موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
عيد سرّ التجسد (ج)
مُقدّمة
في هذه الأيام الّتي نحتفل بها بعيد تجسّد ابن الله في تاريخنا البشريّ سنتوقف أمام هذه الكلمة الأخيرة والفريدة من نوعها الّتي نطق بها الله الآب وهي الكلمة الحيّة والّتي تحمل الحياة. فمنذ القِدم قد كشف الله عن ذاته بصورة غير مرئية من خلال الكلمة منذ الخلق. وإستمر، مع البطاركة والأنبياء والكهنة والملوك، بهذا الكشف الـمُتميّز الّذي بولادته حمل عالمه الإلهي إلى حياتنا البشريّة وتاريخنا الهشّ. بالرغم من عدم إستمرارنا كشعب ننتمي له، إلّا إنّ الرّبّ من عُلاه إستمر في الإعلان عن هويته وسرّ حبه بسبب أمانته للعهد الّذي قطعه مع الأباء. وحبًا بالإنسان إستمر الله في التواصل معنا بالرغم من خطئيتنا إلّا إنّه كشف عن ذاته بوجه يكشف عنه وهذا الوجه صار الكلمة الحيّة الّتي نطق الله بها في بشريتنا فأنارنا حينما وُلد إبنه ودخل في تاريخنا البشري فصار ابنه الإلهي على صورتنا ومثالنا ليخلصنا بشكل أبديّ.
فكم من الكلمات الّتي نتفوه بها قد تكون ذات قيمة وقد تكون فارغة. وبعض الكلمات والّتي يتم التحدث بها وتتميز بخفة شديدة، ننطقها ونستمع إليها عن الله، مُعتقدين إننا نستطيع أنّ نقول شيئًا عنه! هناك الكثير من الكلمات الّتي لا تستطيع أنّ تقول الكلمة والّتي تخاطر بإفراغ الله من الكلمات الّتي إذا توقفنا للتفكير فيها للحظة، ستكون تافهة وبلا معنى. عالمنا وتاريخنا البشري لا يحتاج إلى هذه الكلمات للقاء الرّبّ. وكما أخبرنا عيد ميلاد الرّبّ بأنّ هناك كلمة واحدة قادرة على أنّ تكشف هويّة الله، وهي طريقة واحدة اختارها الله لذاته لنتمكن من توصيلها وإخبارها للبشريّة بحسب إنجيل يوحنّا (يو 1: 1- 18).
1. رجوع الرّبّ (اش 52: 7- 10)
الرسالة النبويّة الّتي تحويها كلمات اشعيا النبي في هذه الآيات القليلة (52: 7- 10) والّتى تكشف عن الرّبّ الّذي يأخذ طريق عودته إلينا قائلاً: «ما أَجمَلَ قَدَمَيِ الـمُبَشِّر الـمُخبِرِ بِالسَّلامِ الـمُبَشِّرِ بِالخَير الـمُخبِرِ بِالخَلاص على الجِبالِ القائِلِ لِصِهْيون: قد مَلَكَ إِلهُكِ. أَصْواتُ رُقَبائِكِ! قد رَفَعوا أَصْواتَهم وهم يَهتِفونَ جَميعاً لِأَنَّهم يَرَونَ عِياناً الرَّبَّ راجِعاً إِلى صِهْيون. إِندَفِعي بِالهُتافِ جَميعاً يا أَخرِبَةَ أُورَشَليم فإِنَّ الرَّبَّ قد عَزَّى شَعبَه واِفتَدى أُورَشَليمَ. كَشَفَ الرَّبُّ عن ذراعِ قُدسِه على عُيونِ جَميعِ اَلأُمَم فتَرى كُلُّ أَطْرافِ الأَرضِ خَلاصَ إِلهِنا» (اش 52: 7- 10). نتبع غني الوحيّ الإلهي الّذي ترك صدى هذه النبؤة في عودة أو رجوع الرّبّ تحمل السّلام والخلاص، الخير والنعمة لكلّ البشريّة. يأتي الرّبّ بذاته وعلى أقدامه يصل إلى عالمنا البشريّ حاملاً العزاء والفداء. من الآن وصاعداً لنّ نسمع فقط صوت الرّبّ وكلماته بل سنراه وعيوننا ستتأمله ونكتشف الخلاص الإلهي. الأذن ستسمع الصوت الإلهي ولكن الجديد أنّ العين البشريّة ستراه أمامها.
هل هذا الإعلان بعيد عنا؟ لا بل أنّ هذه الكلمة قريبة منك جداً، وهي في فمك وفي قلبك، ليتمكن كلاً منا من تطبيقها (راج تث 14: 30). في الواقع، حتى اليّوم، بحث الله عن كلمة حيّة ليتمكن من النطق بها لكلّ بشر بعصرنا. إنّ حياتنا هي الّتي يمكن اليّوم، من خلال التصاقنا بالرب، أنّ تصبح تلك كلمته المتجسدة، فهي قادرة على التحدث عن الله وإلغاء كل تلك الكلمات الفارغة والمتهالكة الّتي لا يمكنها أنّ تكشف الجديد. هذا ما سنراه في كلمات الإنجيلي الّتي ستعلن مسيرة بحث الآب في تجسد كلمته بيننا.
2. يسوع كلمة الآب (يو1: 1- 5)
يتواصل فكر النبي اشعيا في كلمات يوحنّا الّذي يكشف عن تجسد يسوع بحياته البشرية، هو عيد الميلاد وكشف الـمعجم الإلهيّ في شخص يسوع الإنسان. هذا هو معنى سرّ التجسّد، الّذي كثيرًا ما إختزلناه في حقيقة الإيمان المجرّدة ربما بسبب تجاهل الحدث أو التناسي. يتكلم الله بذاته للبشريّة، ويُوصل ذاته إلينا، اختار إلهنا حياة متجسدة، حياة ذات وجه وأفعال، حياة تحمل سلسلة من اللقاءات والعلاقات. مما يعني تجسد حياة إلهيّة حيث يمكننا سماعه، بل رؤيته ولمسه أيضًا (راج 1يو 1:1). لقد أظهر لنا الله نفسه في يسوع، الّذي جال يصنع خيرًا ويشفي جميع الذين تحت سلطان الشر، لأن الله كان معه (أع 10 :38). هذا هو النّور الّذي أشرق في الظلمة (را أش 52: 7) الإعلان عن أنّ تجسد الكلمة وحدها هي الّتي تستطيع أنّ تكشف حقًا عن حقيقة الله قائلاً: «في البَدءِ كانَ الكَلِمَة والكَلِمَةُ كانَ لَدى الله والكَلِمَةُ هوَ الله. كانَ في البَدءِ لَدى الله. بِه كانَ كُلُّ شَيء وبِدونِه ما كانَ شَيءٌ مِمَّا كان. فيهِ كانَتِ الحَياة والحَياةُ نورُ النَّاس والنُّورُ يَشرِقُ في الظُّلُمات ولَم تُدرِكْه الظُّلُمات» (يو 1: 1- 5). هذا هو ما أعده الله من مخطط إلهيّ حيث هناك كلمة الله الأخيرة الّتي سنسمعها وسنراها وسترافق حياتنا لأنها ستتجد في حياتنا.
3. قبول الكلمة (يو 1: 9-13)
مدعوين اليّوم، في هذه الأيام المقدسة، لقبول هذه الكلمة الحيّة؛ الّتي نطق بها ولازالت تتجسد على مائدة الإفخارستيا: «الكَلِمَةُ صارَ بَشَراً فسَكَنَ بَينَنا فرأَينا مَجدَه مَجداً مِن لَدُنِ الآبِ لابنٍ وَحيد مِلؤُه النِّعمَةُ والحَقّ» (يو 1: 14). نتغذى كمؤمنين بهذا الجسد القادر على وصف الله، جسد الرب وكأسه. عندما نتغذى بجسد المسيح ودمه، ليس هو الّذي نتمثل به، بل نحن الّذين نتحول إليه ونثبت فيه. به يمكن لحياتنا بدورنا أيضًا أن تصبح كلمة متجسدة قادرة على أنّ تكشف وتعلن حقيقة الله. الميلاد هو أنّ يصبح كلاّ منا أيضًا كلمة متجسدة تعلن عن هويّة الله. «جاءَ إِلى بَيتِه. فما قَبِلَه أَهْلُ بَيتِه. أَمَّا الَّذينَ قَبِلوه وهُمُ الَّذينَ يُؤمِنونَ بِاسمِه فقَد مَكَّنَهم أَنْ يَصيروا أَبْناءَ الله» (يو 1: 11- 12). البنوة لله لا تعتمد فقط على العمل والتبني الإلهي بل على مدى قبولنا لكلمته وهي أبنه الّذي جاء فصرنا نحن خاصته، بيته.
4. رحمّ الآب (يو 1: 14- 18)
يختتم يوحنّا الثماني عشر آية والّتي نطلق عليهم مقدمة الإنجيل اليوحنّاوي (1: 1- 18) وحتى بعد مرور سنوات عديدة من كتابتها وقرأتها وصلاتها حيث كانت تثير المخاوف في داخلي من جانب، إلّا إنّها من الجانب الآخر تثير اليّوم دهشتيّ وشعوري العميق بالإمتنان والشكر للرّبّ. يدعونا هذا النص بالتأمل فيه، والسماح لهذه الكلمة بالحوار مع قلوبنا وحياتنا مرارًا وتكرارًا. ونفاجأ بأنّه عندما نعتقد إننا فهمناها أخيرًا، بل حينما نعتقد إنها إخترقت أعماقنا، ينتابنا الإحساس بإنّها لا تزال على السطح. وهذه ميزة إضافية حيث تدعونا لمواصلة مسيرة البحث. حينما أكتب عن هذا النص أو أتحدث عنه كثيراً ما لا أجد الكلمات الّتي تعبر عن جوهر هذا الحب الإلهي الّذي أُعلن بشكل نهائي في الابن: «إِنَّ اللهَ ما رآهُ أَحدٌ قطّ الابنُ الوَحيدُ الَّذي في حِضْنِ الآب هو الَّذي أَخبَرَ عَنه» (يو 1: 18). أعترف إنني بقوليّ الكثير من الكلمات أشعر، في كثير من الأحيان، بتدمير الكمال اللّاهوتي الّذي تحتويه كلمات هذا النص. أرغب في الختام، كلّاهوتيّة، بأنّ أشير فقط إلى الوحيّ الوارد في الآية الأخيرة. حيث يكشف الإنجيلي بإنّ يسوع الّذي هو، من اليونانيّة kolpov tou Patros مما يعني حرفيًا في رحم الآب. هذا التعبير يحمل ما يفوق فهمنا المحدود لما نطلق عليه حتى اليّوم الله من خلال تعريفه بتعريفات لّاهوتية عميقة وغامضة في بعض الأوقات، غالبًا ما تعتمد على رغبتنا في أن يكون لدينا إله في داخلنا. في متناول أيدينا، مخلوق على صورتنا وليس على صورته. ما هو أكثر حميميّة من الرحم، مهد الحياة والأكثر حساسية بل هو الأهم في تاريخ البشرية. بدون هذا الـتمهيد لن نكون موجودين، ولا يمكن أنّ تنتقل الحياة. مدعوين للتفكير في الحياة العادلة والبسيطة. إن يسوع الّذي يعيش في kolpov tou Patros هو الوحيد الّذي كشف ويكشف لنا عن وجه الله. لهذا السبب لنّ أتوقف أبدًا عن الإعلان بدعوتنا إلى التركيز بعمق في إيماننا بأنّ يسوع هو وجه الله الحيّ. نعم إنّه يسوع لأنّه وحده لديه المفتاح الّذي يسمح لنا معه ومثله بإيجاد مكان بداخل kolpos tou Patros حضن الآب. ليس لدينا طّريق آخر سوى حياة يسوع الناصريّ لفهم من هو الله. وبمجرد أن نفهم هذا، وعندها فقط، سنكون قادرين على فهم من نحن بالفعل. وبذلك سندخل كخلقية كبشر مخلوقين على صورته. إنسان ليكون إلهيًا، مولودًا في حضن الآب - kolpon tou Patros حاملين ملء الحياة معه ومثله.
الخلّاصة
ناقشنا بمقالنا هذا النص الأوّل من العهد الأوّل، بحسب النبؤة الإشعيائية (52: 7- 10) حيث فاجئنا بكلمات إلهيّة في صالحنا نحن البشر تحمل عزاء وخلاص. ثم بكلمات يوحنّا، بالعهد الثاني، توقفنا على إفتتاحية إنجيله (1: 1- 18) حيث فتح لنا مجال أكبر لنتأمل في معنى الميلاد الّذي يعلن كلمة الله القريبة لكل إنسان. مما أشار الإنجيليّ على أنّ تجسد الكلمة ليس هو فقط مباردة إلهيّة بل يتطلب قبولنا البشريّ لكلمته بيننا. سواء النص الإشعيائي أم اليوحنّاوي، كليهما يؤكدا بأنّ الرّبّ الّذي رغب في الرجوع إلينا، قد عاد بالفعل بكلمة متجسدة خرجت من حضن الآب وفتح المجال لنا لنصير أبناء على مثاله. يسوع هو الكلمة الأخيرة الّتي تكلم الله ولازال يتكلم لقلوبنا فهي متجددة وتحمل الحياة اليّوم وكل يّوم. دُمتم في بنوة دائمة بقبول كلمة الله الأخيرة وهي يسوع الابن.