موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ١٠ يناير / كانون الثاني ٢٠٢٥

"نبضات القلب الإلهيّ" بين كاتبي نبؤة اشعيا والإنجيل الثالث

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (اش 40: 1-11؛ لو 3: 15- 21)

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (اش 40: 1-11؛ لو 3: 15- 21)

 

عيد معموديّة يسوع (ج)

 

مُقدّمة

 

سنستمع في هذا المقال نبضات القلب الإلهيّ الّذي يحاور قلوبنا. في سلسلتنا الكتابيّة سنتابع النصوص الطقسيّة الّتي تحمل إلينا من خلال "ليتورجيّة الكلمة" رسالة الرّبّ الّذي يرغب في التحدث إلينا في وقتنا المعاصر. لذا سنتناول في نقاشنا بالعهد الأوّل نص من سفر اشعيا الثاني (40: 1-11). يُفتتح هذا المقطع النبويّ لاشعيا مضمون مقالنا وهو نبضات القلب، بينما يدعونا النبي، في المرحلة الأوّلى، إلى التحدث إلى قلب أورشليم. ثم يأتي لوقا، في مرحلة ثانيّة، بالعهد الثاني في المقطع الإنجيليّ (3: 15-16، 21-22) حاملاّ التركيز على نبضات القلب الإلهي. يؤكد الإنجيليّ على إجابة على تساؤل الجمع الـمُترقب في قلبه، الكشف عن هويّة يوحنّا المعمدان. ولا يخلو الأمر من أهميّة أنّ النصوص الكتابيّة لعيد معموديّة الرّبّ هذا، والّذي من خلاله نختتم الإحتفال بزمن الميلاد، والّتي تدعونا للإستماع لنبضات القلب الإلهي لذا تحمل الإشارة إلى قلوبنا.

 

القلب كمضمون، في الكتاب المقدّس، ليس مكان المشاعر، كما إعتدنا أنّ نعتقد، بل هو مكان إتخاذ القرارات والمكان الّذي نقرر فيه قراراتنا تجاه الله أيضًا. بالنسبة للكتاب الـمقدس، القلب هو ما نطلق عليه عادة الضمير. فهو بمثابة المكان الّذي نستمع فيه إلى كلمة الله ونقررها.

 

بعد أنّ احتفلنا بعيد الميلاد في جوانبه المختلفة، من تجسد الكلمة (را. يو 1: 1-18) إلى ظهوره (را. مت 2: 1- 11) لجميع الناس، نحن الآن مدعوين لنتبادل بإتخاذ قرار لصالح الله. بحيث ندع حدث التجسد الإلهيّ متحاوراً لقلوبنا ويجيب على أسئلتنا وتوقعاتنا الباطنية والأعمق. ولا يمكننا من الإحتفال بتجسد الرب وظهوره بدون هذا المقطع الّذي يفتح سبل الخلاص في وجودنا الـمُلموس والفعلي.

 

 

1. عزاء القلب (اش 40: 1-11)

 

تأتي كلمات النبي والّتي تحمل التعزيّة لقلوبنا كالبلسم لأنّه يبشرنا بكلمات الرّبّ القائل: «عَزُّوا عَزُّوا شَعْبي يَقولُ إِلهُكم خاطِبوا قَلبَ أُورَشَليم» (اش 40: 1-2). تأتي هذه الكلمات موجهة مباشرة لقلب أورشليم وهنا يلمس الرّبّ باطن شعبه الّذي يسكن بعاصمة ممكلة اليهوديّة بكلمات تعزيّة وحضور إلهي لا مثيل له. هذا العزاء يتم من خلال صوت شخص آخر: «مُنادٍ في البَرِّيَّة: "أَعِدُّوا طَريقَ الرَّبّ وإجعَلوا سُبُلَ إِلهِنا في الصَّحْراءِ قَويمة". كُلُّ وادٍ يَرتَفعِ وكُلُّ جَبَلٍ وتَلٍّ يَنخَفِض والـمُنعَرِجُ يُقَوَّم ووَعرُ الطَّريقِ يَصيرُ سَهلاَّ ويَتَجَلَّى مَجدُ الرَبِّ ويُعايِنُه كُلُّ بَشَر لِأَنَّ فَمَ الرَّبِّ قد تَكَلَّم» (اش 40: 3-5). لازال الرّبّ يتذكر شعبه بعزاء وبمجد لا ينتهي بل كلماته لن تصير فقط كلمات بل ستتجسد ليعلنها مُهيأ يعد الطريق للرّبّ الّذي سيأتي عالمنا ويخطو على طرقنا بل سيحاور قلوبنا بالمجد الإلهي الّذي خرج منه. ليس فقط بل يكشف النبي عن هويّة الآتي مُعلنا: «هُوَذا السَّيِّدُ الرَّبُّ يَأتي بِقُوَّة وذِراعُه تُمِدُّه بِالسُّلْطان هُوَذا جَزاؤُه معَه وأُجرَتُه قُدَّامَه. يَرْعى قَطيعَه كالرَّاعي يَجمَعُ الحُمْلانَ بِذِراعِه ويَحمِلُها في حِضنِه ويَسوقُ المُرضِعاتِ رُوَيداً» (اش 40: 10-11).

 

يفاجئنا النبي بإلهنا الفريد من نوعه حيث يبطء خطوته بحسب إحتياجاتنا نحن الّذي يرمز لنا كالقطيع. بيننا مّن يحتاج لرعاية بسبب صغرة كالحمل ويحملها بجوار قلبه. وهناك أيضًا الخراف الأمهات الّتي ترضع صغرها وبسبب لبنها بصدرها لا تتمكن من السيّر السريع فتبطأ ولذا لن يتركها الراعي بل ينتظرها مُبطاً خطواته ليرعاها ويهتم بها فيصير قريبًا من قلبها. هذه هي رسالة العزاء القلبي الّتي يحملها السيّد الرّبّ لنا اليّوم والّذي سيكشفها علانيّة يسوع في خروجه العلني حينما يتعمدّ على يّد المعمدان ويأتي صوت الآب والحمامة رمز الرّوح القدس ليؤكدا عما يعيشه الأبن في التضامن القلبي والبشري مع كل إنسان. فيصير يسوع عزائنا ورسالة الآب القلبيّة الّتي تُحيينا. مدعوين من خلال هذا النص النبويّ بالتوقف أمام نبذات القلب الإلهي الّذي يرافق نبضات قلوبنا البشريّة في الأوقات والأحداث المختلفة.

 

 

2. يسوع هو طريق القلب (3: 15-16، 21-22)

 

بحسب البشارة اللُوقاويّة يسرد لنا من خلال حدث معموديّة يسوع الّذي نحتفل بها في هذا الأسبوع بأنّ هناك طريق متميّز من قبل الله الآب. فقد جعل الله الآب طريق ابنه الّذي صار إنسانًا هو ذاته طريقنا، ومدعوين لتبعيّة طريقه الّذي سيصل بنا إلى الله ذاته. في الواقع، كان حدث المعموديّة في نهر الأردن هو ذات الحدث بالضبط بالنسبة ليسوع حيث يُسمعنا نبضات قلب الله الّتي من خلالها يتخذ قرارات لخلاصنا. قرار يسوع هو إتمام إرادة الله الآب ودعوتنا للتوبة أي العودة للقلب الإلهي وخاصته هي: «كانَ الشُّعبُ يَنتَظِر، وكُلٌّ يَسأَلُ نَفسَه عن يوحَنَّا هل هو الـمَسيح. فأَجابَ يوحنَّا قالَ لَهم أَجمعين: "أَنا أُعَمِّدُكم بِالماء، ولكِن يأتي مَن هُو أَقوى مِنِّي، مَن لَستُ أَهلاً لأن أَفُكَّ رِباطَ حِذائِه. إِنَّه سيُعَمِّدُكم في الرُّوحِ القُدُسِ والنَّار" (لو 3: 15-16).

 

تتكون التوبة من فعلين: الأوّل: رفض الشرّ والثانيّة ترك الأوثان. لقد إختار الله ومارس العدل معنا من خلال إرساله ابنه الإلهي. يسوع هو كلمة الله الّتي صارت جسدًا، على الرغم من إنّه لم يختبر تجربة الخطيئة (راج 2 كو 5: 21؛ عب 4: 15)، كونه مشابهًا لنا في كلّ شيء، كان لا يزّال عليه أنّ يسمع نبضات قلب الله الّتي تقرر لأجلنا ما هو صالح وتختاره. هذا ما يحدث في الأردن، بالنسبة ليسوع، فإن المعمودية على يّد يوحنّا، وبالتالي القيام بمبادرة التحّول أو التوبة، لا تعني ترك حياة الخطيئة لممارسة العدالة، بل قرار إختيارنا يكون لأجل الله، وقبول دعوته ورسالته. يصبح كلّ طفل بالغًا عندما يأخذ الحياة الّتي تلقاها كهدية بين يديه ويعيشها كأنّها ملكه؛ وكلّ أبّ، لكي يكون أبًا حقًا، عليه أنّ يفرح بحقيقة أنّ ابنه يأخذ حياته بين يديه ويهبها مجانًا. يسوع هو الابن لأنّه ينال الحياة من الآب، ويجعلها ملكًا له ويهبها لنا مجانًا. ولهذا السبب بالتحديد يمكن أنّ يدعو الله الآب يسوع قائلاً: «أَتى صَوتٌ مِنَ السَّماءِ يَقول: "أَنتَ ابنِيَ الحَبيب، عَنكَ رَضِيت"» (لو 3: 21). لأنه نجح في أنيسمع نبضات القلب الإلهي أولاً.

 

 

3. نبضات القلب الإلهي (لو 3: 20-21)

 

يتم الإختيار الإلهيّ بناء على نبضات القلب الإلهي الّتي شعر بها وأصغى إليها يسوع. بشكل ملموس عندما يقوم الابن بلفتة تضامن مع الرجال والنساء الّذين يذهبون ليعتمدوا على يد يوحنّا وهما يمثلون كلّاً منّا. يتضامن يسوع مع توقعاتهم ومع الأسئلة الّتي عاشت وأثرت بقلوبهم. إنّ رسالة يسوع العلّنية لا تبدأ بخطاب برنامجي مهيب، ولا تبدأ بفرض نفسها بحركات عجائبية، وليس بـ"تجلّي" قوي، بل بحركة "تضامن" لا نختبرها "كقدر" مفروض، ولكن باعتبارها حرة ومحررة. هذه هي الطريقة الّتي يقرر بها يسوع الإله توبتنا إليه. كما رأينا إنّ إعلان اشعيا النبوي القائل "هوذا إلهك" بهذا المقطع الإنجيليّ يحمل هذه السمات. ففي يسوع ينكشف وجه الإله الـمُتضامن مع البشريّة، لدرجة إنّه يقف بصف الخطاة الّذين يذهبون ليعتمدوا على يّد يوحنّا بحسب السّرد اللُوقاوي: «لَمَّا اعتَمَدَ الشَّعبُ كُلُّه واعتَمَدَ يَسوعُ أَيضاً وكانَ يُصَلِّي، اِنفَتَحَتِ السَّماء، ونَزَلَ الرُّوحُ القُدُسُ علَيه في صورةِ جِسْمٍ كَأَنَّهُ حَمامَة، وَأَتى صَوتٌ مِنَ السَّماءِ يَقول: "أَنتَ ابنِيَ الحَبيب، عَنكَ رَضِيت"» (لو 3: 20-21). يُدعى يسوع "الابن الحبيب" بشبب تضامنه مع بشريتنا بهذا ينال رضى الآب هذه هي خطته للخلاص وهذه هي طريقة تنفيذها. إنّ "شركة" يسوع مع الآب، أي إنفتاح السماوات يعبّر عن هذه الشركة، تتجلى على وجه التحديد عندما يعبّر عن "تضامنه" مع البشرية، عندما يقوم بحركة تعبّر عن التوبة. في توبتنا بسبب تضامن ابن الله تمامًا معنا كنساء ورجال كلّ العصور - فإن إسرائيل والبشرية جمعاء هي الّتي تتوب إلى الله، الّتي "تختار الله بقلبها" بعد أن تسمع نبضات قلبه.

 

 

الخلّاصة

 

من خلال نصيّ اشعيا (40: 1-11) ولوقا (3: 15-21) الّذي حملا لنا نبضات إلهيّة في كلمات النصوص المقدسة، وتحمل لنا وسيلة جديدة للتعرف للإنسجام والتواصل مع الله. والآن نحن أيضًا، الّذين نلنا سرّ المعموديّة، نحن البشريّة الّتي يُسر بها الآب، ونشترك مع الابن الإلهيّ في نفس دعوته ورسالته. هذا هو الرابط القائم بين الإحتفال بمعمودية الرّبّ ومعموديتنا، والّذي نلناه في اختيار الله وفي توبتنا الحقّة إليه. إنّ الإحتفال بمعموديّة الرّب اليّوم يعني اتخاذ قرار بشري لأجل الله. ففي حياتنا هناك ضمان أنّ يصبح السرّ الّذي نحتفل به في موسم عيد الميلاد هذا جسدًا من لحمنا، وهو معيار للحياة متضامنًا مع رجال ونساء عصرنا.

 

كما قلنا في البداية، من الضروري أنّ يتمكن سرّ تجسد الكلمة اليّوم من مخاطبة قلوبنا. يقدم لنا لوقا إقتراحًا ثمينًا، حيث يخبرنا أنّ الصوت من السماء وعطية الروح حدثت بينما كان يسوع يصلي. بالنسبة لنا أيضًا، يمكن أن تصبح الصلاة والإصغاء للكلمة المكان الّذي نسمح فيه لله أن يتحدث إلى قلوبنا ومساحة للتوبة واتخاذ القرار بالنسبة له. دُمتم في إصغاء لنبضات القلب الإلهيّ ولتكن قراراتنا في الإتجاه نحو الله.