موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٥ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٤

"مصباح الإنتظار العذب" بين كاتبي سفر التكوين والإنجيل الثالث

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (تك 3: 9- 20؛ لو 1: 26- 38)

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (تك 3: 9- 20؛ لو 1: 26- 38)

 

الأحد الثاني من زّمن المجيء (ج)

 

مُقدّمة

 

في هذا الأسبوع الثاني من مقالاتنا الكتابيّة فيما بين العهدين، في هذا الزّمن الطقسي، زّمن مجيء "سيّد اليوبيل". تظهر إحدى الشخصيات الّتي تُميّز هذا الزّمن بفرادتها، وهي شخصية مريم أمّ يسوع الإنسان وأمّ الله المستقبليّة. شخصية مريم، وهي الّتي يقع في ذات اليّوم الإحتفال بعيدها وهي "الحبل بلا دنس".

 

من الناحيّة الكتابيّة مع كلّ الإشارات الّتي أشّار إليها الكُتاب المقدس في العهد الأوّل، خاصة سفر التكوين في صفحاته الأوّلى والّذي سبقّ مُنوّهًا عنها كاتب سفر التكوين من خلال رمزيّة معنى إسم حواء مشيرًا بأنّها أمّ كلّ حي، فتصير مريم "حواء الجديدة". هي ستصير أمّ يسوع الإنسان الإله وأمّ كل مّن يؤمن به أيضًا. مريم حواء الجديدة أو الثانيّة، هكذا لقبّها أباء الكنيسة، بحسب ما سنراه في مقطع العهد الأوّل الّذي سنناقشه اليّوم (3: 9- 20) بسفر التكوين. ومن خلال العهد الثاني، سنناقش مقطع بحسب لوقا الإنجيلي الّذي يكشف عن إضطراب وحريّة مريم معًا الّتي تظهر بدورها الحرّ والـمُبدع كيف تحتضن الإرادة الله وتقبل الدخول في المغامرة الإلهيّة (لو 1: 26- 38). نهدف من خلال هذا المقال بالتوقف أمام شخصية مريم كأيقونة فريدة بشكل خاص فهي الّتي تحمل مصباح الإنتظار العذب في شهور حبلها بالحبّ الإلهيّ. فهي الّتي حُبل بها بلا دنس وهي أيَضًا الّتي في بتوليتها إنتظرت بأحشائها نمو ابن الله الـُمتجسد في تاريخنا البشري منذ 2025 عامًا.

 

 

1. بحث الله (تك 3: 9- 15. 20)

 

نسمع صوت الله من خلال حواره مع الإنسان الأوّل إذ يتيح لنا كاتب سفر التكوين أنّ نسمع الصوت الإلهي. إذّ حينما يُنادى الرَّبُّ الإِلهُ الإِنسانَ قائلاً: «أَينَ أَنْتَ؟» (تك 3: 9). بهذا التساؤل يبدأ بحث الله عن محبوبه الإنسان الّذي خلقه بدافع الحبّ ولأجل الحبّ ولا غير. بالتأكيد لا يسأل الله عن مكان الإنسان الجغرافي، فهو الإله العظيم الـمُحيط والعالِـم بكلّ شئ. لكن مباردة الله بالبحث عن مخلوقه الّذي خلقه على صورته ومثاله حيث يشدد الكاتب بقوله بعد خلق الله للإنسان: «رأَى اللهُ جَميعَ ما صَنَعَه فاذا هو حَسَنٌ جِدًّا» (تك 1: 31). لازال الله يرغب في علاقة مع الإنسان. لم يكتفي بأنّ يضع ليس نَفْسَه فيه إذ: «نَفخَ في أَنفِه نَسَمَةَ حَياة، فصارَ الإِنسانُ نَفْسًا» (تك 2: 7)، بل بعد زلة الإنسان يفاجئنا كاتب سفر التكوين باستمرار الله في بحثه عن الإنسان بنفس الشغف والحبّ الّذي خلقه عليه. وها هو ذات السؤال يوجهه الرّبّ لكلّ منا اليّوم ويترك صداه يدوي: "أين أنت؟" أين أنت مِن مخططيّ، حبيّ، ... لازال الله يبحث عني وعنك.

 

بعد تقديم الإنسان الأوّل أعذاره وليس إعتذاره للرّبّ عن عصيانه وعن طاعته لصوت آخر غير صوته، صوت عدو الخير. يأتي صوت الإنسان لاحقًا مُدينًا لـمَن خلقها الرّبّ مًعينًا وسنداً قائلاً: «المَرأَةُ الَّتي جَعَلْتَها معي هي أَعطَتْني مِنَ الشَّجَرةِ فأَكَلتُ» (تك 3: 12). فقد أخلى الإنسان الأوّل مسؤوليته تمامًا ودون أنّ يتحمل عواقب عمله. وهو يُمثل كلّاً منا في الضعف البشري ووضع قناع دون أنّ نواجه أخطائنا معترفين بها. وهنا يأتي القرار الإلهي حبًا بالإنسان قائلاً للمرأة: «أَجعَلُ عَداوةً بَينَكِ وبَينَ المَرأَة وبَينَ نَسْلِكِ ونَسْلِها فهُوَ يَسحَق رأسَكِ وأَنتِ تُصيبينَ عَقِبَه» (تك 3: 15). يفاجئنا الرّب بمخططه حيث، منذ البدء، يبحث عمَن يحمل مصباحًا إلهيّا كسرّ كامن في قلب الله ولكن مع حلول ملء الأزّمنة، كما سنرى في النص الثاني بحسب لوقا، سيدعو الله مريم لتصير هي المرأة الجديدة: «حَوَّاءَ لأَنَّها أُمُّ كُلِّ حَيّ» (تك 3: 20ب) الّتي ستحمل مصباح إنتظار الله العذب بحسب ما سيرويّه لاحقًا لوقا الإنجيلي.

 

 

2. ملاك الرّبّ بالناصرة (لو 1: 26- 29)

 

لا زّال إنتظار الله وبحثه مستمر ليحرر الإنسان من ذاته باحثًا عمَن يزيل ظلام العصيان وحاملاً مصباحًا جديدًا. بعد مرور الكثير من القرون والسنوات يرافق الله خطوات شعبه الّذي ينتمي له. تسود أمانته للعهد المقطوع مع البطاركة والملوك والأنبياء لكلّ البشريّة. حينما يجد الله قلب المرأة الّتي تتلائم مع مخططه الإلهي حول مَن سيحمل "مصباح الإنتظار العذب" الّذي سيمنح البشريّة نوراً لا يوصف. وفي هذ الوقت يرسل ملاكه: «جِبرائيلَ إِلى مَدينَةٍ في الجَليلِ اسْمُها النَّاصِرَة، إِلى عَذْراءَ مَخْطوبَةٍ لِرَجُلٍ مِن بَيتِ داودَ اسمُهُ يوسُف، وَاسمُ العَذْراءِ مَريَم. فدَخَلَ إلَيها فَقال: "إفَرحي، أَيَّتُها الـمُمتَلِئَةُ نِعْمَةً، الرَّبُّ مَعَكِ"» (لو 1: 26- 29). هنا وبعد إنتظار، نلتقي بحواء الجديدة الّتي نحتفل بها اليّوم، وهي الّتي "حُبل بها بلا دنس"، مُحتضنة مخطط الله الآب ليدخل إبنه إلى عالمنا وتبدأ مغامرتها مع العالم الإلهي متجردة من مخطط حياتها البشري مع يوسف البارّ.

 

 

3. إمرأة الإنتظار العذب (لو 1: 30- 38)

 

إخترت هذا العنوان بهذا المقال اليّوم حيث يُطلق على المرأة الّتي تنتظر مولوداً، في الفكر الإيطالي، بتعبير المرأة الّتي تنتظر بعذوبة la dolce attesa. وها هي الأيقونة الكتابيّة الّتي يحملها الإنجيليّ أمامنا حيث مريم هي الفتاة الّتي ستصير المرأة الناضجة بإنسجامها مع دعوة الله مُنتظراً عبورها من الإضطراب والتساؤل حيث تأتيها كلمة الرّبّ على لسان الملاك جبرائيل مُعلنة:

 

«لا تخافي يا مَريَم، فقد نِلتِ حُظوَةً عِندَ الله. فَستحمِلينَ وتَلِدينَ ابناً فسَمِّيهِ يَسوعسَيكونُ عَظيماً وَابنَ العَلِيِّ يُدعى، وَيُوليه الرَّبُّ الإِلهُ عَرشَ أَبيه داود، [...] إِنَّ الرُّوحَ القُدُسَ سَينزِلُ عَليكِ وقُدرَةَ العَلِيِّ تُظَلِّلَكِ، لِذلِكَ يَكونُ الـمَولودُ قُدُّوساً وَابنَ اللهِ يُدعى» (لو 1: 30-37).

 

تقبل مريم حبّ الله وسنجد مباردة بحثه ستتجسد في مريم ورغبته في أنّ تحمل، بانتظارها ابن الله في أحشائها، مصباح النّور الّذي أعده الله لخلاص البشريّة من خلال مشاركة مريم بدورها الأموميّ. بـإنصراف «الـمَلاكُ مِن عِندِها [مريم]» (لو 1: 38)، نبدأ مع مريم مسيرة إنتظارها العذب لولادة ابن الله من أحشائها. بقبول مريم هذا المخطط الإلهي تبدأ مريم في الإعلان كإمرأة الإنتظار الّـتي تحمل مصباحًا بإنتظارها العذب. ها نحن اليّوم، نقرأ كلّ عام في يوم الحبل بلا دنس هذا النص وفي زمن الإستعداد لمجئ سيّد اليوبيل، تمنحنا مريم نموذجًا حيًا، متحررة من تقاليد عصرها وفكرها ومستجيبة لنعمة الله الّتي بقوة الرّوح تمثلنا في الطاعة بحبّ لمخطط الله الّذي وجد فيها قلب وإرادة مَن يحمل مصباح الإنتظار العذب والّتي بتلك الإستجابة تسمح بدخول ابن الله لعالمنا.  

 

 

الخلّاصة

 

تتبعنا في مقالنا بعض النقاط اللّاهوتيّة حول هدف الله من مخططه، منذ البدء، مع الإنسان الأوّل بحسب مقطع سفر التكوين (3: 9- 20)، الّذي أعلن الله فيه البدء بالبحث حقيقة عن الإنسان ليستمر في حبه وفي إتمام مخططه ووجدنا أنّ حتى خطيئة وعصيّان الإنسان الأوّل لمّ تجعل الله يتراجع عن مخطط حبه. وعلى ضوء خطأ حواء الأوّلى يأتي الله مُبدعًا في إعداد مريم "الّتي حُبل بها بلا دنس" ليمنح البشريّة فرصة خلاصيّة جديدة ليس لحواء بل لكلّ البشريّة، فهي أمّ كلّ حيّ أي أمّنا. كما عرض علينا لوقا الإنجيليّ في نص البشارة (1: 26-38)، حيث سمعنا ورأينا معًا مريم الفتاة الّتي صارت أيقونة أساسيّة بقبولها هذه المغامرة الإلهيّة، حاملة مصباح الإنتظار العذب. مريم كصبيّة والّتي ستصير أمًا ليسوع وأمًا لنا بهذا القبول وهذا الإنتظار العذب لابن الله. دُمتم في رعايّة مريم الّتي لازالت تحمل مصباحًا لتنير الطريق أمامنا لنتبعها نحو إبنها الإلهي.