موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
الأحد الثالث من زّمن المجيء (ج)
مُقدّمة
بعد أن تعمقنا في سلسلة الصغيرة والّتي لزّمن المجئ من خلال "مصباح اليقظة"، ثم "مصباح الإنتظار العذب" الّذي حملته إلينا مريم "إمرأة الله". ها نحن بهذا المقال نجد أنّ هناك شخصية أخرى مؤهلة من قِبل الرّبّ لحمل مصباحًا جديداً يرافقنا في هذا الأسبوع الثالث. من خلال شخصية الرّبّ الإله الّذي يُسر ويفرح بشعبه بحسب نبؤة صفنيا (3: 14- 18) حيث يعلن هذا المقطع الأوّل عن عودة الـمسبييّن بلغة التهليل والفرح والإبتهاج، لذا يعلن النبي عن فرح الله معهم وبهم أتيًا للقائهم كمصدر النّور فهو القائد للشعب ويأتي حاملاً مصباح الفرح لشعبه. في حين أنّ المقطع الثاني والمأخوذ من الإنجيل اللوقاوي (3: 10- 18) يُدخلنا في قلب زّمن المجئ. سنصغي إلى رسالة المعمدان الّتي ستكشف عن الخطوات الثلاث للتوبة والّتي تتكلل رسالته بالكشف عن المسيح الآتي. سيتبين لنا كيف أنّ ما تمّ من إعلان عن المسيح على لسان يوحنّا المعمدان، هو واقع لا يتعلق بالماضي فحسب، بل يمسّ تجربتنا كمؤمنين في زمننا المعاصر.
1. التغني بالفرح (صف 3: 14-18)
في قرائتنا الأوّلى والمأخوذة من نبؤة صفنيا، وهو أحد الأنبياء الصغار، هي بمثابة ترنيمة الإنتصار والفرح. دعوة مُلحّة لإسرائيل للتباهي بكل نفحات الفرح. يستخدم النبي أربعة أفعال لدعوة بني إسرائيل إلى التغني بفرحة التحرير والخلاص من السبي قائلاً: «هَلِّلي يا بِنتَ صِهْيون، إِهْتِفْ يا إِسْرائيل، إِفرَحي وتَهَلَّلي بِكُلِّ قَلبِكِ يا بِنتَ أُورَشَليم» (صف 3: 14). الفرح، التهليل والهتاف! وكأنّ كلّ أطياف الفرح كانت ضروريّة للتغنيّ بالخلاص الّذي هو موضوعه إسرائيل، وكأن مثل هذا الفرح العظيم يحتاج إلى كل لغات الابتهاج ليعبر عن نفسه. لكن إذا تسألنا عن سبب هذا الفرح الّذي تكافح اللغة البشرية للتعبير عنه؟ لاحقًا يعلن النبي سبب هذه الإعلان بالفرح وهو القرار الإلهي: «فقد أَلْغى الرَّبُّ الحُكمَ علَيكِ وأَبْعَدَ عَدُوَّكِ في وَسَطِكِ مَلِكُ إِسْرائيلَ الرَّبّ فلا تَرَينَ شَرّاً مِن بَعدُ. في ذلِكَ اليَوم يُقالُ لِأُورَشَليم» (صف 3: 15-16).
عندما كان لإسرائيل ملوك بشرييّن يحكمونهم، رغم إنهم من نسل بيت داود، أبعدوا الشعب عن إلههم وجلبوا عليهم البلاء. ولكن الآن ملك إسرائيل هو الله نفسه، ولهذا السبب يتغير مصير الناس بشكل جذري. نجد هنا إحدى أوّلى سمات فرح المجيء حضور الله بين شعبه. حضور هو سبب فرحة عظيمة لا توصف. بالنسبة لصفنيا، فإن الدافع وراء تمتع الشعب بفرح أولاً وقبل كل شيء هو حضور الله هو الفرح الحقيقي الّذي ينشأ من إكتشاف الحضور الّذي يسكن وجودنا ويخلصه ولكن هناك شيء أكثر في النص. يقول النبي عن الله: «لا تَخافي يا صِهْيونُ،َ لا تَستَرخِ يَداكِ في وَسَطِكِ الرَّبُّ إِلهُكِ الجَبَّارُ الَّذي يُخَلِّص ويُسَرُّ بِكِ فرَحاً ويُجَدِّدُكِ بِمَحَبَّتِه ويَبتَهِجُ بِكِ بِالتَّهْليل» (صف 3: 17). لذلك فإن فرح المجيء هو أيضًا سبب سرور الله وفرحه. حتى بالنسبة لله، تُستخدم مجموعة من الأفعال للتعبير عن فرحه الّذي لا يوصف بالعيش بيننا كشعب لله، وبإقامة خيمته بيننا في وسط ذلك الطفل الفقير والمتواضع. بالنهاية يمكننا القول أنّ صفنيا يصف هنا قبول الله بشعبه العائد كصورة ساحرة بالصمت المليء بالكلمات. الله بحسب كلمات النبي هو سبب الفرح بحضوره بل هو الّذي يحمل مصباح الفرح لينير طريق العائدين.
2. النقطة الفاصلة (لو 3: 10-18)
بعد أنّ قدم لوقا نبأ بشارة زكريا بابنه المستقبلي، كاستجابة من الله لصلاته هو وإمرأته أليصابات. نجد مريم في مرحلة تاليّة تتفقد أليصابات وهي تنتظر مولودها بحسب بشارة الرّبّ لها. ومن هنا نعلم أنّ شخصيّة يوحنّا المعمدان بحسب صفنيا كما رأينا بأعلى أم بحسب لوقا الّذي يؤكد على دوره كمهيئ وشاهد عيّان بزّمن مجيء سيّد اليوبيل 2025. نعلم بإنّ يوحنّا هو الرجل والـُمعد لمجيء الرّبّ، فهو الرجل هو بمثابة النقطة الفاصلة بين الترقُّب القديم الّذي تحققّ بمجيء المسيح يسوع، وتوقع التحقيق الكامل الّذي مازلنا ننتظره والّذي في ضوئه نحن بالفعل نتحرك نحو يّوم ظهور الله في الجسد. في الواقع، يوحنّا هو مُمهد يسوع الّذي إفتتح العهد الجديد، ذلك الشخص الّذي كان عليه في العهد القديم أنّ يسبق مجيء زّمن المسيح. ولكن، إذا كان الأمر كذلك، فإن زّمن يوحنّا ليس فقط أيقونة تتحدث إلينا عن توقع مجيء المسيح في التاريخ، بل يظل دائمًا إعلانًا للأزّمنة الأخيرة وليّوم الرّبّ الّذي مازلنا ننتظره بإيمان ورجاء ومحبة. ولهذا السبب على وجه التحديد، يمكن أيضًا إعتبار شخصية يوحنّا المعمدان اليّوم شخصية رجل المجيء، وهو تعبير مُوجه دائمًا إلينا كنساء ورجال نمر ونعبر بالتاريخ في طريقنا نحو اللقاء النهائي بالرّبّ الّذي سيأتي لأجل كلّ إمرأة وكلّ رجل، يواصل يوحنّا القول إن هذا هو زّمن "الآتي!" بشكل عام، تساعد قرئتنا اليّوم على التركيز على شخصية الـمعمدان بحسب منظور زّمن المجيء.
إنّ قلب قرائتنا يدور حول موضوع الفرح وهو يميز هذا العام الليتورجي اليوبيلي والّذي يهيئنا للإحتفال بمرور 2025 على ولادة السيّد الرّبّ. يمكننا القول بأنّنا في هذا الزّمن الّذي تفرح فيه الكنيسة هو بمثابة زّمن الفرح لحضور متوقع ومؤثر، والّذي دائمًا ما يصبح قريبًا إذ يمكننا أنّ نتلّمس رؤية ابن الله وتجليّه في الجسد. يدعونا هذا الفرح الإلهي الّذي نختبره بالإستنارة لكلّ الأزّمنة الليتورجيّة في هذا الزّمن، وبالتالي ينير وجودنا المسيحي بأكمله. يمكن أنّ يكون منظورًا أكثر ثراءً وصدقًا. نعم، مقالنا هذا يُحي فينا زّمن المجيء بقراءاته الكتابيّة الّتي تُميّزه، ويخبرنا عن نعمة الفرح بمجيء سيّد اليوبيل بعالمنا البشري. إذن زّمن حياتنا الإنسانيّة يمكن أنّ يسكنه الفرح، لأنّه موجه نحو لقاء وسكنى الحضور الإلهي بعالمنا. يكشف هذا المقطع الإنجيلي سرّ مجيء ابن الله. لا يكفي أنّ نستخدم كلمة فرح، بل يجب أنّ نعطي إنعكاسًا على وجوهنا لهذا الشعور الّذي تدعونا إليه ليتورجية اليّوم إلى إكتشافه كنموذج لتجربة المؤمن. ما هو الوجه الّذي يحمله فرح المجيء، والوجه الّذي يحمله الفرح المسيحي؟ إنّ قراءاتنا بهذا المقال ستساعدنا على الإجابة على هذا السؤال!
3. مصباح الفرح (لو 3: 10- 18)
على ضوء مصباحُ الفرح الّذي كشفه الرّبّ بحسب نص النبي صفنيا الّذي نجح في أن يبثّ لنا ما يمهد لنا عنه لوقا إذّ أنّ الفرح الإلهي لا بديل عنه في الحياة البشريّة. قد نعتقد للوهلة الأوّلى أنّ موضوع الفرح، الّذي نوهنا عنه حتى الآن بشكل عميق، غائب عن عالمنا. ومع ذلك، ليس هذا الحال، بقراءتنا النص اللوُقاويّ، يمكننا أنّ نقرأ هذا المقطع من بدايته والّذي بطريقة ما يجمع خيوط الموضوع معًا، وبملخص موجز، تجمع نشاط يوحنّا المعمدان، مشيراً بقوله: «لِلجُموعِ الَّتي تَخرُجُ إِلَيه لِتَعتَمِدَ عَن يَدِه [...] يا أَولادَ الأَفاعي [...] فأَثمِروا إِذاً ثَمَراً يَدُلُّ على تَوبَتِكم» (لو 3: 7- 8). بدأت كلّ رسالة يوحنّا المعمدان بقوله: "يا أولاد الأفاعي"، يفسر الإنجيلي على إنّ هذا القول بمثابة بُشرى جديدة. بالنسبة للوقا، يوحنّا هو بالفعل "مبشر": فهو يعلن الخبر السّار أي الإنجيل. لذلك في ختام هذا المقطع يمكننا أن نلمح شيئًا من العلاقة التي تربط هذا المقطع الإنجيلي بموضوع الفرح.
4. التوبة: رسالة المعمدان (لو 3: 1- 7)
ولكن ما هي البشرى السّارة الّتي يعلنها يوحنّا؟ ما هو محتواها؟ للإجابة على هذه الأسئلة، دعونا نعود إلى بداية المقطع. ينص النص على أن فئات مختلفة من الناس ذهبت إلى يوحنّا. فالجموع، أمام دعوة يوحنّا إلى التوبة تتساءل: «فماذا نَعمَل؟» (لو 3: 10. 12. 14). على هذا السؤال، والّذي تكرر ثلاث مرات في مقطعنا، يجيب يوحنّا بدعوتهم بالمشاركة. كنا نتوقع دعوتهم لتقديم الذبائح العظيمة، لكن يوحنّا يدعوهم إلى مشاركتهم بالملابس وبالطعام، وهي الأشياء الأكثر شيوعًا وبساطة في الحياة. لذا فإنّ الخطوة الأولى للتوبة هي المشاركة.
بعد تساؤل الجمع الأوّل تتوجه كلمة المعمدان لفئة معينة وهي العشاريّن. وهي طبقة مكروهة للغايّة من اليهود، حيث كان اليهود يعتبرونهم نجسين بسبب علاقتهم بالمحتل الروماني. وكانوا يلقبونهم باللصوص لأنّهم كانوا يطلبون في كثير من الأحيان المزيد من المال لكسب الفارق. أجاب يوحنّا أيضًا على سؤالهم ولم يطلب منهم ترك مهنتهم، ولم يتطرق إلى نجاستهم، وهو لا يتكلم إلّا عن الحق. ومن ثم فإنّ الخطوة الثانيّة للتوبة هي الصدق والإستقامة.
وأخيرًا، سأله بعض الجنود أيضًا ذات السؤال، كان الجنود أيضًا فئة مرفوضة، لأنهم غالبًا ما استغلوا قوتهم بغطرسة لتنفيذ الظلم.نعم، لقد إستجاب يوحنّا أيضًا لهذه الفئة البسيطة، ولمّ يطلب منهم ترك وظائفهم، ولكن فقط عدم إساءة إستخدام سلطتهم. يطلب يوحنّا، كجانب إيجابي، من الجنود أنّ يعيشوا موقفهم برّوح خدمة للآخرين، وليس فقط لمصلحتهم الخاصة. وفي نهاية المطاف، فإنّ الخطوة الثالثة للتوبة تتمثل في أنّ يستخدم الإنسان سلطته لأجل الآخرين.
لذلك فإنّ رسالة المعمدان بحسب لوقا تأخذ شكل دعوة ثلاثيّة إلى التوبة موجهة إلى الجمع الّتي جاءت إليه لتتعمد على يده. تقع هذه الدعوة الثلاثيّة على عاتق شعب، فلم يعد جمع، ينتظر ويطرح سؤالًا جذريًا في قلوبهم حيث: «كانَ الشُّعبُ يَنتَظِر، وكُلٌّ يَسأَلُ نَفسَه عن يوحَنَّا هل هو الـمَسيح» (لو 3: 15). هذا التساؤل يكشف عما يحمله قلب الجمع في الكتاب المقدس، المسيح هو مكان اللقاء مع الله ولقاء القرارات الشخصيّة. على هذا السؤال الجذري الّذي يشير للتوقع الإيجابي لشعب، الّذي بحسب الكتاب المقدس يمسّ موضوع العلاقة مع الله كعروس، أعلن يوحنّا مجيء العريس الحقيقي قائلاً : «أَنا أُعَمِّدُكم بِالماء، ولكِن يأتي مَن هُو أَقوى مِنِّي، مَن لَستُ أَهلاً لأن أَفُكَّ رِباطَ حِذائِه. إِنَّه سيُعَمِّدُكم في الرُّوحِ القُدُسِ والنَّار» (لو 3: 16). وهنا أعلن يوحنّا مجيء المسيح الآتي ليُفرق ويصنع الحقّ. هذا هو فرح إعلان الإنجيل. بشرى مجيء العريس السّارة الّذي ينتظره الشعب. يكشف النص الإنجيليّ عن فرح بالبسمة كفرح التوبة. لا يوجد فرح حقيقي بدون توبة القلب الّذي يسمح لنا باستقبال ذلك الحضور الّذي منه، كما رأينا في مقطع صفنيا، يولد الفرح. تتطلب التوبة من أشياء بسيطة، أبسط ما في الحياة من مشاركة، وإستقامة، وإهتمام بالآخرين، وهي الأبسط والأكثر حسمًا.
الخلّاصة
نجد مصباح الفرح كسّمة المسيحي الجوهريّة واللّاهوتيّة، كما رأينا من خلال نص صفنيا (3: 14- 18) الّذي نوّه إلى أنّ الفرح الحقيقي يُحفظ بالصلاة التّي تشير التوبة. أشار النبيّ بالنص بأنّ أطياف الفرح ما هي إلّا ضروة للتغنيّ بخلاص بني إسرائيل الّذي يتجدد فينا اليّوم. هذا الفرح العظيم للتعبير عنه يحتاج إلى لغة البهجة ليُعبر عنه. نخطأ حينما نعتقد أنّ الفرح هو عندما يسير كلّ شيء على ما يرام. مدعويّن أيضًا بحسب النص اللوُقاوي (3: 10- 18) إلى الإصغاء إلى الخطوات الثلاث للتوبة. فالفرح الحقيقي ينبع من الإنسجام ومن المصالحة مع الذات والآخرين دون إستغلالهم. هذا هو ما يعني أنّ لنعيش الفرح سواء في الرخاء وأيضًا في الصعوبة، والسبب هو أنّ "الرّبّ قريب" بحسب كلمات المعمدان. لكن هذا الفرح ينمو بالصّلاة الّتي تقودنا إلى اكتشاف هذا الحضور الّذي قد يطغى عليه القلق الّذي ينشأ فينا بسبب الصعوبات الّتي نواجهها. فالصّلاة هي الشكل الّذي يمكن أنّ يُعبر بلغتنا البشريّة عن إعتمادنا الكامل على الله وثقتنا فهو سبب وجوهر فرحنا وليس الأشياء أو الأشخاص. فلنفرح بالرغم من كلّ شئ فالرّبّ أتٍ ليحقق فرحه فينا. دُمتم في فرح دائم بقرب يسوع في عالمنا.