاء في أورشليم والترحيب بالآتيين من بعيد. مَن يدري إن كان الله لا يطلب منا اليوم أن نعود إلى جذور تلك البشارة الأولى.

 

يمكننا أن نقدم عيد العنصرة أنه شفاء لبابل (تكوين 11: 1-9).

 

 

الخلَّاصة

 

ساعدت كلمات يسوع، بحسب يوحنّا، التلاميذ على الدخول في طريقة جديدة للتواصل مع الحضور الـمُعزي كطريقة جديدة سيكون فيها يسوع بجانب تلاميذه. سيقول الرّوح كلمات جديدة مرة أخرى، لأن الله، منذ سفر التكوين، لا يتوقف عن التحدث إلى البشرية. يستمر الله في القول، ويتواصل مع نفسه، لأن الكلمة هي تعبير عن المحبة. قال الله، الكلمة تجسد، وحان الآن دور عمل الرّوح الّذي: «لِأَنَّه لن يَتَكَلَّمَ مِن عِندِه بل يَتَكلَّمُ بِما يَسمَع ويُخبِرُكم بِما سيَحدُث» (يو 16: 13).

 

اليوم نحن ككنيسة نُخاطر بأن نُصبح بابل عصرنا، عندما نُحاول أن نُظهر سطحيًا فقط أعمال عظيمة. نُصبح كنيسة بابل أيّ مُشتتة عندما نُفرغ ذاتنا من الله. ها هي كنيسة العنصرة هي كنيسة تعرف كيف تجعل نفسها مفهومة للجميع، لا تستبعد ولا تُقسم. كنيسة مُنتبه لتُسكت صوتها السطحي وتتعمق لتسمع صوت الله. قد يسود مجتمعنا الكنيسي اليوم الكثير من التوتر، إلا أن كلمة الله تدعونا إلى إعادة جذورنا وهويتنا من خلال الرّوح القدس الذّي يحترم حريتنا ليُنشط رسالة يسوع الخلاصيّة ويُذكرنا بهويتنا المسيحية ويمنحنا قوة أمام التحديات اليومية. نحن بحاجة إلى البدء في تقييم الطريقة التي نتواصل بها. يمكن أن تنقسم كلماتنا أو تتحد، ويمكن أن تكون عنيفة أو حساسة. يدعونا عيد العنصرة إلى التخلي عن كبريائنا، ونبتعد عن التجزئة والاستقلالية عن الله حينما نحاول أن تكون لنا الكلمة الأخيرة. لنتوقف اليوم متسائلين: هل نتمتع ببلبلة أي إفراغ حياتنا من الله أم بوحدة في حياتنا وقلوبنا ولساننا؟

 

من خلال تعمقنا في الماضي في رواية برج بابل (تك 11: 1- 9) وتشتت الأوّلين الباحثين عن باب الله مستقلين عنه! إلا أن مشهد العنصرة (أع 2: 1- 12) في يوم الخمسين، سمح لنا بالتمتع بفيض الرّوح المجاني وبلقاء الله الـمُحب وبفهم الناس للتلاميذ بالرغم من اختلاف لغاتهم. مدعوين لـمناداة رّوح الله، والانفتاح عليه ليمنحنا التواضع شافيًا إيانا من الكبرياء والتمتع برّوح الوحدة والشركة التي تساعدنا على التغلب على الانقسامات والتجزئة. اليوم أكثر من أي وقت مضى ندرك صعوبة فهم بعضنا البعض، نعيش بابل كثيراً اليوم ونحتاج إلى عنصرة تفيض بقوة في قلوبنا وتمنحنا نور لنرى بعين الله ولسان لنتكلم بما يرضي الرّبّ. عيد العنصرة ليس تجانسًا، بل فهمًا للآخر على الرغم من اختلافنا. دُمتم إيها القراء الأحباء في فيض الرّوح القدس، فيض يشفي بلبلة قلوبنا ويجعلنا ننطلق فيما هو للرّبّ. إذن فلننفتح على الفيض والملء الّذي يجدده فينا الله من خلال روحه القدوس.