موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
﴿تَوَاضَعُوا تَحتَ يَدِ اللهِ القادِرَة لِيَرفَعَكم في حينِه﴾ (1بطرس 6:5)
في إنجيلِ الأَحَدِ الْمَاضي، رَأَينَا الرَّجُلَ الغَنيّ وقَدْ دَنَا مِنْ يَسوع، يَسأَلُهُ السَّبِيلَ لِبُلُوغِ الحَياةِ الأَبَديَّة، وهو أَسمَى الغَايَاتِ الّتي تَكَسَّرَت عَلَى صَخرةِ الدُّنيَوِيَّات. واليَوم، في إنجيلِ هَذَا الأحَد، نَرَى تِلميذَينِ مِنْ تَلامِيذِهِ، يَعقوبَ ويُوحَنَّا، يَدْنُوانِ بِدَورِهِمَا إلى يَسوع، يَسأَلانِ الجُلوسَ عَنْ يَمينِهِ وشِمالِهِ في مَجدِهِ! جَاءَا إِلَيهِ يَبحَثَانِ عَنْ مَنصِبٍ وسُلْطَان. فَهُمَا مِنْ خَلفِيَّةٍ فَقِيرةٍ نَوعًا مَا، إذْ كَانَا مُجرَّدَ صَيَّادَينِ مِنَ الجَلِيل. ورُبَّما سَمِعَا يسوعَ حَينَ أَخَذَ يُحَدَّثُ الغَنيَّ عَنِ الكَنزِ الَّذي يَنْتَظِرُهُ في السَّمَاء. فَأَرَادَا انتِهَازَ الفُرصَةِ بِتَصويبِ وَضعِهِمَا الاجتمَاعِيّ، وحِيازَتِهِمَا عَلَى مَنزِلَةٍ رَفيعَةٍ في مَملَكَةِ يَسُوع، والظَّفَرِ بالكَنزِ السَّمائِيِّ الّذي تَرَكَهُ الغَنيّ!
ولاحِظُوا كَيفَ أَنَّهُمَا لَمْ يَطْلُبَا مُجرّدَ رُتبَةٍ عادِيّة، إنَّما طَلبَا "مَرتَبَةَ الجُلُوس"، كُلٌّ مِنهُمَا عَلَى جِهَة! أَي أَرَادَا بُلُوغَ أَسمَى دَرَجَاتِ السُّمُو. فالجُلوسُ يَا أَحِبَّة فِعلٌ يَدُلُّ عَلَى الْمُلكِ والسِّيَادَة. وفي حَالَةِ الْمَسيحِ هو يُشيرُ إلى رُبُوبِيَّتِهِ الْمُطلَقَة. والكِتابُ الْمُقَدّس عَندَمَا يَتَحَدَّثُ عَنْ سِيَادَةِ اللهِ ومُلكِهِ التَّام، يَستَخدِمُ صُورَةَ اللهِ الجَالِس. فَنَقرَأُ في الْمَزمورِ التَّاسِعِ والعشرين: ﴿جَلَسَ الرَّبُّ مَلِكًا للأبد﴾ (10:29). وسِفرُ الرُّؤيَا تَحَدَّثَ كَثيرًا عَنِ اللهِ "الجَالسِ عَلَى العَرش"، تَأكيدًا عَلَى حُكمِهِ الأَوحَد ودَيْنُونَتِهِ الْمُطلَقَةِ للنَّاسِ أَجمَعِين!
وَمِنْ هُنَا نَرَى كَيفَ أنَّ يَعقوبَ ويُوحَنَّا اِستَخدَمَا مَنطِقًا وأُسلُوبًا بَشَريًّا خَالِصًا، في التَّعَامُلِ مَعِ الأمورِ الإِلهيَّة! دُونَ أنْ يُدْرِكَا قَولِ الكِتَاب: ﴿إِنَّ أَفكَاري لَيسَت أَفْكارَكم، ولا طُرقُكُم طُرُقي، يَقولُ الرَّبّ﴾ (أشعيا 8:55). وهَذَا مَا رَفَضَهُ يَسوع، إذْ لا يُمكِنُ التَّعَامُلُ مَعِ اللهِ بالفِكرِ والحِسَابِ البَشَريِّ البَحت، الّذي عَادَةً مَا يَبحَثُ عَنْ تَحقيقِ مَكَاسِبَ ومَنَافِعَ ذَاتِيَّة، وحِيَازَةِ أَمجَادٍ ومَراتِبَ فَردِيَّةٍ زَمَنيَّة.
وعَليهِ جَاءَهُم قَولُ الرَّبّ: ﴿مَنْ أَرادَ أَن يَكونَ كَبيرًا فِيكُم، فَليَكُن لَكُم خادِمًا. وَمَن أَرادَ أَن يَكونَ الأَوّلَ فِيكُم، فَليَكُن لِأَجمَعِكُم عَبدًا﴾ (43:10-44). جَاعِلًا لَنَا مِنْ ذَاتِهِ، القُدوَةَ العُليَا والْمِثَالَ الأسمَى في السِّيَادَة، الّتي تَعني مَع الْمَسيح: تَوَاضُعًا لا اسْتِكبَار، خِدمَةً لا اسْتِعبَاد، نَفعًا لا انتِفَاع، بَذلًا لا اسْتِحوَاذ، تَضحِيَةً لا نَهبًا واستِغلَال، ذَلِكَ: ﴿ابنَ الإنسان لَم يَأتِ لِيُخدَم، بَل لِيَخدُمَ وَيَفدِيَ بِنَفسِهِ جَماعَةَ الناس﴾ (46:10). مُخَالِفًا بِذلكَ مَا هو مُتَعَارَفٌ عَليهِ بَشَريًّا حَولَ مَفهُومِ الكِبَرِ والأَوَّليَّة!
فَإنْ كَانَ الكِبَرُ بِمنطقِ النَّاسِ يَعني عَنجَهيَّة، فَمَعِ الْمَسيحِ أَصبَحَ وَدَاعَةً وبَسَاطَة. وإنْ كَانَ يَعني مَا تَملِكُ وتَجنِي، فَمَعِ الْمَسيحِ غَدَا مَا تَبذلُ وتَفتَدِي. وإنْ كَانَت الأوّليَّةُ عِندَ النَّاس، الّذينَ يُغريهم الإفراطُ في الشّكلِيّات، هي مُغَالَةٌ في مَظَاهِرِ التَّبجِيلِ والاختِيَالِ والتّوقير، فَمعِ الْمَسيحِ غَدَتْ الأوّليَّةُ زُهدًا وَتَعَفُّفًا. لِأنَّ الْمَجدَ والعَظَمَةَ الْمُتَأتِّيَةَ مِنَ النَّاسِ فَإِلَى زَوَال. وأَمَّا الْمَجدُ الَّذي يَأتِينَا مِنَ اللهِ فَبَاقٍ لَيسَ لَهُ فَنَاء.
ولِذلِكَ نَبَّهَنَا الرّبُّ إلى عَدمِ السُّقوطِ في هَذَا الفَخِّ بِقَولِهِ: ﴿كَيفَ لَكُم أَنْ تُؤمِنوا وأَنتَم تَتَلَقَّونَ الْمَجدَ بَعَضُكم مِن بَعض، وأَمَّا الْمَجدُ الَّذي يأتي مِنَ اللهِ وَحدَهُ فَلا تَطلُبون؟﴾ (يوحنّا 44:5). هَذَا الْمَجدُ الإلهيُّ العَظيم، الّذي يُنعِمُ بِهِ اللهُ عَلَى الإنسَان، هو مَا استَطاعَتْ مَريمُ إدرَاكَهُ، فَهَتَفَت قَائِلَةً: ﴿تُعَظِّمُ الرَّبَّ نَفْسي، وتَبتَهِجُ رُوحِي بِاللهِ مُخَلِّصي، لأَنَّ القَديرَ صَنَعَ إِليَّ أُموراً عَظيمَة﴾ (لوقا 46:1-49). وهو مَا حَثَّنَا عَليهِ القدّيسُ بُطرسُ حِينَ قَال: ﴿اِلْبَسُوا ثَوبَ التَّواضُعِ في مُعامَلةِ بَعضِكم لِبَعْض، لأَنَّ اللهَ يُكابِرُ الْمُتَكبِّرين، وَينعِمُ عَلَى الْمُتَواضِعين. فَتَواضَعُوا تَحتَ يَدِ اللهِ القادِرَةِ لِيَرفَعَكم في حينِه﴾ (1بطرس 5:5-6).
أَيُّها الأَحِبّة، لَمَّا سَمِعَ سَائِرُ العشَرة كَلامَ يعقوبَ ويوحنّا شَعَروُا بالاغتِيَاظ! ولَمَاذَا اِغتَاظوا؟ أَتُراهُم أَكثر تَواضُعًا وزُهدًا؟! كَلّا، إنّمَا اغتاظُوا بِدَافِعٍ مِنَ النَّزعَةِ التَّنَافُسيَّةِ الَتي كَانَتْ تَتَمَلَّكُهم جَميعًا. فكُلُّهم كَانُوا يَطمَحونَ إلى زَعَامَةٍ وسُلطَة. وهَذا أَمرٌ يحدُثُ في أَيَّةِ جَماعَة: مَنْ يَسودُ ويَتَسَلَّط، ومَنْ يَترأَّسُ ويَتَزَعَّم... فكُلُّهم كَانوا يَتَنَازَعونَ حَولَ مَنْ هوَ الأكبرُ بَينَهُم، ولَكِنَّ التَّلميذَينِ جَرُءَا الإعلانَ جَهَارًا، مَا كَانَ يُفَكِّرُ فِيهِ كُلُّ الاثنيّ عَشَر.
ويُسوعُ مُبَاشَرةً وَأَدَ الفِكرَةَ في مَهدِهَا، لِأنّها إنْ استفحَلَت دَمَّرَت وفَسَّخَت! ولهذا مَع كُلِّ أَسَف، نَرَى الجِسمَ الكَنَسيَّ مُمزَّقًا، بِسَبَبٍ مِنْ هَذهِ العَقلِيَّةِ البَغيضَة. فَتَجِدُ البَعضَ، إكليروسَ ومُؤمِنين حالُهم حَالَ التَّلامِيذ، يَبحَثُونَ عَنْ مَنَاصِبَ يَتَبَوَّؤنها، وعَنْ كَرَاسٍ يَتَأَبَّطُونَهَا، وعَنْ أَمجَادٍ يَتَزَاحَمونَ عَليهَا. مُتَنَاسينَ أَنَّ الرِّئَاسَةَ في الكَنيسة، هي قَبلُ كُلِّ شَيء تَواضُعٌ وخِدمَةٌ وتَفانٍ وزُهد، عَلَى مِثَالِ الْمَسيحِ الرَّبّ، الّذي عَلَّمَنا فَقَال: ﴿قَد جَعَلتُ لَكُم مِن نَفْسي قُدوَةً، لِتَصنَعوا أَنتُم أَيضًا مَا صَنَعتُ إِلَيكم. مَا كَانَ الخادِمُ أَعظِمَ مِنْ سَيِّدهِ، ولا كانَ الرَّسولُ أَعظَمَ مِن مُرسِلِه. أَمَّا وقَدْ عَلِمتُم هَذَا، فَطُوبى لَكُم إِذا عَمِلتُم بِه﴾ (يوحنا 15:13-17). ويَبدُو أنَّ قِلَّةً مَنْ عَلِمُوا وعَملُوا بِه!
يَقولُ القدّيسُ بولس في رِسَالتِهِ إلى أَهلِ رومة: ﴿مَنْ لَهُ مَوهِبَةُ الخدمةِ فَليخدُم. تَنَافَسُوا في إكرامِ بَعضِكُم لِبَعض﴾ (رومة 7:12، 10). التَّنَافُسُ الحَميد بَينَنا نَحنُ تَلاميذَ الْمَسيح، يَكونُ بِقَدرِ مَا نُكرِمُ بَعضُنَا بعضًا، بِقدرِ مَا نَخدُمُ بَعضُنَا بَعضًا. يكونُ في مَحبَّتِنا الصَّادِقَةِ نحوَ بَعضِنَا البَعض، دون حَسدٍ أو غَيظٍ أو لُؤم. التَّنَافُسُ الصّالِح يَكونُ فِيمَن يَفني ذَاتَه لأجلِ الآخرين، ولَيسَ فِيمَن يَفني الآَخرينَ مُسَخِّرًا إيّاهم لأجلِ ذَاتِه...