موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
الأحد الرابع من زّمن المجيء (ج)
مُقدّمة
مع مقالنا هذا وهو الرابع والأخير لزّمن مجيء سيّد اليوبيل. وبعد أنّ بدأنا هذا الزّمن من كمال التاريخ ومجيء ابن الإنسان تعلمنا كيف نحمل مصباح اليقظة. وبعد أن توقفنا مع مريم حاملين مصباح الإنتظار العذب. استمررنا في الإستماع إلى كلمة المعمدان الّذي كشف عن وجه المسيح الآتي حاملاّ مصباح الفرح لقلوبنا ولحياتنا. والآن في المرحلة الأخيرة، سنستلم مصباح أخير من كلمة الرّبّ، وهو مصباحُ السّلام. سبب إختيارنا لعنوان هذا المقال هو احتياجنا الشديد لـمّن يحمل مصباح السّلام لبلادنا وللشعوب الـمُتحاربة اليّوم.
سنقرأ نصييّن للتعمق في زّمن مجيء المسيح التاريخي. ففي مقطع العهد الأوّل سنتوقف أمام نص النبي ميخا (5: 1- 4)، الّذي يكشف عن فقراء الرّبّ هم الّذين يظهرون في التهليل بالإحتفال، وسيكونون الأبطال البشر لزّمن الميلاد بأكمله أولئك الّذين يعرفون كيف يستقبلون الصغير! المتواضعون والفقراء هم أولئك الّذين لديّهم عيون ترى وتتعرف على زيارة الله في ابنه المتجسد. سيكونوا نموذجًا لنا كمؤمنيّن اليّوم لنرى أنّ الله يستمر في زيارتنا كشعب ينتمي له ويتجسد في التاريخ لكي يُثبت كلّ شيء فيه. وفي مرحلة تاليّة سنقرأ مقطع بحسب لوقا الإنجيلي (1: 39- 45) والّذي يهدف إلى نعمة اللقاء بين إمرأتين الأولى تجازف بحمل هذا مصباح السّلام بالكلمة وبحضور السّلام المتجسد بأحشائها وهي مريم والثانيّة هي أليصابات الّتي تمدح مريم وتستقبلها بتأكيد قبولها هذا السّلام. نسعى في مقالنا هذا إلى الدخول والتأمل في سرّ تجسد يسوع ابن الله وابن الإنسان معًا، الّذي هو مصباح السّلام المتجسد في إنسانيته منذ الحبل الإلهي به وقبل ولادته.
1. بيت لحم (مي 5: 1- 4)
يتحدث ميخا النبي في هذا المقطع عن حالتين متناقضتيّن وهما الصِغر والعَظمة في ذات الوقت. حيث يكشف عن بيت لحم وهي قرية صغيرة بمدينة اليهوديّة. تستبق هذه النبؤة لتكون مكان ولادة سيّد اليوبيل مُعلنًا: «وأَنتِ يا بَيتَ لَحمُ أَفْراتَة إِنَّكِ أَصغَرُ عَشائِرِ يَهوذا ولكِن مِنكِ يَخرُجُ لي مَن يَكونُ مُتَسَلِّطاً على إِسْرائيل وأُصوِلُه مُنذُ القَديم مُنذُ أَيَّامَ الأَزَل. لِذلك يَترُكُهم إِلى حينِ تَلِدُ الوالِدَة فتَرجعُ بَقِيَّةُ إخوتِه إِلى بَني إسْرائيل ويَقِفُ ويَرْعى بِعِزَّةِ الرَّبّ وبِعَظَمَةِ اسمِ الرَّبِّ إِلهِه» (مي 5: 1- 3). كما خرج الملك العظيم داود من بيت لحم (راج 1صم 16: 4؛ 17: 12)، وهو أصغر إخوته ببيت يسى (1صم 16: 7). داود هذا الصغير الّذي صار عظيمًا وعظّم مملكة إسرائيل، وجمع مملكة تُوحد بين أسباط بني إسرائيل. على هذال المنوال يأتي المسيح ابن داود كذلك، الّذي كان حققّ النبوءات الّتي قيلت للملك ليثبت نسله على عرش إسرائيل إلى الأبد، آتيًا من هذه المدينة الصغيرة بيت لحم بين مُدن يهوذا، فهي الأصغر. كما في إختيار الرّبُّ لداود وهو أصغر إخوته، هكذا سنرى في مقالاتنا بزّمن الميلاد، الأحداث الّتي رافقت ولادة يسوع، تكشف عن وجه الله الّذي يتبع معايير مختلفة تمامًا عن تلك الّتي قد يميل الإنسان إلى اتباعها. كما في أيام داود الأصغر، هكذا الآن أيضًا يقع اختيار الله على ابنه الأصغر، ويكمن السبب في النظرة الإلهيّة الّتي تختلف عن النظرة البشريّة: «أَنَّ الرَّبَّ لا يَنظُرُ كما يَنظُرُ الإِنْسان، فإنَّ الإنْسانَ إِنَّما يَنظُرُ إِلى الظَّواهِر، وأَمَّا الرَّبُّ فإِنَّه يَنظُرُ إِلى القَلْب» (1 صم 16: 7). يختتم النبي ميخا رسالته النبويّة بإعلان مصباحُ السّلام الّذي سيحمله الصغير الّذي سيخرج من قريّة صغيرة أيضًا قائلاً: «يَكونُ هذا سَلامًا وإِذا أَتى أَشُّوُرُ أَرضَنا ووَطِئَ قُصورَنا نُقيمُ علَيه سَبعَةَ رُعاةٍ وثَمَانِيَةَ أُمَراء بَشَر» (مي 5 :4). تكشف جوهر رسالة ميخا النبويّة عن السّلام الّذي يتجسد في شخص ينتمي من أصله إلى بيت لحم القرية الصغيرة يخرج كصغير وسيصير ملكًا على كلّ إسرائيل. يستبقه داود في أصغريته وهو سيكون الملك الإلهي الّذي سيتجسد بعد ألف عام كطفل صغير.
2. سّلام العذراء للعاقر (لو 1: 39- 45)
يفتتح لوقا في هذا المقطع الإنجيلي مسيرة الخلاص الإلهيّة الّتي تتخذ نقطة إنطلاقها نحو تاريخنا البشريّ لغة اللقاء بين إمرأتين إحداهما مُسنة وعاقر وهي أليصابات والأخرى بتول وصّبيّة وهي مريم. أمامهن نجد الخيط العائلي الّذي يوضح أهميّة العلاقات الإنسانية بين إمرأتين من بني إسرائيل. اللغة الّتي تعم على لقائهن هي لغة السّلام- شالوم. هذا السلّام ما هو إلّا البركة المسيّانيّة وهو بمثابة اللغة الّتي يستخدمها إنجيل لوقا لوصف قُرب الزّمن المسيّانيّ. لقاء إمرأتين ينتظرن أبنائهن، هن بمثابة الحارستين للحياة والمنتظرتين لينفتحا للحياة، يصبحن كليتهما صورة الأمّ الّتي تنتظر مولودها وهي على وشك أنّ تلد زّمناً جديداً ومحدداً.
المرأة الأوّلى هي أليصابات وهي المرأة العاقر والـمُسنة. ومن الجانب الأخر هناك المرأة الثانيّة وهي الّتي ستصير الأمّ بحياتها البتوليّة وهي بمثابة العروس المستعدة للقاء عريسها، كالّذين ينتظرون بالمنفى وعدُ الله بأنّهم سيصيروا كالـ "عذراء الـممتلئة" بالنعمة قائلاً: «أَخطُبكِ لي لِلأَبَد أَخطُبُكِ بِالبِرِّ والحَقِّ والرَّأفَةِ والمَراحِم وأَخطُبُكِ لي بِالأَمانَةِ، فتعرِفينً الرَّبّ» (هو 21:2-22). هاتين المرأتين العاقر والعذراء هما صورتان لبشريّتنا وكما أصبحن قادرات على ولادة الحياة، هكذا نحن مدعويّن لنعطي حياة للآخرين. بينما كان يبدو أنّ علامات حياة، والرجاء في المستقبل مستحيلان، إلّا أنّ تدخّل الله يجعل الفرح والرقص والإبتهاج يزهر من خلال سّلامه الّذي منحه لمريم على لسان الملاك قائلاً: «إفَرحي، أَيَّتُها الـمُمتَلِئَةُ نِعْمَةً، الرَّبُّ مَعَكِ» (لو 1: 26- 29). بحسب إنجيل لوقا هناك أيضًا لقاء جنينيّن لم يُولدا بعد. لقاء يجعل يوحنّا المعمدان يرقص، الّذي سيصبح ممهداً لابن الله وهو لازال في بطن أمه. وفي ذات الوقت هناك الإشارات بالنص إلى جسد إمرأتيّن تنتظرن مولوديهن، وأيضًا طفليّن لم يولدا بعد، إذّ بيوحنّا الجنين يقفز فرحًا في بطن أمّه. إنهما صورتيّن تنطوي بالتركيز على جسدي المرأتين والجنينين معًا. يود لُوقا بأنّ يخبرنا بهذه الصورة بأنّ الخلاص قريب منا وتحديدًا في الجسد. ذلك البُعد وليس الجزء، كما نتصور غالبًا بلغة ثنائية إلى حد ما - والّتي تشير في لغة الأنثروبولوجيا الكتابيّة إلى المكان "جسد".
3. البُعد الجسديّ (لو 1: 39- 45)
من خلال تحية مريم الّتي تحمل السّلام والّتي أشار إليها لوقا من مريم لأليصابات، نجد ذاواتنا ندخل في علاقات مع العالم ومع الآخرين بفضل البُعد الجسدي. وهذا أيضًا إعلان مثير لهذا المقطع الإنجيليّ إذ يشدد على الخلاص الّذي يأتي إلينا في الجسد. قد نعتقد إنّ العلاقات لا تصل إلينا إلّا بالرّوح ولكن الجسد يكاد يكون عبئًا وعائقًا. بدلاً من ذلك، يعلن لنا إنجيل لوقا إنّه لا يوجد خلاص إلّا عبر الجسد قائلاً:
وفي تلكَ الأَيَّام قَامَت مَريمُ فمَضَت مُسرِعَةً إِلى الجَبَل إِلى مَدينةٍ في يَهوذا. ودَخَلَت بَيتَ زَكَرِيَّا، فَسَلَّمَت على أَليصابات. فلَمَّا سَمِعَت أَليصاباتُ سَلامَ مَريَم، ارتَكَضَ الجَنينُ في بَطنِها، وَامتَلأَت مِنَ الرُّوحِ القُدُس، فَهَتَفَت بِأَعلى صَوتِها: مُبارَكَةٌ أَنتِ في النِّساء! وَمُبارَكَةٌ ثَمَرَةُ بَطنِكِ! مِن أَينَ لي أَن تَأتِيَني أُمُّ رَبِّي؟ فما إِن وَقَعَ صَوتُ سَلامِكِ في أُذُنَيَّ حتَّى ارتَكَضَ الجَنينُ ابتِهاجاً في بَطْني (لو 1: 39- 44).
الأفعال الحركيّة لمريم (قامت، مسرعة، الجبل) والسمعيّة لأليصابات من خلال الأذن والفم مما ساعد على إدراك ارتكاض المعمعمدان الجنين ببطنها. يستخدم الإنجيلي البُعد الجسديّ ليشير بأنّ الجسد له دوره في الخلاص. والسبب هو أنّ الخلاص يتم من خلال اللقاءات والعلاقات. لقد أراد الله دائمًا أنّ يصف علاقته بالإنسان وشعبه بأنّها علاقة، أو بالأحرى، العلاقة الأعمق والأصدق كالعلاقة الحميميّة بين الرجل وإمرأته، علاقة الأب بابنه، هكذا بعلاقة مريم بقريبتها أليصابات، يصل إلينا الخلاص في علاقات بشرية تتميز بأشياء بسيطة مثل حماس الزيارة، واللقاء، والتحية، وقفزة فرح يوحنّا الجنين بعد، حيث نكتشف بأنّ الجسد هو بمثابة مكان العلاقات واللقاءات. من خلال هذا اللقاء وبعد قبول أليصابات السّلام المريمي يجعلنا الإنجيلي نتمتع، من داخل بيت زكريّا، بمشهد اللقاء وإذّ بصوت أليصابات تُطوب مريم قائلة: «فَطوبى لِمَن آمَنَت: فسَيَتِمُّ ما بَلَغها مِن عِندِ الرَّبّ» (لو 1: 43). كلمات التطويب من أليصابات ما هي إلّا نتيجة السّلام الّذي تحمله مريم ليس فقط بتحيّتها ولكن بأحشائها. فهس تحمل ابن الله حامل السّلام لبشريّتنا.
4. مريم أيقونة الكنيسة (لو 1: 39- 43)
أليصابات ومريم هما هاتان الخادمتين اللتيّن تنتميّن إلى شعب الفقراء والمتواضعين، اللتيّن ستصبحن شرف داود وتعرفن كيف تغنيّن وتبتهجن لمجيء الرّبّ في أورشليم. ركض أو رقص يوحنّا أيضًا أمام مريم الّتي تحمل الرّبّ بأحشائها يشبه رقص داود أمام التابوت (راج 2صم 6). العذراء والعاقر عرفن كيف يصلن للفرح بلقائهم فتصبحن أمهات وتزدهر الحياة. يقدمن مريم وأليصابات صورة للإنسانية الّتي تنفتح على الحياة، في اللحظة الّتي تكون فيها قادرات على الإبتهاج بلقاء الرّبّ وزيارته.
مدعوين للنظر إلى مريم اليّوم كأيقونة كنسيّة تخرج من ذاتها وتنطلق للقاء أليصابات، لتكون قريبة من الأشخاص الأكثر هشاشة وإحتياج. مريم هي أيقونة الكنيسة الحيّة الّتي ترافق حياة أولئك الّذين يجدون أنفسهم في حالة صعبة من الوحدة والعزلة والتهميش، دون فرح أو رجاء. في مواجهة ما نصفه بالتهميش الإجتماعي، أي حقيقة توطيّن الجميع سواء أطفال أم المتقدمين بالعمر أم المعاقين حتى المسجونين، ومدمني المخدرات، ... قبولهم في جماعة تقبلهم لكي نتمكن بعد ذلك من الإستمتاع بالحياة دون أي هموم أو متاعب، تصبح مريم أيقونة الكنيسة الّتي لا تترك أحدًا خلفها، والّتي تصبح قريبة من كلّ امرأة (كأليصابات) وكل رجلّ (زكريّا) لتوصيل الحياة. مريم كأيقونة للكنيسة هي اليّوم بمثابة مساحة للحياة وليست جزيرة. هكذا مريم حملت يسوع بأحشائها وهي من جنسنا البشريّ أتت لتحمل السّلام معلنة إيمانها بسرّ التجسّد مما يساعدنا أنّ نتعمق في الحياة بطريقة مختلفة. ومن خلال مريم إمرأة السّلام مدعوين كمؤمنين وكأبناء لها بأنّ نقبل دعوتها لكلًا منا بقبول حياة الله ذاتها، الّذي إختار يسوع ابنه ليشاركنا حياتنا ويصبح رفيقنا في البشريّة الهشّة بتجسده من مريم. يظهر الابن الإلهي طريقة محددة جدًا لتحقيق إنسانيتنا. معه ومثله، نسير دائمًا نحو الآخر حتى لا يشعر أحد بأنّه متروكًا ووحيدًا، وحتى لا نترك أحد خلفنا. يستمر الرّبّ في البحث عن نساء ورجال مستعدين للسير يومًا بعد يوم، بكدّ الحياة اليومية، حتى يصل إعلان إنجيل الحياة المفرح إلى الجميع.
الخلّاصة
من كلمات كاتب نبؤة ميخا (5: 1- 4) لا نجد نبرة جنونية، بل إعلانًا. إنها كلمات يعلنها النبي على لسان الرّبّ الّذي يعلن سّلامه للجميع من خلال ولادة الصغير بقرية بيت لحم. وما هي إلّا إستباق لما سيتم في الوالدة وهي مريم الّـتي تحمل مصباح السّلام للبشريّة حاملة السّلام في تحيتها وفي أحشائها كما رأينا في السرد اللوقاوي (1: 39- 45). وقد اعلن لوقا على فم أليصابات مشيراً للبُعد الجسدي سواء لمريم أم لأليصابات بأن اللقاء الجسدي بينهن جعل أليصابات ترى العمل الإلهي على ضوء مصباح السّلام الّذي حملته مريم ببيتها وبحياتها منذ دخولها بيتها. هكذا بالنسبة لكلاً من كمسيحييّن، لقائتنا تتعلق بحياة الجسد وجعل الحياة نعمة وتقدمة، بالنسبة لنا كمؤمنيّن، الجسد الآن هو مكان تحقيق إرادة الله. مدعوين أن نترك حضور مريم ببيوتنا وهي الّتي تحمل مصباح السّلام لترافق حياتنا وخطواتنا ولقائتنا الجسديّة بمن حولنا فنكون بدورنا أهلاً لنحمل مصباح السّلام الّذي يشع بالنور الإلهي ويعلن حضور الرّبّ. دًمتم نساء ورجال حاملين لمصباح السّلام لكلّ مَن حولكم.